تفاعل بين النص وأطر حياتنا


تفاعل بين النص وأطر حياتنا

تتضمّن وثيقة بوغوتا الأخيرة ووثيقة اللجنة البيبليّة ملاحظات هامة تعيننا على قراءة النصّ في أطر حياتنا. ولأكتفي ببعض الأمور الاساسيّة.

1- مدلول المنظار من أجل القراءة
حين يحلّل المؤمنون أفراداً أو جماعات النصّ البيبليّ، فهم متشّربون من أطر حياتهم، وهكذا تتأثّر القراءة البيبلية تأثيراً كبيراً بنظرة كل واحد منهم. فالذي يقرأ البيبليا بعين الفقراء يجد فيها قوّة التطويبات ووعداً بعالم لا جوع فيه ولا مرض ولا دموع ولا موت. والذي يقرأها بعين الاغنياء الشباع والمرتوين، يُدعى إلى البكاء ويجد نفسه أمام دينونة الله إن لم يعُد إلى ذاته في تضامن مع الآخرين ومقاسمتهم الغنى الذي يملك (لو 6: 20- 26). إذن يحدّد وضع القرّاء نظرتهم إلى النصّ والى إطاره.
وهذا لا ينطبق فقط على الوضع الاقتصاديّ، بل يلامس أيضاً أدوارنا في المجتمع والكنيسة، بما تنطبع هذه الادوار بالجنس (رجل أو امرأة)، بالاصل الاجتماعي، بالمهنة، بالوضع العائلي... كما تنطبع بالاوضاع الثقافيّة والدينيّة التي يحدّدها المحيط والتقليد والتربية والتعليم...

2- المدلول الحالّي للبيبليا
هناك واقع هو موضوع جدل: إن تفسير نصّ يرتبط دوماً بعقليّة قرائه واهتماماتهم. غير أن القراءات الأطرية تنطلق من مبدأ يقول إن النصوص البيبليّة لم تتوجّه فقط إلى أشخاص عاشوا في عصر الكاتب، بل إلينا نحن القرّاء اليوم وهي تحمل إلينا مدلولا أنياً. هذا الشرط الاساسيّ يجد ما يبرّره كما يحمل نتائج هامّة لنوعيّة القراءة التي نقوم بها.
أما في ما يتعلّق بالمدلول الحالّي للبيبليا، فنقول إن لها حتى أيامنا تاريخاً كبيراً من القبول لدى المؤمنين (كم من الناس شرحوها وتأملوا فيها على مرّ العصور). فعلى كل قراءة بيبلية أطرية أن تأخذ بعين الاعتبار هذا التاريخ من القبول (لست أول من يفسّر الكتاب المقدس) حتى وإن كان التفسير انفرادياً (من جانب واحد)، وكانت له نتائج سلبيّة على البشر. مثلاً، حين أوّنت النصوص بشكل يتعارض مع العدالة والمحبة الانجيليّة. أو حين كان اختيار النصوص والتقاليد متحيّزاً.
ونثبت آنية البيبليا (تقرأ الآن، في الزمن الحاضر) في أنها تتقبّل الاسئلة حول المواضيع الأساسيّة في حياة الانسان. لا ننسى أن هذه الاسئلة هي هي بمعزل عن الأزمنة والحضارات. وفرضيّة الثوابت الانتربولوجيّة لا تُستبعد بشكل مبدأي. غير أننا لا نقلّل من مدلول التبدّل والتعدّد الحضاريّ. وهكذا تكون المثاقفة اهتماماً اساسياً في كل قراءة أطريّة.
ونثبت مدلول البيبليا للزمن الحاضر أيضاً في معنى لاهوتي دقيق: البيبليا هي كلمة الله. والأسفار المقدّسة تعلّمنا بشكل أكيد، بأمانة، وبدون ضلال... ما أراد الله أن يكتبه لنا من أجل خلاصنا. فالقراءة البيبليّة الأطريّة تعني من هذه الزاوية أن "الكتب المقدسّة تُقرأ وتُفسّر في ذات الروح الذي كُتبت فيه". "ما يدفعنا إلى هذا الاساس اللاهوتي" هو الايمان بأن البيبليا هي "لجميع العصور وجميع الحضارات" أداة خلاص وتحرّر وحياة للبشر وللعالم. والايمان هو السبب العميق الحقيقي لقراءة أطريّة تفهم "كلمة الله كينبوع حياة".

3- قراءة الاطار الحالي
إن قراءة الاطار الحالي وتحليله وتفسيره تحتاج، شأنها شأن قراءة النص البيبلي، إلى بعض الأساليب.
هنا نتكلّم أيضاً عن نمط من قراءة وظيفيّة، رعائيّة، شعبيّة. وبما أنه يستحيل على قراءة النصّ أن تأخذ بعين الاعتبار كل الأبعاد، كذلك يجب على تحليل الاطار أن يحصر نفسه في بعض الوجهات بمناسبة التمييز الذي ذكرناه في مجال الاقتصاد والسياسة والحضارة والديانة. حين نتعمّق في وجهات تحليل الحاضر، قد نذهب بعيداً. ولكن نبدأ من أوضاع القراءة الملموسة.
بما أن قرّاء البيبليا قد درسوا اللاهوت الكتابيّ فلم يصبحوا اختصاصيين في العلوم الانسانيّة والاقتصاديّة، فهم يرتبطون في قراءتهم للاطار، بالاختصاصيين، وذلك حالما يتركون المستوى الشعبيّ. وفي هذا الحوار بين "بيبلييّن" واختصاصيين آخرين، يتّضح أن الحياة متشعّبة جداً، وأن التوافق بين النصّ البيبلي والاطار الحياتي الحاضر يتطلّب عملاً كبيراً.
جابهت الرابطة الكتّابية هذا التحدّي في بوغوتا ودلّت على "مختلف الاطر التي نعيش فيها اليوم". ولكن التفاؤل الذي سمعناه حينذاك قد صار ضئيلاً: الحروب، المواجهات الداخليّة خلال هذه السنوات الاخيرة، قساوة نواميس التجارة الحرّة... وعلى المستوى الروحيّ في العالم الغربيّ، هناك الفرديّة على المستوى الخلقيّ (أعمل ما يحلو لي. لا حاجة إلى قاعدة)، والتعدّدية، والتناقضات...

4- توافق بين النصّ البيبلي والإطار الحالي
ونستطيع أن نخطو خطوة في هذا التفاعل بين النصّ والاطار. لهذا نعود إلى رسمة سابقة: هناك مثلّث مؤلف من النصّ والجماعة والإطار الحياتيّ. هناك الاطار الديني والسياسي والاقتصاديّ. وهناك القرّاء الذين يتفاعلون مع هذا الاطار. وكل هذا يؤثر على قراءة النصّ البيبليّ. وهكذا نفهم أن هذا التفاعل متشعّب جداً حين ندخل في التفاصيل ونترك مستوى المراجع المباشرة.
أ- من الحياة إلى البيبليا، من البيبليا إلى الحياة
حين تحدّثنا عن القراءة الشعبيّة للبيبليا، أدخلنا عبارة بسيطة ولكنها مفيدة من أجل التوافق بين النصّ والاطار: من الحياة إلى البيبليا، ومن البيبليا إلى الحياة. إن هذه العبارة تقدّم شيئاً هاماً لسائر أنماط القراءة: حين ننظر مطولاً وبشكل دقيق إلى الحياة، نجد مساعدة في قراءة البيبليا، لأن ذلك يحرّك فينا أسئلة ويجعلنا نجد في النصوص أموراً عرفناها في الحياة ولكننا لم ننتبه إليها في ما سبق. وتعيننا البيبليا بالطريقة عينها أن ننظر إلى حياتنا نظرة مختلفة: نظرة أدقّ، أوضح، وبعينين جديدتين. وهكذا نقول: إن الإطار يفتح حواسنا على النصّ البيبلي، والنصّ البيبليّ يفتح حواسنا على الاطار الحياتيّ.
ب- الإطار التاريخيّ والحاليّ
حين يعي قرّاء البيبليا أن هذه النصوص تنبثق من عصر آخر وعالم آخر، وأنها لم نكتب أولاً لنا، بل لشعب اسرائيل (في ما يتعلق بالعهد القديم) أو للجماعات المسيحية الأولى (فيما يتعلّق بالعهد الجديد)، حينئذ يُطرح السؤال: أي دور يلعبه الإطار (السياق) التاريخيّ لقراءة البيبليا في إطار حياتنا اليوم؟ شدّدت اللجنة الحبريّة البيبليّة في خطّ "كلمة الحياة" (أو دستور في الوحي) على أننا لا نستطيع أن نتخلّص من "استعمال" الأساليب التاريخيّة النقديّة، أقلّه في عمليّاته الرئيسية". لهذا، لا نستطيع أن نترك هذه المسألة جانباً وكأن لا أهمية لها.
هناك نموذج مفيد توسّع فيه لاهوت التحرير في أميركا الجنوبيّة: هو ينطلق من مبدأ يقول: إن تأوين البيبليا لا يأخذ فقط النصّ بعين الاعتبار بل علاقته بالسياق (أو: الاطار) أيضاً. وهكذا يكون التأوين أميناً للتعليم البيبلي وموافقاً لزماننا الحاضر إن كانت المعادلة التالية صحيحة:
النص البيبلي التأوين
سياقه إطار حياتنا
مثل هذا النموذج التأويني لتعليم البيبليا، يتجاوب مع ما يطلبه فاتيكان الثاني: نحافظ في الوقت عينه على "الأمانة للانجيل" كما نفهم "علامات الأزمنة". ويبين هذا النموذج في الوقت عينه، أن التأوين مسيرة خلاّقة فيها تصوّر العلاقة بالبيبليا بلفظة "الأمانة الخلاّقة"، وهذا على مثال ما نجد داخل مسيرة التقليد البيبليّ: ما نُقل إلينا قد نُقل في أمانة خلاّقة وتكيّف مع الزمن الذي عاش فيه الكاتب.
عبّر كلودوفيس بوف (في كتابه: اللاهوت والممارسة) عن هذا النموذج النظريّ فكتب: "لا نبحث عن هويّة المعنى على مستوى الإطار (أو: السياق)، ولا على مستوى تعليم أحد الناس، بل على مستوى العلاقة المتبادلة بين الإطار والتعليم... لهذا نستطيع أن نسمّي هذا النموذج "نموذج توافق العلاقات"... لهذا لا ننتظر من الكتب المقدّسة عبارات "ننسخها حرفياً" أو تقنيّات "نستعملها". ما تقدّمه لنا هذه الكتب هو توجّهات ونماذج وأنماط، وخطوط نسلك فيها، ومبادىء، وبديهيّات، تقدّم لنا عناصر نستطيع بواسطتها أن نمتلك إمكانية "التفسير"، لأنها تساعدنا على أن نقيّم "في خط المسيح" و"بموافقة الروح القدس" الأوضاع الجديدة واللامتوقّعة التي تواجهنا. لا تقدّم لنا الكتابات المسيحية "شيئاً" نأخذه، بل أسلوباً وروحاً: "كيف نعمل"؟
ج- مشاركة سائر المواد اللاهوتيّة
في ما يتعلّق بالتوافق بين النصّ البيبلي والاطار الحالي، يجدر بالذين تجنّدوا لعلم التأويل، أن يتعرّفوا إلى ما تحمله سائر المواد اللاهوتيّة، بما فيها من فوائد وصعوبات.
هنا نقرأ بداية الفصل الرابع من الوثيقة الحبرية البيبليّة "تفسير البيبليا في حياة الكنيسة". إن تفسير البيبليا، وإن كان مهمّة المفسّرين الخاصة، فليس لهم أن يحتكروه، لأنه يتضمّن في الكنيسة وجهات تتجاوز التحليل العلميّ للنصوص. فالكنيسة لا تعتبر البيبليا مجرّد وثائق تاريخيّة مرتبطة بجذورها. بل تستقبلها ككلمة يوجّهها الله لها وللعالم بأسره في الزمن الحاضر. ويؤدّي هذا الاقتناع الإيمانيّ إلى ممارسة تأوين الرسالة البيبليّة ومثاقفتها، ومختلف الطرق لاستعمال النصوص الملهمة في الليتورجيا، في القراءة الربيّة، في الخدمة الرعوية، وفي الحركة المسكونية.
... يمكننا ملاحظة ممارسة التأوين في البيبليا ذاتها: إن نصوصاً عريقة في القدم أعيدت قراءتها على ضوء ظروف جديدة، وتمّ تطبيقها على الوضع الحاليّ الذي يعيشه شعب الله. ولا يزال التأوين مستمراً عبر العصور في الجماعات المؤمنة، وهو الذي يستند إلى القناعات ذاتها".
التأوين ممكن، لأن غنى معنى النصّ البيبليّ يعطيه قيمة في كل العصور وكل الثقافات... التأوين ضروريّ لأن النصوص البيبليّة كُتبت متأثّرة بالظروف الماضية...
نأخذ مثلاً على ذلك، الحوار مع اللاهوت الخلقيّ. فهو مهمّ جداً، حين نحاول أن نستنتج من البيبليا خلاصة خلقيّة لعالمنا. من جهة نفهم آنيّة هذا التعليم. ومن جهة ثانية، نراعي المسافة بين الزمن الذي كُتبت فيه هذه النصوص والزمن الذي فيه نؤوّنها.

5- فوائد ومخاطر القراءة البيبلية الأطرية
تنبّهنا القراءةُ الأطريّة إلى أن تعليم البيبليا يتدخّل في حياتنا. تجعلنا ننطلق من وضعنا، من موضعنا في المجتمع وفي الكنيسة، ننطلق من ممارستنا اليوميّة، ونقابل كل هذا مع البيبليا من أجل ممارسة جديدة.
وتعمل الأساليب الأطريّة لتجعلنا نكتشف يوماً بعد يوم القوة التي تحوّل حياةَ حقيقةِ الله (أو: كلمة الله) وتجعلنا نكتشفها كل يوم في جدّتها: حياة وإيمان. اعتراف وعمل. حقيقة وممارسة. قد ينفصل الواحد عن الآخر، ولكنهما في الواقع ينتميان إلى حقيقة الله الواحدة.
غير أن للقراءات الاطرية أخطارها نذكر منها:
- نقرأ في الكتاب ما وضعناه نحن فيه. وهكذا لن تعود البيبليا تستطيع أن تبذل نظرتنا، إيماننا، أعمالنا، بل تثبّتنا فيها. حينئذ لن تعود البيبليا تجعلنا نكتشف جديداً لم نكن نعرفه بالتحليل الأطريّ.
- نربط النصّ البيبليّ بشكل مشكوك فيه بواقع حياتنا اليوم. فنصل إلِى قراءة "أصوليّة" تتنبّه إلى النصّ بشكل خاص لا إلى التعليم الأساسيّ في البيبليا. هنا نتذكّر قراءة بعض النصوص التي تعادي المرأة، التي ترفض سائر الجماعات أو سائر الديانات، التي تبدو في انشداد مع التعليم التحرّري في أساس البيبليا. فالقراءة البيبليّة التي تريد أن تكون "جواباً على تحدّيات حياتنا المعاصرة"، ينبغي أن تنتبه لخطر "الانزلاق" حين تؤوّن النصوص أو حين تقرأ نصوصاً ما زالت موضوع تساؤل. لهذا فالنصوص البيبليّة التي تعادي النساء أو ترتبط بتقليد تأويلي يشدّد على الذكوريّة أو الاربابية... لا تقرأ إلا بمساعدة "تفسير نقديّ دقيق".
- وإذ نشدّد على وجهات الممارسة بالمقاربات الأطريّة إلى البيبليا، تعلن أن البيبليا تحدّثنا في النهاية عن الله المحرّر. وعملنا الخاص هو جواب على عمل الله المحرّر، وهو لا يستطيع أن يحلّ محلّه. وقي العمل الرعائي أيضاً، فالقراءة الحرّة من كل هدف ودراسة النصّ، هما غنى مهمّ للقراءة الأطريّة. يجب أن نكتشف في كل وقت أبعاداً، كنّا قد توقّعناها حتى الآن ونصوصاً أهملناها، وكل هذا يغني علاقتنا الحيّة بالبيبليا ويربط حياتنا بحياتها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM