دراسة في رؤيا باروك اليونانية

دراسة في رؤيا باروك اليونانية

تكرّس 3 با كله لخبر سفر قاربه هذا "النبي" عبر السماوات الخمس. بدأ فعرض لنا الوضع الذي وجد فيه الرائي نفسه، حين أعطي له أن يخرج من حدود هذا العالم ليتدرّج في عالم آخر تسكنه رؤى غريبة، في عالم :أسرار الله".
1- مضمون الرؤيا
أخذت أورشليم بيد نبوخذ نصر. ومضى شعب إسرائيل إلى المنفى. فبكى باروك. في صلاة تبدو نسيجًا من النصوص البيبليّة (1: 2: ق مز 42: 4، 11؛ 74: 7- 9؛ 79: 10؛ 80: 7؛ 115: 5؛ حز 34: 29 - 30؛ 36: 4، 6؛ يؤ 2: 17؛ في 7: 10)، سأل الله بلهجة التمرّد، لماذا دمّرت أورشليم بالنار، لماذا سلِّم الشعبُ إلى الأمم. سمع الله صلاة باروك فأرسل إليه ملاكًا يأمره بأن لا يهتمّ بعد بخلاص أورشليم (1: 3)، وبأن لا يُغضب الله بثرثرته. قبل باروك أن يصمت وطلب أن يُدرَّج. فقبل الملاك الذي اسمه فمائيل (2: 5) أن يكشف له أسرار الله.
وسار باروك بقيادة الملاك المفسِّر إلى عالم يتوسّط حدودين: الحدود السفلى يكونّها نهر يغمر أسس السماء (2: 1، هو الاقيانوس الذي يحيط بالأرض كحزام، كما تقول الكوسمولوجيات القديمة). والحدود العليا تدلّ عليها أبواب لا عبور فيها في السماء الخامسة (11: 2 ليست السماوات المذكورة موضوعة بعضها فوق بعض. فسفر الرائي ليس صعودًا بل ولوجًا وعبورًا). هذا العالم المتوسط يقسم إلى منطقتين متميّزتين. تتضمّن الأولى ثلاثة سهول رأى فيها باروك العقاب الذي يفرضه الله على ثلاث طبقات من البشر، سيتعلّم منه التاريخ ويعرف أعمال الشرّ. السهل الأول (أو السماء الأولى) يسكنه بشر بوجوه بقر وقرون غزلان وأرجل معز وأوراك غنم (2: 2- 3). وسكّان السهل الثاني (أو السماء الثانية) يشبهون كلابًا بأرجل غزلان (3: 1- 3). هاتان الفئتان من البشر تمثلان بناة برج الحرب على الله. ويروي الملاك لباروك خبر هذا البناء مشدّدًا على أن سكّان السماء الثانية هم الأكثر حظًا: فهم الذين شرعوا بالصعود إلى السماء ليجعلوا فيها ثقبًا ويجدوا حلاً لمسألة المادة السماويّة (نحن هنا مع السفسطائيين الذين ينظّرون حول طبيعة السماء (رج 3: 5- 8). وحين أرادوا أن يحققّوا مشروعهم الاثيم، فرخوا على جمهور من الرجال والنساء بأن يصنعوا الحجارة من اللبن: هؤلاء هم سكان السماء الأولى الذين كانوا ضحيّة سكّان السماء الثانية، ولكنهم خطئوا لأنهم قاموا بمثل هذا النشاط.
في السهل الثالث، رأى باروك تنينًا وحيّة. أكل الحيّة أجسام الأشرار. والثاني الذي هو الجحيم (هاديس) منع البحر من أن يفيض، فشرب كل يوم كميّة من الماء تساوي تلك التي يصبّها يوميًا في البحر، 360 نهرًا من الأرض. وهكذا أمّن حياته. إن رؤية هذا "الشخص" الجهنميّين، كانت مناسبة لباروك بأن يتعلّم الدور الذي يلعبه شمعوئيل والكرمة (غرسه الملعون) في سقوط آدم (4: 1- 5: 3). رسم الملاك فمائيل كل تاريخ الكرمة منذ غرسها (لهذا السبب لعن الله شمعوئيل)، حتّى الطوفان. وتنتهي هذه النظرة إلى الوراء بذكر نوح الذي ما إن خرج من السفينة حتّى رفع صلاة إلى الله وطلب منه أن يوحي إليه كل ما يتعلّق بالكرمة. فأعطاه فمائيل الجواب. ورغم تحوير مسيحي في 4: 15 نفهم أن جواب فمائيل كان حكمًا على الكرمة. والكلمات التي بها اختتم الملاك المفسّر هذه الرؤية، لا تترك شكًا في هذا المجال (4: 16- 17).
وحين ترك باروك سهل التنين والجحيم، خرج من المنطقة الأولى التي هي بين عالمين: منطقة العقوبات المحفوظة للبشريّة الشريرة، ومسارها الذي تتوزّعه تفاسير تفسّر الايحاءات (11: 7، فمائيل) يشكّل الجزء الأول من تدرّج باروك في "أسرار الله".
وقبل أن يدخل باروك إلى المنطقة الثانية. يعبّر سماء النيرين (6: 1- 9: 8). يرى فيها شروق الشمس وغروبها، وتبدو الشمس بشكل إنسان جالس على مركبة وهو يطلق اللهب (6: 1- 2). فاكتشف هناك سرّ التجديد اليومي لإكليل هليوس (الشمس) (رج 2 أخن 14: 2- 3). وتأمل فينكس، هذا العصفور الشمسي، الذي يشكّل حاجزًا بين السماء والأرض، فيمنع الأرض من أن تحترق بحرارة الشمس. وعلم فمائيل باروك أن فينكس يغتذي من منّ السماء وندى الأرض على مثال إسرائيل في الصحراء. وحين جاء الليل، رأى الرائي القمر بشكل امرأة صعدت مركبة تجرّها البقر. وكانت هذه الرؤية مناسبة شُرحت فيها أوجه القمر (9: 7).
شكّل عالم الكواكب مساحة انتقال بين منطقتي العالم. وها هو باروك يصل إلى السهل الرابع أو السماء الرابعة (10: 1- 9). واللوحة التي تظهر أمام عينيه تعارض المشهد الكئيب الذي أراه إياه السهل الأول. لا وحش هنا ولا شرير. بل طيور عجيبه، تكوّن جوقة (على شاطئ بحيرة الندى السماوي) تنشد مدائح الله. هذه الطيور هي نفوس الأبرار. والبحيرة هي خزّان المطر الذي يغذّي الأرض. يتعارض هذا السهل، بسمات عديدة، مع السهول الثلاثة الأولى، ولا سيّما سهل التنين والجحيم. نتوقّف فقط عند سمة من هذه السمات، فنقول إن السهول الثلاثة الأولى تحدّد منطقة المجازاة السلبيّة التي فيها يجد كفُر البشر تفسيره وتاريخه. ويشكّل السهل الرابع منطقة المجازاة الايجابيّة التي فيها يجد سرّ واحد أصله وتعبيره: سرّ ندى السماء.
وينتهي العبور عند أبواب السماء الخامسة، وهي حدود لا يتجاوزها سوى مخائيل رئيس القوّاد، والكاهن الأعظم السماويّ. بعد هذه الأبواب يمتدّ ملكوت السماوات (11: 1- 16: 4). في المدى الذي يشكّل رواق قدس أقداس السماء (= ملكوت السماوات) شاهد باروك ليتورجيا سماويّة سرية، جاء خلالها ملائكة يحملون سلالاً ويفرغون محتواها في كأس مخائيل العظيمة. غير أن ما أفرغ لم يملأ الكأس. وهذا ما أحزن مخائيل. هي زهور تدلّ على فضائل البشر التي يحملها الملائكة ويتوزّع هؤلاء الملائكة في ثلاث مجموعات. تحمل الفئتان الاوليان سلالاً مليئة أو نصف مليئة. وتتألّف الفئة الأولى من ملائكة سود لا يحملون شيئًا. هذا ما يدلّ على البشرية: الأبرار، الأشرار، وبين الاثنين من لا يمتلك الفضيلة الكاملة، بل بعض الفضيلة (12: 6). ومجازاة البشر يحملها مخائيل في شكلين: عطيّة الزيت السماوي، ولقب صديق (خليل) الله (15: 1 ي؛ ونص 2: 2- 4؛ من تك 2: 20؛ حك 7: 27؛ فيلون، حياة المشاهدة 90 ك؛ السكر 91؛ حجرة إبراهيم 63، 114؛ حياة موسى 1: 156 هكذا سمّى أعضاء هذه الشيعة أنفسهم؛ أصدقاء الله مثل إبراهيم). وأمر الملائكةُ السود بأن لا يتخلّوا عن الأشرار الذين كلّفوا بهم. ولكن بما أن هؤلاء البشر أغاظوا الله بأعمالهم، فقد كلّف ملائكتهم بأن يذيقوهم كل أنواع العذاب حتّى سيتوبوا، لأن الله صبور ولا يريد انتصار العدوّ (16: 1 ي).
يبدو أن أصل كل هذه الليتورجيا هو عيد البواكير. ومع هذه الرؤية، رؤية الليتورجيا السماوّي في الفضائل والزيت ، يتدرّج باروك في "أسرار الله". أعاده فمائيل إلى الأرض، فشرع يمجّد الله الذي اعتبره جديرًا بهذه الكرامة. وفي نداء أخير، دعا القراّء يمجّدوا الله أيضًا فيمجَّدوا هم بدورهم (17: 1ي).
2- إطار تاريخي خادع
أ- كوّن سقوط أورشليم بيد نبوخذ نصر ومنفى شعب إسرائيل إلى بابل المناخ لعدد من الأسفار القانونيّة والأسفار المنحولة. مثلا، سفر باروك رسالة ارميا، رؤيا باروك السريانية، كتاب عزرا الرابع. أخبار (أو: اغفالات) ارميا.
بعد أن استعملت الحلقات الجليانيّة في فلسطين والشتات أحداث سنة 587 والمنفى الذي تلاها كإطار خادع، نطرح سؤالاً حول السبب الذي أشرف على اختيار هذا الإطار التاريخيّ. والجواب هو التيبولوجيا أو الخطيّة: لقد اختار هؤلاء الكتّاب تاريخ سقوط أورشليم بيد نبوخد نصر ليصوروا في لغة ملغزة أحداثًا بدت لهم شبيهة بأحداث سنة 587، وهي أحداث عاصروها. فقد رأى النقاّد في هذه الكتب التي دوّنها العالم اليهوديّ المتأخّر تلميحًا إلى سقوط أورشليم على يد بومبيوس سنة 63ق.م.، أو تيطس سنة 70 ب.م. أو رأوا صورة مخفية لنتائج ثورة ابن الكوكب المأساويّة 2 با).
ب- التيبولوجيا أو الخطيّة
حين نرتكز على وصف لنصوص بانت في إيرادها حدث بيبلي وكأنها تلمّح إلى أحداث جرت في القرن الأول ق.م. أو القرن الأول ب.م، نقول إن نقطة انطلاق التيبولوجيا هي اكتشاف تقارب بين حدثين. وهذا الارتباط بين الحدثين يمنح مدلولاً رمزيًا واحدًا يعبَّر عنه في خبر يصوّر فيه الحدث القريب بسمات من الحدث البعيد. (أو: القديم). وتمتلك صور مثل هذا الخبر طابعًا مركبًا من عناصر عديدة، لأنها تنتج من تكريس صورتين على الأقل، تميّزتا في الأصل واعتبرتاهن متشابهتين. هذا ما يُسمّى الخط والخط المعارض. إذن، تبدو الخطيّة (تيبولوجيا) بشكل خبر متشعّب تمتزج فيه سمات الخط العامة (المأخوذة من التوراة) بسمات الخط المعارض الخاصة. فيكون عمل الناقد الفصل بين الاثنين، بين الخط والخط المعارض.
ج- وظيفة رؤيا باروك
ننطلق من 1: 1- 2، ونقول إن إعلان الإطار التاريخي الخادع يقوم كله في هاتين الآيتين بعناصرها البيبلية. غير أن هناك عنصرًا لا بيبليًا من خلال شخص باروك، هو أننا لا نراه أبدًا ينبغي على خرائب أورشليم ويسأل الله عن مدلول العقاب الذي حلّ بالشعب المختار. هذا هو العنصر الذي يُسند النصّ ويحدّد وظيفته: حين جدّد الكاتب بالنسبة إلى التقليد البيبليّ، أعلن في الواقع عن حاجة جوهريّة في قلب الجماعة التي إليها يوجّه كتابه: أن نفهم لماذا عاقب الله شعبه، وهكذا تفهم مفارقة الوضع الذي خلقه انتصار الأمم على الشعب المختار. لا يقوم الكاتب هنا بعمل المؤرّخ، كما لا يقدّم تقديمًا خطيًا تعبيرًا عن حاجات جماعته كما قالتها هذه الجماعة فهذه الجماعة. لا تعي حاجاتها. هي لا تفهم الوضع المتأزّم الذي تعيش فيه، أو هي لا تستطيع أن تتجاوزه.
وبمختصر الكلام نقول إن باروك وُضع على "المسرح" ليتيح لقرّاء رؤيا أن يكتشفوا في أحداث سنة 1587 الأهل الحقيقيّ لوضع عاشوه حتّى الآن وما فهموا معناه، عاشوه كمقارنة قاسية. وهكذا أعطيت له الامكانيّة بأن يوضحوا حالة بديئية ظلّت غامضة بالنسبة إليهم، بقدر لم يتدرّجوا في "أسرار الله" وفي نهاية مثل هذه الخبرة، يستطيع المتدرّجون، وقد تحرّروا من الضيق، أن يمجدّوا الله ويدخلوا في فرح سيّدهم (15: 4؛ 17: 3- 4).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM