قراءات بيبلية تشدد على النص

قراءات بيبلية تشدد على النص

في تفكير حول أساليب تجعل النصّ في قلب القراءة، لا بدّ من أن نوضح ما هو النصّ في الواقع، وكيف يؤدّي وظيفته.

1- النصّ هو لحمة ونسيج
يتألف النصّ من علامات مختلفة، من ألفاظ وجمل ترتبط بعضها ببعض بواسطة قواعد محدّدة. فالنصّ هو نسيج. وفي وضع البيبليا، هذا النسيج هو متشعِّب بشكل خاص ومترابط بطرق مختلفة. من جهة، تُعتبر بعض الاقسام في ذاتها. ومن جهة أخرى، هناك ارتباطات وتلميحات أدبيّة أو تاريخيّة، وهناك توازيات وإعادة قراءات للنصّ الواحد.
هناك أساليب تأويلية تهتمّ بالعلاقات الداخليّة بين مختلف اجزاء النسيج البيبليّ. وكان الاهتمام بالعلاقة بين النصّ ووضعه حين دوّن، قد أهمل هذه الوجهة. وكان من فضل وثيقة اللجنة البيبليّة الحبريّة، أنها أخذت بهذا التطوّر الجديد وقدّمته في حلقات تتعدّى نطاق الكنيسة.
وفي ما يخصّ الأشكال الرعائية والشعبيّة في القراءة البيبليّة، فالنظر بجديّة إلى العلاقات بين النصوص، يعطي القراءة تماسكاً أفضل وثقلاً، ولكنه يدعونا إلى التفكّر في المسائل الرئيسيّة للفهم البيبلي في منظار جديد. والوعي بأن كل نصّ يرتبط بعلاقات متداخلة، يجعل من المستحيل العودة إلى نصوص وجمل منعزلة تثبت أو تشرّع نظرتها الخاصة.

2- النصّ هو عنصر في مسيرة الاتّصال
إن نسيج نصّ بيبلي ليس شيئاً مستقلاً يكفي نفسه بنفسه. فهناك نصوص تخرج من ذاتها وتواجه المجتمع الذي فيه خُلقت ونُقلت. كما تواجه الاطار التي تقيم فيه الآن. لا شك في أن هناك نصوصاً بيبليّة لا تترابط كغيرها في هذه العلاقة من الخلق. ولكننا لا نستطيع في الاساس أن نضع جانباً الارتباط التاريخي للبيبليا. وقد كتبت اللجنة الكتابيّة: "إن التعليم البيبلي يتجذّر تجذّراً متيناً في التاريخ. لهذا، لا نفهم الكتابات البيبلية فهماً صحيحاً دون أن نتفحّص ظروفها التاريخيّة".
وهكذا نستطيع أن نكيّف، بالنسبة إلى النصوص البيبليّة، الرسمة التي استعملناها لنصوّر مختلف قراءات البيليا. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن النصوص البيبليّة كانت في زمن خلقها ونقلها وتثبيتها في اللائحة البيبليّة، قد قبُلت وأوّنت ونقلها اناس مختلفون وُضعوا في أطر مختلفة.
إذن يكون تفاعل بين النصّ كنسيج من جهة، وبين الاطر المتبدّلة وشعب الله في التاريخ من جهة ثانية. كما أن هناك تفاعلاً بين الأطر المتبّدلة وشعب الله في التاريخ.
وهكذا تُفتح فجوة واسعة لاستعمال الأساليب التاريخيّة والعلوم البشريّة، ولو أبرزت بعض الاساليب والتساؤلات هذه الوجهة أو تلك وتركت في الظلّ وجهات باقية.
وبالنسبة إلى الاساليب الرعائية الشعبيّة، هناك صعوبتان تجعلانها موضوع تساؤل.
الأولى: لا يدرك المعرفةَ التاريخيّة إلا عددٌ قليل من الخبراء. فإذا كان على النصّ أن يكون الأهم في اطار الخلق بالنسبة إلى القراءة البيبليّة، حينئذٍ تحتاج المجموعات البيبلية إلى مساعدة لا بدّ منها. وهذا يفترض الحوار بين الاخصّائي والقارىء البسيط للبيبليا. وهذا الحوار ليس بالسهل، وهو يتطلّب كثيراً من الصبر وامكانيّة التوافق بين جميع المشاركين. يُطلب من المفسّرين أن لا يقدّموا كل علمهم، بل أن يستمعوا بانتباه إلى أسئلة الناس الحقيقية. وبالنسبة إلى معظم قرّاء البيبليا، يطلب هذا الحوار الاستعداد بأن لا يكون لهم الجواب السريع على سؤالاتهم الحيوية، فيقبلوا أموراً جديدة قد تكون غريبة في نظرهم. وسوف يفهمونها في ما بعد.
الثانية: يجب أن نعرف أن التاريخيّة هي نقطة أساسيّة في الايمان. وأن الله "تكلّم في الكتب المقدّسة بواسطة البشر وحسب البشر". لهذا نأخذ بعين الاعتبار هذه التاريخيّة في كل اعلان كنسي، وفي التعليم المسيحيّ، وفي الوثائق. لهذا خاب أمل بعض الناس حين عرفوا أن مؤلفي التعليم الكنسي الكاثوليكي، لم يحصلوا على وثيقة اللجنة البيبلية حين دوّنوا كتاب التعليم.

3- فوائد ومخاطر القراءة البيبلية المركّزة على النصّ
إذا فهمنا قراءة البيبليا كنهج حوار، حينئذ نجد فائدة الأساليب التي تتركّز فقط على النصّ البيبلي وعلى طريقة خلق النصّ، في سماع بدون أمور مسبقة، سماع يكون قريباً من النصّ وفيه يخرج القارىء من ذاته ومن إطاره بقدر الامكان ويحاول أن يجيب بشكل موضوعيّ على أكبر عدد من الاسئلة. لا شكّ في أن هناك مقاربات تفسيرية تظن أن استبعاد اهتمامات القارىء أمر مستحيل، وأن التحدّث عن الموضوعيّة التامّة شيء مشكوك فيه. ولكن قراءة النصوص البيبليّة ودرسها وتحليلها مع أقلّ ما يمكن من أهداف ثانويّة، تبقى ضروريّة لكي نسمع صوت كلام الله في "غرابته" (هو غريب عنا، نحن لم نأتِ به من عندنا فجاء صدى لما في قلبنا). فلا نقرأ فيه ما وضعناه نحن من أفكار وأهداف.
غير أن القراءة البيبليّة التي تشدّد فقط على النصّ معرّضة أيضاً لبعض الأخطار. وها نحن نذكرها.
- قد تجعلنا نحسّ أن "كلام الله" وألفاظ البيبليا هي هي. وقد قدّم تعليمُ الكنيسة الكاثوليكيّة جوابا في هذا المضمار: ليس الايمان الكاثوليكي ديانة الكتاب. المسيحيّة هي ديانة كلمة الله. لا كلمة مكتوبة وصامتة. بل كلمة حيّة صارت بشراً.
- قد تتوسّع المسافة بين النصّ القديم وإنسان اليوم بحيث تنحصر البيبليا في تاريخ نصّ، بحيث لا ندرك علاقة الكتاب بعالم اليوم.
- قد نحصر معنى النصّ المنعزل في ما أراد أن يقوله في الأصل، بحيث لا نعود نرى وجهات معنى جديدة زيدت على النصّ على مدّ انتقاله في أزمنة متبدّلة، ويمكن أن تزاد اليوم بعد.
إن دراسة البيبليا التي تهتمّ بقدر الامكان بالنصّ فقط، ليست فقط جزءاً من قراءة بيبلية تضمّ إليها أيضاً القارىء والاطار. ومع ذلك، فوثيقة اللجنة الحبريّة البيبليّة تنبّهنا إلى هذا البُعد (إلى أهمية قراءة النصّ في إطار حياتنا) وتحمي القراءة البيبلية الرعائية والشعبيّة من تبسيط يحرمها العمق الذي تجده في النصوص الكتّابيّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM