الفصل الخامس: يسوع والمرذولون في المجتمع

الفصل الخامس
يسوع والمرذولون في المجتمع

تحدّثنا عن المرضى في الفصل السابق. إنهّم أوّل المرذولين، وسنرى كيف تعامل يسوع معهم. وهناك فئة ثانية من المرذولين: النساء والأولاد. والفئة الثالثة نجدها لدى أصحاب بعض المهن الممقوتة في المجتمع اليهودي ولا سيّما مهنة العشار أو جابي الضرائب.

أ- أصحاب العلّة
1- نظرة المجتمع إليهم
يعتبر هؤلاء الناس عالة على المجتمع، لأن علّتهم تمنعهم من العمل وتدفعهم إلى العيش من مدّ اليد والاستعطاء. وإن الإنجيل يربط الاستعطاء بالمرض وكأنه أمر معروف. ابن طيما هو شحّاذ أعمى (مر 10: 46). ومقعد الباب الجميل انتظر أن يتصدّق عليه بطرس ويوحنا (أع 3: 2- 3). والاستعطاء يُذلّ الإنسان، في الأمس كما في اليوم. لهذا يقول الوكيل الخائن وهو المهدّد بخسران وظيفته والباحث عمّا يقوم بأود حياته: "ماذا أعمل؟ أأستعطي؟ إني أستحي" (لو 16: 3).
هذا الوضع المادي يجعل حواجز بين المرضى والشعب الذي يعمل. ويتفاعل مع الخوف الذي يحيط بالمرض. لا أحد يستطيع أن يسيطر على المرض، لهذا ينسب إلى روح الشّر.
في هذا الإطار الاقتصادي والإيديولوجي، يجد المرضى نفوسهم مرذولين من المجتمع. فعلى الأبرص أن يتجنّب الاتصّال بأي شخص سليم. والخطر يكمن في الاقتراب من شخص ممسوس، شخص أقام فيه روح شّرير. والصمّ والعميان والمقعدون هم مطبوعون بعلّة تمنعهم من اعتبار نفوسهم متساوين مع سائر اليهود: لا يحقّ لهم أن يشهدوا في المحكمة (كما يقال اليوم: يمنع شخص من الانتخاب)، لا يحق لهم أن يدخلوا الهيكل.
ويبرّر اليهود هذا الوضع الإجتماعي والديني بنظرة لاهوتية تعتبر أن المرض هو نتيجة خطيئة اقترفها المريض. وإذا عاد المرض إلى الولادة، تساءل الناس: "من أخطأ، هو أم والداه " (يو 9: 2)؟
المرضى هم عالة على المجتمع، هم نجسون ومرذلون في شعب الله. ومع ذلك لا يتخلّى عنهم شعب الفقراء. إنهم يسكنون مع المرضى ويحملونهم إلى يسوع. يقول مت 15: 30- 31: "جاءته جموع كبيرة ومعهم عرج وعميان ومقعدون وخرس وغيرهم كثيرون، فطرحوهم عند قدميه فشفاهم. فتعجّب الناس". والمخلَّع الذي دلّوه من سقف البيت، أما حمله أربعة رجال إلى يسوع (مر 3:2). وكذا نقول عن الرجل الذي جاء بابنه المصاب بداء الصرع إلى يسوع (مر 17:9).

2- كيف تصّرف يسوع مع هؤلاء المرضى
جاؤوه بالمرضى فشفاهم. قام بعمل الشافي من أجلهم، ومن أجلهم صنع المعجزات.
هنا نتذكّر أن كل مرض يُنسب إلى روح الشّر، إلى قوى خفية. فإذا أراد "الشافي" أن يتصرّف، فهو لا يعود إلى نواميس الطبّ، بل يحاول بحركاته وأقواله أن يطرد روح الشر من المريض. هذا ما يسمّى التقسيم. يستعمل الشافي قوة تتغلّب على الروح الذي يقيم في الإنسان. مثل هذه النظرة تظهر من خلال الجدال بين يسوع والفريسيين: أفهموه أنه يشفي الناس ببعل زبول، رئيس الشياطين (مر 3: 22- 30). إتهموا يسوع بأنه يلجأ إلى السحر (وهذا ما يجعله مستحقًا الموت) كما يفعل بعض الشافين في أوساط فلسطين الشعبيّة.
ونتحدّث اليوم عن نواميس الطبيعة التي لا تقف بوجه يسوع. ولكن نواميس الطبيعة لم تكن معروفة في ذاك الزمان. لهذا لن نستطيع أن ندرك حقّ الإدراك المرض والشفاء والمعجزة في عالم جهل العلم والتحليل الطبي. وهناك صعوبة أخرى تجابهنا حين نقرأ خبر معجزة. نحاول أن نتخيّل ما حدث حقّاً. ولكننا ننسى أن الأناجيل ليست ريبورتاجاً، وأن الإنجيلي لم يرد أن يشخّص المرض. كما ننسى أن الأناجيل كتبت بعد أن حملها تقليد طويل شفهي وكتابي معاً.
يجب أن تحُفظ أخبار المعجزات غيباً. لهذا ألّفت حسب رسمة بسيطة تصفي التفاصيل وتُبقي على الجوهر. كرّرت بعض المعجزات (مثلاً تكثير الخبز، مر 6: 35- 44؛ 8: 1- 10). وقدّمت أخرى بشكل لاهوتي، فما عدنا نقدر أن ندرك تفاصيل الحدث.
ومهما يكن من أمر، فقد قام يسوع بنشاط شفاء في محيطه. فما هو مدلول هذا النشاط؟ لا نستطيع أن نفصل مدلول المعجزات عن الوضع الاجتماعي للمرض، وعن المعنى الذي أراد يسوع أن يعطيه لهذه المعجزات في كرازة ملكوت صار حاضراً الآن. فإذا أخذنا بعين الاعتبار الاختلاف في النظر إلى المرض في العالم القديم، نستطيع أن نجمل مدلول المعجزات في ثلاث نقاط:
* النقطة الأولى: حين صنع يسوع معجزات، دلّ على أن الملكوت قد حلّ في هذا العالم، وأنه يعني حاجات الإنسان الحياتية: الجوع، الصحة، الحياة، البحث عن الهوية. وهكذا التقى مع التقليد البيبلي القديم الذي يرى أن الخلاص الذي يمنحه الله هو حقيقة ملموسة، هو حقيقة حياة لا موت. ننطلق من التحرّر من العبودية في مصر، فنصل إلى الخلاص المسيحاني الذي يعني الخليقة كلّها.
* النقطة الثانية: تدلّ المعجزات أيضاً على أن الملكوت يبدأ مجيئه ساعة يستعيد المرضى مكانتهم في الشعب. تألمّ يسوع من المصير المفروض عليهم في المجتمع، فأراد أن يحطّم الشرائع التي تجعلهم مرذولين. فمجيء الملكوت يتحقق حين تزول الحواجز بين البشر، أكانوا برصاً أم في صحّة جيدة (مر 1 :44).
* النقطة الثالثة: المرض هو شر لا يُفهم. وتعود جذوره إلى الشيطان. وهكذا تصبح الحرب على الخطيئة حرباً على قوى الشّر. وقد رأى يسوع، شأنه شأن معاصريه، علامة انتصار الملكوت وظهور العالم الجديد (مت 28:12: ملكوت الله حلّ بينكم). وإن كان يسوع قد قام بمعظم معجزاته يوم السبت، فقد أراد أن يدلّ على حضور هذا العالم الجديد (مر 3: 1-6؛ لو 10:13-17؛ يو 5: 1-18؛ 9: 1- 41). ففي العالم اليهودي المعاصر للمسيح، كان السبت يتذكّر تكملة الخلق (تك 2: 2). والمعجزات التي تمتّ في ذلك اليوم، رمزت إلى مجيء الخليقة الجديدة.
لقد أراد يسوع أن يعطي هذا المعنى للمعجزات التي أتمّها، وهذا ظاهر في حدثين يصعب علينا فهمهما: تهدئة العاصفة (مر 35:4- 41)، والسير على المياه (مر 6: 45- 52). إعتبر اليهود أن البحر عدوّ خطير للبشر، وتسكنه قوى الشّر: قسَّم عليه يسوع ومشى عليه، فدلَّ على أن حربه ضد الشر تمتلك بُعداً كونياً. قد تجاوزنا المعتقدات الدينية والسُطُرية التي تسند هذا المشهد، ولكنها تتيح لنا أن ندرك أن الخلاص يعني الخليقة كلها. هذا ما تشهد له المعجزات.
حاجات حياتية، مكانة الإنسان في المجتمع، إعادة خلق الكون. هذه الميزات الثلاث لا تستنفد معنى المعجزة، ولكنها تعطي للملكوت الذي دشّنه يسوع، واقعاً ملموساً وبعداً إنسانيًا.

ب- النساء والأولاد
والفئة الثانية من المرذولين هي فئة النساء والأولاد. عبارة تصدمنا. لماذا جُمعت النساء مع الأولاد؟ هكذا نقرأ العبارة في مت 14: 21، لأن أعضاء هاتين الفئتين يُعتبرون من القاصرين، ويجُعَلون مع العبيد والصمّ والعميان. نتحدث أولاً عن النساء ثم عن الأولاد.

1- النساء
تبقى المرأة في المرتبة الدنيا طوال أيام حياتها، حتى ولو صارت أمّاً. وقال فيهن فلافيوس يوسيفوس: "إنهن أدنى من الرجل ". وهذا المعتقد عميق جداً بحيث أن اليهودي يقول في صلاته اليومية: "أحمدك يا رب لأنّك لم تخلقني إمرأة".
مثل هذه العقلية تقود الناس إلى إبعادهم عن الحياة الإجتماعية. تُجعل المرأة في داخل البيت، ولا تخرج إلا والحجاب على وجهها، ولا تستطيع أن تحدّث رجلاً في مكان عام. هي كالعبد وبعض المرضى، لا تستطيع أن تقدم مشاركتها في المحكمة. وهي مُلك رجلها الذي يستطيع أن يطلقها ساعة يشاء حتى لأسباب تافهة.
ويتسجّل هذا الوضع الدنيء أيضاً في الحياة الدينية. فالدم الذي يسيل منها في الولادة يجعلها نجسة. فعليها أن تقوم بطقوس تطهير خاصة (لا 12: 1- 8؛ 15: 19- 30). وهي قاصرة أيضاً أمام الله، ولهذا لا تفرض عليها الواجبات الدينية المفروضة على الرجال. كما أنها تُعفى من الصلاة اليومية، شأنها شأن العبيد. لا تجلس في الهيكل أو في المجمع مع الرجال، بل في مكان خاصّ يدل على مرتبتها الدنيا.
لوحة سريعة ولكنها تساعدنا على إلقاء الضوء على ما فعله يسوع. يروي إنجيل يوحنا أن التلاميذ تعجّبوا حين رأوا يسوع يتكلّم مع السامرية وجهًا لوجه (يو 27:4). وإن أحد الفريسيين سينذهل ويتشكك حين يرى يسوع ضيفَه، يستقبل امرأة، وأية امرأة، امرأة مشهورة بخطاياها في المدينة (لو 39:7).
وراح يسوع أبعد من هذا فانفصل عن قواعد المجتمع اليهودي. يروي لوقا أن نساء رافقن يسوع في تنقّلاته (لو 8: 1- 3). إنهن تلميذات على مثال الرسل الإثني عشر أو على مثال السبعين الذين أرسلهم يسوع أمامه (لو 10: 1). كم نحن بعيدون عن ممارسة الرابانيين الذين يمتنعون عن التحدّث إلى امرأة في مكان عام.
وستكون النساء وحدهنّ على الجلجلة (مر 40:15- 41) كما عند القبر ليشهدن للقيامة (لو 24: 1- 11، مر 16: 1- 8).
بهذا التصرف الثوري أراد يسوع أن يبينّ أن ملكوت الله مفتوح للجميع، أن جميع الناس متساوون فيه، لأنهم كلهم يعيشون المحبّة (لو 7: 36- 50؛ يو 8: 1- 11). وهذا الملكوت يبدأ منذ اليوم. هذا هو معنى الانقلاب الذي يحمله يسوع إلى شريعة الزواج التي يُعمل بها في أيّامه. حين رفض حق الطلاق المحصور بالرجل، أعطى المرأة ملء كرامتها في هذا العالم. وجعل من الزواج يعيشه الرجل والمرأة في المساواة وفي الحب، علامة على أن ملكوت الله حاضر في العالم (مت 19: 1- 9).

2- الأولاد
يقف الأولاد أيضاً في المرتبة الدنيا مع النساء. إنهم قاصرون.
لا شك في أن الولادة تعتبر بركة إلهية (ولا سيما إذا كان الولد ذكراً) في البيت. ولكن لا حق شرعياً للولد. فقيمته في أنه سيصبح كبيراً. بعد هذا، لن يتطلّع أحد إلى سلوكه وما فيه من نقاء. وإذا أرادوا أن يصير "ابن الوصية" وجب على الأهل والمعلمين أن يروّضوه. وحكماء العهد القديم (والرابانيون على أثرهم) قالوا: العصا والعقوبة ضروريتان ليصبح رجلاً. أما الأولاد الذين لا يعرفون الشريعة فهم يعيشون على هامش المجتمع في المجال الديني، ولا يحُسبون يهوداً في نظر يهودي تقي.
ومع هذا يدلّ يسوع على تعلّقه بالأولاد. هو لا يرى فيهم مثال النقاء والطهارة، بل هم متقلّبون ويعيشون بحسب نزواتهم (مت 11: 16- 17). ولكن يسوع يحفظ لهم مكانهم في المجتمع. هذا ما يقوله لتلاميذه الذين يتجادلون ليعرفوا من هو الأكبر بينهم. "فأخذ يسوع طفلاً وأقامه وسطهم وضمّه إلى صدره وقال لهم: من قبل واحداً من هؤلاء الأطفال (الأولاد) باسمي يكون قد قبلني" (مر 9: 36- 37).
وهكذا قَلب يسوع المعايير الرسمية للقيم البشرية. لا صغير ولا كبير. فالملكوت حاضر حيث تسقط اللياقات التي أقامها المجتمع.
وهناك حدث آخر من الإنجيل يلقى نورًا على هذا التفسير. أدرك التلاميذ عظمة معلّمهم، فردّوا الناس الآتين إلى يسوع مع أطفالهم. فغضب يسوع وقال لهم: "دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم، لأن لأمثال هؤلاء ملكوت الله. من لا يقبل ملكوت الله كأنه طفل لا يدخله" (مر 13:10- 16). لسنا هنا أمام طهارة الطفل. بل إن يسوع يُعلن أن ملكوت الله مفتوح للذين يشبهون الأطفال ويعتبرون أن لا حق لهم. إنهم لا يملكون الملكوت ولا يستحقّونه، بل يقبلونه كما يقبل الطفلُ كل شيء من يد والديه.

ج- المرذولون بسبب وظيفتهم
1- العشارون وغيرهم
وهناك وظائف ومهن يحتقرها اليهود ويحتقرون أصحابها.
- هناك الخطّاطون والحائكون. إنهم يتصّلون بالنساء فيعتبر سلوكهم غير أخلاقي.
- هناك بائعو الجلود والدبّاغون. يرذلهم المجتمع لأن عملهم ممقوت ومكروه.
- هناك الصّرافون وأهل الربى واللاعبون "بالقمار". إنهم يعتبرون من السرّاق واللصوص. ويرافقهم الراعي بسبب مهنته المكروهة أولاً. ثم، يظن الناس أنه يرعى خرافه في حقول الآخرين فيعتبرونه هو أيضاً سارقاً.
- وهناك العشارون يجمعون الضرائب من أجل رومة ومن أجل وجهاء البلاد. بعضهم أغنياء مثل زكا العشّار (لو 19: 1- 10). والعدد الكبير منهم هم موظفون صغار، أو عاملون في الجمارك مثل لاوي (مر 2: 14)، أو خدّام لدى العشارين الكبار. ولكنهم كلهم مرذولون. يحُرم هؤلاء اليهود بسبب نشاطهم، من حقوقهم المدنية. فلا يستطيعون أن يُدلوا بشهادتهم في المحكمة مثل العبد والمرأة والولد. ورافق هذا الحرمان من الحقوق المدنية حرمٌ ديني يدلّ على أنهم في حالة الخطيئة (لا أخلاق، سرقة، نجاسة)، وأنهم بالتالي ينجسّون الشعب. ويتحوّل هذا الحرم فيما بعد إلى حاجز اجتماعي: فالفريسيون واليهود الأتقياء يمتنعون مثلاً عن إلقاء التحية على عشّار: لقد أخرج من شعب الله وحُرم من الدخول إلى بيت الله. وهكذا نلاحظ أن الحياة الاجتماعية تمتزج مع الحياة الدينيّة.
أما يسوع فتعدّى هذا الخط السلوكي. إستقبل الخطأة (يعتبرون كذلك بسبب مهنتهم) أحسن استقبال ورحّب بالعشارين، فأغضب الفريسيين ومعلمي الشريعة (لو 15: 1- 2).
دعا لاوي العشار ليكون أحد الإثني عشر، أي ممثلاً لشعب الله الجديد (مر 13:2- 14). وما أخرجه من محيطه "الخاطىء"، بل بعد أن دعا لاوي، أكل مع العشارين والخطأة (مر 2: 16؛ لو 19: 5). وهذا ما شكّك الفريسيين الذين جُرحوا في الصميم فقالوا للتلاميذ: "لماذا يأكل معلّمكم مع العشّارين الخطأة" (مر 2: 16)؟ ففي العالم اليهودي، ترمز المشاركة في المائدة إلى المشاركة مع شعب الله تحت نظر الله. وحين يشارك يسوع "المحرومين" في طعامهم، يصبح نجساً باتصاله بهم، يصبح "صديق جباة الضرائب والخطأة" (مت 19:11).
إن هذا التضامن مع الخطأة الذي أراده يسوع يتنافى والعقلية الدينية في عصره. إنه يرمز إلى انقلاب في القيم يرتبط باجتياح الملكوت للعالم. وهذا الملكوت يدركه أولئك الذين ليسوا أكيدين من نفوسهم، الذين ليسوا بمتخمين أو واصلين. يدركه المرضى لا الأصحّاء (مت 9: 12). هذا الملكوت لا يبنى على السمعة الحسنة ولا على الضمير الصالح كما يراه المجتمع، بل على انقلاب في قلب من اكتشف أن الحب موجود.

2- سرّ حياة يسوع
لم يخطىء معاصرو يسوع حين نظروا أعماله. فقد أفهمهم بوضوح أنه يقيم ملكوت الله. تساءلوا: من هو هذا الشخص السري؟ من يعتبر نفسه؟ وجاءت أجوبتهم متعدّدة. "إنه ذاك الآتي" (مت 3:11). "إنه إيليا النبي " (مر 28:8). "إنه المسيح " (يو 1: 41).
رفض يسوع دوماً بأن يجيب على هذا السؤال. ولكنه دفع التلاميذ يوماً ليقدّموا جوابهم. سألهم يوماً: "وأنتم من تقولون إني هو" (مر 8: 29؛ مت 15:16؛ لو 9: 20، من أنا في رأيكم؟)؟ وجاء جوابهم لا كلمة: "أنت المسيح ". كان باستطاعتهم وحدهم أن يعرفوه لأنهم عاشوا معه علاقة فريدة، علاقة نمّاها يسوع إذ ركّز تعليمه على شخصه لا على الشريعة كما يفعل الرابانيون. فهو الذين دعاهم وقال لكل واحد: "إتبعني ". (هم لم يختاروه ويسموه "رابي "). وعلّمهم لا شروح الشريعة، بل ما سيعيش من أحداث (لو 8: 31؛ 9: 31).
إختار يسوع اثني عشر ليكوّنوا شعب الله الجديد (مر 13:3- 19)، وأشركهم في بناء الملكوت. وأرسلهم إلى "الخراف الضالة في إسرائيل"، لا إلى النخبة (مت 10: 6). ودعاهم لأن يخدموا لا أن يُخدموا، على مثاله (مر 35:9؛ 35:10- 45)، أن يحملوا صليبهم كي يقوم الملكوت على الأرض (مر 8: 34).
وعاشوا منذ ذلك الوقت الميزات الأساسية في حياة الكنيسة. فبنوا على مثال يسوع مملكة العدالة والمحبّة. وتبعوا شيئاً فشيئاً الطريق الذي سار عليه يسوع، فصاروا جديرين بأن يفهموا الإنجيل (البشرى) الذي يحمله إليهم. تعلقوا به فبلغوا إلى الإيمان.
إن الآيات التي يتمّها يسوع تعرّفنا إلى موقف الله تجاه البشر وهو موقف حب لا يفهمه الذين يعيشون بمنطق هذا العالم. هذا ما شرحه يسوع لنا في مثل الإبن الضال (لو 15: 11- 32). هذا المثل الشهير قدّم الجواب للفريسيين الذين تشككوا من سلوك يسوع مع العشارين والخطأة (لو 15: 1- 16)، إنه بالأحرى مثل الأب الذي بذّر حبه من أجل أولاده، أكثر منه مثل الإبن الذي بذّر أمواله مع الزواني.
وهكذا دعا يسوع الفريسيين ليتخلّصوا من فداء يعتبرونه ملكاً لهم، ليدخلوا في طريقة الله. وهذا الإله يثق بالناس ويحبّهم كما هم. هذا ما نستنتجه من مثل العمّال الذين أرسلوا إلى الكرم. تذمّر العمال الذين تعبوا طول النهار لأنهم نالوا الأجر الذي ناله أولئك الذين عملوا ساعة واحدة. ولكن رب الكرم دعاهم إلى المشاركة في حبّه الذي يتجاوز كل عدالة (مت 20: 1-16).
هذا الوحي يقلب رأساً على عقب الأفكار المعروفة العالم اليهودي. تصوّروا الله على مثال عظماء هذا العالم: إنّه كائن قدير، ملك مهيب، ديّان لا يلين سيكشف عن سلطانه في اليوم الأخير. ما كان اليهود الأتقياء يتجرّأون على التلفّظ باسمه. وصوّره أصحاب الرؤى إلهاً ينتقم من أعدائه الذين هم أعداء شعبه. هناك مزج خطير.
إذن، لا يستقي يسوع تعليمه من عمل الله في العالم، من المحيط الذي عاش فيه. لا شك بأنه عرف تقليد هوشع وإرميا وحديثهما عن حب الله لشعبه. ولكن هذا التقليد لا يكفي وقد عرفه معاصروه دون أن يستخرجوا النتائج التي استخرجها.
إن الأناجيل تقدّم لنا الجواب على هذا السؤال. فيسوع يعيش علاقة فريدة مع الله، علاقة من الحب والثقة النبوية. هو يتوجّه إلى الله فيدعوه "أباه " (مت 25:11- 27). بل يستعمل عبارة يستعملها الطفل مع أبيه: أبّا، أيها الآب (مر 14: 36). هذا الجديد الذي لم يصدّقه معاصروه، قد أدخلناها سر العلاقات بين الله ويسوع. وهذا السر فهمناه علاقة حميمة بين الآب والإبن.
هذا ما أراد يسوع أن يشرك تلاميذه فيه. إبتهج حين رأى المساكين وصغار القوم يعيشون الحب لا قلب هذا العالم. فهذه الديناميّة تتيح لهم أن يعرفوا أن الله هو آب (مت 11: 25- 27). وهم يستطيعون أيضاً أن ينادوه "أبانا" (كما 9:6- 17) لأنهم حقاً أبناء الله (مت 9:5، 45).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM