نص المكابيين الرابع

نص المكابيين الرابع
هدف الكاتب
1 (1) موضوع فلسفي عال هو الموضوع الذي أودّ أن أعالجه: هل العقل الورع يسود الأهواء؟ وأرى من واجبي أن أنصحك بأن تعطي كل انتباهك إلى الفلسفة التي سأعرضها عليك. (2) فالموضوع، من جهة العلم، يحمل إلى الجميع فائدة جوهريّة كما يتضمّن مديح أعظم الفضائل، عنيتُ بها الفطنة. (3) إذا كنا حقًا نستطيع أن نبيّن، ليس فقط أن العقل يسود الأهواء التي تعارض العفّة، أي الشراهة والرغبة (4)، بل أنه يسيطر على الأهواء التي تعارض العدالة، كالشرّ، والأهواء التي تعارض الشجاعة، كالغضب والخوف والألم، (5) فكيف يمكن أن نقول: إن كان العقل يسود على الأهواء، أما يسود أيضًا النسيان والجهل؟ اعتراض مضحك! (6) فالعقل لا يسود أهواءه الخاصّة، بل الأهواء التي تعارض العدالة والشجاعة والعفة والفطنة. وإن كان يسيطر عليها، فهو يفعل لا ليلغيها، بل لئلاّ يتراجع أمامها.
(7) أستطيع أن أبيّن لك، انطلاقًا من عدد المراجع المختلفة، أن العقل الورع يسود الأهواء. (8) والمثل الأفضل في رأيي هو بطولة أولئك الذين ماتوا في سبيل الفضيلة: اليعازر، الاخوة السبعة وأمهم. (9) فجميعهم لم يعبأوا بالعذابات التي قادتهم إلى الموت، فبيّنوا أن العقل يسود الأهواء. (10) أستطيع أن أمتدح فضائل هؤلاء الرجال الذين ماتوا مع أمّهم في سبيل الخير، في هذا اليوم الذي نحتفل بهم. ولكني أودّ بالأحرى أن أهنّئهم على الكرامات التي نالوها. (11) فبشجاعتهم وثباتهم حصلوا، لا على إعجاب جميع البشر، بل جلاّديهم أنفسهم. وهكذا كانوا السبب في سقوط الظلم الذي يستعبد الأمّة. بثباتهم قهروا الطاغي، فتطهّرت بهم أرض الوطن. (12) بعد قليل سأبدأ، كما اعتدت أن أفعل، فأقدّم الطرح بشكل نظريّ، على أن أعود إلى خبرهم، فأمجّد إله كل حكمة.
سيادة العقل
(13) اذن نتساءل: هل العقل يسود الأهواء؟ (14) ولكن نبدأ فنحدّد ما هو العقل، ما هو الهوى، ما هو عدد أشكال الهوى، وهل العقل يسيطر عليها كلها. (15) أقول: العقل هو الإدراك الذي يختار حياة الحكمة، باستدلال مستقيم. (16) وأقول: الحكمة هي معرفة الالهيات والبشريّات وعللهما. (17) وأقول أيضًا: هذه تربية الشريعة بالذات، التي بها نتعلّم الالهيّات كما يليق، والبشريّات كما يفيد (18) تتضمّن أربعة أشكال: الفطنة، العدالة، الشجاعة، العفّة. (19) وأوّلها الفطنة: فيها يسيطر العقل على الأهواء.
(20) أما الأهواء، فهناك نوعان يضمّانها كلها: اللذّة والعذاب. وكلاهما يتعلّقان بالجسد كما بالنفس. (21) كثيرة هي مجموعة الأهواء حول اللذّة كما حول العذاب: (22) أمام اللذة هناك الرغبة، ووراء اللذّة الفرح. (23) أمام العذاب هناك الخوف، ووراء الخوف الكآبة. (24) الغضب هوى مشترك بين اللذّة والعذاب حين نفكّر بإهانة تحمّلناها. (25) نجد في الرغبة، بشكل خاص، الميل إلى الشرّ، ميل الأهواء الذي يرتدي عددًا كبيرًا من الأشكال: (26) في النفس، الغطرسة، محبّة الفضّة، محبّة الأمجاد، الخلاف، الحسد. (27) في الجسد، النهم (نريد أن نأكل كل شيء)، البطنة، الشراهة. (28) بما أن اللذّة والعذاب يشبَّها بنبتتين تنميان في الجسد وفي النفس، عديدة هي الفروع التي تكبر حول هذين الهويين: (29) العقل، ذاك البستانيّ الشامل، يهتمّ بكل واحد فيقضب ويشذّب ويطعّم ويسقي ويروي بألف شكل وشكل. وهكذا يقتلع جَمَّ الميول والأهواء. (30) فالعقل هو رأس (مدبّر) الفضائل والمسلّط (الملك) على الأهواء.
لاحظْ قبل كل شيء حين ترى عمل العفّة التي تمنع، أن العقل هو المسلّط على الأهواء. (31) فالعفّة، كما أفهمها، هي السيطرة على الرغبات. (32) هناك ما يرتبط بالنفس. وهناك ما يرتبط بالجسد. ومن الواضح أن العقل يتسلّط على هذا وذاك. (33) وهكذا حين نُدفع إلى طعام محرّم، كيف نميل عن اللذّة التي يمكن أن نحصل عليها؟ أما لأن العقل يقدر أن يسيطر على هذه الشهوة؟ هذا هو رأيي. (34) وحين نرغب في أكل سمك (حيوان مائيّ) أو طير أو حيوان (على أربع أرجل)، في أكل شيء تحرّمه الشريعة، فإن اقتنعنا، فبسبب سيطرة العقل. (35) فهوى الشهوة يتوقّف مهزومًا، أمام الإدراك العفيف، وكل حركات الجسد، فيقمعها العقل.
الشريعة تتوافق مع العقل
2 (1) فهل ندهش إن كانت رغبات النفس للاتّحاد بالجمال، قد خسرت قوّتها؟ (2) ذاك هو المديح الذي استحقّه يوسف العفيف: فبفضل ملكته العقليّة غلب لذّة الشبق. (3) فمع أنه كان شابًا مملوءًا قوّة من أجل التجامع الجنسيّ، فقد حطّم، بفضل العقل، شوكة الهوى. (4) فمن الواضح أن العقل لا يغلب فقط نار الشبق، بل جميع الرغبات أيضًا: (5) فالشريعة تعلن في الحقيقة: "لا تشته امرأة قريبك، ولا شيئًا يخصّ قريبك". (6) فحين تقول الشريعة بأن لا نشتهي، يسهل عليّ أن أقنعك بأن العقل يقدر أن يطلب الرغبات.
فله السلطة على الأهواء التي تعارض العدالة. (7) فكيف يستطيع أن يتبدّل بالتربية، إنسان هو في طبعه شره، نهم، سكير، إن لم يكن واضحًا بأن العقل يتسلّط على الأهواء؟ (8) في الحقيقة، حين نجعل سلوكنا يتوافق مع الشريعة، فإن تعلّقنا مثلاً بالفضة، نُكره نفسنا ونقرض المحتاج بلا فائدة، ولو اقتربت السنة السابعة وفرضت علينا أن نلغي الدين سريعًا. (9) وإن كان الواحد مقتّرًا، تغلبه الشريعة باسم العقل، فيمتنع عن التقاط ما في الحقول وعن قطف آخر العناقيد في الكروم.
وفي جميع الحالات الأخرى، نستطيع أن نعرف أن العقل يسود الأهواء. (10) فالشريعة تسود محبّة الأبناء لوالديهم. ولا تخون الفضيلة من أجلهم. (11) وتسود أيضًا المحبّة للزوجة، وتوبّخها إن تجاوزت الناموس. (12) وتسود أيضًا حبّ الوالدين لأولادهم وتعاقبهم بسبب شرّهم. وتسود أيضًا محبّة الأصدقاء وتوبّخهم بسبب شرّهم. (13) أخيرًا، لا تظنّوا أنه لا يُعقل بأن العقل، باسم الشريعة، يسيطر حتّى على البغض: (14) هكذا يمتنع إنسان عن قطع شجر مثمر يخصّ الأعداء. ويُنقذ بهيمة أفلتت من عدوّه، ويساعده على أن يقيمها إن هي سقطت.
(15) ونستطيع أن نوضح أيضًا أن العقل يسيطر على أعنف الأهواء، كالطموح والتشامخ والعجرفة والكبرياء والحسد. (16) كل هذه الأهواء الشرّيرة، يبعدها الإدراك الضعيف، كما يبعد الغضب، لأنه يتسلّط عليه أيضًا. (17) فحين غضب موسى على داتان وأبيرام، لم يترك العنان لغضبه عليهما، بل هدّأ غضبه بفضل العقل. (18) فالإدراك الضعيف، كما قلتُ، يستطيع أن يغلب الأهواء، فيحوّل بعضًا منها ويُضعف البعض الآخر. (19) لماذا لام أبونا يعقوب الحكيم شمعون ولاوي وجماعتهما؟ لأنهم قتلوا كل بني شكيم، ولم يعودوا إلى العقل. فأعلن: "ملعون غضبهما". (20) فلو لم يكن العقل قادرًا على السيطرة على الغضب، لما كان تكلّم هكذا. (21) فحين خلق الله الإنسان، غرس فيه الأهواء والميول. (22) ولكن في ذلك الوقت عينه، جعل فوقها، كما على عرش، بواسطة الحواس، الإدراك المقدّس سيّدًا عليها. (23) وأعطى هذا الإدراك شريعة: فمن عاش حسب هذه الشريعة، يملك على مملكة(32) من العفّة والعدالة والصلاح والشجاعة.
سيطرة العقل على الأهواء: الملك داود
(24) ولكن يعترض معترضٌ: إذا كان العقل يتسلّط على الأهواء، فكيف لا يتسلّط على النسيان وعلى الجهل؟
3 (1) مثلُ هذا الكلام مضحك جدًا. فمن الواضح أن العقل يسيطر، لا على أهوائه الخاصّة، بل على الأهواء المعارضة للعدالة والشجاعة والعفّة والفطنة. وإن كان يسودها، فهو لا يلغيها، بل يعمل لكي لا يتراجع أمامها. (2) فلا أحد منكم مثلاً، يقدر أن يقتلع رغبة. ولكن العقل يقدر أن يساعدكم لئلاّ تُستَعبدوا لهذه الرغبة. (3) ولا أحد منكم يقدر أن يقتلع من نفسه الغضب، ولكن العقل يقدر أن يهدئ الغضب. (4) ولا أحد منكم يقدر أن يقتلع الشرّ، ولكن العقل يكون حليفكم فيمنعكم من الاستسلام للشرّ. (5) فالعقل ليس مقتلع الأهواء، بل هو خصمها.
(6) في الواقع، يصبح هذا أوضح بواسطة خبر عطش داود. (7) كان داود قد حارب الفلسطيين (غير مختونين) نهارًا كاملاً، ومع جنود شعبه قتل منهم عددًا كبيرًا. (8) وحين حلّ المساء، مضى إلي خيمته الملوكيّة، وهو تعب والعرق يتصبّب منه. فأحاط به كل جيش آبائنا. (9) إذن، كانوا مهتمين كلهم بطعام العشاء. (10) أما الملك الذي كان عطشًا جدًا، فلم يستطع أن يُطفئ عطشه بهذا الماء، مع أن ينابيع وافرة كانت قربه. (11) فشدّت الملك رغبة لاعقليّة إلى المياه التي كانت لدى الأعداء، فأرخته وأشعلته وأحرقته. (12) فأخذ الحرس يتذمّرون من رغبة الملك هذه. ولكن شابين محاربين قويين، احترما هذه الرغبة، فارتديا سلاحهما كله، وأخذا جرّة، وعبرا أسوار العدو. (13) أفلتا من الحرس الذي على الأبواب، فمضيا عبر مخيّم الأعداء كله يبحثون عنه (= عن الماء). (14) أخيرًا، وجدا العين. فشربا منها بجرأة، وحملا الشراب إلى الملك. (15) ومع أنه كان يحترق من العطش، اعتبر أن الشراب الذي صارت قيمته قيمة الدم، غدا للنفس خطرًا هائلاً: (16) واجه العقل بالرغبة، وقدّم هذا الماء سكيبًا لله. (17) فالادراك العفيف يقدر أن يسيطر على الأهواء المكرهة: إنه يطفئ نارها المحرقة. (18) ويسيطر على عذابات الجسد، مهما كانت قاسية. وإذ هو يتأكّد من سموّ العقل، يرذل باحتقار كل قيود الهوى.
العقاب الإلهي
(19) ولكن حان الوقت، واليوم يدعونا، لأن نعرض موضوع العقل الضعيف. (20) كان آباؤنا ينعمون بسلام عميق بفضل ممارستهم للشريعة، وسارت أمورهم على أحسن حال، بحيث إن ملك آسية، سلوقس نكانور، قدّم لهم المال لخدمة الهيكل، واعترف بحقوقهم. (21) ولكن بعض الناس اتخذوا إجراءات إكراهيّة على حساب الوفاق العام، فجلبوا علينا كل أنواع الشقاءات.
4 (1) انسان اسمه سمعان حارب أونيا الذي كان آنذاك عظيم كهنة يمارس وظيفته مدى الحياة، وكان رجلاً صالحًا وطيّبًا. ولكن رغم كل الافتراءات، لم يقدر أن يسيء إليه في نظر الشعب. حينئذ مضى إلي المنفى وهو ينوي خيانة وطنه. (2) فجاء إلى ابولونيوس، حاكم سورية وفينيقية وكيليكية، وقال له: (3) "بما أني غرت على مصالح الملك، جئت أنبّهك بأن في كنوز هيكل أورشليم آلاف الآلاف من الودائع الخاصّة، لا نصيب للهيكل فيها، بل هي تعود إلى الملك سلوقس". (4) استعلم أبولونيوس عن تفاصيل القضيّة، وامتدح سيمون لاهتمامه بمصالح الملك، ومضى إلى سلوقس ليعلمه بوجود هذا الكنز. (5) وبعد أن تسلّم ملء السلطة للتعامل مع هذه القضيّة، جاء بعجل إلى وطننا، يرافقه سمعان اللعين، وجيش قويّ جدًا. (6) وما إن وصل حتى أعلن أنه جاء بأمر الملك ليضع يده على مال الخاصّة الذي وُضع في كنز الهيكل. (7) لما سمع شعبُنا هذا الكلام، تذمّر واحتجّ، واعتبر ظلمًا فادحًا أن يُسلب أولئك الذين سلّموا ودائعهم إلى الكنز المقدّس، وفعلوا كل ما في وسعهم لكي يمنعوه. (8) فتوجّه ابولونيوس إلى الهيكل مهدّدًا. (9) فاجتمع الكهنة والنساء والأولاد في الهيكل، وتوسّلوا إلى الله ليحمي المكان المقدّس الذي يتنجّس. (10) وإذ كان ابولونيوس داخلاً مع جيشه المدجّج بالسلاح ليسلب المال، ظهر من السماء ملائكة يمتطون الجياد ويرتدون الأسلحة اللمّاعة: فامتلأوا خوفًا ورعدة. (11) وسقط أبولونيوس شبه ميت في رواق الأمم. ورفع يديه إلى السماء، وتوسّل باكيًا، إلى العبرانيين، ليصلّوا من أجله، ويُرضوا القوّات السماويّة. (12) قال إنه خطئ، وهو يستحقّ الموت. فإن نجا أنشد أمام البشر جميعًا بركات المكان المقدّس. (13) تأثّر عظيم الكهنة أونيا بهذه الأقوال، وخاف أن ينسب الملك سلوقس موت أبولونيوس إلى مؤامرة حاكها البشر، لا إلى غضب الله، فصلّى من أجله. (14) فنجا أبولونيوس بمعجزة، ومضى يُخبر الملكَ بما حصل له.
إجراءات أنطيوخس ضد اليهود
(15) ولما مات الملك سلوقس، خلفه على العرش ابنه أنطيوخس أبيفانيوس. وكان رجلاً متكبرًا ومرعبًا. (16) فجرّد أونيا من رئاسة الكهنوت وأعطاها لياسون أخيه (17) الذي التزم بأن يعطيه كل سنة 3660 وزنة إن نال منه هذه الوظيفة (هذه الرئاسة، كما قالت السريانية). (18) فسلّمه رئاسةَ الكهنوت والسلطة على الأمة. (19) فبدّل ياسون طرق حياة الأمّة وحوّل نظامها، فعارض الشريعة معارضة تامّة. (20) ما اكتفى بأن يبني ملعبًا فوق قلعة وطننا، بل ألغى أيضًا خدمة الهيكل. (21) فغضبت عدالة الله، وجلبت عليهم عداوة أنطيوخس. (22) فإذ كان يحارب بطليموس، في مصر، سمع بأن خبر موته انتشر في شعب أورشليم الذي ابتهج ابتهاجًا عظيمًا. فجهّز بسرعة مركباته عليهم. (23) وبعد أن سلبهم، اتخذ قرارًا يعاقب بالموت كل من يكون عائشًا بحسب شريعة آبائهم. (24) ولكنه لم يستطع بأية وسيلة أن يدمّر بقراراته أمانة الأمّة لشريعتها. بل رأى تهديداته وعقوباته حُسبت كلا شيء:(25) نساء ختنّ أطفالهنّ مع أنهنّ علمن المصير الذي ينتظرهنّ، رُمين من أعلى السور مع أطفالهنّ. (26) إذن، حين رأى أن الشعب ما زال يستهين بقراراته، لجأ إلى التعذيب، ليُكره كل الذين انتموا إلى الأمّة أن يأكلوا طعامًا نجسًا ويكفروا بيهوديّتهم.
لقاء أنطيوخس واليعازر
5 (1) وإذ جلس الطاغي أنطيوخس مع عظمائه في مكان عال، أحاط به جنوده بسلاحهم. (2) فأمر حرسه بأن يأتوا بالعبرانيين، واحدًا واحدًا، ويُكرهوهم أن يأكلوا لحم الخنزير المكرّس للأصنام. (3) فمن رفض أن يأكل فيتنجّس، يعذَّب في الدولاب ويُقتل. (4) فأمسكوا الكثيرين. وأول الفرقة الذي جيء به إلى الملك، كان عبرانيًا اسمه اليعازر. كان من النسل الكهنوتيّ وعارفًا بالشريعة. تقدّم في السنّ، فعرفه عدد من بلاط الملك بسبب فلسفته. (5) قال له أنطيوخس، حين رآه: (6) "قبل أن نبدأ بتعذيبك، أيها الشيخ، أودّ أنا أن أعطيك نصيحة بأن تأكل من لحم الخنزير فتنجو بحياتك. (7) أنا أحترم عمرك وشعرك الأبيض. ولكنني لا أستطيع أن أفكّر أنك أنت الفيلسوف الذي عاش حياة طويلة، ما زلت تتعلّق بديانة اليهود. (8) لماذا تكره أن تأكل اللحم الطيّب من هذا الحيوان الذي منحتْنا إياها الطبيعة. (9) إنه لجنون أن لا ننعم بالطيّبات التي لا عار فيها، وإنه لكفر أن نرفض عطايا الطبيعة. (10) ويبدو لي سلوكك أكثر جنونًا إن أضفت إلى آرائك الفارغة بالنسبة إلي الحقيقة، احتقار شخصي أنا. فإنك تجلب هكذا عقابًا لك. (11) أما تريد أن تصحو من فلسفتك الخرقاء؟ أما تريد أن تترك هنا حساباتك العبثيّة، وتأخذ بعقليّة تليق بعمرك فتقبل بالفلسفة الحقيقيّة، فلسفة المنفعة؟ (12) يجب أن تنحني لنصحي المحبّ وتشفق على شيخوختك. (13) اعتبر أنه لو وُجدت قدرة تسهر على حفظ هذه الممارسات التي تتعلّق بها، فهي ستغفر لك تعدّيًا اقترفتَه بالإكراه.
(14) وإذ كان الطاغي يحثّ هكذا اليعازر على أكل اللحوم المحرّمة، طلب هذا السماح بالكلام. (15) فسُمح له. فبدأ يتكلّم أمام الشعب كله بهذا الكلام: (16) "نحن، يا أنطيوخس، نعتقد أننا نعيش تحت شريعة إلهيّة، فلا نقرّ بإكراه أقوى من الطاعة لشريعتنا. (17) لذلك، لا يحقّ لنا أن نتجاوزها في أي ظرف كان. (18) وحتى إن لم تكن شريعتنا بحسب الحقيقة (الإلهية) كما تقول، فنحن نعتبر أنها إلهيّة، وإن لم يكن بامكاننا أن نبطل نظرتنا إلى الورع. (19) ولا تظنّ أن أقل الأطعمة النجسة خطيئة صغيرة. (20) فتجاوزُ الشريعة في أمور صغيرة يساوي تجاوزَها في الكبيرة: (21) ففي الحالتين، تُحتقر الشريعة بالتساوي. (22) أنت تهزأ من فلسفتنا وكأنها تجعلنا نعيش بشكل يعارض العقل. (23) بل هي تعلّمنا العفّة بحيث نسود كلَّ الملّذات والرغبات. فهي تمرّسنا في الشجاعة التي بها نحتمل طوعًا كل أنواع العذابات. (24) وتُعلّمنا العدالة التي تجعلنا نتصرّف باستقامة مهما كانت استعدادات أنفسنا. وتُربيّنا على الورع الذي يجعلنا نؤدّي لله وحده عبادة جديرة به (25) لهذا، لا نأكل اللحوم المنجّسة، لأننا نؤمن أن الشريعة هي من الله، ونعرف أن خالق الكون، حين أعطانا الشريعة، جعلها توافق طبيعتنا. (26) هو أمرنا بأن نأكل ما يليق بنفوسنا، ومنعنا من أكل طعام يعارضها. (27) إنه لعمل طغيان أن تُكرهنا، لا أن نتجاوز الشريعة وحسب، بل أن نأكل أيضًا لتقدر أن تضحك منا حين ترانا نأكل طعامًا نجسًا نمقته. (28) ولكنك لن تستطيع أن تضحك ضحكًا في وضعي.(29) لن أتجاوز أقسام آبائي المقدّسة، بأن أحفظ الشريعة حتّى (30) وإن اقتلعتَ لي عينيّ وأحرقت (أو: بدّدت، ذوّبت كما في السريانيّة) أحشائي. (31) لستَ شيخًا ولا جبانًا بحيث يخسر عقلي قوّة الشباب في مجال الدين. (32) إذن، هيّئ الدواليب (للتعذيب). وأضرم النار. (33) لن أشفق على شيخوختي بحيث ألغي بعملي، شريعةَ آبائي. (34) أيها الناموس معلّمي، لن أخونك. أيتها العفّة المحبوبة لن أتخلّى عنك. (35) أيها العقل الفلسفيّ لن أستحي منك. ولن أنكرك أيها الكهنوت المجيد ويا معرفة الشريعة.(36) لن تنجّس شفتي الشيخ الشريفتين، ولا حياتي الطويلة في خدمة الشريعة. (37) سيتقبّلني آبائي طاهرًا ودون أن أخاف عقوباتك المميتة. (38) تستطيع أن تمارس طغيانك على الأشرار، ولكنك لن تسيطر على أفكاري في موضوع الدين، لا بأقوالك ولا بأفعالك"!
شجاعة اليعازر أمام العذاب
6 (1) تلك كانت بلاغة اليعازر ردًا على تحريض الطاغي. حينئذ أحاط به الحرس وجرّوه بوحشيّة نحو أدوات العذاب. (2) بدأوا فجرّدوا الشيخ من كل ثيابه. ولكنه ظلّ مزيَّنًا بنبل تقواه. (3) ثم ربطوا يديه من هذه الجهة وتلك، وضربوه بالسياط. (4) فصرخ المنادي في وجهه: "أطعْ أوامر الملك". (5) أما هو السخي والنبيل،أليعازر الحقيقي، فلم يتحرّك. فكأنه يعذّب في الحلم. (6) وإذ ظلَّت عينا هذا الشيخ مرفوعتين نحو السماء، كان يقدّم لحمه لكي تمزّقها السياط. فسال الدم من كل جهة وتمزّق جنباه. (7) فسقط على الأرض، لأن جسده لم يعد يقدر أن يحتمل العذابات. غير أن عقله لبث مستقيمًا وغير متزعزع. (8) فكان أحد الحرس القساة يقفز ويرفسه برجله على خاصرته كلّ مرة يقع ليُجبره على النهوض. (9) ولكنه ظلَّ يقاسي العذابات، ويستخفّ بالإكراه، ويسيطر على الآلام. (10) تحدّى هذا الشيخ الضربات، مثل مقاتل نبيل، فغلب جلاّديه. (11) وبوجهه الغارق بالعرق وصدره اللاهث، جعل الذين يعذّبونه يدهشون من ثباته.
(12) وإن بعض ندماء الملك، إما شفقة بشيخوخته، (13) وإما تعاطفًا معه بسبب علاقة الصداقة، وإما إعجابًا بشجاعته، اقتربوا منه وقالوا له: (14) "لماذا تبيد نفسك هكذا، بلا عقل، يا اليعازر، وأنت في هذه الشرور؟ (15) سنحمل إليك طعامًا مطبوخًا. فتظاهر بأنك تأكل لحم خنزير، فتنجو"!
(16) ولكن اليعازر صاح فيهم، وكأن نصيحتهم زادت عذاباته عذابًا: (17) لا. حاشا لنا مثل هذا الفكر الشرير. فنحن أبناء إبراهيم لا نلعب مهزلة لا تليق بنا بسبب جبانتنا. (18) نكون مجانين نحن الذين عشنا إلى الشيخوخة متعلّقين بالحقيقة، وحافظنا على صيتنا الحسن عائشين حسب الشريعة، إن بدأنا اليوم نتحوّل، (19) وبرهنا بأنفسنا أننا مثال الكفر للشبيبة فأعطيناهم المثَل بأن يأكلوا الأطعمة المحرّمة. (20) إنه لمن العار أن نطيل حياتنا بضعة أيام لنكون، خلال هذه الأيام، بحياتنا، أضحوكة للعالم. (21) ونحصل بسقوطنا على احتقار الطاغي، لأننا لم ندافع عن شريعتنا الالهيّة حتّى الممات. (22) أما أنتم، يا أبناء إبراهيم، فموتوا بنبل من أجل التقوى. (23) وأنتم، أيها الحرس، ماذا تنتظرون (لماذا تتأخرون في تتميم واجبكم)"؟
(24) فلما شاهدوه رفيع الروح في وجه مثل هذه المضايقات، وغير متزعزع تجاه شفقتهم، اقتادوه إلى النار. (25) رموه فيها، وأحرقوه بآلات العذاب، وسكبوا في منخريه سوائل كريهة الرائحة. (26) إذ كان لحمه قد احترق حتّى العظام، فكاد يسلم الروح، رفع عينيه إلى الله وقال: (27) "أنت تعرف، يا الله! كان بامكاني أن أنجو، ولكن أموت من أجل شريعتك في عذاب النار. (28) فترأفْ بشعبك وأرضَ بهذا العقاب الذي نتحمّله لأجلهم. (29) فليطهّرهم دمي، وتقبّل نفسي فدية عن نفوسهم"! (30) وإذ قال الرجل النبيل هذه الكلمات، مات وسط العذابات. وأعانه العقل على المقاومة من أجل الشريعة حتى آخر ساعات التعذيب.
(31) اذن، نستطيع أن نؤكّد أن العقل الورع يسيطر على الأهواء. (32) فلو كانت الأهواء سيطرت على العقل، لكنتُ شهدتُ لها بالتفوّق. (33) ولكن بما أن العقل غلب الأهواء، فيجب أن ننسب إلى العقل القدرة والسلطان. (34) ويحقّ لنا أن نعلن أن الوصيّة تنتمي إلى العقل، لأن العقل يستخفّ بالعذابات الآتية من الخارج. (35) فهذا مضحك جدًا. وها أنا برهنتُ، لا أن العقل يسيطر على العذابات وحسب، بل يسيطر أيضًا على الملذّات ويرفض أن يُذعن لها.
مديح اليعازر
7 (1) بدا عقلُ أبينا اليعازر شبيهًا بربّان حكيم، فقاد سفينة التقوى في بحر الأهواء. (2) فتهديدات الطاغي التي ضربته كالعاصفة، والعذابات التي غمرته كالأمواج، (3) لم تجعله يتخلّص في وقت من الأوقات عن دفّة التقوى إلى أن اقترب من مرفأ النصر الخالد. (4) فما من مدينة أحاطت بها آلات الحرب العديدة والمختلفة، استطاعت أن تصمد مثل هذا الإنسان الكامل في القداسة. فنفسُه القديسة التي هاجمتها الضربات والعذابات والنار، قاومت أولئك الذين يحصارونها بفضل العقل المتّحد بالتقوى، الذي حماها كما الترس. (5) فأبونا اليعازر رفع فكره صامدًا كالصخر. فحطّم موج الأهواء العاتي. (6) فيا كاهنًا جديرًا بالكهنوت، ما دنّستَ أسنانك المقدّسة؟ وما نجسّت بأطعمة نجسة أمعاءك التي لم تنفتح أبدًا إلاّ للتقوى والطهارة. (7) يا صدى الشريعة وفيلسوف الحياة الإلهية! (8) هكذا يجب أن يكون من تولّى وظيفة مقدّسة: يدافع عن الشريعة، يحارب الأهواء حتّى الموت، سافكًا دمه الخاص، سافكًا عرَقه النبيل. (9) أيها الأب، قوّيت بثباتك المجيد أمانتنا للشريعة. وحفظت بأقوالك الكريمة، من الدمار، عاداتك المقدّسة. وبأعمالك ثبّتّ أقوال الفلسفة. (10) يا شيخًا أقوى من العذابات، وأشدّ عزمًا من النار المحرقة، يا ملكًا قويًا وسيّد الأهواء، يا أليعازر. (11): كما تسلّح أبونا هارون بالبخور، وأسرع وسط الشعب وقهر ملاك النار، (12) كذلك حفظ العقلَ بدون تبدّل، اليعازر ابن هارون الذي احترق بالنار. (13) والأعجب في هذا هو أن هذا الشيخ الذي انحلّت قوّة جسده وارتخت عضلاته وضعُفت أعصابه، صار شابًا (14) بروحه (بعقله). وبفضل عقل جدير بإسحاق، تغلّب على عذابات من كل نوع. (15) يا شيخوخة مطوّبة، يا شعرًا أبيض كريمًا، يا حياة أمينة للشريعة أوصلها ختمُ الموت الصادق إلى الكمال.
(16) فإذا كان شيخ قد احتقر، بتقواه، العذابات حتى الموت، يجب أن نقرّ أن العقل التقيّ هو سيّد الأهواء. (17) ولكن قد يقال: لا يقدر كل إنسان أن يغلب الأهواء. فلأن كل إنسان لا يملك عقلاً فطينًا (حكيمًا كما في السريانيّة). (18) أما الذين يتعلّقون، بكل قلوبهم، بالتقوى، فيقدرون وحدهم أن يتسلّطوا على أهواء الجسد. (19) فهم يعتقدون أنهم لله. فلا يموتون، كما لم يمت إبراهيم واسحاق ويعقوب، بل يحيون لله. (20) لا نرى اعتراضًا أمام أناس يبدون خاضعين لأهوائهم بسبب ضعف عقلهم. (21) ولكن الفيلسوف الذي يعيش بالتقوى والكمال حسب قاعدة الفلسفة، ويؤمن بالله، (22) ويعرف سعادته حين يقاسي من أجل الفضيلة كلّ أنواع العذاب، أيمكن أن لا يسود الأهواء بفضل التقوى؟ (23) وحده الإنسان الحكيم والشجاع يسود الأهواء.
دعوة الملك إلى الإخوة السبعة
8 (1) أجل. بل عُرف فتية تكرّسوا للفسلفة، فانتصروا بالعقل التقيّ على عذابات أقسى. (2) فحين فشل الطاغي أمام الجميع في محاولته الأولى، إذ لم يستطع أن يُكره شيخًا على أكل طعام نجس، (2) غضب غضبًا شديدًا وأمر بأن يأتوه بسائر الأسرى العبرانيين. قال: إن أكلوا الأطعمة النجسة يُطلق سراحُهم بعد أن يأكلوا. وإن رفضوا يخضعوا لعذاب أقسى. (3) وما إن أعطى الطاغي أوامره، حتّى جاؤوه بسبعة إخوة مع أمهم العجوز، التي كانت جميلة جدًا وعفيفة ونبيلة وظريفة. (4) فحين رآهم يحيطون بأمّهم وكأنهم جوقة وهي تقف في وسطهم، استخبر عنهم. أعجب بمحتدهم ونبلهم، وابتسم لهم ودعاهم إليه، وقال لهم:(5) "أيها الشبّان، يهمّني أمر كل واحد منكم. أنا معجب بجمالكم، وأقدّر كل تقدير مثل هذا العدد من الأخوة. لهذا،لا أنصحكم فقط بأن لا تستسلموا إلى جنون هذا الشيخ الذي عذّبناه، (6) بل أحثّكم على أن تقتنعوا وتنعموا بمحبّتي. فكما أستطيع أن أعاقب من يعصي أوامري، أستطيع أن أنعم على الذين يطيعونني. (7) ثقوا بي. ستنالون وظائف رفيعة في مملكتي إن أنكرتم شريعة الآباء التي تدبّر أموركم. (8) شاركوا اليونان في طريقة عيشهم، بدّلوا عاداتكم، وتنعّموا بشبابكم. (9) فإن أغضبتموني بعصيانكم، تُكرهوني على اللجوء إلى أقسى العقوبات فتهلكون كلكم في العذابات. (10) فارحموا نفوسكم، فإني أنا، عدوّ أمّتكم، أرحم شبابكم وجمالكم. (11) فكّروا في هذا: إن عصيتموني (ولم تقتنعوا، كما في السريانية) لن يكون أمامكم سوى الموت مع العذاب".
(12) بعد أن قال هذه الكلمات، أمر بأن توضع آلات العذاب أمامهم بحيث يدفعهم الخوف إلى أكل الأطعمة النجسة. (13) فجعل الحرسُ أمامهم الدواليب وآلات تفكّك الأعضاء والأمشاط والملاقط والمقاذف والقدور والطناجر والمماسك والأيدي الحديديّة والسكك والمنافخ لإضرام النار. أخذ الطاغي هذه الآلات وقال: (14) "ارتعدوا أيها الشبّان. فالعدالة التي تكرمون تغفر تجاوزًا سبّبه الإكراه"!
(15) أما هم فلما سمعوا كلمات تحاول إقناعهم، ورأوا هذه الآلات المرعبة، لم يخافوا البتّة. بل جعلتهم فلسفتُهم ينتصبون بوجه الطاغي، وبعقلهم الحكيم حطّموا طغيانه. (16) فكّروا. لو أن بعضًا منهم جبن وتراخى، فأية كلمات كانوا قالوها. (17) لا شكّ، كلمات مثل هذه: "يا لتعاستنا، يا لجهلنا! يحضّنا الملك ويكلّمنا لصالحنا، ونحن نرفض أن نطيعه! (18) لماذا نجعل فرحنا في مقاصد باطلة ونقترف عصيانًا يقودنا إلى الموت؟ (19) يا إخوتي، أما نخاف آلات التعذيب؟ أما نفكّر بما يتهدّدنا من عذاب؟ لماذا لا نتخلّى عن هذا الباطل وهذه الغطرسة اللذين يقوداننا إلى الموت؟ (20) لنرحم شبابنا. لنرحم شيخوخة أمنا. (21) ولنفهم أننا إن عصينا متنا. (22) أما العدالة الإلهية فتسامحنا لأن الملك أخافنا بالإكراه. (23) لماذا نُخرج نفوسنا من الحياة الهنيّة؟ لماذا نحرم نفوسنا من حلاوة العالم؟ (24) لا نقاومْ الضرورة، ولا نجعلْ فخرنا في أن نتعذّب. (25) فالناموس نفسه لا يعاقبنا، بعد أن أرعبتنا آلات التعذيب. (26) لماذا يُطبع فينا حبّ القتال؟ ولماذا يجتذبنا هذا العناد الذي يحمل الموت، ساعة يسهل علينا أن نحيا بلا قلق إن أطعنا الملك"؟ (27) ولكن عند اقتراب العذاب، لم يقل الشبّان كلامًا مثل هذا، بل لم يفكّروا به في قلوبهم. (28) فقد احتقروا الأهواء، وسادوا العذاب. وما إن أنهى الطاغي تحريضه لهم بأن يأكلوا الأطعمة النجسة، حتّى قالوا كلهم معًا بصوت واحد ونفس واحدة:
9 (1) "ماذا تنتظر أيها الطاغي؟ نحن مستعدّون للموت ولا نتجاوز وصايا آبائنا. (2) يجب علينا أن نستحي من أجدادنا إن لم نطع الشريعة ونأخذ موسى ناصحًا لنا. (3) يا طاغيًا تنصحنا بأن نتجاوز الشريعة، لا تشفق علينا ببغضك لنا أكثر ممّا نشفق على نفوسنا. (4) فنحن نرى أن شفقتك التي تعدنا بالخلاص إن تجاوزنا الشريعة، أقسى من الموت نفسه. (5) تريد أن تُرعبنا فتهدّدنا بالموت في العذاب. فكأن اليعازر لم يعلّمك شيئًا منذ لحظة. (6) فإن كان الشيوخ العبرانيّون ماتوا من أجل التقوى، وثبتوا في العذاب، فينبغي علينا نحن الشبّان أيضًا أن نموت محتقرين العذابات التي تريد أن تُكرهنا بها، والتي تغلّب عليها هذا الشيخ معلّمنا. (7) فجرّب أيها الطاغي. فإن أخذتَ حياتنا وقتلتنا من أجل التقوى، فلا تظنّ أنك تسيء إلينا بهذه العذابات. (8) فنحن، بهذا العذاب وبثباتنا، ننال أجر الفضيلة، فنكون مع الله، ذاك الاله الذي له نتألّم. (9) أما أنت، فبسبب قتلنا الذي به تتنجّس، سوف تقاسي بيد العدالة الالهيّة العقاب الأبديّ، عقابَ النار الذي تستحقّ"!
عذاب البكر والابن الثاني
(10) حين تلفّظوا بهذه الأقوال، أثاروا عليهم، لا سخط الطاغي وحسب، بسبب عصيانهم، بل غضبه أيضًا بسبب عقوقهم. (11) وبناء على أمره، جاء الحرس بأكبر الإخوة، فمزّقوا له ثيابه، وقيّدوا يديه من هنا وهناك بنعال. (12) وجلّدوه بالسياط. ولما تعبوا دون أن يحصلوا منه على شيء، رموه على الدولاب. (13) مدّدوا هذا الشاب النبيل على الدولاب فتقطّعت أوصاله. (14) وإذ كانت أعضاؤه تتحطّم، اتّهم الطاغي بهذه الكلمات: (15) "أيها الطاغي النجس، يا عدوّ العدالة السماويّة، يا قلبًا من صخر. أنت لا تعذّب هكذا قاتلاً ولا كافرًا، بل مدافعًا عن شريعة الله". (16) ولما قال له الحرس: "أرضَ بأن تأكل فتنجو من العذابات"، (17) فقال لهم: "أيها الخدّام النجسون. لا يقوى دولابكم على خنق عقلي! قطّعوا أعضائي، أحرقوا لحمي، فسّخوا مفاصلي. (18) فأنا أريكم عبر جميع العذابات أن بني العبرانيين وحدهم لا يُقهرون، في سبيل الفضيلة"! (19) ولما قال هذه الكلمات جعلوا تحته حجرًا. وإذ كانوا يضرمون النار كانوا يشدّون الدولاب. (20) فتلطّخ الدولاب بالدم من كل جهة، وانطفأت الجمرات المكدّسة تحت وابل الدم وتبعثر اللحم حول محور الدولاب. (21) ولما احترقت بنية العظام، لم يرسل تشكيًا، ذاك الشابُ النبيل وابن ابراهيم الحقيقيّ. (22) ولكنّه في النار، بدا وكأنه يتحوّل إلى كائن غير فاسد، فاحتمل العذاب بسخاء (23) وقال: "اقتدوا بي، يا إخوتي، لا تعتزلوا الجهاد، لا تُنكروا الأخوّة الشجاعة، قاتلوا القتال المقدّس والنبيل، قتال التقوى. (24) فالعناية العادلة التي تسهر علينا كما سهرت على آبائنا، ترأفُ بشعبنا، بسبب تقوانا، وتعاقب الطاغي اللعين". (25) وإذ تلفّظ الشاب القديس بهذا الكلام، أسلم الروح.
(62) فاندهش الجميع من هذا الثبات. ثم جاء الحرس بأقرب الإخوة إلى البكر، وبعد أن رتّبوا أيديهم الحديديّة ذات المسامير الحادّة، قيّدوه بآلات العذاب والمنجنيق. (27) وسألوه قبل أن يعذّبوه إن كان يريد أن يأكل. أما هو فأعلن قراره النبيل. (28) عندئذ شدّ هؤلاء النمور، بأيديهم الحديديّة، كل لحمه من الرقبة حتى الذقن، وكل جلد الرأس. فتحمّل هذا العذاب دون أن يتزعزع، وقال: (29) "ما أهنأ الموت بكل أشكاله، ونحن نتحمّله من أجل إيمان آبائنا"! وقال للطاغي: (30) "ألا تظنّ، يا أقسى جميع الطغاة، أنك تتعذّب في هذا الوقت عذابات أقسى من عذاباتي حين ترى عقلك المتكبّر الطاغي مقهورًا في ثباتنا من أجل الحقيقة (شررا في السريانيّة، أوسابيا في اليونانيّة). (31) أما أنا، فاللذة التي أتذوّقها بسبب الفضيلة تخفّف عذابي. (32) وأما أنت فتتعذّب عذابًا في تهديدات يتلفّظ بها كفرُك. ولن تنجو أيها الطاغي النجس من عقابات عادلة من لدن الغضب الإلهي".
عذاب الابن الثالث والابن الرابع
10 (1) وهكذا احتمل الموت بشجاعة. حينئذ جيء بالثالث. فحثّه عدد كبير من الناس بألف شكل وشكل بأن يأكل من هذا الطعام فينجو. (2) فصاح: "أتجهلون أن أبًا واحدًا أنجبنا، أنا وأخويّ اللذين ماتا، وأن أمًا واحدة ولدتنا، وفي التعليم الواحد تربّينا. (3) لن أكفر بقرابتي النبيلة باخوتي. (4) لهذا، إن كانت لكم وسيلة تعذيب، فاجعلوها على جسدي. أما نفسي فلا تستطيعون أن تمسّوها، ولو شئتم"! (5) فغضبوا من وقاحة هذه الكلمات المليئة بالرجولة، فشلّعوا يديه ورجليه، وفكّوا أعضاءه بمنجل، (6) وحطّموا أصابعه وذراعيه ويديه وفخديه وكوعيه. (7) وإذ لم يتوصّلوا أن يخنقوه، مع كل هذه العذابات، سلخوا جلده وأطراف أصابعه، وشرّحوه كما يفعل الاسقيطيون. (8) وبعد ذلك، اقتادوه حالاً إلى الدولاب. وإذ كانت تطقّ عظام عموده الفقري حول الدولاب، رأى لحمه يتناثر وقطرات دمه تسيل من أمعائه. (9) وإذ كان يموت، قال: (10) "نحن أيها الطاغي النجس، نتألّم هكذا من أجل التعليم والحقّ الإلهي. (11) أما أنت فستقاسي عذابات لا حدّ لها بسبب كفرك والقتل الذي ينجّسك"!.
(12) وكان موته جديرًا بموت أخويه. ثم جاؤوا بالرابع وقالوا له: (13) "لا تجنّ أنت أيضًا جنون إخوتك، بل أطعْ الملك فتنجو". (14) فقال لهم: "لا تقدر نارُكم المحرقة أن تجعل مني جبانًا! (15) فبموت إخوتي المبارك، وهلاك أبديّ يصيب الطاغيّة، وبحياة الأتقياء المجيدة، لن أنكر أخوّتنا النبيلة. (16) فيا أيها الطاغية، استنبط عذابات جديدة فتتعلّم بها أني أخٌ للذين عذّبتهم قبلي"! (17) حين سمع هذا الكلامَ أنطيوخس الظامئ للدم، المنجّس بكل نجاسة، أمر بأن يقطعوا له لسانه. (18) أما هو فأجاب: "حتى وإن قطعت لي عضوَ الكلام، فالله يسمع حتى الأخرس. (19) ها هو لساني ممدود. فاقطعه. ولكنك لن تقطع لسان عقلنا. (20) فبفرح من أجل الربّ نتحمَّل قطع أعضاء جسدنا. (21) أما أنت، فقريبًا يلاحقك الله، لأنك تقطع لسانًا أنشد أناشيد الله".
عذاب سائر الأخوة
11 (1) ومات هذا أيضًا تحت الضرب والعذاب. حينئذ اندفع الخامس قائلاً: (2) "لا أطلب أيها الطاغي أن أمضي إلى العذاب من أجل الفضيلة، (3) بل جئت بنفسي لكي تقتلني أنا أيضًا، وهكذا، بعدد كبير من الجرائم، يتضاعف العقاب الذي تستحقّه من لدن العدالة السماويّة. (4) يا عدوّ الفضيلة وعدوّ البشر، ماذا صنعنا لك لتدمّرنا هكذا؟ (5) ألأننا نمجّد الخالق ونعيش حسب شريعته المجيدة؟ (6) ولكن هذا السلوك يستحقّ التكريم لا التعذيب".(9) ولما قال هذه الكلمات، قيّده الحرس واقتادوه إلى المنجنيق. (10) قيّدوا ركبتيه وجعلوهما في دواليب من حديد، ثم حنوا خصريه على اسفين، ومدّدوه حول هذا الاسفين وهو محطّم ومقلوب على ظهره كعقرب، وتشلّعت كل أعضائه. (11) في هذه الحال، لهث تعبًا وتضايق جسده، فقال: (12) "ما أطيب هذه النعم التي تمنحها لنا، أيها الطاغي، من دون إرادتك. هي طيّبة لأنك تؤهّلنا لكي نبيّن ثباتَنا من أجل الشريعة"؟
(13) ومات هذا بدوره. فقرّبوا السادس وكان بعدُ فتى. فسأله الطاغي إن كان يريد أن يأكل فيُطلق سراحُه. فقال: (14) "أنا أصغر من إخوتي. أما بالعقل فعمري كعمرهم. (15) وُلدنا في مثال واحد، وفي هذا المثال كبرنا. فمن أجل هذا المثال أيضًا يجب أن نموت معًا. (16) لذلك، إن رأيتَ أن تعذّب الذين لا يأكلون من النجاسة، فعذّب"! (17) ولما قال هذا الكلام، جاؤوا به إلى الدولاب، (18) ومدّدوه عليه بعناية. وإذ شلّعوا عموده الفقري، أحرقوه على نار خفيفة. (19) ثم حمّوا سفودًا مسنّنًا وغرزوه في ظهره، فعبَر خاصرتيه وأحرق أمعاءه. (20) خلال هذا العذاب كان يقول: "أيها القتال المجيد الذي دُعينا إليه، نحن الإخوة العديدين، من أجل الحقّ، قتال صعب لم نقهر فيه. (21) فالعلم التقيّ لا يُقهر. أيها الطاغي، (22) سأموت أنا أيضًا مع إخوتي ونحن مسلّحون بالحق. (23) فأنا أجلب عليك منتقمًا كبيرًا، يا مخترع العذابات، ويا عدوّ كل الساجدين للحق. (24) ستّة شبّان منا قلبوا طغيانك. (25) لم تقدر أن تركّع عقلنا، ولا أن تكرهنا على أكل الطعام النجس. أما هذا قلْبٌ لطغيانك؟ (26) نارك لنا باردة، وحديدك لا يؤلم، وعنفك عاجز. (27) حرّاس يحيطون عنا، لا حرّاس الطاغي، بل حرّاس الشريعة الإلهية. لهذا ظلَّ عقلُنا لا يُقهر".
12 (1) ومات هذا بدوره موت السعداء، بعد أن ألقي في المرجل. وجاء السابع، وكان أصغرهم كلهم. (2) أشفق عليه الطاغي ساعة احتقره إخوتُه احتقارًا. (3) وإذ رآه بعدُ مقيّدًا بالقيود، قرّبه وحاول أن يقنعه، قائلاً: (4) "ها قد شاهدتَ نهاية جنون إخوتك: بعصيانهم ماتوا في العذابات. أما أنت أيها التعيس، فإن لم تخضع ستموت أيضًا في العذاب موتًا مبكرًا. (5) ولكن إن أطعتَ تصبح صديقي وتتسلّط على أمور مملكتي". (6) وإذ كان ينصحه هكذا. دعا أم الولد بحيث تشفق على نفسها بعد أن حُرمت من أولادها الكثر، فتدفع الذي بقي لها ليخضع وينجو بحياته. (7) فحثّته أمه في العبرية، كما سنقول فيما بعد. أما هو (8) فقال: "حلّوني، لأني أريد أن أكلّم الملك وصحبه". (9) ففرحوا جدًا بما وعدهم به الفتى، فحلّوه بعجل. (10) حينئذ ركض إلى المرجل الذي كان قريبًا منه: (11) "أيها الطاغي الشرير، وشرّ الشريرين، بعد أن تقبّلت من الله الخيرات والملك، أما تستحي بأن تقتل عباده وتعذّب المقاتلين عن الحق؟ (12) لهذا تحتفظ بك العدالةُ الالهيّة لنار أقوى، للنار الأبديّة، ولعذابات لن تتركك إلى الأبد. (13) أما استحيت وأنت انسان، بل وحش بريّ، أن تقطع لسان أناس يحسّون بما تحسّ، وقد وُلدوا من العناصر نفسها، فتعذّبهم وتشنع بهم على هذا المنوال. (14) أما هم فبموتهم النبيل قاموا بواجب التقوى تجاه الله. وأنت، سوف تبكي بمرارة، لأنك قتلت، بدون علّة، أبطال الفضيلة". (15) وإذ كان قريبًا من الموت، أردف هو أيضًا: (16) "لن أتهرّب من شهادة إخوتي. (17) وأدعو إله آبائي ليرأف بشعبي. (18) أما أنت فسوف يعاقبك في هذه الحياة الحاضرة وبعد موتك". (19) وبعد أن صلّى (لتأتيَ هذه على الطاغي، كما في السريانية)، رمى بنفسه في المرجل، وأسلم الروح.
سلطان العقل
13 (1) فإن كان الإخوة السبعة قد احتقروا العذابات حتّى الموت، يجب أن نعرف أن العقل التقيّ يتسلّط على الأهواء. (2) ولو أكلوا طعامًا نجسًا فاستُعبدوا للاهواء، لقلنا أيضًا: هي غلبتهم. (3) ولكن لم يكن الوضع هكذا. بل بالعقل المقبول لدى الله غلبوا الأهواء. (4) وهكذا توضّح لنا سلطانُ العقل. فقد قهروا الهوى والعذاب معًا. (5) فكيف لا نرى سلطان الفكر على الهوى عند هؤلاء الشبّان الذين لم يتراجعوا أمام العذابات التي سبّبتها النار. (6) فكما أن الأبراج تنتصب أمام المرفأ فتحطّم الأمواج العاتية وتؤمّن للداخلين ملجأ أمينًا، (7) كذلك الفكر لدى هؤلاء الفتيان بدا شبيهًا بسبعة أبراج فقوّى مرفأَ التقوى وغلب شراهة الأهواء. (8) شجّعوا بعضُهم بعضًا كما لو كانوا جوقة القداسة والتقوى. (9) قائلين: "يا ليتنا نموت، يا إخوة، موت الإخوة من أجل الشريعة. لنقتد بالفتية الثلاثة في أشورية، الذين احتقروا نارًا شبيهة بهذه. (10) لا نكن جبناء في إظهار الحق. (11) قال الأول "تشجّع، يا أخي". وقال الثاني: "تحمّل بنبل". (12) وثالث أيضًا: "تذكّروا من أين أنتم (= نسلكم). فيدُ أبيكم كادت تذبح اسحاق، من أجل التقوى، فثبتت"! (13) كان الواحد ينظر إلى الآخر، وبعضهم إلى بعض، بهدوء وثقة، ويقول: "من كل قلبنا نجعل أنفسنا لله الذي أعطانا نفوسنا. ولنستعمل أجسادنا للدفاع عن الشريعة. (14) لا نخف ذاك الذي يظنّ أنه يقتل. (15) عظيمة محنة النفس، والخطر يقوم في عقاب أبديّ للذين يتجاوزون وصيّة الله. (16) فلنتسلّط على الأهواء بهذه السيطرة، التي تأتينا من العقل الإلهي. (17) وبعد أن نكون تألّمنا هكذا، يقبلنا ابراهيم واسحاق ويعقوب، ويمتدحنا جميع الآباء". (18) وحين كان يؤخذ أحد الاخوة، كان الباقون يقولون: "لا تُخجلنا، يا أخانا، ولا تكن خائن اخوتنا الذين ماتوا قبلك".
(19) لا تخفى عليكم محبّة الإخوة. فالعناية الإلهية الحكيمة قسمتها، بواسطة الأب، بين الأولاد، وغرستها فيها بواسطة رحم الأم. (20) هناك يقيم كل أخ فترة مماثلة، ويكوَّن في فترة مشابهة، وينمو من دم واحد، وينضج بواسطة نفس واحدة. (21) وبعد حمْل مماثل، يُولد ويشرب الحليب من ذات الينبوعين. هكذا تنعقد رباطات المحبّة الأخوية في نفوس الرضّع. (22) ويكبرون كل يوم بالطعام الواحد، ويخضعون للعادات الواحدة يومًا بعد يوم، ويتربّون التربية الواحدة، ويتمرّسون في شريعة الله. (23) من الواضح، أن رباط المحبّة الأخويّة هو ثابت. غير أن الإخوة السبعة امتلكوا رباطًا أقوى من المحبّة، بعضهم لبعض. (24) تربّوا في الشريعة الواحدة، ومارسوا الفضائل عينها، وارتفعوا معًا في حياة بارّة، فزاد حبّ بعضهم لبعض. (25) غيرتهم المشتركة للفضيلة قوّت توافقَهم المتبادل. (26) والرباط الديني جعل محبّتهم الأخوية أكثر حرارة. (27) ولكن، مع أن الطبيعة والحياة المشتركة وممارسة الفضيلة، زادت جمال الأخوّة جمالاً، إلاّ أن الذين بقوا على قيد الحياة، تحمّلوا، من أجل التقوى، حين رأوا إخوتهم يتألّمون ويتعذّبون حتّى الموت.
14 (1) بل كانوا يحضّون بعضُهم بعضًا على العذاب. فما احتقروا العذاب فقط، بل غلبوا أهواء المحبّة الأخويّة.
(2) يا عقلاً مالكًا أكثر من الملوك، وحرّاً أكثر من الأحرار! (3) يا توافقًا مقدّسًا ومتناسقًا بين الإخوة السبعة، من أجل الحقّ. (4) ما من أحد من الشبّان السبعة رجف. ما من أحد تردّد أمام الموت. (5) بل أسرعوا كلهم إلى العذابات، وإلى الموت، وكأنهم يعبرون إلى طريق الخلود. (6) فكما أن اليدين والرجلين تتحرّك معًا تدفعها النفس، كذلك هؤلاء الشبّان القديسون كانوا متناسقين ليموتوا من أجل الحقّ وكأن النفس الخالدة تحرّكهم. (7) يا سباعي (=سبعة) الاخوة المقدّس، يا لتناسقكم! فكما تدور أيام خلق العالم السبعة حول التقوى، (8) كذلك الشبّان كما في جوقة حول السباعي، أزالوا الخوف من العذاب. (9) نرتجف نحن اليوم حين نسمع خبر ضيقاتهم. أما هم، فما نظروا فقط، بل سمعوا التهديد بالعذاب، وتألّموا. وما قاسوه كان عذاب النار. (10) أيوجد أمر أعظم من هذا؟ فقوّةُ النور الحيّة والسريعة دمّرت بسرعة أجسادهم.
موت الأم
(11) ومع ذلك، لا تندهشوا أن يكون العقل قد ظفر وسط العذابات، عند هؤلاء الرجال. فالادراك عند امرأة، قد احتقر هو أيضًا العذابات المختلفة. (12) فأمّ الشبّان السبعة احتملت العذابات التي أصابت كل ولد من أولادها. (13) تأمّلوا حنايا الرحمة لدى أم تعيد كل شيء إلى محبّة ثمرة رحمها. (14) فالحيوانات التي ليست بعاقلة تحسّ ذات الحبّ والعاطفة اللذين يحسُ بهما البشر للذين وُلدوا منهم. (15) والطيور أيضًا. بعضها (وهو داجن) يجعل عشّه على سطح البيوت ليحمي صغاره. (16) والآخرون، على قمم الجبال، وفي جوانب الهوّات الوعرة، في جوف الأشجار وفي قممها، يحضنون بيضهم، يفرّخونه، ويحمونه من المهاجمين. (17) فإن لم يقدروا أن يردّوا العدو، يطيرون دورانًا حول العشّ بألم وحنان، ويدعون صغارهم بلغتهم ويغيثونهم بكل ما لهم من وسائل. (18) ولكن لماذا نعطي البراهين عن الحبّ الأموميّ وسط الحيوان (19) ساعة النحل أيضًا يدفعون المهاجم في أوان العسل ويضربون بابرهم، كما بسيف، جميعَ الذين يقتربون من صغارهم، ويدافعون عنهم حتّى الموت. (20) ولكن أم الشبّان التي كانت نفسها شبيهة بنفس ابراهيم، لم يزعزعها حبّها لأولادها.
15 (1) يا عقلاً ساد على الهوى، على الحبّ الأمومي. يا تقوى أحبّ إلى قلب الأم من أولادها. (2) اثنان وُضعا أمام عينيها: محبّة الحقّ أو خلاص أبنائها السبعة، لوقت قصير، حسب وعد الطاغي. (3) فضّلت الحقّ الذي يقود إلى الحياة الأبديّة حسب وعد الله. (4) بأي كلام أقدرُ أن أصف محبّة الأبوين العميقة لأولادهما. نحن نطبع طبعًا عجيبًا في طبيعة الطفل الطرية شبه نفسنا وجسدنا. وخصوصًا الأمّهات اللواتي يرتبطن بالطبيعة ارتباطًا حميمًا مع أولادهنّ، ارتباطًا يفوق ارتباط الآباء. (5) فالأمهات ضعاف النفوس، وبقدر كثرة أولادهن تكبر العاطفة لديهنّ. (6) ولكن أم السبعة كانت أكثر الأمهات محبّة. فبسبع ولادات تجذّر الحنان فيها. (7) والألم الذي سبّبه كل من هذه الولادات العديدة، دفعها إلى أن تعمّق محبّتها. (8) ومع ذلك، فقد استخفّت بنجاة أولادها، من أجل خوف الله، وهي نجاة قصيرة المدى. (9) وليس هذا كل شيء. فبسبب نبل أبنائها وطاعتهم للشريعة، ازداد حنانُها ازديادًا. (10) فقد كانوا أبرارًا وشجعانًا ونبلاء، يوحّدهم الحبّ الأخويّ، ويحبّون أمهم ويطيعونها، حافظين فرائض الشريعة حتى الموت. (11) ولكن مهما كانت عديدة رباطات الحبّ الأمومي التي كانت تدفع هذه الأم إلى الحنان، فلا شيء زعزع عقلها بالنسبة إلي أي منهم رغم العذابات المختلفة. (12) بل كانت هذه الأم تحثّ أبناءها معًا، وكلّ واحد بمفرده، كي يموتوا من أجل الحق. (13) فيا طبيعة مقدّسة، ويا سحر محبّة الوالدين، ويا محبّة أخويّة مليئة بالحنان، ويا هوى الأمومة الذي لا يُغلب. (14) رأت هذه الأم أولادها يتعذّبون الواحد بعد الآخر، ويُحرَقون. ولكنها لبثت لا تتزعزع من أجل الحق. (15) رأت لحومهم تحترق في النار، وأصابع أيديهم وأرجلهم تختلج على الأرض، ولحم رؤوسهم يُنزع حتى الذقن ويُجَرّ على الأرض كالقناع. (16) فيا أمًا امتحنتها اليوم عذابات أقسى من عذابات الولادة. (17) ويا امرأة أنجبت وحدها مخافة الله. (18) فلا الأكبر زعزعك حين أسلم الروح. ولا الثاني حين نظر إليك نظرة الحزن وهو في العذاب. ولا الثالث حين رقد رقدة الموت. (19) أما أنت فكنت تشاهدين عيني كل واحد متضايقتين بيضاوين في وسط العذاب، وتنظرين إلى منخرين يدلان على علامات الموت. وما بكيت! (20) أمام ناظريك أحرقوا لحم بنيك ثم لحم بنيك، وقطعوا اليدين واليدين، وأزاحوا الرأس بعد الرأس، وأسقطوا الجثة بعد الجثة. أمام ناظريك، اجتمع جمهور في الموضع الذي فيه يقاسي أولادُك العذاب، وما ذرفتِ (أنت) دمعة. (21) فلا نشيد الجنيات، ولا صوت الوزات سحَرا الأذن المتشوّقة للسماع، مثل صوت هؤلاء الأولاد ينادون أمهم من وسط العذابات. (22) فما أقسى عذابات تلك الأم وما أكثر عديدها حين كان أولادها يتعذّبون بالدولاب وبالنار. (23) ولكن العقل التقيّ حرّك قلبها بقوّة، وسط هذه الأهواء، فاستخفّت بالحبّ الأموميّ العابر. (24) ومع أنها شهدت موت أبنائها السبعة وعذاباتهم المتنوّعة في فنونها، فهذه الأم النبيلة استخفّت بكل هذا من أجل إيمانها بالله. (25) وبدت وكأنها في محكمة: رأت في نفسها مشيرين هائلين: الطبيعة، صوت الدم، الحب الأموميّ، عذاب أبنائها. (26) أمسكت هذه الأم في يديها حجري قرعة: واحد يميت أولادها، وآخر ينجّيهم. (27) ما أرادت نجاة لا تنجّي أولادها السبعة إلا لفترة قصيرة. (28) بل تذكّرت ثبات إبراهيم الذي كانت إبنته. (29) فيا أمّ الأمة، يا منتقمة للشريعة، يا محامية عن التقوى، يا منتصرة على الجهاد في قلبها. (30) أنت أنبلُ من الذكور بقوّتك، وأرجل من الرجال بثباتك. (31) فكما سيطر فلك نوح الذي حمل العالم، على هجمات الأمواج، في طوفان حلّ بالعالم كله، (32) كذلك أنت، يا حارسة الشريعة. هاجمتك الاهواء من كل جهة في وسط الطوفان، وضايقتك عذابات أبنائك كالرياح العاتيات، فتحمّلت العواصف بنبل من أجل الحقّ.
16 (1) فإن كانت امرأة، وامرأة عجوز، وأم سبعة أبناء، ظلّت ثابتة وهي ترى عذابات يُسام بها أبناؤها حتّى الموت، فيجب أن نفترض بأن العقل التقيّ يتسلّط على الأهواء.(2) بيّنتُ أن الرجال لا يتسلّطون وحدهم على الأهواء، بل أن امرأة استخفَّت هي أيضًا بأهول العذابات. (3) كانت الأسود حول دانيال أقلّ قساوة. ونار الخلقين التي أحرقت ميشائيل أقل عنفًا من عاطفة الحبّ الأموميّ الذي أشعل هذه المرأة حين رأت أبناءها الأخصّاء، أبناءها السبعة، عُرضة للعذابات. (4) ولكن العقل، المرتبط بمخافة الله، أطفأ من هذه المرأة الأهواء مهما كان عددها وحدّتها.
(5) وتأمّلوا في هذا أيضًا: لو أن هذه المرأة كانت ضعيفة النفس، مع أنها أم، لكانت ندبتهم وقالت مثل هذه الأقوال: (6) "ما أتعسني أنا! وكم حلّ بي من شقاء! ولدتُ سبعة بنين ولست الآن أمَّ أحد. (7) باطلاً كان هذا الحبل سبع مرات! وعديمة الفائدة مرات من الحمل وأم عشرة أشهر! وعقيمة كانت التربية ومشؤومة الرضاعة! (8) باطلاً قاسيت من أجلكم، يا أبنائي، آلام الولادة، وهموم التربية الصعبة. (9) يا أبنائي، بعضكم لم يتزوّج. والآخرون عرفوا زواجًا لا فائدة منه. لن أرى أبدًا أولادكم ولن أهنأ في أن أدعى جدّة. (10) آه! كنتُ أم الأبناء العديدين والأبناء الجميلين، وها أنا الآن امرأة تعيسة وأرملة متروكة. (11) وحين أموت لن يكون لي إبن من أبنائي يدفنني".
(12) ولكن المرأة القديسة والتقيّة لم تقل هذا الندب في أحد من أولادها وما لجّت على أحد بأن يتجنّب الموت، ولا اكتأبت في ساعة موتهم. (13) بل حثّت جميع أبنائها، وتوسّلت إليهم ليموتوا من أجل الحقّ. فكأن عقلها حديد، وكأنها ولدت أبناءها للأبديّة. (14) أيتها الأم، يا جنديّ الله في التقوى. أنت عجوز، أنت أم. ومع ذلك غلبت بثباتك الطاغي نفسه، فوُجدت بأعمالك وأقوالك أقوى من الرجال. (15) حين قبضوا عليك مع أبنائك، وقفت تنظرين إلى اليعازر خلال عذابه. فقلت لأبنائك في العبريّة: (16) "يا أبنائي، ما أشرف الجهاد. إذا دُعيتم إلى هذا الجهاد لتشهدوا لأمّتنا، فقاتلوا بحرارة من أجل شريعة آبائنا. (17) إنه لعار أن يحتمل هذا الشيخُ العذابات الكثيرة من أجل الدين، وأنتم الشبّان تخافون من الآلام. (18) تذكّروا أنكم من أجل الله تشاركون في هذا العالم وتتمتّعون بالحياة. (19) لهذا عليكم أيضًا أن تحتملوا كل عذاب من أجل الله. (20) فمن أجله أيضًا اهتمّ إبراهيم أبونا بأن يذبح اسحاق ابنه، وأبا الأمّة. وإذ رأى اسحاق يد أبيه تمسك بالسكين وتنزل عليه، لم يخف. (21) ودانيال البار طُرح للأسود، وحنانيا وعزريا وميشائل ألقوا في النار المضطرمة، فاحتملوا كل شيء من أجل الله. (22) فأنتم أيضًا الذين تؤمنون بالله كما آمنوا، فلا ترتعبوا. (23) فهل يُعقل أن لا يجابه العذابَ من يعيش في مخافة الله".
(24) بهذه الكلمات حثّت أمُّ السبعة أبناءها، وأقنعتهم بأن يموتوا على أن يتجاوزوا وصيّة الله. (25) واقتنعوا هم أيضًا بأن من يموت لله يحيا منذ الآن في الله، مثل إبراهيم واسحاق ويعقوب، وجميع الآباء.
17 (1) وروى أحدُ الحرّاس أنهم حين أرادوا أن يقبضوا عليها ويقتلوها، رمت بنفسها في النار بحيث لم يلمس أحدٌ جسدها. (2) يا أمًا حطّمت مع أبنائك السبعة عنفَ الطاغي، وأبطلت مشاريعه الشريرة، وبيّنت نبل الإيمان! (3) استندت بنبل إلى أبنائك كالسقف على العواميد. وثبتت ولم تتراخي، من زعزعة العذابات. (4) تشجّعي يا أم النفس المقدّسة. ففي الله تمتلكين رجاء ثابتًا يُسند صبرَك. (5) فالقمر في السماء تحيط به النجوم، ولا جلال له كجلالك. سكبت النور على أبنائك السبعة، فشعّوا كالكواكب، ونلت من الله الكرامة التي تحملها التقوى، وتثبتُ معهم في السماوات. (6) فأبناؤك وُلدوا من إبراهيم أبيهم.
نتيجة الاستشهاد وعمله
(7) إن سُمح لنا بأن نرسم خبر تقواك كما في صورة، فمن لا يرتعش حين يرى أم سبعة أبناء تقاسي حتى الموت مختلف العذابات من أجل الحقّ. (8) ويجدر بنا أن نكتب حتّى على قبرهم الكلمات التالية كذكرانة لأعضاء شعبنا. (9) "هنا دُفن شيخ تجلّل بالكهنوت، وامرأة عجوز، وسبعة أبناء، ضحيّة عنف طاغ عزم على تدمير النظام العبريّ. (10) فانتقموا لشعبنا وهم ينظرون إلى الله ويقاسون العذاب حتّى الموت".
(11) في الحقيقة، القتال الذي دخلوا فيه كان قتالاً من أجل الله. (12) أشرفت الفضيلةُ على القتال، وطلبت المحنةُ الثبات. وكان النصر عدم الفساد في حياة مديدة. (13) افتتح اليعازر المعركة. ثم دخلت أم الأبناء السبعة. وكان الإخوة سائر المقاتلين. (14) الطاغية كان الخصم، والمشاهدون العالم والبشريّة. (15) انتصرت التقوى وكلّلت الأبطال. (16) من لا يتأمّل في هؤلاء الأبطال، أبطال الشريعة الإلهية؟ من لا يدهش لما فعلوا؟
(17) فالطاغي نفسه وكلُ مجلسه تعجّبوا من ثباتهم، (18) الذي نال لهم أن يقفوا الآن قرب عرش الله ويعيشوا أيامًا من السعادة والراحة. (19) فإن موسى قال: "جميع القديسين تحت يديك". (20) اذن، تقدّس هؤلاء من أجل الله، ونالوا لا الجزاء السماوي وحسب، بل بفضلهم لم يستعبد الأعداء شعبنا، (21) وعوقب الطاغي، وتطهّرت أرض الوطن، (22) وصارت حياتُهم فدية عن خطيئة شعبنا. بدم هؤلاء الأتقياء، وبموتهم التكفيريّ، خلّصت العنايةُ الإلهية إسرائيل الذي عومل معاملة قاسية. (23) فالطاغي أنطيوخس لاحظ شجاعة فضيلتهم، وثباتهم في العذابات، فأخبر جنوده بصبرهم، وطلب منهم أن يقتدوا بهم. (24) فاستلهموا نبلهم وشجاعتهم في الحرب الهجوميّة كما في حصار المدن، بحيث انتصروا على جميع أعدائهم ونهبوهم.
18 (1) يا بني إسرائيل، يا نسل إبراهيم، أطيعوا هذه الشريعة، ومارسوا التقوى في كل شيء (2) عالمين أن العقل التقيّ يتسلّط على الأهواء، كما على الآلام التي وجدت علّتها فينا أو خارجًا عنا. (3) لذلك، حين قدّموا جسدَهم للعذاب من أجل الحقّ، ما اجتذبوا فقط دهشة البشر، بل حُسبوا أهلاً لمقاسمة الله (سعادته). (4) وبفضلهم استعاد الشعبُ السلام. كما أعادوا إلى الأرض ممارسة الشريعة، وأجبروا العدوّ على رفع الحصار. (5) غير أن الطاغي أنطيوخس عُوقب منذ هذه الأرض. وبعد موته، ما زال يُعاقَب حتّى الآن. فبما أنه لم يقدر بوسيلة من الوسائل أن يُكره سكان أورشليم على الأخذ بعادات الغرباء، وعلى تبديل عادات الآباء ليُحلّ محلها نوع حياة أخرى، أجبر على أن يبتعد عن أورشليم وأن ينطلق بجيشه إلى فارس.
كلام الأم لأبنائها
(6) وقالت أم السبعة أبناء والمرأة البارة أيضًا هذا الكلام لأولادها: (7) "كنت بتولاً بريئة، وما تجاوزتُ عتبة البيت الأبويّ، بل حفظتُ جسدي كما بناه الله بواسطة ضلع الإنسان الأول. (8) فلا فاسد في البريّة أفسدني في الحقول، ولا الحيّة المنجّسة والكاذبة دنّست براءة بتوليتي. (9) ولما صرتُ امرأة، لبثتُ مع زوجي. وحين كبُر هؤلاء الأولاد، مات أبوهم. فما كان أسعدَه لأنه عاش ساعة كانوا بعدُ أحياء، وما عرف الساعة التي فيها أخذوا. (10) فهو الذي علّمكم، حين كان بيننا، الشريعة والأنبياء. (11) كان يقرأ لنا خبر هابيل الذي قتله قايين، وخبر اسحاق الذي قُدّم محرقة، وخبر يوسف في السجن. (12) وحدّثنا عن غيرة فنحاس. وعرّفكم خبر الشبّان في النار، حنانيا وعزريا وميشائيل. (13) وعظّم أيضًا دانيال في جبّ الأسود وأعلن سعادته. (14) وذكّركم بكتاب أشعيا حيث قيل: "حتى إن مررتَ في النار، لا يحرقك لهيبها". (15) وأنشد لكم مدائح داود المرنّم الذي قال: "ما أكثر مضايق الصديقين". (16) وأورد لنا أمثال سليمان حيث قيل: "الرب شجرة حياة للذين يعملون بمشيئته". (17) وعرّفنا بحزقيال الذي قال: "هل تحيا هذه العظام اليابسة"؟ (18) وما نسي النشيد الذي علّمنا إياه موسى، والقائل: "أنا أميت وأحيي". (19) تلك هي حياتكم وطول أيامكم".
(20) يا ليوم مرّ وليس بمرّ. فيه طاغي اليونان القاسي أحرق في قدور تغلي، وقاد في غضبه، إلى المنجنيق وإلى عذاباته، هؤلاء الأبناء السبعة، أبناء ابنة إبراهيم. (21) ففقأ عيونهم، وقطع ألسنتهم، وأماتهم في مختلف العذابات. (22) والعدالة الالهيّة لاحقت هذا اللعين، بسبب جرائمه، وما زالت تلاحقه. (23) أما أبناء إبراهيم مع أمهم التي نالت الجزاء، فقد اجتمعوا الآن في جوق الآباء: نالوا نفوسًا طاهرة وخالدة من عند الله (24) الذي له المجد في دهر الدهور. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM