الفصل السابع: الإيمان وسط الاضطهادات

الفصل السابع
الإيمان وسط الاضطهادات
1: 1- 12
بعد التحيّة الأولى والتمنّيات بالنعمة والسلام (1: 1- 2)، يبدأ القسم الأول من الرسالة الثانية إلى تسالونيكي (1: 3- 12). ينطلق هذا القسم من فعل شكر ويعود إلى وضع الكنيسة في تسالونيكي. فتجاه الايمان والمحبّة والصبر التي ظهرت خلال الاضطهادات، جعل بولس العقاب الذي يضرب المضطهدين في يوم الدينونة (1: 5- 9). وهكذا أدخلت المكافأة والعقاب موضوع مجيء الرب الذي سيتمجّد في قديسيه (1: 10). وينتهي فعل الشخص كما في سائر الرسائل البولسيّة بتذكّر اسكاتولوجي يربطنا بيوم ربنا يسوع المسيح (1 كور 1: 4- 9؛ رج فل 1: 3- 11؛ كو 1: 3- 23؛ 1 تس 1: 2- 4).
نقسم هذا الفصل الأول من 2 تس أربعة أقسام. العنوان والتحيّة، معنى الاضطهادات، مجيء الرب. توسّل الرسول من أجل الجماعة. الله والرب هما ينبوع النعمة والسلام. الرب يسوع المسيح هو الوسيط، والنعمة هي موقف إلهي بالنسبة إلى الانسان. أما السلام فمجمل الخير الذي يناله المسيحي من أجل حياة جديدة يعيشها مع الرب. وتبدأ الرسالة بجملة طويلة تمتدّ على عشر آيات. بعد أن هنّأ بولس أهل تسالونيكي على إيمانهم ومحبتهم، انتقل إلى صبرهم وثباتهم في الاضطهادات. وهكذا حلّ الصبر محلّ الرجاء ثم رافاقه الايمان (صبركم وإيمانكم في جميع الاضطهادات). وهذا الوضع من الضيق يشكل علامة سابقة لدينونة الله. فالله في عدالته يعاقب الاشرار ويكافئ الابرار. يعطي الراحة لبولس وللتسالونيكيين، ويعاقب الذين لا يطيعون الانجيل.
وبعد هذه النظرة العامة، نعود إلى تفسير الآيات.
1- العنوان والتحيّة (1: 1- 4 أ)
إن العنوان يشبه ما في 1 تس. في آ 1 لا يقال كما في 1 تس: في الله الآب، بل "في الله ابينا" (يزاد الضمير). وبعد هذا يتّخذ شكل التحيّة كما نجدها في روم 1: 7 (نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح)؛ 1 كور 1: 3؛ 2 كور 1: 2... في آ 2، اتخذت التحية التي قصّرت في 1 تس (نعمة لكم وسلام) شكلها العادي، ولكن غاب ضمير المتكلّم الجمع منعاً للتكرار. أما ذكر بولس وسلوانس وتيموتاوس ككتّاب الرسالة، فيفترض آنها كتبت بعد الأولى بوقت قصير. لأن أع 18: 5 هو النصّ الأخير الذي يتحدّث عن وجود سلوانس بقرب بولس. وبالتالي عن ابتعاده عنه بعد تبشير كورنتوس.
لا يسمي بولس نفسه رسولاً، كما سيفعل في عدد من الرسائل. فلا أحد يجادل في صفته كرسول (رج فل 1: 1: بولس وتيموتاوس) كما في غلاطيه أو كورنتوس.
"إلى كنيسة التسالونيكيين". الكنيسة هي الجماعة المحليّة، على مثال جماعات الصلاة في العهد القديم (ق هـ ل في العبرية). الكنيسة (اكلاسيا) هي التي يدعوها (كاليو) الله فتجتمع باسمه. ولكنها ليست منغلقة على ذاتها. فإذا أرادت أن تكون كنيسة لا شيعة، وجب عليها أن تكون منفتحة عك سائر "كنائس" الله، جماعات الله.
ويبدأ فعل الشكر في آ 3- 4 أ. لقد اعتاد بولس (ما عدا في غل) على أن يوجّه إلى الله فعل شكر يعبرّ فيه عن فرحه لما يجده من حياة مسيحيّه في الجماعات التي أسّسها. وهنا سيكون فعل الشكر طويلاً فيمتزج بالحديث عن الاضطهادات التي تعرفها كنيسة تسالونيكي.
سمّى بولس مراسليه "الاخوة"، وهذا ما لا نجده في فعل الشكر الوارد في سائر الرسائل. بل سيكون ساعة يبدأ بولس حديثه مع المؤمنين.
مالذي يدفع الرسول إلى فعل الشكل؟ ايمان التسالونيكيين الذي ما زال ينمو، ومحبتهم بعضهم لبعض التي تنمو أيضاً (هيبراوكسانو: نما بوفرة، بقوّة). نستطيع أن نفترض أن بولس تلقّى من تسالونيكي أخباراً مفرحة جعلته يتأكدّ من استجابة صلاته لهذه الكنيسة البعيدة عنه (1 تس 1: 2: نذكركم في صلواتنا؛ 3: 12- 13). غير أننا ندهش لأن رجاء التسالونيكيين لم يعد يُذكر كما كان الأمر في 1 تس 1: 3. فالرجاء يشكّل مع الايمان والمحبّة مثلّثاً يحدّد في نظر بولس حياة المسيحي بمركّباتها الأساسيّة. فإن نقص عنصر من هذه العناصر الثلاث، تأثّرت حياتنا تأثّراً كبيراً (1 تس 5: 8؛ 1 كور 13: 13). إن غياب الرجاء في 2 تس يجعلنا نظنّ أن هذه الرسالة دوّنت في منظار يختلف عن المنظار الذي فيه دوّنت 1 تس.
ونقرأ آ 4 أ: "ولذلك نحن نفتخر بكم لدى كنائس الله. بسبب صبركم وايمانكم في جميع الاضطهادات ". نشير هنا إلى أن الجملة الطويلة التي تبدأ 2 تس (آ 3- 10) تقسم قسمين: موضوع فعل الشكر (آ 3- 4). صورة عن الدينونة (آ 5- 10). ونعود إلى آ 4 أ.
يستطيع الرسول أن يشكر الله، لا بسبب نموّ التسالونيكيين في الايمان والمحبّة وحسب، بل يستطيع أيضاً في ما يخصّه أن يكون فخوراً بهم في كنائس الله بسبب صبرهم وإيمانهم في الاضطهادات التي تحمّلوها. إن فعل "انكوخوماي" (افتخر) نادر الاستعمال. نجده في السبعينية في مز 51: 3؛ 73: 4؛ 96: 7؛ 105: 47. وهو لا يرد في كل العهد الجديد إلا في هذا المكان. أما بولس فاعتاد أن يستعمل الافعل المجرّد (كوخوماي، روم 2: 17، 23؛ 5: 2، 11؛ 1 كور 1: 29...) لا الفعل المزيد كما هو الأمر هنا.
في 1 تس كان بولس قد قال عن التسالونيكيين إنهم قد صاروا مثالاً للمؤمنين في اليونان (1: 7: مكدونية وأخائية)، إنهم الاكليل الذي به يفتخر أمام الرب (2: 19: أنتم اكليل فخرنا). إن الفكرة التي تقول إن الرسرل يفتخر بهم في كنائس الله، هي جديدة بقدر ما لا نستطيع أن نحدّد بدقّة موقع هذه الكنائس.
سيتحدّث بولس مرة أخرى عن "كنائس الله" في 1 كور 11: 16. مقابل هذا يتحدّث عن "كنيسة الله" (1 كور 1: 2؛ 10: 32؛ 11: 22؛ 15: 9...). كان المؤمنون الهلينيون الذين تواجدوا في أورشليم، أول من تسمّى باسم "كنيسة الله" حسب الترجمة السبعينيّة للفظة "ق هـ ل" التي تدلّ على جماعة اسرائيل وشعب الله. وهكذا عبرّت كنيسة أورشليم عن وعيها بأنها شعب الله الحقيقي في الأيام الأخيرة. أما بولس فعمّم هذه التسمية على الكنائس الآتية من العالم الوثني، بحيث إن "كنيسة الله" موجودة في كل كنيسة، في كل جماعة.
حين تكلّم بولس عن صبر التسالونيكيين في الاضطهادات، تطرّق إلى موضوع جديد سيتيح له التوسّع فيه أن يتصوّر المصير المجيد المحفوظ لهم في مجيء الرب. كما أن يرتبط بفعل شكره مشيراً إلى إيمانهم (الصبر هو ثمرة الايمان وشهادته). ففي الاضطهادات يبرهن المؤمنون على صبرهم حين يحافظون على إيمانهم بانتظار يوم الربّ الذىِ يحمل إليهم الخلاص. كانت قد أشارت 1 تس (أع 17: 5 ي) إلى الاضطهادات التي رافقت تجمّع الكنيسة في تسالونيكي (1: 5؛ 2: 14؛ 3: 3). إلا أن بولس تحدّث في 1 تس عن هذه الاضطهادات وكأنها تنتمي إلى الماضي. أما في 2 تس فهو يتحدّث عنها بشكل عام فيعتبرها حاضرة ساعة يدوّن بولس رسالته.
2- معنى الاضطهادات (1: 4 ب- 7 أ)
ونبقى في الجملة الطويلة التي بدأت في آ 3 ولن تنتهي إلا في آ 10. فنقرأ آ 4 ب: "المضايق التي تكابدونها". انتهت فكرة بولس في آ 4 أ بالعبارة: "في جميع اضطهاداتكم". وجاءت آ 4 ب فبدأت قطعة جديدة. إن مدلول "الاضطهادات" ومدلول "الضيقات" قريب الواحد من الآخر، لأن الاضطهادات هي شكل من الضيق العظيم لا الأزمنة الأخيرة، الذي فيه دخلت الكنيسة. أما هنا فاللفظتان مترادفتان. هذا ما نجده في مر 4: 17 بمناسبة الحديث عن بذار الكلمة. "اذا طرأت شدة أو اضطهاد من أجل الكلمة، تشككوا في الحال" (رج مت 13: 21). ونتذكر 1 تس 3: 3- 14) التي تتحدّث عن المضايق التي ستنتاب الكنيسة.
وتأتي آ 5 (دليل حكم الله العادل) ولا شيء يربطها بما سبق. لهذا جاء من يزيد: "وإن هذا" كما في أف 3: 13 (فإنها مجدكم)؛ فل 1: 28 (إن في ذلك دليل). يؤكّد بولس أن الضيقات التي قاساها التسالونيكيون هي البرهان على حكم الله العادل. "انديغما" هو البرهان والاشارة، ولا يرد إلا هنا في كل العهد الجديد كما هو نادر في النصوص اليونانيّة. أما الحكم العادل فهو الدينرنة الاخيرة كما ستظهر في آ 6- 10.
سنفهم في آ 6 لماذا يجب على التسالونيكيين أن يتألموا الآن لتكون دينونة الله في اليوم الأخير عادلة تجاههم وتجاه مضطهديهم. إن كانوا يتألمون الآن، فلكي يحسبهم الديّان السامي أهلاً لملكوت الله. فليس كل ألم يصاب بهم إلى هذه النتيجة، بل الألم الذي احتملوه من أجل هذا الملكوت. هذه الفكرة تقابل ما نقرأ في مت 5: 10: "طوبى للمضطهدين من أجل البرّ، فإن لهم ملكوت السماوات". هناك الاداة "كاي" (أيضاً). قد تعني أن التسالونيكييين تألمّوا أيضاً مثل الرسل. وتشدّد بالأحرى على أن الألم الذي وُعد له بالخلاص هو الألم من أجل ملكوت الله.
وتأتي آ 6 فتبرّر التأكيد الذي قرأناه في آ 5. فالضيقات التي يقاسيها التسالونيكيون هي البرهان على أن الله عادل، لأن الرب سيردّ الضيق لمضطهديهم والراحة لهم وللمرسلين الذين بشرّوهم. ونقرأ "أيبر": إذا حقاً، هذا إذا. هذه الأداة تتحدّث عن شرط تحقّق فاظهر حقيقة التأكيد السابق. أما الواقع الذي نقوله به هنا، فهو العدالة التي بحسبها يُصدر الله حكمه. هذه العدالة التي هي متطلّبة من متطلّبات الوجدان البشري وبشكل خاص وجدان المؤمن.
إن انقلاب الوضع بين سعداء هذا العالم وتعسائه، بين المضطهَدين والمضطهِدين، ككشف عن عدالة الله، قد أعلنه يسوع في لو 6: 26: "ويل لكم اذا ما الناس جميعاً قالوا فيكم حسناً". وفي 16: 25: "نلت (أيها الغني) خيراتك في حياتك ولعازر بلاياه. فهو الآن ههنا يتعزّى وانت هناك تتعذب". وقد دعا بولس المؤمنين لينتظروا هذه المجازاة الالهيّة دون أن يمزجوا في هذا الانتظار رغبة في أخذ الثأر والانتقام (روم 12: 19 ي: لا تنتقموا لانفسكم أيها الأحباء، بل اتركوا موضعاً لغضب الله).
والراحة التي وُعد بها المضطهدون تأخذ كامل معناها من المقابلة مع الضيقات التي ستضع لها حداً. وهي راحة ينضمّ فيها المؤمنون إلى المرسلين. تلك فكرة عبرّ عنها الرسول في مواضع أخرى. قال في 1 تس 2: 19- 20: "ما رجاؤنا وفرحنا واكليل فخرنا أمام ربنا يسوع، عند مجيئه؟ أما هو أنتم؟ أجل، انما أنتم مجدنا وفرحنا". وفي 1 كور 4: 8: "يا ليتكم قد ملكتم لنملك نحن أيضاً معكم". وفي 2 كور 7: 3- 4: "إنكم في قلوبنا للحياة وللموت. إن لي بكم ثقة عظيمة، ولي بكم فخراً عظيماً".
3- مجيء الرب، يوم الجزاء الاخير (1: 7 ب- 10)
هذا ما يكون "عند تجليّ الرب يسوع من السماء". إن دينونة الله تمارس في مجيء الرب الذي يُسمّى هنا "تجليّ" كما في 1 كور 1: 7 (في انتظاركم تجلّن ربنا يسوع المسيح)؛ 1 بط 1: 7، 13. ففي ذاك اليوم، ذلك الذي يجلس خثياً عن يمين الآب، يتجلىّ ويظهر للجميع. وتحدّد ثلاث عبارات كيفيّة هذا التجليّ، هذا المجيء. ينزل الربّ من السماء (1 تس 4: 16)، مقام الله، ويحمل معه العقاب والجزاء. ترافقه "ملائكة قدرته"، أي الملائكة الذين يخضعون له في مهمّته كديّان في نهاية الأزمنة. رج مر 8: 38: "يستحي به ابن البشر متى جاء في مجد أبيه مع ملائكته القديسين"؛ مت 16: 27: "ابن البشر يأتي في مجد أبيه وعندئذٍ يجازي كل أحد بحسب أعماله"؛ 24: 30؛ 25: 31؛ 1 تس 3: 13. إن فكرة مشاركة الملائكة في الدينونة، نجدها في عالم الجليان اليهوديّ. مع فارق بسيط وهو أن الملائكة يرافقون الله لا المسيح.
في آ 8 نقرأ عن "لهيب نار" أو "نار ملتهبة". هذا ما يعود بنا إلى خر 3: 2 وحدث العليقة الملتهبة. نحن هنا أمام عنصر تصويريّ لوحي ربنا يسوع المسيح. فالنار هي إحدى السمات التقليديّة في ظهورات (تيوفانيا) العهد القديم ولا سيما التيوفانيا العظمى في سيناء (خر 19: 18). اذن، لا نطرح سؤالاً حول دور النار في الدينونة. كما نعلم في آ 9 أن الهلاك يكون بالبعد من وجه الربّ. تحيط بالرب يسوع نار ملتهبة فتدل على أنه الله، والنار رمز إليه.
تحيط به فتلبسه مهابة رهيبة تجاه الانسان الخاطئ. وتصوّر الدينونة نفسها في نتائجها فتتوافق مع تجليّ الرب. حينئذٍ ينال العقاب أولئك "الذين لا يعرفون (لم يريدوا أن يعرفوا) الله، والذين لا يطيعون انجيل ربنا يسوع المسيح". من هم هؤلاء الخطأة الذين يدلّ عليهم النصّ؟ لا نستطيع أن نقول من هم بالتأكيد. فعبارة "الذين لا يعرفون الله" تعود إلى إر 10: 25 (بحسب السبعينيّة) وتدلّ على الوثنيين. أما الذين لا يطيعون الانجيل فهم اليهود الذين لم يؤمنوا كما تقول روم 10: 16 (ولكنهم لم يذعنوا كلهم للانجيل). وهكذا اجتمع الوثنيون واليهود في جملة واحدة.
إن هذا التفسير يتوافق مع وضع التسالونيكيين الذين يضطهدهم وثنيون قد حرّضهم اليهود ففعلوا (أخ 17: 5؛ 1 تس 2: 14 ي). وهكذا رأى عدد من الشراح أن بولس يشير هنا إلى هاتين الفئتين من الخطأة، الوثنيين واليهود اللامؤمنين. ولكن في تصوير الدينونة الأخيرة التي رُسمت انطلاقاً مات عبارات وصور مأخوذة من العهد القديم وظلّت عامة، نستطيع أن نتساءل: أما نحن أمام سمتين لهؤلاء الناس؟ من جهة، "لا يعرفون الله" في المعنى البيبلي للكلمة، فلا يكرمّونه ولا يشكرونه كإله (روم 1: 21). ومن جهة ثانية، "لا يطيعون انجيل ربنا يسوع المسيح" الذي به عرّف الله عن نفسه إليهم. ولكنهم رفضوا الايمان بالتعليم الذي يحزرهم من لا إيمانهم. نلاحظ أن سبب عقابهم ليس نشاطهم كمضطهِدين، بل لا إيمانهم الذي جعل منهم مضطهدين لمؤمني تسالونيكي. وهكذا يمنع الرسول قرّاءه من التفكير بهم بعواطف شخصيّة (ميت الانتقام) بعيدة كل البعد عن عدالة الله.
نلاحظ أن 1 تس 4: 5 (كالوثنيين الذين لا يعرفون الله) استعادت إر 10: 25 (حسب السبعينيّة). أما 2 تس 1: 8 فألغت اللفظة المميزة "الوثنيين". قالت فقط: "لينتقم من الذين لا يعرفون الله". وهكذا أعطت العبارة بعداً عاماً. كما نلاحظ أن عبارة "انجيل ربنا يسوع المسيح" لا توجد إلا هنا في كل العهد الجديد. ونلاحظ ثالثاً في هذه الآيات التي تستوحي العهد القديم، أننا نقرأ عبارة معروفة "ديكين تينو"، قاسى العقاب، عوقب. وهي لا توجد إلا هنا في العهد الجديد.
ما يكون عقاب اللامؤمنين؟ تقول آ 9: الهلاك الابدي. الدمار الابدي. اللفظة اليونانية هي "أولتروس"، الدمار والخراب. نجدها في 1 تس 5: 3 (يدهمهم الدمار بغتة)؛ 1 كور 5: 5 (هلاك الجسد، دمار الجسد)؛ حك 1: 12 الا تجلبوا على أنفسكم الهلاك بأعمال أيديكم). إن عبارة "الهلاك الابدي" (أولتروس ايونيوس) نقرأها في 4 مك 10: 15، ولكن لا نجدها في العهد الجديد إلا هنا. ولكننا نقرأ "النار الابديّة" (بير ايونيون) في مت 18: 8 (كما أن تلقى في النار الابدية)؛ 25: 41 (اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الابدية)؛ يهو 7 (قاست عذاب النار الأبديّة). كما نقرأ العقاب الأبدي (كولاسيس ايونيوس) في مت 25: 46 (فيذهب هؤلاء إلى العقاب الأبدي، العذاب الأبدي، والصديقون إلى حياة خالدة).
كيف نفهم هذه العبارة بما فيها من مفارقة: "الموت الأبدي"، الموت الذي لا يموت؟ إذا كانت "ايونوس" (أبدي) تعني كل ما هو موضوع الانتظار الاسكاتولوجيّ فهي لا تعني فقط "ما لا نهاية له "، بل "الأخير والنهائي". وهكذا يطبع العقاب بخطورة كبيرة تميّز العالم الآتي (كيف تصوّر بولس هذا الهلاك؟ هو لم يتصوّره لأنه يتجاوز عقل البشر). فالطابع الروحي للدينونة تدل عليه عبارتان تحدّدانه بالنسبة إلى مجيء الربّ في مجده. الهالكون يُطردون من حضوره، من أمام وجهه، لا يعودون يرونه. أما المؤمنون فيقفون في حضرته ويجدون في مشاهدته تحقيقاً لأعمق ما فيهم من رغبات. ويستبعد الهالكون من "مجد قدرته". أي لا يشاركون اطلاقاً في القدرة التي يظهرها الربّ في مجيئة، حين يُظهر ملكه ويُشرك فيه أخصّاءه. إن هذا التصوير للدينونة يتعارض ببساطته وروحانيتّه مع الصور "الفاقعة" التي نجدها في عالم الجليان اليهوديّ.
"يستبعد الهالكون". يذكر مت 7: 23؛ 5: 41 العقاب نفمسه. أما ما يحدّد وضع الهالكين فيأتي من أش 2: 10، 19، 21 حيث ترد الكلمات بشكل ردّة وقرار: "من أمام هيبة الرب وبعيداً عن بهاء قدرته". ترك الكاتب لفظة "فوبو" (هيبة، رعب)، فصارت العبارة: "بعيداً من وجه الربّ". وينضمّ إلى الربّ أخصاؤه. هذا ما نجده في تصوير المجيء في 1 تس 4: 16- 17. نحن هنا أمام ألفاظ مأخوذة من العهد القديم. في النهاية نقرأ: "نكون مع الربّ على الدوام".
ونصل إلى آ 10: "وعندما يأتي الربّ في ذلك اليوم، ليتمجّد في قديسيه". إن تجليّ ربنا يسوع المسيح سيكون للامؤمنين دينونة وعقاباً ودماراً أبدياً (آ 7 ب- 9). غير أن هذه الدينونة لن تكون إلا الوجه المظلم لحدث سيكون للمختارين نوراً وحياة. فهدف مجيء الربّ هو تمجيده الذي لا ينفصل عن تمجيد أخصائه. فهو لا يأتي وحده، بل مع جميع المؤمنين الذين تمجّدوا فانضموا إلى موكبه الظافر (1 تس 4: 17) إلى ملكه (1 كور 15: 23- 24؛ روم 8: 17). هذا ما قيل في العهد القديم، في مز 88: 8 (حسب السبعينيّة): "الله مهيب في مجلس القديسين، عظيم ورهيب عند الذين حوله". وفي مز 67: 36 (حسب السبعينيّة): "رهيب هو الله في مقدسه".
من هم القديسون الذين سيمجّد الله في وسطهم؟ قد يكونون الملائكة الذين تشير نصوص العهد الجديد إلى حضورهم بجانب الربّ في مجيئه (مز 8: 38؛ لو 9: 26؛ مت 25: 31 وملائكته معه). ولكن بما أن الكاتب توخّى في هذا المقطع أن يبرز بُشاعة مصير الهالكين مقابلاً إياه بمجد الربّ وأخصائه، فقد يكون القديسون المؤمنين. وهذا حسب ما اعتاد أن يفعل العهد الجديد بشكل عام والرسائل البولسيّة بشكل خاص. القديسون هم جميع الذين آمنوا. تفسير مقبول كان لم يفرض نفسه اطلاقاً.
إن لفظة "قديسيه" هي نادرة جداً في العهد الجديد. فلا نجدها إلا في كو 1: 26 (أعلن الآن لقديسيه) حيث الضمير يعود إلى الله، وفي 1 تس 3: 13 (عند مجيء ربنا يسوع مع جميع قديسيه) التي تعني الملائكة كما يقول معضم الشّراح. وهناك فعل "اندوكسازوماي" (مجِّد)، و"توماستيناي" (دُهش) اللذان يتوازيان ويدلاّن تقريباً على المعنى عينه. كلاهما يشيران إلى مجد الربّ حين يأتي ليدين العالم ويعلن ملكه. في هذا المجال نستطيع القول: "وسط قديسيه"، لا فقط "في قدّيسيه". فهذا ما نجده في النص الذي يستلهمه بولس. ثم نحن أمام مجيء الرب المجيد وموكب الملائكة والمؤمنين. لا أمام المصير الأخير للمؤمنين (آ 12). المؤمنون الممجدّون هم الذين يحيطون بالرب ويهتفون له.
حين تحدّث بولس عن "جميع الذين آمنوا" أفهم التسالونيكيين أنّهم سيكونون في عدادهم. ولفظة "جميع" تدلّ على جميع التسالونيكيين المؤمنين، كما تعبرّ عن شموليّة الخلاص. ولكنه حدّد فكره في جملة معترضة: "لأن شهادتنا لديكم قد أومن بها" أي آمنتم بشهادتنا لديكم. فالمرسلون حملوا إلى التسالونيكيين بكرازتهم شهادة عما صنعه الله يخص يسوع المسيح. وقد آمن التسالونيكيون بهذه الشهادة. إذن، هم ينتمون إلى شعب المؤمنين الذين في وسطهم سيشّع مجد الرب في ذلك اليوم الذي سيكون يومه (1 تس 5: 4؛ 1 كور 1: 8؛ 5: 5؛ 2 كور 1: 14).
"في ذلك اليوم". تعود هذه العبارة إلى أش 2: 17، 20 (حسب السبعينيّة): "ينحطّ ترفّع البشر والرب وحده يتعالى في ذلك اليوم... في ذلك اليوم يطرح البشر أصنام فضّتهم". جُعلت العبارة في نهاية آ 7- 10 فدلّت على المعنى الاسكاتولوجي. لهذا تُرجمت كخاتمة للمقطع كله: هذا ما يكون في ذلك اليوم.
4- توسّل الرسول من أجل الجماعة (1: 11- 12)
وتنتهي الإشارة إلى مجيء الربّ بصلاة يتمنّى فيها بولس أن "يمجّد اسم ربنا فيكم". أما توسّل الرسول فيتضمّن طلبتين: أن يجعلهم الله اهلاً لندائه وأن يحقق رغبتهم في عمل الخير. لسنا أمام النداء الالهي الأول الذي دعاهم للسير في طريق الخلاص. بل هو يريد لهم أن يظلّوا امناء لهذا النداء وسط الاضطهادات والصعوبات. وما يطلبه الرسول من أجل مؤمنيه هو أن يتوقوا إلى هذا الهدف السامي الذي يرتبط بظهور الربّ المجيد الذي تحدّثت عنه الرسالة في آ 10.
أ- "ولهذا أيضاً نصليّ" (آ 11)
نقرأ في بداية الآية: من أجل هذا، في هذا المنظار. هذا يعود بنا إلى مجيء الربّ مع نتائجه بالنسبة إلى اللامؤمنين والمؤمنين (آ 6- 10). فبعد أن شكر بولس الله (آ 3 ي)، توسّل من أجل قرّائه كما اعتاد أن يفعل (1 تس 1: 2؛ 3: 11 ي؛ فل 1: 3، 9؛ روم 1: 8، 10...). حل نستطيع أن نصل إلى فكرة واضحة عن هذه الصلاة وفي آ 11 كلمات تفسّر تفاسير مختلفة؟ "اكسيوو" يعني: اعتبره اهلاً (في آ 5، كان المزيد: كاتاكسيوو). ولكن هل نتصوّر صلاة تطلب إلى الله أن تحسب التسالونيكيين، في اليوم الأخير، اهلاً للدعوة التي دعوا إليها؟ فالله لا يحسبهم اهلاً إلاّ إذا كانوا كذلك. فالذين يأخذون بهذا المعنى يلاحظون أن بولس يطلب في العبارة الثانية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعبارة الأولى، يطلب من الله أن يفعل ما يجب من أجل التسالونيكيين لكي يحسبوا أهلاً لدعوتهم. ولكن عندما نفهم "اكسيوو" بمعنى أهّله، جعله اهلاً، تزول الصعوبة. وهكذا يوضحُ الطلب الثاني الطلب الأول فيبين كيف أن الله يؤهّل المؤمنين، يجعلهم أهلاً لدعوته لهم في مجيئه (1 تس 3: 3؛ 5: 23).
وهناك صعوبات أخرى. طلب بولس من الله أن "يكمّل" حياة المسيحيين لدى أهل تسالونيكي، أن يجعل منهم هؤلاء المسيحيين الكاملين الذين سيكونون وحدهم أهلاً ليشاركوا الربّ في مجده. ولكن "عمل الايمان" قد يعني العمل الذي يعمله الايمان. أو العمل الذي هو الايمان (يكون الايمان بدلاً عن العمل أو النشاط). من الممكن أن تكون هذه العبارة قد تأثرت بما في 1 تس 1: 3 حيث يُذكر عمل ايمان التسالونيكيين. إذن، نفترض أن المعنى واحد في العبارتين. عندئذٍ نزيد "كل" فنقول كل عمل إيمان.
وما معنى "كل رغبة صلاح"؟ "اغاتوسيني" تعني اللطف، الصلاح، الاستقامة الاخلاقيّة. لم تعرف اليونانيّة الدنيويّة هذه اللفظة التي ظهرت في السبعينيّة وانتقلت إلى العهد الجديد. فدلّت على صلاح الانسان. هي تعني هنا صلاح الله وصلاح الانسان. فإذا تبعنا التوازي، نقول إننا أمام صلاح المؤمنين. فاللفظة "اودوكيا" تدلّ إما على رضى الله وارادته السامية وإما على رغبة الانسان ولذته وارادته. وبما أنه يبدو أن بولس يتحدّث عن صلاح المؤمنين، يجب أن نفهم "اودوكيا" بالنسبة إلى هذا الصلاح: كل ما يرضى الصلاح، أي كل ما يتمنّاه الصلاح، كل الاهداف التي يتشوّق إليها. وقد نستطيع أن نترجم: كل إرادة تصبو إلى الصلاح.
إذن، طلب برلس من الله في توسّله أن يقود الربّ بنفسه إلى الكمال حياة التسالونيكيين المسيحيّة: "عمل الايمان" الذي يرتكز على إرادة الله ونعمته. و"كل ما يرضي الصلاح"، الصلاح الذي يلهمه الله والذي يستطيع وحده أن يتمّم كل مقاصده ومبادراته. ومتقابل عجز المؤمنين، يعمل الله بقوّة: لهذا ينتظر منه بولس أن يستجيب صلاته.
ب- "حتى يمجّد اسم ربنا" (آ 12)
وها نحن الآن أمام هدف الصلاة: ليمجّد اسم الربّ يسوع وسط المؤمنين الذين صاروا أهلاً للدعوة التي وجّهت إليهم. لا شك في أن عبارة "حتى يمجّد" ترتبط بالمجيء على مثال عبارة آ 10 "عندما يأتي ليتمجّد". يتحدّث النص هنا عن "اسم ربنا يسوع المسيح"، لأن المؤمنين الذين وصلوا في النهاية إلى الكمال (فل 3: 12)، يبلغون إلى مجد الربّ الذي يعترفون باسمه (فل 2: 11: ويعترف كل لسان؛ 1 كور 12: 3؛ روم 8: 9) وهم عمله. وهم بدورهم سوف يتمجّدون فيه، بعد أن يشتركوا في مجده، في قدرته، يخما ملكه.
"بالنظر إلى نعمة إلهنا الربّ يسوع المسيح". النعمة التي هي في أصل حياة المؤمنين، والتي تحدّدها كلها (روم 6: 14)، تقودها إلى نهايتها المجيدة. هنا: تُطرح قضية على مستوى النقد النصوصيّ. حرفياً نترجم "إلهنا والربّ يسوع المسيح". هكذا يكون إلهنا هو الربّ يسوع المسيح. غير أن هذه العبارة تخالف طريقة بولس في الكتابة. فهو يميّز الله عن الربّ يسوع المسيح. لهذا، هناك من رأى في هذه العبارة دلالة على أن 2 تس ليست من "قلم" بولس. ورأى آخرون أن عبارة "الرب يسوع المسيح" قد زادها أحد النسّاخ متأثراً بالعبارة التقليدية. لأن من المعقول أن يكون الكاتب قد بدأ بالاملاء: "بحسب نعمة إلهنا". وإذ تأثر بالعبارة التقليديّة (آ 2) زاد: والرب يسوع المسيح، دون أن ينتبه إلى أن تكرار أل التعريف ضروريّ لكي يميّز الربّ يسوع عن الله. لهذا يزيد معظم الشّراح أل التعريف أمام "الربّ يسوع المسيح" فيستقيم المعنى كما يلي "على حسب نعمة إلهنا والرب يسوع المسيح".
خاتمة
ذاك هو بعض غنى هذا الفصل الذي يحدّثنا عن إيمان التسالونيكيين وسط الاضطهادات والضيقات. بعد الشكر الذي نجد فيه مواضيع الايمان والمحبّة والصبر التي ألهمت الرسالة الأولى إلى التسالونيكي، توقّفنا عند الآلام من أجل الملكوت، هذه الآلام التي تبدو خيراً للمؤمنين، وتحمل عقاباً للمضطهدين. لقد جاء يوم الربّ، وجاء معه الوقت الذي فيه تنقلب الأمور رأساً على عقب: سينال المضايقون الراحة. ويكون للمضطهدين الضيق والهلاك. سيأتي الربّ مع: ص ملائكته وسوف يدين جميع الأمم، اليهود والوثنيين. وتتمّ القسمة بين اثنين: أولئك الذين يعرفون الله. أولئك الذين لا يطيعون الله. وهذه القسمة تتمّ في النهاية (كما في مثل الحنطة والزؤان، مت 13) حين يأتي لكي يمجّد. ولن يمجّد وحده، بل مع قديسيه، بل مع جماعة المؤمنين في تسالونيكي وفي غيرها من المدن التي آمنت. كما تقول 1 تس 2: 12: المسيح سيمجّد والمسيحيون أيضاً مدعوون إلى هذا المجد. عند ذاك ينتقل المجد من الابن إلى المؤمنين القديسين ويصير الله كلاً في الكل، فيتمجّد يسوع فينا ونحن نتمجّد فيه.



Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM