الفصل العاشر: حياة تليق بالله

الفصل العاشر
حياة تليق بالله
4: 1- 12

وينتهي القسم الأول بصلاة فيها يوجّه الرسول نظره إلى الله الآب والرب يسوع. ويسألهما بأن يسّهلا طريقه إلى تسالونيكي. ذاك كان القسم الأول الذي شدّد على قبول الانجيل، قدرة الخلاص، على مجيء يسوع المخلّص... والقسم الثاني هو القسم التحريضيّ: يعالج الاتجاهات الخلقيّة والحياة الجماعيّة التي حدّدها الرسول باسم الايمان المسيحيّ.
سنجد في هذا القسم الثاني توصيات حول قداسة الحياة والمحبّة، حول مصير الأحياء والاموات في مجيء الرب، حول السهر والانتظار، حول حياة الجماعة. وكل هذا ينتهي بصلاة أخيرة يودّع بها أحبّاءه: "نعمة ربنا يسوع المسيح معكم"
أما الموضوع الأول (آ 1- 12) فعنوانه "حياة تليق بالله: القداسة والحب الاخوي". بعد المقدمة (آ 1- 2)، نتوقّف عند العفّة والزواج المسيحي (آ 3- 8)، ثم عند المحبّة الاخويّة (آ 9- 12) التي يجب أن نسير فيها على ازدياد.

1- المقدمة (4: 1- 2)
يرى القديس بولس أن التحريض هو إحدى المهمّات الرئيسية لمؤسّسيّ الكنائس. فهو يتميّز عن فرض قواعد خلقيّة أو وصايا. التحريض هو في الواقع إعلان الانجيل في استنتاجاته العمليّة والمتطلّبات المرتبطة بالايمان.
وهذه المتطلّبات ليست جديدة بالنسبة إلى التسالونيكييّن. فبولس يذكّرهم مع بعض التفاصيل بما "تسلمتم منا"، أي التقليد الذي يعتبر بولس نفسه ناقلاً له أميناً. كانت بداية فعل الشكر الأول التي أشارت إلى زمن تأسيس الجماعة، قد رسمت خطاً عامّاً للتحريض الرسوليّ الموجّه إلى تسالونيكي: "لكي تسلكوا سلوكاً يليق بالله الذي يدعوكم إلى ملكوته ومجده" (2: 12). السلوك، السير، هو تصرّف نراه من الخارج.
ونلاحظ الدافع على هذا التحريض: المستقبل الذي يحتفظ به الله للمؤمنين. فهذا المستقبل يتجذّر في السّر الفصحي، سّر موت يسوع وقيامته. ولكن بولس يستقي من هذا المستقبل، لا من الماضي، الأسباب المباشرة للمتطلبات المسيحيّة التي تصبح أموراً ملموسة في المحبّة بكل أشكالها. وبالنظر إلى هذا المستقبل، يجب أن نرضي الله اليوم: نتصرّف بالصدق والامانة، نسلك سلوكاً يحسب حساب الله ويدلّ على علاقتنا به. فالحياة المسيحيّة كلها ستستنير بهذا المستقبل، بمجيء الله الذي نرجوه وننتظره.
2- العفّة والزواج المسيحيّ (4: 3- 8)
وبعد المقدمّة يقود بولس قرّاءه في مجالات مختلفة، لكي يزدادوا أكثر فأكثر، لكي ينموا.
أ- نداء إلى القداسة (آ 2- 13)
حين ينادي الله البشر لكي يكونوا كنيسة، يكون نداؤه نداء إلى القداسة. وفي صلاتين من 1 تس، تمنّى بولس أن يقدّس الله قرّاءه. "ليثبّت هكذا قلوبكم في القداسة أمام إلهنا وأبينا" (3: 12). "ليقدّسكم إله السلام نفسه تقديساً كاملاً... بغير لوم" (5: 23).
القداسة هي صفة تميّز إله اسرائيل، وهي غريبة عن العالم الدينيّ اليونانيّ. هي تفهمنا أن الرب فريد حقاً، أنه الآخر (ليس أحد معه)، أنه المتعالي. غير أن الإله القدوس هو إله العهود: فاذا كان "القدوس" فلكي يشرك البشر في قداسته، فلكي يسلّم هذه القداسة إلى أعضاء شعبه: حينئذ يصبح اسرائيل "شعب المقدّسين" بواسطة "قدوس اسرائيل". "كونوا قديسين لأني أنا قدوس". لم يعد شعب الله شعباً كسائر الشعوب. فالاختيار فصله عنهم.
استعاد بولس بشكل طبيعيّ هذه التسمية، وطبّقها على أعضاء الكنيسة: هم قديسون أو "مدعووّن ليكونوا قدّيسين" (1 كور 1: 2). لهذا، يدرك بولس المؤمن مشيئة الله كحاملة متطلبات خاصّة جمعها في لفظة "تقديسكم": فهي التي تظهر الجماعة المسيحيّة على أنها تختلف عن سائر المجموعات الدينيّة في أيّامه. لهذا سيتحدّث بولس في مختلف تحريضاته عن "الآخرين" مشدّداً على ضرورة الاختلاف عنهم. في آ 5 لا ينقاد المؤمنون لتيّار الشهوة كالوثنيين (رج آ 12، 13؛ 5: 6).
أن يكون لهذا التقديس نتائج على مستوى الحياة الجنسيّة والعفّة أمر عاديّ، لأن القداسة تعارض النجاسة. غير ان العهد القديم لم يعد له مفهوم طقوسيّ للنجاسة على المستوى الطبيعيّ او البيولوجيّ، التي تجعل الرجل (او المرأة) نجساً فتمنعه من القيام بأعمال طقسيّة داخل أطر العبادة. فإذا عدنا إلى بعض الأنبياء، مثل حزقيال، وإلى الدستور الجديد الذي صاغه يسوع، نعرف ان موضع النجاسة (والطهارة) هو في "القلب" موضع العلاقة مع الله، أو موضع الخطيئة التي هي نكران الله.
ب- تحريض على العفّة... (آ 3- 6 آ)
يتوسّع التحريض في ثلاث نقاط وينتهي بشرح وتفسير.
أولاً: امتناع عن الزنى
تدلّ هذه الكلمة العامّة على كل الانحرافات الجنسيّة. دلّت عند اليونان على الزنى وحياة المومس. وامتدت عند اليهود حسب تقليد التوراة اليونانيّ، إلى كل أشكال الفجور والزنى.
ثانياً: الامانة في الزواج
إذ أراد بولس أن يقدّم هذه المتطلبّة الثانية، عاد إلى استعارة فُهمت بطرق مختلفة على مرّ العصور منذ عهد الآباء. "الاناء" يعني أموراً كثيرة. هو "الجسد" (ليكن كل واحد سيّداً على جسده) وذلك على أساس النظرة اليونانيّة إلى الجسد الذي هو وعاء للنفس. حينئذ نكون أمام تكرار للتوصية الأولى في تعبير أقل سلبيّة. ثم إننا لا نجد نصاً بيبلياً يماهي بين "الإناء" والجسد البشريّ الشخصي. ولكن الاستعارة عينها في عدد من النصوص الرابانيّة تدل على المرأة والزوجة. اذا قبلنا بهذا المعنى الإستعاريّ للفظة "إناء" نقرأ: امتلك امرأته الخاصة. عند ذاك نستطيع ان نقرّب هذه اللغة من لغة العهد القديم حين نتحدَّت عن الزواج. نحن نجد "اقتنى امرأة" في الترجمة السبعينية في را 4: 10؛ سي 36: 24. وفي العبريّة، "ب ع ل. ا ش ه" "يعني اتخذ امرأة"، تزوّج (مت 21: 23؛ 24: 1) أو كان له امرأة، عاش حياة زوجيّة (مت 22: 22؛ أش 34: 1). إن فعل "ب ع ل" يعني أولاً امتلك، كان سيّد، بعل. ثم اتخذ معنى "الامتلاك الجنسيّ أو المجامعة". ولم يعرف الرابانيون اليهود إلا هذا المعنى الأخير.
ففي النظرة اليهوديّة إلى الزواج، تتأسّس الحالة الزوجيّة في ثباتها، على أول علاقة جنسيّة جعلت من الرجل بعل، سيد، مالك زوجته. إذن ما ترمي إليه العبارة البيبليّة هنا، ليس فقط هذا العمل الأول في أساس الحياة الزوجيّة. فالمعنى أوسع، وهو يشمل كل الحياة المشتركة التي فيها يعيش الزوج في وضع "المالك" لزوجته: لقد اقتناها، وهذ الاقتناء يدوم. لهذا نقل المترجمون اليونان عبارة "ب ع ل. ا ش ه" ب "سكنا معا"، عاش الرجل حياة مشتركة مع امرأة حتى لو كانا في بداية الزواج (اش 62: 5).
والآن نستطيع أن نتطلّع إلى العبارة البولسيّة في ارتباطها بالتوراة مع إحلال لفظة "امرأة" محلّ لفظة "إناء". حينئذ يصبح نصّ 1 تس قريباً جداً من 1 بط 3: 7: "وكذلك أنتم الرجال، عيشوا حياة مشتركة (ساكنوا) حاسبين حساب الطبيعة الأضعف. طبيعة المرأة" (أي: الاناء). نجد هنا الاستعارة عينها والفعل ذاته: ساكن، عاش حياة مشتركة (في العهد القديم: اقتنى، امتلك).
إذن لا نستنتج بسرعة أن بولس يأمر، ينصح بالزواج. فليس من يفسّر في هذا المعنى 1 كور 7: 12 (ولكن تلافياً للفجور، لتكن لكل رجل امرأته). ففي هذا الفصل عينه ينصح بولس بالعزوبة. والتحريض في 1 تس لا يشير الى واقع الزواج بقدر ما يشير إلى طريقة عيش الزواج. لهذا نقول إن بولس يقابل هنا الحياة الزوجية المسيحيّة مع الفلتان الجنسيّ الذي عرفته كبرى المدن الهلينيّة. في هذه الحالة، لا يتضمّن التشديد على "كل واحد" وعلى "امرأته الخاصة" أمراً بالزواج، بل تلميحاً خفراً إلى الزواج الاحادي (امرأة واحد رجل واحد) وإلى الأمانة في الزواج.
وما يثبت هذه القراءة هو التعارض بين "في التقديس والاحترام" و"تيار شهوة... الوثنيّين الذين لا يعرفون الله". سيصوّر بولس مطوّلاً في روم المجتمع الوثني في أيامه، وقد كان غارقاً في كل أنواع الفوضى الجنسيّة. ولكن ينبوع كلامه ليس اختباره الشخصّي في المجتمع الرومانيّ، بل النصوص البيبليّة مثل حك 12- 14 حيث ترتبط ارتباطاً مباشراً لامعرفة الله مع اللاأخلاقية ولا سيّما على المستوى الجنسيّ (حك 13: 1؛ 14: 22، 24، 26، 31).
ونجد ذات التنديد "بالرغبة" (الشهوة) في تعليم يسوع حسب مت 5: 27- 28: "من نظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد صار زانياً"، لأن في هذه الشهوة ضرراً للمرأة نفسها. فحين تُشتهى المرأة تخسر صفتها كشخص حرّ، تصبح موضوع لذة. إن هذا النوع من "الشهوة" يجعل من المرأة شيئاً، بينما هي مخلوقة لكي تكون للرجل عوناً موافقاً له.
قد ندهش إن تكلّم بولس عن الزواج دون أن يتلفّظ بكلمة "حبّ" كما فعل في أف 5: 26- 32. ولكن لا ننسى أن بولس شدّد في 1 تس على المحبّة التي سيعود إليها في التحريض التالي. وهكذا لا يمكن أن يكون الحبّ غائباً عن الحياة الزوجيّة.
ثمّ، إن ما نجده تحت لفظة "حبّ" تتضمّنه لفظة "كرامة" مع القداسة التي تميّز الزواج المسيحي. فهذه اللفظة تدلّ على تقدير الشخص والاحترام العميق له. وهذه العاطفة، شأنها شأن المحبّة، تظهر في فعلات تدلّ على هذا التقدير والاحترام العميق. ونقرأ في أع 28: 10: "كرمونا إكراماً جزيلاً، وعند إقلاعنا زوّدونا ما نحتاج اليه". هذا يعني أنهم ساعدونا بتقادمهم، لأنهم أرادوا أن يكرّمونا. وفي 1 كور 12: 23- 24 يضمّ مثل الجسد، الاعضاء الضعيفة والحقيرة، ويؤكّد أن الله جمع العناصر المكوّنة للجسد البشريّ "فأعطى كرامة لمن تنقصه كرامة". إذن، أخذ الله وضعها بعين الاعتبار وتصرّف على أساس هذا الوضع. وفي روم 2: 1 صارت هذه "الكرامة طريقاً من طرق المحبّة". "أحبوا بعضكم بعضاً حباً أخوياً، وتباروا في الإكرام المتبادل".
ونتوقّف بشكل خاصّ عند نصّين. الأول نقرأه في 1 بط 3: 7. ففي الفقاهة القديمة تبدو "الكرامة" (كما في 1 تس) موقفاً خاصًا من الزوج تجاه زوجته: إنه يرادف اللطف والانتباه إلى الآخر. وينتهي التحريض الذي أوردناه سابقاً: "أظهروا لهن (لنسائكم) الاكرام" (أكرموهنّ). الثاني نجده في الأناجيل الإزائيّة. فسّر يسوع الوصيّة الرابعة (خر 20: 12) كرم أباك وأمك، فدلّ تفسيره على أننا لسنا أمام عاطفة احترام وحب، بل أمام عون يؤدّيه الأولاد لوالديهم: هذه الكرامة (أو الاكرام) هي عنصر ملموس للحبّ البنويّ (رج مر 7: 6 ي). وفي المشهد عينه يورد يسوع أش 29: 13: "هذا الشعب يكرّمني بشفتيه ولكن قلبه بعيد عني". ولكن بعض مخطوطات مرقس تضع محل "أكرم" فعل "أحب"، وهكذا تدلّ على تقارب بين الكرامة والمحبّة.
وبمختصر الكلام، الاكرام هو انتباه إلى الآخر يحسب حساب وضعه وحاله، ويظهر في أفعال ملموسة من العون والمساعدة. كم نحن بعيدون عن اعتبار الآخر وكأنه شيء نستغلّه، وسلعة نبيعها ونشتريها.
ثالثاً: احترام زواج الآخرين
نحن هنا أمام موقف تأويلي. والجدال يقع حول نقطتين. فالفعل "اعتدى" و"مكر" (أو استفاد) لا يشيران إلى خطايا جنسيّة. ثم إن لفظة "الأمر" التي ترجمها العالم اللاتيني "تجارة"، وجّهت التفسير نحو العدالة في التجارة (لا ليعتدي على أخيه في أمور التجارة). ولكننا نحافظ على تماسك المقطع كله: إن بولس يتكلّم للمرة الثالثة عن مسائل تتعلّق بالاخلاق الجنسيّة. واليك الاسباب:
* إن المثلّثات في 1 تس تتحرّك عادة في المجال عينه.
* المتطلّبة المسيحيّة التي نقرأها في آ 7: "لم يدعنا الله إلى النجاسة، بل إلى القداسة". إذن، من الطبيعيّ أن تكون علاقة بين هذه المتطلّبة الثالثة والنجاسة.
* لفظة "الأمر" في المفرد لا تعني أبداً أمور التجارة، ولا تنحصر في مجال الحياة التجاريّة. فقد تعني: الأمر الذي تحدّثنا عنه آنفاً: والسياق يتيح لنا أن نفهم أي أمر نعني. والحال أن الفعل الموافق لهذا الاسم (صنع، أتمّ، فعل، مارس) هو صيغة مخفّفة عن النشاط الجنسي: المرأة الزانية "تمارس" (أم 30: 20). إذن، نستطيع أن نفهم أننا في مجال الزواج والحياة الجنسيّة.
* نفهم الفعلين موضوعَي الجدال عن كل ما يسيء إلى القريب. وهذه الاساءة ليست حصراً في عالم التجارة والأعمال. فالزنى هو إساءة إلى القريب. والسياق يساعدنا على التفسير. وفعل "استفاد"، يدلّ على رذيلة الطمع (2: 8) الذي يحرّك في الإنسان رغبة في امتلاك اكثر. ولكن الخيرات التي نشتهيها، ليست كلها خيرات ماديّة من مال أو متاع. فاللفظة قريبة من الزنى في لائحة مر 7: 22 (الزنى والطمع والخبث)، من الشهوات الشريرة والفجور والنجاسة في كو 3: 5، من العهر في أف 4: 19. وهكذا نكون أمام جوع إلى اللذّة كما إلى الطمع والرغبة في امتلاك المال.
بدت لغة بولس غامضة. فهو على مستوى الجنس يتحفّظ حسب تعليمة نقرأها في أف 5: 3: "وأما الزنى والنجاسة مهما كانت، والطمع، فلا يُذكر حتى اسمها بينكم". والمقطع الوحيد الذي يغيب منه هذا التحفّظ، فنجده في روم 1 الذي قد يكون بولس وجده في مراجع سابقة.
ج- بواعث هده المتطلبات (آ 6 ب- 8)
أولاً: الربّ "المنتقم"
عرف أهل تسالونيكي هذه البواعث، لأن بولس سبق وتحدَّث عنها: "الرب هو المنتقم عن هذه الاشياء كلها كما قلنا لكم من قبل وشهدنا" (آ 6 ب). لا نجد "منتقم" في العهد الجديد إلا هنا وفي روم 13: 4 حيث لا يشير النصّ إلا الله ولا إلى المسيح بل إلى السلطات السياسيّة الخاضعة لله؛ هي تمتلك ضد المسيئين، سلطة معاقبة تستبق "الغضب"، أي حكم الله. نحن هنا أمام رَدّة فعل الرب يسوع تجاه الانحرافات. التي جرى الحديث عنها. نجد هذا اللفظة في مز 99: 8: "كنت لهم إلهاً صبوراً، ولكنك كنت تنتقم من سيّئاتهم" (كما في السبعينية). "الرب هو إله الانتقامات" (مز 94: 1).
النص الذي ندرس هو مثل ننسب فيه إلى الله أو إلى يسوع القائم من الموت، عواطف لا تتوافق مع كمالهما، ولا مع رحمتهما التي يُنشدها الكتاب في أماكن عديدة. ولذلك لا يكون التفسير معقولاً إن اعطيناهما عواطف يندّدان بها لدى المسيحييّن. إنها عبارة "عرجاء"، ولكنها تدلّ على واقع الدينونة. اولاً، على "الدينونات" التي اختبرها اسرائيل في تاريخه. فبعض الاحداث لا تفسّر إلا بالخطيئة، وقد نتجت عنها. سيصوّر بولس في روم النتائج المدمرّة للبشريّة التي رفضت أن تعبد الله ففسُد عقلها في عبادة الاوثان. ونسب هذه النتائج إلى الله الذي "أسلم" البشر إلى مسيرة الانحطاط التي دخلوا هم فيها.
هنا فاعل الجملة هو "الرب (يسوع)" وهو يوجّه نحو الدينونة الاسكاتولوجيّة، نحو الرب الذي سيكون قريباً كديّان يجازي كل واحد حسب أعماله: فيجب على كل واحد أن يظهر أمامه نقياً (3: 13؛ 5: 23). إن منظار هذه الدينونة الأخيرة يقوّي الأهمية التي يعطيها بولس لتحريضه: لا يستطيع الرب أن يغلق عينيه على سلوك سيّىء يعيشه أولئك الذين يعترفون به في الايمان. الانسان حرّ بأن يؤمن او لا يؤمن. ولكنّ إن آمن فرض عليه إيمانه متطلّبات جديدة. وسيبيّن بولس ذلك: الله سيكون متطلباً جداً مع الذين تجاوبوا مع ندائه.
ثانياً: لا النجاسة بل القداسة
"فالله لم يدعُنا لكي نظلّ في النجاسة. بل لكي نعيش في القداسة" (آ 7). نحن هنا أمام شرح. فما الذي في الكلام السابق ينال ضوءاً من هذا التذكير بأهداف نداء الله؟ لا العبارة "الله هو المنتقم عن هذه الأشياء". فهذا يصعب قبوله: لقد تحدّث بولس عن ذلك في تسالونيكي، وكفله جاعلاً كل ثقله في الميزان لكي يسمعوه في هذه النقطة (شهدنا، آ 6 ب). إذن، لماذا رأى بولس أنه من الموافق أن يعلن "انتقام" الله القريب، هو في هذه النقطة من كلامه لا يقول "أنتم"، بل "نحن" (يدعنا) فيجعل نفسه معنياً بكلماته.
دعانا الله لا "بالكلام فقط" (1: 5)، بل بموت ابنه من أجلنا. وحين نتجاوب مع هذا النداء، ندخل بسبب قيامة المسيح، في جماعة تشارك في قداسة الله. فمن عاش في النجاسة، دنّس هذه القداسة. ليس البرهان بعدُ واضحاً ومفصّلاً. ولكنه رسمة أولى عمّا في 1 كور 3: 16- 17: "أما تعلمون انكم هيكل الله وأن الروح يقيم فيكم؟ إن دمّر أحد هيكل الله، فالله يدمّره، لأن هيكل الله مقدّس وهو أنتم".
ثالثاً: الله دعانا
إن فعل دعا في آ 7 يمتلك اسمين يعبّران عن وجهتين متعارضتين. واحدة لم نُدعَ إليها، هي النجاسة، وواحدة دعينا إليها هي التقديس، القداسة. ويرتبط هذان الاسمان بالفعل بواسطة حرفيَ جرّ مختلفين؟ الأول "إبي" هو نادر مع هذا الفعل ويترجم حرفياً "على". والثاني (إن) هو كثير الاستعمال ويعني: "في".
لماذا هذه الثنائيّة؟ لسنا هنا أمام خيار بسيط وكأن التسالونيكيين كانوا قبل نداء الله في "حالة حياديّة"، وكأن الله كان أمام امكانيّة نظرية بأن يدعوهم إمّا إلى النجاسة وإمّا إلى القداسة. لقد كانوا من قبل في النجاسة، لأنهم وثنيون (روم 1: 24؛ أف 4: 19). ومهما يكن من أمر، فهم لم يخرجوا منها بعد. والتحريض الرسوليّ يحاول أن يساعدهم على ذلك. مقابل هذا، لم يكونوا في القداسة: قد يقدر الله أن يدعوهم إليها.
إذن، نوّع بولس حرفَيْ الجرّ لأن الاسمين المستعملين ليسا في الموقع عينه بالنسبة إلى فعل "دعا". اختار الأول "ابي" لأنه يدلّ على الراحة والاستمرار في حالة ما. والثاني "إن" لأنه يدلّ على وضع جديد يريد نداءُ الله أن يقيم فيه المؤمنين. لهذا جاء من اقترح: لا لنظلَّ في النجاسة، بل لنحيا (لنكون) في القداسة.
وسنجد البناء عينه في غل 5: 13: "أما أنتم فقد دُعيتم إلى (إبي) الحريّة". فالغلاطيون خسروا حريّتهم حين عادوا إلى ممارسات تستلهم الشريعة الموسويّة. الإمالة هي كما في 1 تس، ولكن بدون صيغة النفي: لقد دعاهم الله لكي يظلّوا في الحريّة... لا ليسقطوا من جديد في العبوديّة.
د- الخاتمة (آ 8)
"إذن، فالذي يرذل (يرفض، يحتقر) هذه (التحريضات، الوصايا)، لا يرذل انساناً، بل يرذل الله نفسه الذي أحلّ روحه القدوّس فيكم".
ما زلنا على مستوى الخطورة، بل التهديد. صار بولس هنا صدى لكلمة من كلمات يسوع وردت في شكل مختلف بعض الشيء في لو 10: 16: "من سمع منكم سمِع مني، ومن رفضكم رفضني، ومن رفضني رفض الذي أرسلني". وقد احتفظت الأناجيل بعدّة اقوال من هذا النوع، وقد سمّاها الشرّاح "أقوالاً رسوليّة" لأنها تعدّد سلسلة من العلاقات الآتية من الله إلى البشر، ومن البشر إلى الله؟ كيف يستطيع البشر أن يدخلوا في علاقة مع الله؟ حين يستقبلون مرسلي يسوع. فهم يمثّلون يسوع الذي هو مرسل الله. والمسيرة التي تؤول بالانسان إلى الانفصال عن الله هي هي: من رذل مرسل المسيح رفض المسيح، وبالتالي الله نفسه.
في النصّ الذي ندرس، لم تُذكر وساطة يسوع، إلا إذا احتفظنا بفكرة "الله هو المنتقم" (آ 6). وبولس لا يسمّي نفسه بشكل مباشر، لكن كلامه يتضمّن شخصه كمرسل للمسيح حين يقول: فالذي يرذله، لا يرذل انساناً "من الناس".
وهذا الرذل خطير جداً، لأن الله هو إله العهد. والنهاية "الله الذي أحلّ (أعطى) روحه القدوس فينا" هي استعادة لنبوءة حزقيال حول العهد الجديد، لا سيّما 37: 14: "أجعل (أعطي) روحي في داخلكم فتحيون". ثم إن التشديد على التقديس، جعله يذكر روح الله الذي هو أداة كل تقديس. فالعهد الجديد الذي أنبأ به إرميا، كما أنبأ به حزقيال، كان هدفه الأساسي تجدّد قداسة اسرائيل بتنقيته من نجاساته.
نورد حز 36: 25- 27 مع الإشارة إلى الكلمات المشتركة بين حز و1 تس.
"أبيِّن قداسة اسمي العظيم... حين أبيّن قداستي فيكم. أرشّ عليكم ماءً طاهراً فتكونون أطهاراً. أطهّركم من كل نجاستكم وكل أصنامكم... أجعل فيكم روحاً جديداً... أحلّ فيكم روحي وأجعلكم تسيرون بحسب وصاياي".
لم يُعط الروح للجماعة كجماعة، بل لكلّ من اعضائها (في داخلكم). وهذا ما يفرض سلوكاً موافقاً للانتماء إلى شعب العهد. أعاد بولس قراءة حزقيال على ضوء موت المسيح وقيامته: لقد أقيم العهد الجديد وأعطي روح الله الموعود حتى للذين لا ينتمون إلى نسل ابراهيم بحسب الجسد. فهذا العهد هو أساس آخر لمتطلبات القداسة التي تحدّث عنها بولس الرسول.

3- المحبّة الاخويّة (4: 9- 12)
بدأ بولس فأعلن بأن لا حاجة إلى معالجة هذه المسألة. ومع دلك فهو سيعالجها. من جهة يعيش قرّاؤه حقاً هذه المحبّة التي دفعته إلى فعل الشكر وسببّت له الفرح (1: 3؛ 3: 6- 9). وحسب نبوءة أشعيا (34: 12) حول إعادة بناء أورشليم، عروس الرب، كل أبنائها سيكونون "معلمين" بفم الرب. وحسب نبوءة إرميا (31: 34) حول العهد الجديد (لا يعلّمون بعضهم بعضاً كاخوة)، لقد تعلّم التسالونيكيون من الله المحبّة الاخويّة، ودلّوا عليها داخل جماعتهم (يحبّ بعضكم بعضاً) كما تجاه سائر الجماعات المسيحيّة (نحو جميع الاخوة الذين في مكدونية كلها). ومن جهة ثانية، يبقى لهم أن ينموا، أن يزدادوا. جاء المثلّث: تكونون (تعيشون) في سكينة. يعمل كل واحد ما يعنيه (يعمل عمله الخاص دون أن يتدخّل في أمور الآخرين). تشتغلون بأيديكم.
ما هو الوضع الملموس الذي يريد هذا التحريض أن يؤدّيه؟ هناك فرضيّات عديدة. ولكن أكثرها انتشاراً يفترض بلبلة ولدّها يقين اقتراب مجيء الربّ. هذه الفرضيّة تستند إلى 2 تس 3: 6- 12 لا إلى 1 تس.
مثل هذا التفسير لا يناله ملء الرضى. لماذا يولّد اقتراب المجيء التوقّف عن العمل؟ فالذين ينتمون إلى بعض الشيع ويعلنون اقتراب نهاية العالم، لا يستخلصون هذه النتيجة. ونجد أناساً اقتربوا من الموت فضاعفوا عملهم. بل نحن بالأحرى أمام سلوك اعتاد بولس أن يوصيّ به، لأنه يقول: "كما أوصيناكم" (آ 11). لمادا؟ لأن العمل في هذا المحيط الاجتماعي والثقافيّ كان محفوظاً "للعبيد" (للخدم). أدرك بولس لاعدالة تنظيم العمل. لم يقم بحملة في هذا المعنى تقود إلى الثورة، والمسيحيّون في بدايتهم لا يستطيعون أن يأخذوا مثل هذه المواقف. ولكنه، وإن لم يقدّم نظريّة محدّدة، إلاّ أنه أراد في داخل الجماعات المسيحيّة أن يبدأ الايمان عمله فيولّد تحوّلاً في العلائق الاجتماعيّة. والعمل هو إحدى الاماكن المميّزة للتعبير عن هذه العلائق.
كان بعض المسيحييّن من تسالونيكي من طبقة التجّار او ملاّكي الأراضي. وما كانوا يحتاجون الى العمل بأيديهم لكي يعيشوا. فالذين يخدمونهم عديدون. ولهذا كانوا يعيشون في بطالة مضطربة. فطلب إليهم بولس أولاً أن "يكونوا في سكينة" (آ 11 إهدأوا). فالهدوء لدى اليهود يساعد على علاقات حسنة مع الآخرين، كما على التأمّل والفكر. والوسيلة السميا للحصول على هذا الهدوء، هذا السلام، هو القيام بعمل ما ولا سيّما بعمل يدويّ، مع أن مثل هذا العمل لم يكن موضوع تقدير لدى الفئة المرتاحة من الناس.
وطريقة الحياة هذه ستكون شهادة لغير المسيحييّن (آ 12). وتعطي "استقلاليّة" أحبّها الرواقيون، تعطي هذه الحرية التي تجعل الانسان يرفض أن يكون بإمرة الآخرين من أجل حاجات الحياة الأولى. وهكذا "لا تكون بكم حاجة إلى أحد". نحن لسنا أمام اكتفاء يحتقر ما يستطيع الآخرون أن يحملوه إليّ (وأنا أحمله إليهم) في كل المجالات، ولا أمام نكران تكامل الخدم في المجتمع، بل نحن أمام ظلم (لا عدالة) يجب أن نزيله. يجب أن لا نعيش على حساب الآخرين.
ويبقى أن هذا التحريض إلى العمل يرتبط بالمحبّة الأخويّة. وهذا ما يُدهش أولئك الذين يضعون حاجزاً مانعاً بين مجالات العدالة ومجالات المحبّة. هنا يتكلّم بولس باسم خبرته الشخصيّة في العمل اليدوي. فقد شدّد في 2: 9 على أن عمله اليدويّ في تسالونيكي كان اظهاراً لحبّه تجاه أهل تسالونيكي.

خاتمة
في الكنيسة الأولى، الرب هو القائم من الموت والعائش في الكنيسة. وهو المسيح التاريخي كما كان خلال حياته على الارض. والتوصيات التي يقدّمها بولس من قِبل الرب يسوع (بواسطة الرب يسوع، بفم الرب)، قد تتأسّس على مثال قدّمه لنا في حياته ونحن نقرأه في انجيله، كما تتأسس على مواقف يُلهمها روحه العائش في الرسل كما في الجماعات. في هذا المناخ نستمع إلى تحريض بولس حول الزنى والزواج، حول النجاسة والقداسة، حول العمل بأيدينا والامتناع عن التدخل في أمور الآخرين من اجل البلبلة. وهكذا يكون سلوكنا شهادة أمام الذين من الخارج، أي الوثنيين، فنمجد الآب الذي في السماء.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM