علاقات متبادلة بين النص والقراء

علاقات متبادلة بين النص والقراء

ونصل إلى قراءة بيبليّة تشدّد على العمل المتبادل بين النصّ وقرّائه. هذا ما يرتبط بالقراءة (الموجهة نحو النصّ أو نحو الإطار الحياتيّ) النصوصيّة أو الأطرية، وهذا ما يعيدنا إلى القرّاء والقارئات الذين سبق وأشرنا إليهم في المحطّات السابقة.

1- القراءة عمل ينتج
هناك نظريات حديثة تنظر إلى دور القارىء أكثر منه إلى النماذج السابقة. ويعتبرون أن القراءة ليست استيعاباً منفعلاً (لا دور للقارىء، بل هو يترك النصّ يدخل إليه) للنص ومعناه. فالقارىء يلعب دوراً ناشطاً. يقولون: القارىء "يبني" النصّ أو "يخرجه" (كما يخرج السينمائي قصّة).
وقدم مرتين ولسر في هذا الصدد مقابلة واضحة: "ليست القراءة عملاً يشبه سماع الموسيقى. بل بالاحرى يشبه عمل (كتابة) الموسيقى. الاداة هي نحن". وهناك نظريات حول اللغة تسير في الخط عينه، بل تتعدّاه، فتقول إن التفسير يخلق النصوص. ولكن حين نتوقّف عند حدود التفسير، يجب مع ذلك أن نأخذ بعين الاعتبار تأثير القارىء على القراءة، على قراءة البيبليا. مثل هذا المبدأ له نتائج هامة.
أ- التقليد والتفسير
ما هو مدلول التقليد والعاملين في التفسير؟ في أي تقليد وجماعة تفسير يجد القرّاء نفوسهم؟ هذا مهمّ جداً لأنه يطبع بطابعه الفهم الاساسيّ للبيبليا. ويلفت انتباهنا إلى بعضا الوجهات، ويقرّر الاسئلة المهمة والأقلّ أهميّة.
في هذا الإطار، نتذكّر قول المجمع الفاتيكاني الثاني: "إن التقليد المقدّس، والاسفار المقدّسة، وتعليم الكنيسة، هي قرارات العناية الحكيمة، وهي ترتبط بعضها ببعض بحيث لا تبقى واحدة بدون الاخرى، وبحيث إنها معاً وكلاً بطريقته، يخدم خلاص النفوس بعمل الروح القدس".
نستطيع أن نقول الشيء الكثير في فهم هذا المبدأ. إنما أكتفي بتلميح يبرزه المجمع في السياق نفسه حول وظيفة التعليم الخادمة: لا نفصل التعليم الحيّ عن الباقي، لأن الكنيسة كلها هي أيضاً كنيسة معلّمة (راجع دور "حسّ المؤمنين")، ولأن التعليم يجب أن يمارس "في تبادل متواصل مع المؤمنين والكهنة واللاهوتيين".
ب- مدلول الخيارات المختلفة وحدودها
خلال القراءة لا تُعطى الاجوبة على الاسئلة مهما كانت النقاط التي توجّهنا، مهما كانت التقاليد والنصوص مهمّة. ومع التساؤل حول أجزاء البيبليا، لا تعطى الأجوبة بشكل موضوعي فقط خارج النصوص، بل نطلبها ونجدها في حوار بين النصّ والقرّاء. وقد أشار مفسّرو لاهوت التحرّر إلى مدلول الخيارات المختلفة. فليس من حقبة في تاريخ الكنيسة، ولا من اتجاه لاهوتي، وليس من شخص فريد يستطيع أن يدرك كل حقيقة البيبليا. فالذي يأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة، يعيد دوماً النظر في قراءته للنصوص. ولا يعتبرها أبداً مطلقة. إنها نسبيّة. وهناك قراءات كثيرة غيرها.
ج- مدلول الاسئلة المطروحة
وتتوضّح أمية الدور الذي يلعبه القرّاء، حين نوجّه أنفارنا إلى مسائل القراءة البيبليّة. فإدراكنا للبيبليا وتعليمها يرتبط بنوعيّة الاسئلة، بتلك التي نعتبرها مهمّة أو غير مهمّة. كما يرتبط بالطريق الذي فيه نبحث عن الاجوبة. وتزداد كفاءة القرّاء حين يعرفون أن يطرحوا على النصّ الاسئلة الصالحة.

2- قرّاء الكتاب المقدس
حين نتنبّه إلى القرّاء والقارئات، يصبح الرباط واضحاً بين القراءة البيبليّة والنظرة إلى الانسان. سبق وتكلمنا عن الاطار الذي يؤثّر على الانسان ويؤثّر الانسان عليه. ولكن نظرة الى الانسان لا ترى في الفرد أو في الجماعة إلا نتاج ظروف الحياة الخارجيّة، تبقى نظرة مشكوكاً فيها. بالاضافة إلى ذلك، فالقراءة البيبليّة التي تتوقّف فقط عند ظروف الحياة الخارجيّة، لا تستطيع أن تتحدّث عن اهتمامات البيبليا الأساسية، لأن البيبليا لا تعد فقط بـ "سماء جديدة وأرض جديدة" (رؤ 21: 1)، بل "بقلب جديد" (حز 36: 26) أيضاً.
أ- جميع الحواس
البيبليا هي نصّ، لهذا لا بدّ من الاتصال بالكلمة من أجل العلاقة مع البيبليا: نسمع ونقرأ، نتكلّم ونكتب، وكل هذا لا ينفصل بعضه عن بعض من أجل التعرّف إلى البيبليا ونقلها.
ولكن إذا أردنا أن نراعي جميع الذين يصعب عليهم الاتصال بالآخرين بواسطة اللسان، وبما أن البيبليا تحدّثنا دوماً عبر جميع حواسنا، يجب أن نُدخل الانسان كلّه في اللقاء مع البيبليا.
فقد قابل المجمع عطيّة الله ذاته بالتجسّد. ونحن نعتبر هذا البعد التجسّدي للبيبليا حقاً، حين لا نكتفي بأن ندرك الكلمة المحكية والمكتوبة، بل نصل إلى الصور والموسيقى والرموز والاحتفالات والرقص وعشاء المحبة، وهي كلها تعبرّ عن تعليم الله.
ب- الرأس والقلب واليد
حين نتحدّث عن أساليب القراءة البيبلية، نركّز على بُعد حياتنا الذي نؤثّر عليه: على فكرنا وعلى عملنا. غير أن حياتنا هي أبعد من هذه الوجهات التي تحدّدها عواطفنا ولا وعينا، والتي لا نصل إليها بشكل مباشر.
وهذا البُعد للوضع البشريّ والايمان، قد بلغ مسافة كبيرة خلال هذه السنوات الاخيرة في العمل البيبليّ والروحانيّة، أقلّه في المجتمعات الغربيّة حيث كانت الحياة فقيرة على مستوى العاطفة (هناك العقلانيّة والتجريد). مرّات عديدة تحدّثنا عن "الاساليب الاجماليّة"، للقراءة البيبليّة، التي توحّد الجسد، فكانت موضوع جدال كبير.
فالنظرة إلى الانسان البيبليّ تعرف العواطف ومستوى اللاوعي، وتتحدّث عن عالم الاحلام وما يتجاوز عقلنا. ثم، إن البيبليا قد ساعدتنا على تجاوز هذا الانفصال بين الجسد والنفس (الجسد والنفس يعني الانسان كله، الذي لا ينفصل إلى اثنين. فهو كله نفس بمعنى أنه يرتبط بالله. وهو كله جسد بمعنى أنه يرتبط بالتراب)، بين العاطفة والعقل، في عالمنا المطبوع بالثقافة اليونانيّة.
ج- تاريخ واضح
إن أحد توسّعات إشكاليات عصرنا هي أن الحاضر والآتي صارا حاضرين في كل مكان بحيث ضاع الماضي والتاريخ والتذكّر. ولكن لكل إنسان (ولكل مجتمع) تاريخه، تاريخ حياة فريدة تربطه بالآباء والأجداد.
وفي العمل البيبليّ، لا نتطّلع فقط إلى تاريخيّة البيبليا، بل إلى تاريخنا وتاريخيتنا الشخصيّة. وحين نجعل سيرتنا (وتاريخ شعوبنا وكنائسنا) في حوار مع سرّ البيبليا وتاريخ شعب الله البيبليّ، نكون في جوّ مقاومة ضدّ فقدان التاريخ والتذكّر الذي يهدّد عصرنا.
د- فرد ومجتمع
نحن نفكّر مراراً في العلاقة بين الفرد والمجتمع، خصوصاً في إطار القراءة البيبليّة. وحين نقرأ البيبليا بشكل فرديّ، نرتبط بجماعة الكنيسة، كما نرتبط بجماعة البشر كلّهم. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إن الأفراد والمجموعات قد أعطوا دوماً للقراءة البيبليّة دفعاً جديداً. فللقراءة البيبليّة لدى الفرد قيمتها في ذاتها، ليس فقط من أجل الروحانيّة، بل من أجل تحليل النصوص أيضاً.
في هذا الإطار نرى الفائدة من ملاحظات اللجنة البيبليّة حول "دور مختلف أعضاء الكنيسة من أجل تفسير البيبليا" (هي في روح فاتيكان الثاني). وتتحدّث الوثيقة عن "عدد متزايد من النساء يحملن كمؤوّلات فهماً جديداً فيء تفسير الأسفار المقدّسة". كما تشير إلى أن القراءة المشتركة تصبح أغنى حين لا يشارك فيها فقط الرجال، بل النساء أيضاً.
هـ- انفتاح على روح الله
لا شك في أن تفكيراً إجمالياً حوله مختلف أبعاد الوضع البشريّ والنظرة إلى الانسان البيبلي، يبرز عدداً من العناصر الهامة من أجل تفاعل متبادل بين النص والقرّاء. وتجاه هذا البُعد للقراءة البيبليّة، تكون كل قراءة بيبليّة انتقائيّة، فيُفرض علينا أن نتوقّف عند، الوجهات التي تهمّنا في كل حالة من الحالات.
غير أن تفكيرنا يبقى ناقصاً إن كنا لا ننظر إلى انفتاح الانسان والجماعة على روح الله. فإن لم يُوجد نهج يكفل لنا أننا نسمع في كلمات البيبليا روح الله الحيّ، وحين تكون الاذن المصغية والقلب السامع عطيّة من الله (نصلي للحصول عليها) فنهج قراءة بيبليّة لا يسنده الاتكال على الله، لا يستطيع أن يساعد البشر على أن يعيشوا البيبليا كـ "ينبوع حياة". لهذا نصلّي ليحسّ كل كائن بشريّ بهذا العطش إلى كلمة الله.

3- منافع وأخطار القراءة الموجّهة نحو القارىء
من فوائد القراءات البيبليّة التي تشدّد على الرباط المباشر بين النص والقرّاء، أنها تلامس الناس بشكل مباشر وتعنيهم. فالخبرة التي تقول: النص يعنيني ويعني حياتي، هي ما يدفعنا دوماً إلى الاهتمام بالبيبليا. وهذه الخبرة تدفع النساء والرجال ليعملوا بقوّة مضاعفة.
ولكن التشديد على البُعد من القراءة له مخاطره.
- قد تصبح النصوص البيبلية مرآة للأنا وللجماعة، بحيث لا يجد القارىء إلا نفسه (لا كلمة الله). وخبرة الأنا قد تجعلنا نعمى أمام طابع النصوص بما فيها من غرابة وتحدّ بالنسبة إلينا (تصبح مثلنا فلا تطرح علينا جواباً). فما تعود تدفعنا إلى أن ننتقد ذواتنا. ولا نعود نكوّن فكرة عن المسافة بين ما نحن وما نستطيع أن نكونه في نظر الله، وكل ذلك لكي نبدّل حياتنا.
- ومن نتائج العودة إلى الأنا الشخصّي (أو إلى جماعتي) فقدان العودة إلى الواقع. فبدلاً من أن نهتمّ بالعالم وتحدّياته نهتمّ بذواتنا كفرد أو كجماعة.

خاتمة
ونصل إلى نهاية فكرنا حول تعدّد أساليب القراءة البيبليّة. فالاساليب (النهج) هي طرق، ولكنها ليست الهدف ذاته. ونحن نجد النهج الموافق حين نطرح الاسئلة حول الهدف الذي نطمح إليه.
إن شعار جمعيتنا العامة يصوّر هذا الهدف بكلمات إنجيل يوحنا: "الحياة بوفرة" (يو 10: 10). ويدلّ على البيبليا التي هي "ينبوع حياة".
هنا نعود إلى المزمور الأول الذي يقابل الحياة بالمياه المحيية. هذا المزمور الذي يفتتح سفر المزامير، يقدّم ببساطة الوصايا الأساسيّة من أجل ارتباط الايمان والصلاة بكلمة الله.
"طوبى للرجل الذي لا يسير حسب مشيئة الأشرار، الذي لا يتوقّف في طريق الخطأة (يتابع سيره)، الذي لا يجلس مع المستهزئين (الساخرين بالعائشين حسب وصايا الله). بل يجد ملذّته في شريعة الرب ويتأمّلها ليلاً ونهاراً. إنه كالشجرة المزروعة عند مجرى المياه فتعطي ثمرها في حينه، وورقها لا يذبل أبداً: كل ما يعمله (هذا الرجل البار) ينجح. أما الأشرار فليسوا هكذا: هم كالعصافة في مهبّ الريح. لهذا لا يقف الاشرار (مرفوعي الرأس) في يوم الدين، ولا الخطأة في جماعة الصدّيقين. فالربّ يعرف (يصون) طريق الأبرار. أما طريق الاشرار فتقود إلى الهلاك".
يبدأ المزمور فيشجّع الانسان. فالذين يتركون الشريعة تقود حياتهم، يوعدون بالسعادة، بحياة وافرة. ولكن قبل أن يتحدّث المزمور عن الذين يسّرون بوصايا الرب، يميّزهم عن الذين لا يخدمون إله الحياة، عن "الساخرين" الذين يُخضعون كل شيء للربح. البار لا يقف ولا يجلس ولا يمشي مع هؤلاء الناس. إنه يقيم في أماكن أخرى، ويسير في طرق أخرى، ويعيش في جماعة أخرى.
هو يتأمّل شريعة الرب ليلاً ونهاراً. فحياته بكل أبعادها تنطبع بكلمة الله. وهي لا تحدّد فقط مجالاً واحداً من مجالات حياته، بل "النهار والليل"، زمن العمل وزمن الراحة، عالم الوعي وعالم الاحلام. تحدّد الإنسان في كل حياته. ولا يكتفي الانسان بأن يتأمّل شريعة العليّ، بل يهذُّ بها ليلاً ونهاراً. وهكذا تصبح الكلمة البيبليّة كلمته الخاصة بعد أن استبطنها وهضمها وقبلها في حياته.
والتأمل في شريعة الرب يحمل أطيب الثمار، يصبح ينبوع حياة وسعادة لا للقارىء فقط، بل لجميع الناس. والاوراق التي تحملها الشجرة لا تذبل. فمن كلمة الله تخرج قوّة مغذّية وشافية للذين تجذّرت حياتهم وارتبطت بينبوع الحياة.
وآخر أساس وأعمقه من أجل "سعادة" وُعد بها أولئك الذين يطلبون ينبوع الحياة في كلمة الله، هو أن الله يعرف (يصون) طريق الابرار. هذا ما يدلّ على الاتصال واللقاء والعلاقة. فإله الحياة يرافق البشر الذين يتضامنون مع الأبرار ولا يربطون حياتهم بالذين يُخضعون كل شيء لنجاحهم الخاص وفائدتهم. الذين يسمعون كلمة الله ويجعلونها في باطنهم، في قلبهم. الذين صارت حياتهم ينبوع غذاء وشفاء للآخرين.
هذا المزمور يستعمل الصور والألفاظ ويتحدّث عن الاطار والنصّ والقرّاء، فيدعونا إلى العيش في فرح كلمة الله، بحيث لا "نجلس وسط الساخرين"، بل نكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه فتعطي ثمرها في حينه ولا يذبل ورقها... لأن الربّ يعرف طريق الأبرار ويصونهم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM