موضوع 4 مك وتحليل نصّه

موضوع 4 مك وتحليل نصّه
يبدو 4 مك بشكل خطبة، يتوجّه فيها الكاتب إلى سامعيه، فيدعوهم إلى الانتباه. وفي النهاية، يحضّهم باحتفال على طاعة الشريعة وممارسة التقوى أو العيش في مخافة الله. أما السامعون فهم "بنو إسرائيل".
يبدأ الكتاب بمطلع (1: 1- 12) يقدّم فيه المؤلّف الموضوعَ الذي اختاره، وهو أن "العقل التقيّ يتسلّط على الأهواء". هذا الطرح الفلسفيّ سيعود أكثر من مرّة (1: 7 ،9، 13...)، فيدلّ على أننا أمام شخص بليغ يُعيد انتباه السامع إلى البرهان الذي يقدّمه. وبعد إعلان الطرح بشكل مجرّد، ندخل في موضوع الشهداء المكابيّين، الذي هو البرهان الأساسيّ والجزء المهمّ في توسّع الكتاب. وينتهي المطلع فيعلن بوضوح قسمة الخطبة (آ 12). العرض، برهان عام، برهان ملموس هو خبر الشهداء، وأخيرًا المجدلة.
في الواقع، يبدو الكتاب في مجمله أكثر من برهان فلسفيّ مجرّد. إنه مديح للشهداء. لا شكّ في أن هذا المديح هو قسم من الكتاب. غير أن الواعظ لا يُخفي فكره، فيعلن أنه القسم الرئيسيّ. فالقسم الأوّل هو مقدّمة. لا شكّ في أنها ضروريّة من أجل هدف الكاتب. ولكنه لن يتوسّع فيها. فهي قصيرة جدًا تجاه القسم الثاني الذي هو القسم الرئيسيّ.
لماذا توخّى الكاتب الذي فرضت عليه الظروف بأن يصنع مديحًا فيرسم تاريخ أبطاله، أن يجعل في بداية كتابه عبارة فلسفيّة بشكل "عقيدة"، وأن يقدّم "عظته" كبرهان على طرح فلسفيّ مجرّد؟ نجد الجواب في استعدادات وذوق الواعظ وسامعيه المؤمنين المتعلّقين بالنظريّات الفلسفيّة. فقد بدا مديحُ الشهداء لهؤلاء الأشخاص، أنه سيكون عميقًا وساميًا إن رُبطت وقائعُه بفكرة، وخبرُه بنهج سياسيّ ونظريّة عقليّة. فالأحداث تتّخذ أهمّيتها ونبلها الكبيرين على ضوء "الفلسفة". وعذابات الشهداء المكابيّين وموتهم، لم تعد حدثًا عابرًا في التاريخ الدينيّ والسياسيّ للشعب اليهوديّ. فتجاوزت ما هو نسبيّ وعرضيّ. فصارت فصلاً هامًا "في تاريخ العقل العفيف".
هذا المزيج بين البرهان والتاريخ، هو أمر عاديّ في المديح الدينيّ والتأبين. فالواعظ يختار نصًا كتابيًا، ويجعل مديحَ الشخص الذي أمامه في إطار برهان عقائديّ. وما برهنه في هذه العظة هو أن الموضوع هو فلسفيّ في جوهره، ساعة كنا ننتظر موضوعًا يستلهم العقيدة الدينيّة الموحاة، ونحن أمام شهود الإيمان اليهوديّ. ولكن هذا التمييز بين الفلسفة والدين غير موجود في فكر الكاتب: ففي نظره تماهت الفلسفة مع الدين، والعقل المستقيم هو العقل التقيّ، وامتزج تعليم الدين مع عقيدة الفلسفة مزجًا حميمًا بحيث صارت لفظة "فلسفة" تعني مجمل العقائد الدينيّة والروحيّة.
ونصل إلى القسم الأوّل (1: 13- 3: 8). بدأ الكاتب فطرح بشكل واضح الموضوعَ والتصميم (1: 13- 14): "ما هو العقل، ما هو الهوى، وما هو عدد أشكال الهوى، وهل العقل يسود عليها كلها"؟ اتّبع الكاتب هذا التصميم بأمانة في ما يخصّ النقطة الثانية. ولكنه لم يعط في كتابه تحديدًا للهوى.
إذن، في مرحلة أولى، حدّد الكاتب العقل (آ 15، ). هذا ما قاده أيضًا إلى تحديد الحكمة (آ 66 ) التي تتماهى مع التربية على الشريعة (آ 17)، وتنقسم في أربع فضائل (آ 18) مع الفطنة التي هي الفضيلة الرئيسيّة (آ 19). وفي مرحلة ثانية، اهتمّ الواعظ بترتيب الأهواء (آ 20- 27). هناك نوعان هامان: اللذّة والعذاب (آ 20). يُولدان في الجسد كما في النفس، ويحيط بهما جوقٌ كبير: الرغبة والفرح من جهّة اللذّة. والخوف والكآبة من جهّة العذاب. وجاء الغضب مشتركًا بين الاثنين (آ 24). وارتبط باللذّة الميلُ إلى الشرّ الذي يرتدي أشكالاً عديدة (آ 25) في النفس كما في الجسد (آ26- 27).
وجاءت انتقالة مسبقة (آ 28- 30)، فأوصلتنا إلى النقطة الأخيرة: "العقل يسود جميع الأهواء". وهكذا ننطلق فنصل إلى 3: 18.
تشرح توطئةٌ صغيرة (آ 30ب- 32) أننا ننظر أوّلاً إلى سلطان العقل بالنسبة إلى فضيلة العفّة: فالعفّة تقوم بالسيطرة على الرغبات. هنا يأتي البرهان بأن العقل يتسلّط على جميع الرغبات، رغبات الجسد ورغبات النفس (آ 21). إن لفظ "أوّلاً" يدلّ على أننا نعالج ثانيًا سلطان العقل بالنسبة إلى سائر الفضائل. ولكن في الواقع، وإن تركنا جانبًا عبارة قصيرة تشير إلى فضيلة العدل (2: 6)، نفهم (حتى نهاية المقال) أن العقل والعفّة شيء واحد، بل أن العفّة لم تعد فضيلة بين الفضائل الأربع. لقد صارت وجهة من العقل بقدر ما العقل يسيطر على الرغبات والأهواء.
وبعد التوطئة، عاد الكاتب إلى قسمته للرغبات. فعالج أوّلاً رغبات الجسد: الرغبة في أطعمة محرّمة (سيصل إلى المكابيّين). فالعقل يسود الشهوة التي تدفع جسدنا نحو هذه الأطعمة. ثم ينتقل إلى رغبات النفس، وبالأخصّ الزنى والفجور. ويدلّ يوسف بمثله أننا نستطيع أن نسود عليها (2: 1- 3).
ويترك الكاتب بعض هذا البرهان، بعد أن ذكّره خبر يوسف بنص كتابي يقدر أن يستخرج منه برهانًا من أجل طرحه العام (آ 4- 6). عندئذ يسرد بدون ترتيب مختلف الرذائل، ويتحدّث عن الحبّ والبغض، وأخيرًا عن الأهواء العنيفة من طموح وتشامخ وعجرفة وحسد (آ 15). ويُنهي في الغضب (آ 16- 20).
هنا يرد اعتراض: "إن كان العقل يتسلّط على الأهواء، أما يتسلّط أيضًا على النسيان والجهل" (آ 24)؟ ويأتي الجواب على هذا الاعتراض: لا يسود العقل أهواءه الخاصة، بل الأهواء التي تعارض الفضائل. ثم إن سيادة العقل هذه لا تقوم بإزالة الأهواء، بل بمقاومتها. هنا يسرد مثَل الملك داود الذي عطش وطلب ماء. ولكنه في النهاية قاوم هذه الرغبة وتسلّط عليها (آ 9- 16). ويختتم الكاتب جوابه، فيؤكّد مرّة أخرى سلطان العقل الضعيف على الرغبات والأهواء (آ 17-18).
ونقرأ انتقالة قصيرة (3: 19) تقودنا إلى القسم الثاني الذي هو مديح الشهداء المكابيّين (3: 20-17: 6).
بعد توطئة تحدّد موضع "خبر العقل العفيف" في الزمن وفي تضاعيف التاريخ، يرسم الكاتب، مع بعض التفاصيل الأحداثَ التي سبقت اضطهاد أنطيوخس في أورشليم، كما تحدّثت عن بدايات هذا الاضطهاد (3: 20- 4: 26).
ويرد الموضوع في تصميم واضح جدًا: استشهاد أليعازر. استشهاد الإخوة السبعة. استشهاد الأم.
استشهاد اليعازر (1:5- 7: 23)
قدّم الواعظُ الشهيدَ (5: 1- 4): هو من النسل الكهنوتيّ، عارف بالشريعة... ثم تخيّل كلامًا قاله أنطيوخس لأليعازر (آ 5- 13)، وجواب أليعازر (آ 14- 38): نعيش تحت شريعة إلهيّة. ثم رسم الكاتب عذابات الشيخ وثباته (6: 1- 11). وورد قاطع حاولت فيه حاشية الملك أن تقنع أليعازر بأن يأكل من الأطعمة المحرّمة. أو بالأحرى بأن يتظاهر. فجاء جواب الشهيد مفعمًا بالنبل (آ 12- 23). حينئذ اقتيد إلى النار، ومات وهو يصلّي من أجل شعبه (آ 24- 30).
بعد هذا الخبر، قدّم الكاتب اعتباراته حول ما جرى. فذكّر في أسلوب ناشف ومدرسيّ، بما قال في القسم الأوّل. واستنتج أن "العقل التقيّ يتسلّط على الأهواء" (آ 31- 35). ثم امتدح الشهيد في شعر غنائيّ رفيع (7: 1- 15). وأخيرًا، صار الأسلوب هادئًا، فأكّد الواعظ أيضًا طرحه حول سلطان العقل (آ 16). ولما جاء من يعترض بأن هذا الطرح لا ينطبق على الجميع، كان الجواب: هذا صحيح بالنسبة إلى الذين يمتلكون عقلاً فطنًا، بالنسبة إلى "الفيلسوف الذي يتبع، بالتقوى والكمال، قاعدةَ الفلسفة" (آ 17- 23).
استشهاد الإخوة السبعة (8: 1- 14: 10)
وتقودنا انتقالة إلى استشهاد الإخوة السبعة (8: 1): عرف الفتية الثلاثة كيف ينتصرون بالعقل التقيّ، بالفلسفة. وقدّم الكاتب أشخاص المسرح. ثم تخيّل خطبة وجّهها أنطيوخس إلى الشبان السبعة. وجُعلت أمامهم أدواتُ العذاب في مشهد مؤثّر جدًا (آ 12- 14). ولكن الشهداء لا يتزعزعون. عندئذ عرض الكاتب الجواب الذي كان بمقدور الشبان أن يقولوه لو خانتهم الشجاعة (آ 16- 26). ولكن هذا الجواب الذي بدا في خدعة أدبيّة، قد تبعه حالاً الجوابُ الحقيقيّ: "كلّهم معًا، بصوت واحد ونفس واحدة" (8: 27- 9: 9).
ونقرأ بعد ذلك خبر استشهاد كل أخ من الإخوة: هنا يستنبط الواعظ كل أنواع العذابات، وينوّع الأقوال والظروف والطباع: وتمرّ أمامنا سبعة مشاهد قصيرة، فلا يضعف اهتمامنا ولا تخمد عاطفتنا: استشهاد البكر (9: 10- 25). الثاني (آ 26- 32). الثالث (10: 1- 11). الرابع (آ 12- 21). الخامس (11: 1- 12). السادس (آ 13- 27). السابع (12: 1- 20).
وكما فعل الكاتب بعد خبر موت أليعازر، استخلص هنا أيضًا طرحه الفلسفيّ: "العقل التقيّ يسود الأهواء" (13: 1- 5). ثم انتقل من أسلوب ناشف إلى أسلوب بلاغيّ رفيع، فامتدح الشهداء السبعة الذين قابلهم بسبعة أبراج حطّمت هجمات الأمواج (آ 6- 7). ثم أرانا إياهم في "جوقة قدسيّة وتقيّة"، مشجّعون بعضهم بعضًا على الاستشهاد (آ 8- 18). وإذ فعلوا هذا، لم يستخفّوا فقط بالعذابات، بل توجّب عليهم أن يغلبوا الحبّ الأخويّ الذي تجذّر بقوّة في قلوبهم (13: 19-14: 1). أترى سيغلب حبّهم الأخويّ العقل بحيث لن يذهبوا إلى الموت؟ كلا. ويُنهي الكاتب كلامه معجَبًا بشجاعتهم ومحبّتهم (آ 2- 10).
استشهاد الأم (14: 11- 17: 6)
وكانت انتقالة (14: 11: ومع ذلك، لا تندهشوا) قادتنا إلى استشهاد الأم. قاست في حنانها الأموميّ العذابات التي حلّت بأولادها، ولكنها لم تتزعزع (آ 12- 20). وامتدح الواعظ بحرارة هذه الأمَ البطلة التي تغلّب فيها العقل والتقوى على الحنان، ففضّلت موت أبنائها على ارتدادهم عن الإيمان (15: 1- 32).
وانطلق الكاتب من مثل الأم فاستنتج أيضًا طرحه: يتسلّط العقل على الأهواء (16: 1- 4). وفعل هنا كما فعل مع الإخوة السبعة، فعارض كلامًا كان يمكن للأم أن تقوله لأولادها لو لم تكن شُجاعة (آ 5- 11) بتحريض حقيقيّ قدّمته لهم: "قاتلوا بحرارة من أجل شريعة آبائنا" (آ 12-25). ووردت عبارة سريعة (17: 1) أفهمتنا أن الأم وضعت حدًا لأيامها. وأنهى الكاتب مديح الأم بدعاء غنيّ بالعاطفة، فجعلها مع أبنائها (آ 2- 6): إبراهيم هو أبوهم. وهي أمهم. كان ابراهيم الأب الروحيّ. ،كانت هي أمًا بالجسد وأمًا بالروح.
خاتمة المديح في (17: 7- 18: 24)
انتقل الكاتب بلباقة من الأم وخبر تقواها (17: 7) إلى مجمل الشهداء الذين أنشدهم الآن (آ 8-10). أعجب بنصرهم وجزائهم. ثم حضّ السامعين، بني إسرائيل، على حفظ الشريعة. وذكّرهم مرّة أخرى أن العقل يسود الأهواء. (18: 1- 5). وأخيرًا، ذكر مرّة أخيرة عذابات الشهداء والجزاء الذي ينتظرهم في السماء (آ 20- 23). وأنهى كل هذا بمجدلة (له المجد إلى دهر الدهور، آ 24) معروفة في نهاية العظات.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM