الفصل التاسع: توصيات من اجل الحياة المسيحية

الفصل التاسع
توصيات من اجل الحياة المسيحية
ف 4

مع ف 4 يبدأ القسم الارشادي في الرسالة. إذا كان بولس قد اطمأن للأخبار التي حملها إليه تيموتاوس من تسالونيكي (3: 6 ي)، فهو يرغب رغبة حارة في أن ينضمّ الى اخوته في عاصمة مكدونية الكبرى. هو يفرح بأن يراهم، ويتوخّى أن يُتمّ ما هو ناقص في ايمانهم (3: 10) ولكنّه لا ينتظر هذا الوقت الذي فيه يراهم من جديد، وهو يجهل متى يكون، لينقل إلى الكنيسة المسيحيّة تحريضاته وتوصياته الملحّة. لهذا، سيكرّس لهم القسم الثاني من رسالته (4: 1- 5). والتوسعّات التي تلي تستلهم ما يعرفه عن الحالة الاخلاقية والروحيّة في كنيسة تسالونيكي. كيف يعرف ذلك؟ بواسطة تيموتاوس، وبواسطة رسالة بعث بها المسؤولون التسالونيكيون الذين طلبوا منه تعليمات تردّ على اسئلة تتعلّق بالكنيسة وتبلبلها.

1- نسألكم ان تزدادوا (4: 1- 2)
نجد هنا فعلين. "اروتومن" "نسألكم". "باراكالون" "نحرّضكم". أراد بولس أن يدلّ على أن التعاليم التي يمليها، ترتبط بتلك التي تلقّاها التسالونيكيون شفهياً، وقد بدأوا يعملون بها. أما موضوع تحريضه: أن تنموا بازدياد: تسلكون وترضون الله. يدلّ الرسول على لطافة في كلامه وثقة في ما يطلب. فيسأل التسالونيكييّن أن يتقدّموا في طريق رسمها لهم. وهي الوحيدة التي يستطيعون أن يسيروا عليها لكي يرضوا الله. بل قد بدأوا يسيرون كما يعترفون بذلك.
ويعود بولس إلى هذه التعليمات (آ 2) "بارانجاليا": نقل أمر اليوم. كلمة نادرة في التوراة اليونانية، وهي تعني الأمر، التعليمة، الوصيّة. إن فعل "كالوين" "أمر" يستعمل إذا اردنا أن نشدّد على مضمون الأمر. اما "بارنجالين" فيشير الى الطابع الشخصي للأمر الذي يفرض نفسه على الذي يتوجّه إليه. وإن "بارانجالين" "في الجمع" يدّل على وصايا ارتدت سلطة الربّ. ولهذا نقرأ "في الرب يسوع"
هذه التعليمات قد اعطاها بولس يوم كان بولس بين التسالونيكييّن، وهي ما زالت حاضرة أمامهم. ولكننا لسنا معها على مستوى الحكمة (او الخلقّية) البشريّة. فبولس يحرّض التسالونيكيين "في الرب يسوع" أي في الايمان والطاعة لهذا الرب الذي يقرّون بسلطانه مثل ما يفعل رسولهم.


2- قداسة تنفي النجاسة (4: 3- 8)
إن الأداة "غار" (إنكم) تدل على أن بولس يعود إلى التعليمات التي عرفها أهل تسالونيكي، لأنهم سمعوها من فم بولس. هذه ارادة (تاليما) الله. بدون أل التعريف. فإرادة الله ليست كلها في التعليمة التالية. نقرأ "اغياسموس" التقديس، فعل التقديس. تتميز الكلمة عن "اغيوسيني" القداسة (2: 13). نادراً ما نجد "اغياسموس" في السبعينية وهي تعني "التقديس" (قض 17: 3) والقداسة (سي 7: 20: مك 2: 18) ولا سيّما في شعائر العبادة.
لقد كشف لنا الله هذه المشيئة في يسوع المسيح الذي هو تقديسنا (1 كور 1: 30). الله قدّسنا في يسوع المسيح وجعل منّا قدّيسين (1 كور 1: 2) بهذا، نستطيع أن نتقدّس فنحيا كأناس يخصّون الله. ويذكّر الرسول بقوّة اخوته في تسالونيكي، بما يتضمّن هذا التقديس على مستوى العلاقات الجنسيّة. نقرأ هنا "بورنايا" اي الفلتان الجنسي.
وقابل بولس الفلتان الجنسي مع الزواج الاحاديّ: ليكن لكل واحد امرأته. نحن هنا امام متطلبّة ثوريّة. تكون له امرأته وتكون معه دائماً. هذا يفترض زواجاً في القداسة، أي دون ان يمسّ تكرّسنا للربّ. ومراعاة هذه المتطلبة يفرض اختيار امرأة مسيحيّة او مستعدّة لأن تكون كذلك. في هذا المجال كانت الصعوبات في تسالونيكي كما في كلّ مكان. طلب اغناطيوس الانطاكي ان يُعقد الزواج برضى الاسقف فيكون الزواج حسب الرب، لا حسب الشهوة.
إذا كان على كل مسيّحي ان يتّخذ له امرأة في الربّ، فلكي يتجنّب الاساءة الى أخيه (أ 6). هذا ما يفهمنا أن مسيحيّي تسالونيكي الذين ما زالوا يعيشون حياة وثنيّة، كانوا يتجاوزون بسهولة حقوق إخوتهم. وهكذا وضع بولس المؤمنين الذين فسد حكمهم الاخلاقيّ، أمام هذه المتطلبّة الخطيرة. نقرأ في هذه الآية "اكديكوس" المنتقم. ترد مراراً في السبعينية وفي العهد الجديد في روم 13: 4 وهنا.
ويبرّر بولس هذا التحريض الذي قد سمعه التسالينيكيّون من فمه (آ 7): "لم يدعُنا الله الى النجاسة، بل إلى القداسة". متى دعانا الله؟ حين سمعنا الكرازة وتأثّرنا بعمل الروح الخفيّ، أعطانا الله الايمان. وهدف هذا النداء هو الله نفسه، نعمته، ملكه، خلاصه في يسوع المسيح. حين تحدّث بولس عن الهدف الأخير لنداء الله، استعمل الحرف "ايس" (إلى) (1 كور 1: 9: 1 تس 2: 12: 1 تس 2: 14: كو 3: 15: 1 تم 6: 12). اما بعبارة "كالاين إن" (دعاني)، فيشدّد بولس على الوضع الذي فيه وجد نداء الله المؤمن (1 كور 6: 7، 2). او على الوضع الذي فيه يقع المؤمن (1 كور 6: 7، 2). نقرأ في كو 3: 15 دمجاً بين الحرفين: "وليسُد في قلوبكم سلام المسيح الذي إليه (ايس) دُعيتم في (إن) جسد واحد". وحين يقول بولس "الله دعانا في التقديس" فهو لا يعني فقط أنه دعانا إلى التقديس بل دعانا فقدّسنا في ندائه.
واستخلص بولس النتيجة الأخيرة (آ 8) من تعليمات حاول ان يقدّمها على أنها تعبير عن مشيئة الله (آ 4، 6 ب، 7). فمن رذلها رذل الله نفسه.

3- من اجل حياة مسيحيّة تكون قدوة (4: 9- 12)
"أما في ما يتعلّق بالمحبة الأخوية" "باري دي". إستعمل بولس هذا التعبير في 1 كور 7: 1؛ 8: 1؛ 12: 1 ليبدأ أجوبته على أسئلة الكورنثيين. هل كتب التسالونيكيون إلى الرسل؟ الأمر ممكن. "فيلدلفيا" الحب الأخويّ. استعمل اليونان هذه اللفظة في المعنى الحرفي. اما الأدب المسيحي فاستعملها في المعنى الرمزي. "تيوديدكتوي": تعلّمتم من لله. أما النداء إلى ازدياد فهو على مستوى المحبّة.
أراد بولس من التسالونيكيين أن يطيعوه، وهكذا يحصلون على نتيجتين هامتين (آ 12). اولاً، يحيون بشكل لائق في نظر الذين هم في الخارج، في نظر الوثنيين، في نظر اللامؤمنين. (اكسو، رج 1 كور 5: 12- 12؛ كو 4: 5). أيكون حكم هؤلاء الناس قاعدة لحياة المسيحيين؟ كلا. فهذا ما يعرفه الرسول وهو ما زال يحثّ المرتدين الجدد على أن يحيوا حياة تليق بالله (2: 12). ولكنه متيقّن ايضاً أن الحياة المسيحيّة التي نجد قاعدتها في إرادة الله، في المحبّة، تحاول أن ترضي أفضل متطلّبات أخلاق العالم، ولكنها تتجاوزها وتتمّها. ومن الضروري جداً أن لا يكون الذين من الخارج بعيدين عن الانجيل والكنيسة بسبب أخطاء المسيحيين وسلوكهم الذي لا يتوافق مع إيمانهم.

4- موت المؤمنين على ضوء الرجاء (4: 12- 18)
"لا نريد أيها الاخوة أن تجهلوا" (آ 12). ندهش حين نسمع بولس يعالج موضوعاً جديداً. رج 1 كور 11: 3: "أريد أن تعلموا". رج كو 2: 1؛ فل 1: 12. كلها تعابير بها ينبّه بولس قرّاءه إلى أهميّة ما سيقدّمه من تعليم (رج روم 1: 12: "لا أريد أن تجهلوا" 11: 25؛ 1 كور 10: 1؛ 12: 1؛ 2 كور 1: 8). يبدو ان بولس يعارض هذا التعليم الجديد الذي يراه ضرورياً لإخوته في تسالونيكي مع رفضه بأن يكتب حول الحبّ الاخويّ (آ 9). ويبدو أيضاً أن الرسالة التي جاءت من تسالونيكي، أشارت الى القلق الذي اثاره موت بعض المسيحييّن وطلبت إليه تهدئته. كانوا يتساءلون باضطراب حول مصير الموتى. هل سيكونون غائبين في مجيء الرب المجيد؟ هل يكونون أقلّ حظاً من المؤمنين الذين ظلّوا احياء؟ ومن يتأكّد أنه لن يموت قبل يوم الرب؟ لهذا، وجب عليه تبديد هذا اللايقين المؤلم حول الذين رقدوا.
"لئلا تحزنوا كغيركم". هل أراد بولس أن لا يحزن المسيحيّون بسبب موت اخوتهم، وهكذا يتميّزون عن اللامؤمنين؟ أو هل يستطيع المسيحيّون أن يحدوّا على أمواتهم ولكن بطريقة تغاير طريقة الوثنيين الذين لا رجاء لهم. لم يعارض الرسول يوماً شرعيّة الحزن (روم 12: 15؛ 1 كور 12: 26). فحزنُ المسيحيّ أمام الموت له صفة خاصة. فالموت يجد نوراً في الرجاء والعزاء الموعود به. يختلف عن موت الآخرين الذين لا رجاء لهم. وبما أنه لا رجاء إلاّ في يسوع المسيح، كما يقول بولس (1: 3؛ 1 كور 15: 19)، فالذين لا رجاء لهم هم الوثنيّون. فهل ترك بولس التسالونيكيين بلا رجاء أمام الموت ليضحي موت بعضٍ منهم سبب قلق واضطراب؟ كلا. فقد انتظروا مجيء ربهم الذي يضمّهم إلى مجده (3:1، 10؛ 2: 19- 20؛ 3: 13). ولكن بسبب هذا الرجاء هم يحزنون على موت إخوتهم الذين قد لا يكونون حاضرين حين يأتي الربّ. فحاول بولس أن يبيّن أن رجاءهم في ربنا يسوع المسيح يحافظ على قيمته بالنسبة إلى المؤمنين الأموات وإلى المؤمنين الأحياء. وإن المؤمنين الاموات ينضمّون إلى الأحياء لكي يستقبلوا الرب في مجده ويشاركوه في ملكه.
"فإذا كنا نؤمن ان يسوع مات ثم قام" (آ 14). أسّس بولس برهانه على يقين إيمانيّ يشاركه فيه التسالونيكيّون. وهو يتحدّث عن يسوع، لا عن المسيح (1 كور 15: 3 ي)، ولا عن الرب (روم 10: 9)، ولا عن ابن الله (روم 1: 3؛ قض 1: 1). لا شك في أن يسوع هو موضوع إيمان، لأنه المسيح والرب وابن الله. غير أن الرسول أحبّ هنا أن يذكّر التسالونيكيين أنهم يؤمنون بموت يسوع وقيامته وهو انسان بدأت فيه قيامةُ الموتى وكان عربونها (1 كور 15: 20 ي). إذن، تحدّث بولس إلى التسالونيكيين عن قيامة الموتى التي لا تنفصل عنها قيامة يسوع. ولكنه لم يعلّمهم عن امتياز المؤمنين بأن يقوموا قبل الآخرين حين يجيء الرب.
"لئن كنا نؤمن... كذلك". إنطلق فكر بولس في قفزة كبيرة نحو الواقع المهمّ: الله السيّد السامي على التاريخ، منفّذ المخطط الفدائي الذي يشكّل موتُ يسوع وقيامته العمل الحاسم. هو يتمّ ما بدأ به. "يحمل" مع يسوع في مجيئه المجيد أولئك الذين رقدوا. هذا الواقع هو الذي يبدّد كل قلق وحزن لدى التسالونيكيين بسبب موتاهم.
نجد فعل "اكساي"، يحضر في يوم المجيء القريب. رج 1 كور 4: 14: يحضرنا الله معكم. كما نجد "ديا تو ياسو" بواسطة يسوع. "سين كرستو" مع يسوع تدل على علاقات مستيكية. ان كرستو "في المسيح".
"وانا نعلن لكم" (غار). هذا ما يدلّ على أن بولس يبرّر تأكيد أ 14 ب الذي بدا جريئاً. وهذا هو قول الربّ. استند اليه بولس ليجعلهم يطمئنون إلى ما سيقول. وقول الرب هذا يعطي كل ثقله للتعليم الذي يلي. ماذا تقول هذه الكلمة؟ نحن الأحياء، نحن الذين سنبقى أحياء، لن نسبق بالتأكيد (لا يمكن اطلاقاً. نجد هنا نافيتين: او، مي) الذين رقدوا. "هوتا": أنّ. أداة تعلن، تبدأ ما سيقوله بولس عائداً إلى قول الربّ. تلك كانت حرارة انتظار الربّ بحيث عبرّ بولس عن فكرته وكأن اخوته في تسالونيكي سيكونون بعد أحياء حين يأتي الرب. وقد انطلق بعضهم من هذه الجملة ليشدّد على نسبة الرسالة حقاً إلى بولس: فلو كتب شخص باسم بولس بعد موت بولس، لما استطاع أن ينسب إليه كلمة يكذّبها الحدث. ولكن يجب أن لا نعزل هذه العبارة عن مجمل النصوص البولسيّة لئلا نشوّهها. فإذ قال بولس ما قال، فهو لا يعتبر أن الله لا يقدر أن يطلب منه كل يوم ذبيحة حياته (1 كور 15: 30- 31؛ 2 كور 1: 8- 9؛ فل 2: 17). ثم إن بولس لا يتكلّم هنا فقط عن المؤمنين الذين ماتوا ساعة يكتب، بل عن الذين يكونون قد ماتوا ساعة يجيء الرب.
ولكن يبقى التأكيد الجديد الذي يضع حداً لجهل التسالونيكييّن. وهو أننا لا نسبق الراقدين. ولكن كيف يكون المؤمنون الموتى على قدم المساواة مع الأحياء حين يجيء الرب؟ هذا ما سيقوله بولس في آ 16- 17.
"هوتي" لأن (آ 16). هي سببيّة. تعطي السبب الذي لأجله يؤكّد بولس أن المؤمنين الذين يظلوّن أحياء حتى يجيء الرب، لا يسبقون الموتى. فالرب بنفسه (اوتوس) ينزل من السماء. فكما رُفع يسوع القائم من الموت إلى السماء (أع 1: 9- 11) حيث يجلس عن يمين الله (روم 8: 34: أف 1: 20...)، كذلك سينزل من السماء في يوم مجيئه فيجعل جميع الخلائق تقرّ بملكه (1 كور 15: 24 ي). نجد هنا ثلاث عبارات: إصدار الامر، صوت رئيس الملائكة، هتاف بوق الله. قد تكون العبارتان الثانية والثالثة توضيحاً للأولى. ولكن ما هو المعنى؟ قد يكون زمنياً: حين ينطلق الأمر، حين ينفخ في البوق ولكن يجب أن نلاحظ أن مجيء الرب يهمّ بولس بقدر ما ترتبط به قيامة المؤمنين. إذن هذه العبارات الثلاث تدل على ما يرافق نزول الرب من السماء وقيامة المؤمنين.
نجد "كالوسما" (الامر). هو فريد في العهد الجديد. ويعني أيضاً الصيحة والعلامة والوصيّة. هذا الامر يتوجّه إلى الموت في المسيح. هي الكلمة القديرة التي تقيمهم. ونجد أيضاً "رئيس الملائكة" (ارخانغالوس). نجد هذه اللفظة هنا وفي يهو 9 مع اسم ميخائيل. رج دا 10: 13؛ 12: 1: ميخائيل هو احد الرؤساء (ارخونتون)، هو الملاك العظيم (انغالوس ميغاس). اختلفت أسفار العهد الجديد عن الأسفار المنحولة في العالم اليهوديّ، فلم تهتمّ بمراتب الملائكة. ويأتي البوق (سلبيكس) الذي هو أحد عناصر تصوير التيوفانيات في العهد القديم: مز 47: 6؛ صف 1: 16؛ زك 9: 14؛ أش: 18: 3. ونتذكّر بشكل خاص التيوفانيا الكبرى في سيناء (خر 19: 16، 19؛ 20: 18). هناك من يشدّد على أهميّة نصّ سفر الخروج فيقول: إن دور البوق في تصوير مجيء الرب يرتبط بدوره في تصوير ظهور الرب في ميناء. يُذكر البوق ايضاً في مت 24: 13؛ 1 كور 15: 52.
رسم بولس في بعض الخطوة تحقيق الرجاء الذي أشير إليه في آ 14 ب والذي بدأ بقيامة المؤمنين الموتى (آ 16). وقال في آ 17: ثم نحن الاحياء الباقين لن يكون فرقٌ بين وضع الأموات وإخوتهم الذين ظلّوا على قيد الحياة. سيجتمعون من جديد، ويكون لجميعهم مصير واحد. فالعبارة "هاما سين" (واحد مع، جميعاً مع)، تعلن أن لا شيء بعدُ يفصل في يوم المجيء المؤمنين الأحياء عن اخوتهم الموتى. هذا يعني أن الذين ظلّوا أحياء، قد تحوّلوا. لبسوا جداً ممجّداً كالقائمين من الموت، كالمسيح نفسه في صعوده (أع 1: 9). يُحملون كلهم في الغمام الذي يدلّ على عمل الله ويخفيه معاً. فالغمام ايضاً هو عنصر تصوير التيوفانيا (خر 19: 9، 13، 16) ولا سيّما في سيناء. الغمام هو علامة حضور الله وعمله وليس فقط مركبة الله (مر 13: 26؛ مت 24: 30). والهدف من خطف المؤمنين: "ليلاقوا الربّ في الهواء".
ان لفظة "ابانتيسيس" (لقاء) استعملت كثيراً في العالم الهلنستي: حين يقترب ملك (او شخصيّة عظيمة) من المدينة (هذا هو مجيئه، باروسيا، في المعنى الهليني. هذا ما يصوّره يوحنا الذهبي الفم للمؤمنين في أيامه في عظته الثامنة عن 1 تس)، يخرج السكّان كلهم للقائه ومواكبته في دخوله الى المدينة (هذا ما فعل المؤمنون يوم وصل بولس الى رومة، أع 28: 15). ونجد ابانتيسيس في السبعينية، ولا سيّما في تيوفانيّة سيناء العظيمة (خر 19: 10- 18) حيث نجد ذات العناصر التصويريّة التي في نصّ 1 تس. ويُقال أيضاً أن موسى أخرج الشعب خارج المخيّم للقاء الله (آ 17). ويلتقي الفكر الهلنستي والفكر البيبلي مع التقليد الجلياني، فيصبح لقاء المسيحييّن للرب النازل من السماء صورة في نهاية الأزمنة عن استقبال بني اسرائيل لالههم حين نزوله على جبل سيناء.
أين يحصل اللقاء بين الربّ واخصّائه؟ في الهواء. بين السماء من حيث ينزل الرب (آ 61) والأرض من حيث يُخطف الأحياء في السحب. حسب نظرة الأقدمين، كان مجال الهواء، يمتدّ من الأرض الى القمر. بعد ذلك يأتي الاثير. لا ننسى أن السماء هي موطن الله. الأرض موطن الاحياء، والشيول موطن الاموات. أما اليوم فنقول إن الله هو في كل مكان، بل إن السماء ليست مكاناً بلى هي حالة من السعادة تتجاوز المكان والزمان.
"وهكذا نكون مع الرب على الدوام" (آ 17 ب). "هوتوس"، هكذا في الظروف التي صوّرناها الآن. "بنتوتي" في كل وقت، على الدوام. فالمؤمنون لن يُفصلوا بعدُ عن الرب، كما قد يكونون إن ظلوا في جسدهم اللحمي (1 كور 5: 6؛ فل 1: 24) أو إن ماتوا (آ 16). أن نكون على الدوام مع الرب، هذا هو الهدف لمصير المسيحيين. عبارة موجزة وبعيدة كل البعد عن تصوير عالم الجليان اليهودي.
"سين كيريو ايناي": نكون مع الربّ، أي نعيش معه على الدوام، في اتحاد روحي حميم معه. نجد اختلافة في المخطوط الفاتيكاني: "ان كيريو"، في الرب. هذا ما يدلّ على اتحاد وثيق شبيه بما قاله يسوع: "انتم فيّ وانا فيكم".
إن عبارة "نكون مع المسيح" هي عبارة اسكاتولوجيّة حين ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بمجيء المسيح المجيد وبالأحداث التي تلي هذا المجيء. هكذا يشارك المؤمن في مجيء الرب، في ملكوته، في مجده. إن مشاركة التلاميذ (أو المؤمنين) في مُلك الله ومجده، أمر معروف في العهد الجديد. نقرأ في مت 13: 43: "يضيء الصديقون كالشمس في ملكوت أبيهم". وفي 25: 34: "تعالوا يا مباركي ابي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ إنشاء العالم". وفي رؤ 5: 10: "جعلتهم لالهنا ملكوتاً وكهنة، وسيملكون على الارض". وفي 22: 5: "الرب الاله ينير عليهم ويملكون إلى دهر الدهور". رج روم 5: 17؛ 8: 17؛ 1 كور 4: 8؛ 15: 23- 28؛ 2 تم 2: 12.
"فعزّوا اذن بعضكم بعضاً بهذا الكلام" (آ 18). اعتبر بولس أنه وصل إلى هدفه (آ 13)، فدعا أهل تسالونيكي أن يعزّوا، يشجّعوا بعضهم بعضاً بهذه الكلمات التي تضع حداً لجهلهم وتنقل لهم تأكيداً بأن اخوتهم الراقدين سيكونون في مجيئه، سيقومون فيشاركون الأحياء في ملكه. فالايمان ما زال حياً والمحبّة حقيقيّة، وحياة الكنيسة حارة. وهكذا سلّم بولس الى الاخوة مهمّة تعزية الاخوة.

خاتمة
نود ان نختم هذا الفصل مع توسّع حول "قول الرب" كما ورد في 4: 15- 17. ما هي طبيعة قول الرب التي يعود اليها بولس في آ 15؟
يرد قول الرب "لوغو كيريو" في 1 مل 20: 25 (حسب السبعينية) بمناسبة وحي كُشف لنبيّ: إذ استند إلى وحي الرب. رج سي 48: 3. وإذ ارتكز بولس على "قول الرب"، استطاع أن يؤكّد أن المؤمنين الأحياء ساعة المجيء لا يسبقون اخوتهم الموتى (آ 15). إذن يجب أن يقرأ هذا القول في آ 16- 17 (هوتي: لأن). للوهلة الأولى، يعود التعبير إلى بولس، لأننا نجد في آ 16 "ان كرستو" (في المسيح)، وهذه عبارة خاصة ببولس. وفي آ 17 ترد الافعال في صيغة المتكلم الجمع بينما الواقع المعلن (وهو: اختطاف المؤمنين الاحياء مع المؤمنين الذين قاموا للقاء الرب واجتماعهم به على الدوام) ينتمي إلى الكلمة المذكورة. فإذا توقّفنا عند مضمونها، فطابعها الاسكاتولوجي (والجلياني) واضح. وإذا قلنا إننا أمام قول المسيح، فهي تعني ابن الانسان ومجيئه المجيد عل سحاب الماء. ونحن نجد مثل هذه الأقوال في الأناجيل: "إن ابن البشر سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته القديسين" (مت 16: 27). "يشاهدون ابن البشر آتياً على سحاب السماء في كثير من القدرة والمجد" (مت 24: 30؛ رج 26: 64). ولكن هذه الأقوال الانجيلية لا تربط قيامة المؤمنين بالمجيء، من أجل تعزية التسالونيكيين.
هناك علاقة اكيدة بين 1 تس 4: 16 و1 كور 15: 52 على مستوى المعنى كما على مستوى المبنى. ففي كليهما نجد "بوق الله" الذي يعطي إشارة بقيامة الموتى في المسيح وتحوّل المؤمنين الذين ما زالوا احياء. ولكن 1 كور 15: 11 هي مضمون حكمة يحتفظ بها الرسول للمسيحيين "الكمّال" (1 كور 2: 6) وموضوعها مجد المسيح (آ 7) أي كمال مصيرهم الأخير. وهذه الأسرار قد أوحى بها الروح (آ 10). ويرى بولس علاقة حميمة بين الروح والربّ (1 كور 3: 17؛ روم 8: 9- 10) بحيث صار "قول الرب" هو "السر" (1 كور 15: 52). وهكذا يكون قول الرب وحياً من الروح ناله بولس وهو يبحث عن جواب على سؤال التسالونيكيين.
هذه نظرة يسوع. وهناك نظرة أخرى تعتبر أننا هنا حقاً أمام قول الرب عبَّر عنه بولس بطريقته. يسوع قد أعلن أن بعض تلاميذه سيقاسون الموت (مر 8: 34، 35: 10: 39؛ 13: 12- 13؛ مت 10: 28؛ 24: 9؛ يو 16: 2). وهكذا قدّم حواباً على السؤال: لن يكون حظ هؤلاء الشهداء أقل من حظّ الذين سيظلوّن أحياء في المجيء. سيكونون رفاق المسيح فيذهبون إلى لقائه ليكونوا في موكبه المهيب.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM