الفصل الرابع: ايمان ينتشر كالعدوى

 

الفصل الرابع
ايمان ينتشر كالعدوى
1: 6- 10

مع 1 تس بدأ العهد الجديد. ويتخيّل كتّاب سيرة بولس كيف أن الرسول بعث بتلميذه تيموتاوس إلى كورنتوس ليشتري الحبر وورق البرديّ ليكتب هذا "العهد الجديد" الذي كانت أولى صفحاته (لا كما هي في الكتاب، بل تاريخياً) رسالة دوّنت لتلبّي حاجة حاضرة في مشغل أكيلا البسيط. هذه الرسالة التي دوّنت سنة 51 هي أول ما وصل إلينا من كتابة في العهد الجديد.
رسالة تعرّفنا إلى كنيسة تسالونيكي الفتيّة، كما تُلقي ضوءاً على فكر بولس الرسول في صفحات مليئة بالعاطفة الجيّاشة: هنا ينقل إلينا بولس عرضاً عن الحياة المسيحيّة كما تسلّمه هو. هذه الحياة تبدو مرصّعة في مخطّط حد الله الذي اختارنا، اصطفانا بابنه، وأحياناً بروحه. هي حياة ديناميكية، تنتظر كلُّها مجيء الربّ الأخير. 1 تس هي رسالة تدخلنا إلى قلب بولس، خادم الانجيل.
بعد العنوان (1: 1) يبدأ بولس فعل شكر يتوقّف في المعنى الحصري عند آ 10. ولكنه في الواقع يمتدّ حتى 3: 13 فيعطي لوناً خاصاً لهذه الرسالة التي تصبح في معظمها فعل شكر لما رآه بولس من عمل كلمة الله القديرة في هؤلاء المسيحيّين الجدد. فالافخارستيا أو فعل الشكر، هو المناخ الذي تسير فيه الحياة المسيحيّة مسيرتها.
وموضوع هذه الافخارستيا هو واحد: اختيار الله للمسيحيين. فأساس فرحنا وطمأنينتنا وحياتنا هو هذا النداء ("الدعوة" المسيحيّة) الذي به يدلّنا الله دوماً على أنه يحبّنا. غير أن هذا الاختيار يبقى سريّاً وغير منظور. وعلى مدّ فعل الشكر هذا، يكشف بولس علامتين: موقف المؤمنين الذين تقبّلوا كلمة الله. وموقف الرسل الذين نقلوا إليهم هذه الكلمة.
وموقف الرسل الذي أشارت إليه آ 5 ب (كيف تصرّفنا بينكم)، قد استعيد في آ 9 (يخبرون كيف كان مجيئنا إليكم، دخولنا إلى تسالونيكي)، قبل أن يجد توسيعاً له في 2: 1- 12. وأجمل موقف المؤمنين في آ 6 (فبلتم الكلمة)، واستعيد في آ 9 (رجعتم إلى الله)، بانتظار أن تتوسّع فيه الرسالة في 2: 13- 14. كل هذا يلخّصه بولس في عبارة ترد بشكل مفارقة: "اقتديتم بنا، صرتم مقتدين لنا" (آ 6).

1- كالأب لأولاده
أ- "أخذتم تقتدون بنا"
يدهشنا هذا "التواضع" عند بولس. كيف يتجرّأ هنا وفي أماكن أخرى أن يدعو المؤمنين إلى الاقتداء به؟ إن ما يطلبه بولس يجد أساسه في عاطفة الأبوّة التي يحسّ بها بولس تجاه المؤمنين الذين جاء بهم إلى المسيح.
وهذا المفهوم "للأبوّة الروحيّة" نجده على ملتقى يقينين واضحين في العهد القديم: الأول هو أن الله وحده يهب الحياة. ففي الوالدة لا يستطيع الانسان إلا أن ينقلها. من هنا بعض الفكرات التي تدهشنا حول عالم الجنس ولا سيّما في سفر اللاويين: إن الانسان يتأثّر تأثراً عميقاً بسّر الحياة هذا الآتي من الله والذي يمتد بواسطة العمل الجنسيّ.
اليقين الثاني الذي يتوضّح شيئاً فشيئاً بقدر ما يتروحن مفهوم الله، هو أن الله يخلق بكلمته. فهذه الكلمة تتمتّع بقدرة فاعلة. إنها تستطيع أن تُخرج الموجود ممّا ليس بموجود، أو تردّ الحياة لما كان ميتاً. هنا نتذكّر تك 1 وخلق العالم؛ مز 33: 9 حيث نقرأ: "قال فكان كل شيء. أمر فثبّت كل كائن"؛ حك 9: 1 مع صلاة المؤمن: "يا إله الآباء وربّ الرحمة وخالق كل شيء بكلمة منك". ولا ننسى حز 37 ومشهد العظام اليابسة التي عادت إليها الحياة. هكذا يفعل الله: يخلق أو يعيد خلق ما فسد ومات.
ب- "متقبّلين كلمة الله"
وعلى خطى يسوع نفسه (رج مثل الزارع)، استعادت الجماعة الأولى هذا اليقين فربطت بين الموضوعين، فرأت المسيحييّن "مولودين من جديد من زرع غير فاسد هو كلمة الله" (1 بط 1: 23؛ رج 1 يو 3: 9: "كل من هو مولود من الله لا يفعل الخطيئة، لأن زرع الله حالّ فيه"، يو 5: 24...).
ولقد عرف بولس الرسول أنه قد أرسل لكي يعلن هذه الكلمة. وشعر أنها ليست كلمة بشر، بل "قدرة وروح قدس" (آ 5). وهو حين يعلنها، وبقدر ما تُقبل على أنها كلمة الله (2: 13)، يعرف أنها تعطينا حياة أبناء الله. حينئذ يشعر بذات الشعور الذي يحسّ به أب بشريّ حين يُنجب ولداً. لا شكّ في أن الوالد والوالدة يعرفان أنهما مجرّد أدوات في سّر هذه الولادة، لأن الحياة تأتي من الله. ولكن بما أن الله يمنحهما خصبه، صارا في الحقيقة (لا في الرمز) أباً وأماً. وبولس يستطيع بدوره أن يعتبر أن أبناء الله هؤلاء الذين وُلدوا من كلمة يعلنها، هم حقاً أبناؤه.
نحن ننسى بعض المرّات قوّة الحياة في هذه الكلمة التي بها يقيم الله دوماً له أبناء جدداً. وننسى أيضاً أنها كلمة: أي يجب بالضرورة أن تُعلِن بواسطة متكلّم لكي تصل إلى السامع (وليس فقط إلى "القارىء"). كانت أبحاث كثيرة حول الخدمة الكهنوتية وصلت إلى طريق مسدود. والسبب هو أن خدمة الأسرار خنقت خدمة الكلمة أو أهملتها، بينما الخدمتان تتكاملان على مثال ما فعل المسيح مع التلميذين الذاهبين عماوس: بدأ فكسر خبز الكلمة، ثم كسر خبز "القربان المقدس". حينئذ، وبعد هذين العملين عرفاه.
وعاطفة الأبوّة الروحيّة قادت بالطبع بولس لكي يقدّم نفسه "لأولاده" حتى يقتدوا به. هم أبناء الله. فعليهم أن يقتدوا بأبيهم. ولكن الآب خفيّ وغير منظور. لهذا على الذي ولدهم ناقلاً إليهم الكلمة، أن يكون لهم تلك الصورة التي عبرها يستشفّون بعض الشيء من هو الآب. هذا لا يعني أن بولس يحسب نفسه كاملاً. فهو سيقول عن ذاته في نصّ مؤثِّر: "أحاول فقط أن أمسك المسيح، لأنه هو أمسكني" (فل 3: 12- 16).
غير أنه يعرف أن هذه الكلمة التي ينقلها، ليست واقعاً حيادياً (لا سلبي ولا ايجابي، لا هي نعم ولا هي كلا، لا هي حارّة ولا هي باردة، بل فاترة)، نستطيع أن ننقله دون أن نتأثّر به. كما ننقل درساً في الجغرافيا أو الرياضيات. فهذه الحياة التي تمرّ فيّ ألا تحرقني وهي نار آكلة؟ وبولس بعد أن ولدته الكلمةُ لحياة جديدة، وجّهته كلَّه نحو الله، وجنّدت كل ديناميّته من أجل المسيح. هذا هو الموقف الذي يتمنّى الرسول أن يرى المسيحيين يعيشونه. لا شكّ في أنني كواعظ لا أستطيع أن أقول للمؤمنين "اقتدوا بي". ولكن إن كنت لا أستطيع، رغم فقري وعبر ضعفي وأوهاني، أن أعلن أن هذه الكلمة بدّلت حياتي، فكيف يصدّقني الناس؟

2- تقبل الكلمة هو علامة الاختيار وثمرته
أعطى بولس علامتين عن هذا الاختيار. بدأ فأعلن العلامة الأولى: الطريقة التي بها كُرز بالانجيل في تسالونيكي. وها هو يُعلن العلامة الثانية: كيف استقبل أهل تسالونيكي هذه الكلمة.
إن بولس سيفسّر في 2: 13 (تلقيتم منا كلمة الله بالسماع، لا كأنها كلمة بشر، بل كأنها كلمة الله) ما يعني بكلمة "قبل، تقبل، تلقّى": الكلمة تُقبل أولاً، تسمع (رج روم 10: 14: كيف يؤمنون إن لم يسمعوا). ولكن هذا لا يكفي. فيجب علينا أيضاً أن نتقبّلها، نستقبلها، أي نتركها تلج إلى قلوبنا كما في أرض طيبة فتعطي ثماراً.
نحسّ هنا عند بولس شعوراً خاصاً شبيهاً بذلك الذي يعرفه كل إنسان تحرّك كلمتُه الضعيفة عن الله سؤالاً حول الله أو تحرّكاً باتجاهه. فالوقت الذي فيه يرى السامعُ في الكرازة كلمة الله ويتقبّلها على أنها كلمة الله، هو وقت مهمّ جداً، بل أساسيّ. إنه الوقت الذي فيه يسمع نداء الله. الوقت الذي فيه يعطى الإيمان له. الوقت الذي فيه يتحقّق الاختيار الذي تمّ له في المسيح.
ويشير بولس إلى سمتين تدلاّن على الطريقة التي بها استُقبلت كلمةُ الله: في ضيق كبير، مع فرح الروح القدس.
تدلّ لفظة الضيق (تلبسيس) في العهد القديم على ألم الأبرار، ألم الذين يحبّون الله فيُضطهدون من أجل ذلك. ويستعملها بولس مع إمالة اسكاتولوجيّة. لسنا أمام أي نوع من الألم، بل أمام هذا الضيق الذي ينتظره اليهود في نهاية الأزمنة، والذي أعلن يسوع عنه في الخطبة الجليانيّة (مت 24: 9، 21، 29؛ مر 13: 19، 24؛ يو 16: 21- 33. جلا أي كشف. هذا ما ينكشف في النهاية).
إن ملكوت الله لا يتوافق مع ملك الشّر. إذن ننتظر، ساعة يقيم الله ملكوته، آخر حشرجة للشّر. ويسوع في ساعة آلامه، وحين دخل في "النزاع" أي "في الحرب والجهاد"، وعى أنه وصل إلى ذروة هذا الصراع. ويعرف المسيحيّون أن الأزمنة الأخيرة قد بدأت مع المسيح. لهذا فالعذاب والاضطهاد (شرط أن لا يكون سببَهما خطيئةُ المسيحييّن) ظهرا دوماً على أنهما الوضع العاديّ للحياة المسيحيّة.
لقد كان يسوع "علامة خصام" (لو 2: 34)، علامة مخالفة. وهكذا فرض على كل واحد أن يكشف عمق فلبه (الأقنعة ممنوعة. يكشف معدنه) وأن يختار أن يكون مع المسيح فيقوم، أو ضدّ المسيح فيسقط. قال سمعان عن الطفل يسوع إنه سيكون "لسقوط ونهوض" الكثيرين (لو 2: 34). وهذا يبقى بالنسبة إلى بولس كما إلى المسيحييّن الأولين المعيار للحياة الحقيقيّة في يسوع المسيح.
غير أن هذا الضيق ليس احتمالاً سلبياً وخنوعاً، لأننا لا نستطيع أن نفعل غير ذلك. بل نحن نعيش الضيق مع "فرح". أو بالأحرى مع فرح الروح القدس. هذا يعني أن هذا الفرح ليس ثمرة مجهود الإنسان، بل هو عطية من الله. والروح القدس وحده يستطيع أن يمنحنا أن نعرف فرح السّر الفصحيّ (سّر القيامة)، أن ندخل في الألم والموت ونحن واثقون بانتصار الله بواسطة قيامة ابنه.
وحين تقبّل أهلُ تسالونيكي الكلمة بهذا الشكل، صاروا قدوة لأخائية كلها، بل لأبعد من أخائية. ولكن ما هذه القدوة وإيمانهم لم يكن بلا عيب وأخلاقيّتهم لم تكن رفيعة (3: 10: نتمّ ما هو ناقص في إيمانكم؛ 4: 10)؟ هنا نتذكّر أن الإيمان ليس "شهادة" قداسة (المسيحيون هم أفضل من غيرهم!)، وأن الكنيسة ليست جماعة "الأنقياء". لا شكّ في أن الكنيسة مقدّسة كما نقول في النؤمن ولكنّها تضمّ أيضاً الخطأة بين أعضائها. الإيمان هو فبل كل شيء التزام الانسان تجاه الله في يسوع المسيح. إنه انفتاح على عمل الروح انفتاحاً يعطي معنى جديداً للحياة كلها.
هنا نصل إلى عدوى الإيمان. فجماعة المسيحيّين التي تحاول أن تعيش إيمانها على هذا الشكل، لا يمكن إلا أن تنتشر عدواها، إلا أن تنقل إيمانها إلى الآخرين. وهذا ما يقوله بولس في ثلاث جمل: "من عندكم ذاعت كلمة الربّ" (آ 8 أ). "انتشر إيمانكم بالله" (آ 8 ج). "كلهم يخبرون كيف استقبلتمونا وكيف رجعتم إلى الله" (آ 9).
نحن أمام توازٍ له معناه العميق: كلمة الله قد ذاعت، وانطلقت من عندكم، وإيمانكم بالله انتشر. كرز بولس بالكلمة بواسطة ألفاظ (لقد كانت أكثر من ألفاظ. لم تكن حرف ميتاً. بل قدرة وروح قدس وملء عظيم، 1: 5). وأعلن المسيحيون في مثال حياتهم ما جعلت منهم هذه الكلمة: لقد صارت حياتهم نفسها "مكبرّ صوت" يمتدّ إلى البعيد.
وقدّم بولس هذه الحياة المسيحيّة في وجهتين: حركة ارتداد قادت التسالونيكييّن إلى أن يتحوّلوا عن الأصنام ليتوجّهوا نحو الإله الحقيقيّ. وغاية هذه الحركة التي هي في الوقت عينه إيمان بالله وطريقة حياة جديدة، هي أن نخدم الله ونعبده. وأن ننتظر من السماوات ابنه.

3- عرض قديم للإيمان
نجد هنا إشارات عديدة تدلّ على أن بولس يستعيد تعبيراً قديماً عن الإيمان قد تسلّمه هو بنفسه، وها هو يقدّمه لأهل تسالونيكي.
أ- تخلّيتم عن الأصنام وتوجّهتم إلى الله (1: 9)
إن فعل "تاب، ثاب، رجع" (ابيسترافو) يُحفظ عادة للحديث عن ارتداد الوثنيين، أولئك الذين يتركون الأصنام (أي يخلقون آلهة بأشكال مختلفة يجعلون منها "مطلقاً"). هذا الفعل يدلّ على تبدّل تامّ: نرى وُجهة جديدة لحياتنا التي تنطلق في خطّ جديد. وهذا يتضمّن بعض المرات تبديلاً في السلوك الأخلاقي. ولكن هذا ليس الأمر الجوهريّ. فقد نتصرّف تصرّفاً أخلاقياً خارج الإيمان المسيحيّ. كما نستطيع أن نتوجّه حقاً نحو الاله الحقيقيّ دون أن نكون وصلنا بعد إلى أن تتوافق أعمالنا مع حبّنا لله.
وهذا الاله الذي إليه نميل هو الاله الحيّ والحقيقيّ. الله الحيّ هو لقب خاصّ بالله في العهد القديم. له وحده الحياة. بل هو الحياة، وسيّد الحياة. وهو الاله الحقيقيّ الذي يتعارض مع كل الأصنام التي هي باطل ونفخة ريح.
وإذا كنا نعود إلى الله فلكي نخدمه، لكي نعبده. غير أن الخدمة كالطاعة أمران غير محبوبين اليوم. لماذا؟ لأننا أعطيناهما معنى ضيّقاً. فهاتان اللفظتان ترسمان في العهد القديم اعتراف الواحد بالآخر: نرفض أن نعتبره شيئاً. نريد أن نمتلكه. بل نقبل منه أن ينادينا، يوجّه إلينا كلمة، نقبل أن نرتبط بحبّه.
وهذا الموقف يشمل الحياة كلّها. لسنا أمام خدمات صغيرة، أو طاعة في أمور بسيطة. بل نريد أن نضحّي بذاتنا كلها. الخدمة متطلّبة، هذا ما لا شكّ فيه (عندما نحبّ نعرف أنه يُطلب منا، يُفرض علينا أن نفعل بعض الأمور للآخر)، ولكنها في النهاية حريّة، لأنها تفرض علينا أن نخرج من ذاتنا لكي نتجاوب مع انتظار الآخر... بقدر ما يكون ذاك الآخر كائنا حياً لا صنماً باطلاً وفارغاً.
ب- تنتظرون ابنه (1: 10)
حتى الآن، عبرّ هذا التحديدُ ملء التعبير عن الإيمان اليهوديّ. وما يلي ذلك هو كله مسيحيّ. نحن نرجع "إلى الله لكي ننتظر ابنه (الذي يأتي) من السماوات، ذاك الذي أقامه من بين الأموات".
"انتظر". فعل يتواتر في العهد القديم. وهو لا يدلّ على موقف منفعل (لا نفعل شيئاً بل نكتّف أيدينا بانتظار أن يحدث شيء ما)، بل على موقف واثق ومتأكّد، ومشدود كله إلى تحقيق مجيء الله المحرّر. ويتأسّس هذا الانتظار عند اليهوديّ، على أمانة الله لكلمته وعلى العلامات التي يمكنه أن يقرأها في حياته اليوميّة. أما عند المسيحيّ فهو يستند الآن إلى واقع وهو أن الله دلّ على أمانته حين أقام ابنه. مثل هذا الواقع الذي ينتظره اليهوديّ في نهاية الأزمنة، قد تحقّق يوماً في تاريخنا. وهكذا شهد الله شهادة حاسمة ليسوع هذا، ودلّ ملء الدلالة تجاهه أنه الاله الحيّ.
"الابن". هذا اللقب ينسب إلى يسوع الطبيعة الإلهيّة. وإليك بعض الأسباب: أولاً: ابن الله هذا يشارك في المجد الفائق للطبيعة الذي رآه دا 7: 13- 14 في ابن الانسان. ثانياً: ابن الله هذا يُتمّ في الأزمنة الاسكاتولوجيّة، في نهاية الزمن، المهمّة التي حفظها العهد القديم للربّ يهوه. وهي تقوم بخلاص الأبرار من الغضب في يوم الربّ. ثالثاً: إن بنية المقطع تحدّد موقع الله الحيّ وابنه على مستوى واحد: كلاهما سبب مماثل في ارتداد التسالونيكيّين. وكلاهما يكوّنان القطبين الرئيسيين في حياتهم الدينيّة. رابعاً: إن الـ التعريف في "ابنه" (توهيون اوتو: الابن الذي له. لا فقط "ابن" بين الأبناء) تدلّ على بنوّة من نمط فريد: يسوع هو ابن الله.
ج- "ينقدنا من السخط الآتي"
يسوع هو الذي ينقذنا، ينجّينا. إن هذا الفعل (ريوماي) يدلّ دلالة تامة على ما يصنعه الله من أجلنا، بحيث صار أحد أسمائه في العهد القديم. ففي أش 54: 5، نجد موازاة بين "الفادي" (حرفيا: ذلك الذي ينجّي، ينقذ) وبين "الخالق". وفي الحالات العاديّة في العهد الجديد، يكون الله فاعل هذا الفعل. الله يخلّص. أما هنا فيسوع هو الذي يخلّص. لا يبقى إلا أن نستنتج: يسوع هو الله لأنه يفعل ما يفعله الله وحده.
"غضب الله". عبارة تصدمنا. تدلّ في التوراة على دينونة الله التي تعاقب، على دينونته التي تسقط على الخطأة المتمرّدين. هل الغضب عاطفة في الله مثل الحبّ؟ كلاّ ثم كلاّ. ليس الغضب عاطفة في الله، بل نتيجة في الانسان. إنه وعي الانسان لحالته الخاطئة التي تفصله عن الله. هذه العاطفة الذاتيّة التي تجعلنا "نهلع" أمام القدوس، تشبه العاطفة التي نحسّ بها حين يغضب أحد الناس علينا. نجعل من العاطفة الذاتيّة في الانسان موضوعاً حقيقياً في الله. نستطيع القول إن غضب الله هو طريقة بشريّة بها نعبرّ عن رفض الله للشّر الذي فينا وفي العالم. غضبه ليس على الانسان وهو الذي يشرق شمسه على الأشرار والأخيار. غضبه هو على الشّر الذي لا يريدنا الله أن نستعبد له.
انتظر شعب اسرائيل يوم غضب الله وعقابه الأخير في نهاية الأزمنة. ذلك الوقت الذي فيه تعي البشريّة حالتها. هذا الزمان قد جاء في معنى من المعاني: فالصليب هو اللحظة التي فيها أجمل المسيح في ذاته كل البشريّة الخاطئة فصار بشكل سريّ "خطيئة" لأجلنا (2 كور 5: 21) فمات من هذا اللقاء مع الله القدّوس. ولكن بما أنه جعل من موته تقدمة حرّة، فقد بدّل معنى ذلك الموت. وهكذا كان الصليب أيضاً الموقع الذي فيه يظهر الله حبّه، وهذا ما عبرّ عنه حين أقام ابنه. وهكذا صار "الغضب" وراءنا، وما عاد يهدّدنا. ومع ذلك، فهو أمامنا بقدر ما يجب علينا أن نجعل في ذاتنا ما حقّقه يسوع من أجلنا، أن نقبل قبولاً حراً أن نُحمل معه في سّر موته لكي نحيا معه.

خاتمة
كم نفرح حين نكتشف هكذا، وبفضل بولس، أولى تعابير الإيمان لدى اخوتنا المسيحيين الأوّلين. يبقى أن نتمنّى لكل واحد منا أن يكون لنا الإيمان عينه، أن نكون مشدودين إلى ذات الرجاء الذي فيه يتحقّق بشكل نهائي ما أتمّه يسوع في أجلنا. ويا ليت شهادة كنيستنا تحمل العدوى إلى الآخرين، فتكون كلمة رجاء تدوّي في عالمنا.
إن أهل تسالونيكي قد اقتدوا بالمسيح وبالرسل لأنهم مثلهم تألّموا من أجل الانجيل. وسيقول عنهم بولس فيما بعد (2: 14) إنهم تشبهوا بكنائس الله التي في اليهوديّة حين اضطُهدوا من أجل الانجيل وعلى يد اليهود. وهكذا لا يعني "الاقتداء" أن نصوّر تصويراً مادياً موقف شخص آخر أو مزيّة من مزاياه. بل يُطلب من تلميذ المسيح أن يقبل وضع "عبد الله المتألّم" الذي كان وضع يسوع خلال رسالته على الأرض. "إذا كانوا اضطهدوني فسوف يضطدونكم" (يو 15: 20). هذا ما حدث لأهل تسالونيكي بعد أن اقتبلوا الكلمة فأثمرت فيهم كما في أرض جيّدة.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM