دراسة أقوال مناندرو

دراسة أقوال مناندرو
أقوال مناندرو هي مجموعة أقوال حكميّة دُوّنت في اللغّة السريانيّة. أما الهدف الذي توخّاه الكاتب في ضمّ هذه الأقوال، فهو أن يبيّن للقارئ أنه يستطيع أن يحيا حياة صالحة في عالم يمتزج فيه الخير والشرّ، الشقاء والنجاح، بطريق لا يتوقّعه أحد. بما أن الناس يمرّون في عالم من هذا النوع، فهم يحتاجون إلى من يوجّههم التوجيه الصالح. هذا ما فعله الكاتب بواسطة نصائح مختلفة. مثل هذا العمل يُسمّى زهيرات، لأن ما فيه من أقوال قد اقتُطف من هنا وهناك في التقليد الحكميّ.
ما هو عدد الأقوال في هذه المجموعة؟ لا شيء أكيدًا في هذا المضمار. أما نحن فقدّمنا 474 سطرًا مع سطر البداية وسطر النهاية. وامتنعنا عن وضع قسمات تفصل الأقوال.
إن طبيعة هذا الكتيّب تحدّد ُعلى أنه أدب حكميّ في شكل قواعد عمليّة من أجل السلوك البشريّ. نجد فيه الوصايا والممنوعات والنماذج والأقوال القصيرة التي تصف مختلف مواقف الإنسان. لا يتضمّن تحديدًا فلسفيًا للحكمة، بل نظرة برغماتيّة (2: 27- 33). فالحكمة هي فنّ الحياة. وتبرز سلسلة كاملة من الحكمة العمليّة: كيف نعيش مع الوالدين والأولاد والأصدقاء والمرأة والإخوة؟ كيف نتصرّف حين نأكل ونشرب؟ كيف نستفيد من الغنى؟ كيف نتعامل مع الشيوخ والعبيد والأعداء؟
من الصعب أن نجد نظامًا واضحًا في تسلسل هذه النصائح المختلفة. وغياب هذا النهج يرتبط بواقع جعل الكاتب يستقي من أكثر من مرجع خصوصيّاته. فهناك عدد قليل من مجموعة أقوال في موضوع واحد: عن الزنى والمجون (21: 45- 51). عن الطعام والشراب (2: 52- 56). عن العبيد (2: 154- 166) والأقوال الأخيرة في نهاية المجموعة (402- 438) تجعلنا نشعر أننا أمام مرجع خاص من الأقوال أخذ به الكاتب.
وبجانب هذه "الزهيرات" وُجد موجز (Epitome) نُسب هو أيضًا إلى مناندرو. فانطلاقًا من موقع هذا الموجز في المخطوط (بين مقتطفات من كتّاب وفلاسفة يونان) اعتبر الناسخ أن مناندرو كاتب يونانيّ، فربطه بممثّل المسرح الجديد في اثينة، حوالي سنة 300 ق م. ليس من أحد يقول إن هذا الكاتب هو صاحب الزهيرات. غير أن باومشترك أشار بأن الجامع قد يكون عاد إلى أقوال من نسخة مجدّدة لمناندرو. وآخرون قابلوا الزهيرات مع مقتطفات انتشرت على اسم مناندرو بعد موته بزمن كبير. ولكن إن وضعنا جانبًا آ 402- 438 ,وبعضَ أقوال أخرى في هذه المجموعة، لا نجد شيئًا يقابل هذا الفن الأحادي الشطور. ولكن لماذا ارتبط اسم مناندرو بهذه الزهيرات؟ أكان هذا لأن الجامع عاد إلى ينبوع من الأقوال نُسبت إلى مناندرو فاستفاد من الظرف ليربط باسمه الشهير هذه المجموعة من الأقوال؟
النصّ السريانيّ
إن النصّ الذي استندنا إليه، قد نشره لاند سنة 1862. استند في ما نشر إلى مخطوط في المتحف البريطاني. يبدو أن نصّ لاند لم يكن من الدقّة التي انتظرناها. ولكن التصحيحات التي قدّمها رايت سنة 1863 وشولتس سنة 1912 وأوديه سنة ،1952 أمّنت هنا الوسائل الكافية لكي نعيد بناء النصّ السريانيّ. يبدو أن المخطوط يعود إلى القرن السابع.
أما نصّ "الموجز" (Epitome) فقد نشره ساخاو حين نشر الكتّاب اليونان (سنة 1870) الذين تُرجموا إلى السريانيّة. استند نصّه إلى مخطوط من المتحف البريطاني فارتبط بأجزاء تعود إلى القرن الثامن أو القرن التاسع.
لم يستند آخر نصّ "للموجز" إلى أقدم نصوص الزهيرات، بل افترض نسخة تختلف عنها اختلافًا بسيطًا. ق 2: 470- 337 مع 1: 34- 39.
اللغّة الأصليّة
قد تكون اللغّة الأصليّة لأقوال مناندرو، السريانيّة. في هذه الحالة نعتبر أن الكاتب جمع عددًا من الأقوال المتنوّعة. وكان مرجعه الحكمة الشعبيّة التي انتشرت في محيطه. وقد يكون عاد إلى مراجع سريانيّة وعبريّة وأراميّة ويونانيّة.
وقد تكون الأصليّة غير السريانيّة. عند ذلك يكون الكاتب قد نقل النصّ إلى السريانيّة، ويمكن أنه أضاف بعضًا من عندياته. ولكن ما تكون اللغة الأصليّة؟ ربّما العبريّة كما قال فرنكنبرغ. ولكن البراهين ليست حاسمة. وربّما اليونانيّة، كما يقول عدد من العلماء. ولكن يبقى أن لا نصّ بين أيدينا سوى النصّ السريانيّ.
متى دوّنت أقوال مناندرو؟
بما أن هذه المجموعة هي أقوال حكميّة متفرّقة، لا نستطيع أن نحدّد التاريخ الذي فيه كُتبت. فالحكمة لا تعرف الوقت ولا الزمان. بالإضافة إلى ذلك، فمجموعات من هذا النوع تتوسّع تدريجيًا خلال انتقالها، بحيث إن محاولة تحديد تاريخ قول من الأقوال، لا يعني بالضرورة أننا نحدّد التاريخ الذي دُوّنت فيه المجموعة كلها.
وها نحن نقدّم الملاحظات التالية:
- إن الاختلاف البسيط بين الزهيرات بأسطرها الـ 474 والموجز بأسطره الـ 39، يدلّ على أننا أمام أكثر من نسخة قد تعود إلى ما قبل القرن السابع.
- إن سريانيّة الزهيرات تبدو ذا طابع قديم، كما يقول باومشترك (التاريخ، ص 487). هذا يعني أن للنصّ تاريخًا قديمًا في الأماكن الناطقة بالسريانيّة.
- إن الملاحظتين السابقتين لا تسمح لنا بتحديد تاريخ قديم. لهذا، حين نقول القرن الرابع، نكون أمام مجرّد فرضيّة.
- ولكن إن حدّدنا تاريخ النسخة السريانيّة، فهذا التحديد لا يساعدنا على القول إن كان النصّ ترجمة عن لغة أخرى. وحتى إن كانت السريانيّة هي لغة النصوص، فلا يمكن أن نحدّد تاريخ المراجع التي أُخذتْ منها الزهيرات.
وإذا كانت اليونانيّة هي اللغّة الأصليّة، يجب أن نعود إلى الحقبة الرومانيّة كما قال فرنكنبرغ (ص 270). اعتبر بعض العلماء أن المبارزة بالسيف زالت تدريجيًا مع قسطنطين الذي أصدر قرارًا في ذلك. هذا يعني أن النصيحة المعطاة في 34- 40 لا يمكن أن تكون ذات قيمة بعد سنة 400. وهناك معطية قديمة ترتبط بمعاملة العبيد تعود إلى هدريانس وأنطونينوس حول احترام العبيد: لا يُسمح للسيّد بأن يقتل عبده. هذا يعني أن آ 159 تعود إلى ما بعد سنة 150.
فانطلاقًا من هذه المعطيات، نستطيع القول إن هذه المجموعة تعود إلى القرن الثالث نحن هنا أمام نتيجة معقولة، شرط أن تكون هذه الأقوال أصيلة.
ومن أين جاءت هذه الأقوال؟ وحده أوديه تجرّأ وقال إن كاتبها مصريّ. انطلق من التشديد على الماء. كما انطلق من خلط بين "نوموس" الذي يعني الناموس، والشريعة، والذي يعني المقاطعة (هذا إذا كان الأصل يونانيًا). رج 365 حيث ترجمنا: زمنك وبلدك. الأمر ممكن. ولكن البرهان لم يقنع بعدُ بأن هذا الكتيّب جاء من مصر.
الأهميّة اللاهوتيّة
بما أننا لا نعرف بالضبط متى كُتبت هذه الأقوال، وأين كتبت، وبيد من كتبت، خفّت قيمتها اللاهوتيّة إلى حدّ ما. ثم، بما أننا أمام أقوال حكميّة، فلا نستطيع أن نقدّم في نظرة منهجيّة معتقدات الكاتب. مثلاً، ما هي نظرته إلى الله؟
- الله هو الخالق الذي صنع الإنسان (361)، وهو العلّة الأخيرة لكل موجود (7).
- الله حدّد مساحة الحياة لكل إنسان (391- 392؛ 449- 450). ومزج الشرّ مع الخير (393). غير أن الإنسان لا يستطيع أن يشتكي على الله بسبب الشرور التي تحملها الحياةُ معها (453-454). وحدها مخافة الله قادرة على تحرير الإنسان من الشرور (394- 395). وفي النهاية، منح الله الجحيمَ كموضع راحة للبشر بعد حياة من الجهاد القاسي (470- 471).
- الله هو من يُمدح (8)، ويُخاف ( 9، 123- 394). هو يكره الزاني (47- 48) وعبد السوء (161) والرجل الشرّير (168). كما يُبغض النجاسة وتبذير القوى (352). والخاطئ الذي يغيظ والديه ينتظر عقاب الله (22- 23). إن مخافة الله تحرّر الإنسان من الشرّ (394- 395).
- ليس الله ذاك الذي يضرب دومًا ويُذلّنا في كل حين (116- 117). فهو الإله الذي نقدر أن نصلّي إليه (39- 202)، الذي نصرخ إليه في وقت الضيق (124). وهو يسمع الصلاة (125). ويمسك الإنسان بيده، ويقيمه من سقطته (108).
من هذا المعطيات نستطيع أن نستخلص أن الكاتب آمن بالإله الواحد. هذا يعني أن الكتاب يعود إلى محيط يهوديّ، سواء كُتب في العبريّة أو اليونانيّة. مرّة يتكلّم الكاتب عن الله بشكل لا شخصيّ: يحدّد مصير البشر ومساحة حياتهم. ومرّة أخرى، هو إله شخصيّ: يسمع صلاة البشر.
ولكن تُطرح مسألة: في 263- 264 كلام عن الآلهة. هذا ما يعارض الأصل اليهوديّ للكتاب. ويُطرح السؤال: هل أقحمت هاتان الآيتان في النصّ؟ هل أخطأ الناقل السريانيّ حين نقل نصّه؟ أيكون الكاتب الذي يعبد الله الواحد، قد صوّر ممارسات الكهنة في عباداتهم الوثنيّة؟ إذا كان الكاتب يهوديًا، هل يستطيع أن يكتب حول الآلهة كنتيجة خلفيّة بعيدة عن الإيمان القويم؟ أم هل أراد أن يعطي كتابه لون وثيقة وثنيّة؟
لا جواب شافيًا على هذه الأسئلة. بما أننا لا نعرف المكان الذي دُوّنت فيه هذه الأقوال، ولا الزمان، ولا الأصل، فلا يمكن أن نقول شيئًا حول موقف الكاتب اللاهوتيّ.
ارتباطات الكتاب
علاقة بالأسفار القانونيّة
في مديح الحكمة (311- 313)، نجد تشابهًا مع أم 17: 28. رج سي 20: 5. نحن هنا في تقارب بين مناندرو السريانيّ والعهد القديم جعل فرنكنبرغ يستنتج أن الزهيرات هي كتاب حكميّ عبريّ، فيه الكثير من روح الأمثال وابن سيراخ. هذه النتيجة ليست أكيدة، ولكن الإشارة إلى الأدب الحكميّ في العالم البيبليّ كما في العالم اليهوديّ، تجعلنا نتساءل عن وجودها. فاعتبر بعضهم أن يدًا مسيحيّة أضافت هذه الإيرادات البيبليّة، لا سيّما وأن الأدب اليونانيّ ما اعتاد أن يورد نصوص الكتاب. هذا صحيح إذا أخذنا بالفرضيّة القائلة إن مناندرو ترجمة عن اليونانيّة.
علاقة بالكتب اليهوديّة
هناك علاقة واضحة بين أقوال مناندرو وابن سيراخ. ق آ 458- 473 مع سي 38: 16- 23. وهناك أكثر من عودة إلى ابن سيراخ في النصّ. ولكن لا ننسى أن الحكمة اليهوديّة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالحكمة الشرقيّة والأدب اليونانيّ بشكل عام. رج 126- 127؛ سي 8: 7.
ويمكن أن نعود إلى أحيقار: "يا ابني لا تفرح بموت عدوّك، فالموت ينتظرك أنت أيضًا". رج ما في مناندرو: "يا ابني، لا تفرح عند موت عدوّك".
علاقة بالأدب المنحول
إن العودة إلى أحيقار تفتح أمامنا خطًا آخر. فحكاية أحيقار نموذج من الأدب الحكميّ في الشرق. ولكن وجود أجزاء من كتاب أحيقار الآرامي في جزيرة الفيلة، يعني أن هذه الحكمة وُجدت منذ القرن 4 ق. م.، في محيط يهوديّ غير أرثوذكسي. نشير هنا إلى وجود تقاربات كثيرة بين أحيقار السرياني ومناندرو.
ونذكر أيضًا فوكيليد (أي الأقوال المنسوبة إلى فوكيليد، ذاك الشاعر اليونانيّ الذي عاش في القرن 6 ق م)، مع نشيد حكميّ دوّنه يهوديّ تأثّر بالحضارة الهلينيّة. فهناك توازيات بينه وبين مناندرو. مثلاً: "إن كنت غنيًا فلا تقتصد. بل تذكّر أنك مائت. فلا تستطيع أن تأخذ مالك وغناك معك إلى الجحيم" (فوكيليد 109- 110؛ رج مناندرو 368- 373).
كل هذا يجعلنا نقول إن مناندرو ينتمي إلى عالم حكميّ يهوديّ، عرف أيضًا أقوال فوكيليد وحكاية أحيقار وحكمته.
علاقة بأدب الرابينيّين
نقرأ في 250- 251: "كل ما تبغضه، لا تتمنّ أن تصنعه لقريبك". هذا ما يسمّى القاعدة الذهبيّة في صيغة سلبيّة (لا تصنع). ونحن نجدها في حضارات كثيرة ولدى الشعوب المتنوّعة. ولكن شكلها الخاص يقودنا إلى التقليد اليهوديّ. رج طو 4: 15: افعل لقريبك ما تريد لقريبك أن يفعل لك". ونتذكّر قول هلال في تلمود بابل، شبت 131: ما تبغضه أنت لا تصنعه لقريبك. رج ترجوم أورشليم حول لا 19: 18. هنا نتذكّر أن هذه القاعدة الذهبيّة لم تُوجد فقط في التقليد اليهوديّ، بل عُرفت أيضًا لدى الفرس المسيحيّين ولدى السريان في القرن الرابع: فنحن نقرأها عند افراهاط، وفي كتاب الدرجات، كما نجدها في تاريخ الكنيسة السريانيّة منذ القرن الثاني مع تاتيانس السوري في الدياتسارون.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM