الفصل السادس عشر: شكر على المعونات المرسلة

الفصل السادس عشر
شكر على المعونات المرسلة
4: 10- 23

إن هذا المقطع من فل هو محدّد تحديداً دقيقاً بحيث رأى فيه عددٌ من الشرّاح رسالة جاءت في البدء مستقلّة ثم أقحمت في الرسالة إلى فيلبّي. هذا لا يعني أن هذا الرأي يفرض نفسه. غير أننا نلاحظ في الواقع أن موضوعاً واحداً يجمع أجزاء هذه المجموعة: شكرَ بولس أهل فيلبّي على الهديّة التي أرسلوها إليه بواسطة ابفروديتس (2: 25- 30). وسبق لبولس أن عبّر عن شكره في "بلاغ" شفهيّ سابق (2: 26). وهو الآن يقدّم بشكل خطيّ خطابه الشفهيّ. والسبب واضح لدى قراءة هذه المقطوعة: فلسنا فقط أمام شكر بسيط، بل أمام توسيع في فقاهة حقيقيّة ترتبط بظرف معيّن. إنطلق بولس من "مالٍ" تسلّمه، فبيّن لنا المدلول اللاهوتي والرعائي لهذه التقدمة التي تسلّمها من أهل فيلبّي.

1- المعنى اللاهوتي والرعائي
أ- استقلاليّة الرسول
"فرحت... إذ رأيت أخيراً أن عواطفكم نحوي قد أزهرت" (آ 10). هل نحن أمام لوم متحفّظ، ولا سيّما مع لفظة "أخيراً" (رج روم 1: 10)؟ يدلّ بولس على أن اهتمام الجماعة به قد "أزهر" في النهاية. ومهما يكن من أمر، فالفرح يسيطر هنا. وينبوع هذا الفرح وعلّة وجوده هو الربّ. وهو يُختبر في الكنيسة ولا ينفصل عن علاقات المحبّة القائمة بين أعضائها. هذا الفرح يفترق عن فرح "طبيعي" و"طوعيّ". إنه كالحبّ الذي يتفرّع عنه. ولهذا يمكن أن يكون موضوع وصيّة سوف يكرّرها بولس. "وبعد أيها الأخوة إفرحوا في الربّ" (3: 1 أ). "إفرحوا في الربّ على الدوام، وأقول أيضاً إفرحوا" (4: 4). "وبعد أيها الأخوة، كونوا فرحين" (2 كور 13: 11).
يعذر بولس مراسليه، وإن كنا لا نعرف الظروف التي جعلتهم يتأخّرون في مدّ يد المعونة له. ما يهمّه بالأحرى هو أن لا يظنّوا أنّه يطلب العطايا بفعل الحاجة. فمهنته كرسول علّمته أن يكون حراً تجاه كل عون بشريّ. لم يعرف فقط أن يعيش في الفقر، بل (وهذا أصعب) أن يستغني عن إرضاء حاجاته تجاه الجوع أو العري. قال في 1 كور 4: 11: "ونحن حتى هذه الساعة نجوع ونعطش ونُعرى ونلطم". وفي 2 كور 6: 4 ي: "بل في كل شيء نظُهر أنفسنا خدّاماً لله. بالصبر الكثير في المضايق والشدائد والمشقات، تحت الضرب وفي السجون والاضطرابات والأتعاب والأسهار والأصوام". وفي 11: 23- 24: "في الأتعاب أكثر، في السجون أكثر... ضُربت بالعصي، انكسرت بي السفينة ثلاث مرات...".
نحن هنا أمام الحرية، لا أمام تنسّك وبحث عن إماتة. وفي هذا يشبه بولس بعض الشيء الفلاسفة الرواقيين الذبن توخّوا أن يجعلوا نفوسهم في السلام بواسطة اللامبالاة تجاه ظروف الحياة الطبيعيّة. ولكننا نخطىء إن حصرنا الرسول داخل هذا التيار الفكريّ. فالاستقلاليّة التي يطلبها ويطالب بها في كل الظروف، هي في الواقع تبعيّة وارتباط. فبولس، شأنه شأن كل مسيحيّ، لا يرى شكلاً آخر من أشكال الحرّية إلا التعلّق بالمسيح. هو عبد يسوع المسيح. وقيوده (1: 7، 13، 17) هي علامة تدلّ على تبعيّته هذه.
غير أن المسيح الذي يهب الرسول نفسه له، بعد أن تحرّر من كل عائق أدبيّ، هو المسيح الذي يبشرّ به. والاستقلاليّة التي نتحدّث عنها هي الفراغ الذي يتيح للمحبّة الرسوليّة أن تجتاح قلب الكارز بالإنجيل، وتجعل الراعي مهتماً معتنياً بجماعته. تجعله خادماً للرعيّة كما هو خادم للمسيح. قال في 1 كور 9: 19: "فإذ كنت حراً من الجميع عبّدت (جعلت نفسي عبداً) نفسي للجميع لكي أربح الكثيرين".
وهناك عبارة أخرى تبعدنا كل البعد عن حلقات "الفلسفة". بولس هو كلّه في ذاته حين يعلن استقلاليّته. فيقول: أنا كل شيء في ذلك الذي يقوّيني. ونحن نفهم هذا السلطان في سياق النصّ. لسنا أمام إمكانيّة تامة بأن نحقّق ما نريد، بل بالأحرى أمام سلطان لا حدود له بأن نتحمّل كل شيء. فبولس لا يُقهر أمام المحن والمضايقات، وهو يفتخر بذلك. غير أنه يؤكّد حالاً أنه لا يستخرج هذا السلطان من قواه الخاصّة. فالمسيح لم يُخفِ عليه شيئاً حين أعلن له: "تكفيك نعمتي" (2 كور 12: 9). ويقول بولس بشكل مفارقة: "حين أكون ضعيفاً، حينئذٍ أكون قوياً" (2 كور 12: 10 ب). وهذه القوّة التي يفتخر بها بولس بلا تردّد، هي قوّة قيامة المسيح (فل 3: 10) التي يشارك فيها الإنسانَ يسوع بالإيمان والمعموديّة، ساعة يموت فيه كائن الكبرياء والضعف البشري.
ب- قيمة هديّة ماليّة
بعد أن قال بولس ما قال، لم ينتقد ما فعله الفيلبيّون، بل رأى أنهم أحسنوا. إذن، لسنا أمام موقف متصلّب. وإن رفض بولس أن "يتاجر بكلمة الله" (2 كور 2: 17)، فهو يعرف أن يقدّر هذه الهديّة قدرها: هي مشاركة صادقة في العمل الرسولي الذي يتمّه الرسول الآن وهو في القيود (1: 7، 12- 14). ويمكن أن تكون هذه المشاركة حاضرة في ظروف أخرى.
هذا ما يدعونا إليه بولس ذاكراً مختلف عطايا الفيلبيّين. فليست هي المرّة الأولى التي فيها دلّت هذه الجماعة على سخائها. فما إن ترك فيلبّي بعد تأسيس الكنيسة فيها، حتى أرسل إليه أهلها معونة إلى تسالونيكي (رج أع 16: 4- 17: 1). وما يدهشنا هو أن كل هذ السخاء ليس عوناً للرسول بقدر ما هو فائدة "للمسيحيّين". ويستعمل بولس لغة التجارة حين يكتب أن ما يطلبه حين يتقبّل هذه الهدايا، ليست الهدايا في حدّ ذاتها، بل "الثمر (أو: الفائدة كما المال في المصرف) الذي يُضاف إلى مالكم" (4: 17).
يجب أن يكون المؤمنون سعداء. فهم حين يشاركون في الكرازة بالإنجيل، إنما يجلبون على نفوسهم خيرات الله وبركاته. "مقابل هذا، سيملأ إلهي كل احتياجاتكم على حسب غناه وكرمه في المسيح يسوع" (4: 19). ليس الجزاء بعيداً، ولكننا نعيش في انتظاره (3: 20). وما عمله الفيلبيّون يتسجّل في سلسلة الأعمال الأخلاقيّة التي يقابلها بولس مع أعمال العبادة الطقسيّة: "عطر طيّب العرف، ذبيحة مقبولة لدى الله، مرضيّة" (4: 18 ب؛ رج تك 8: 21؛ خر 29: 18، 25، 41).
فالعبادة الحقة تتمّ في المحبّة وبالمحبّة. هذا ما نقرأ في عب 13: 16: "أما الاحسان والمشاركة في الخيرات، فلا تنسوهما، لأن الله يرتضي مثل هذه الذبائح". وينهي بولس كلامه منشداً الله في مجدلة تشبه ما في غل 1: 5؛ روم 16: 17؛ أف 3: 21؛ 2 تم 4: 18، فتورد إحدى عبارات الليتورجيا المسيحيّة: "لإلهنا وأبينا المجد إلى دهر الدهور. آمين".

2- كلام شكر إلى أهل فيلبّي (4: 10- 17)
أ- شكر متحفّظ
هنا نحن أمام شكر وجّهه الرسول إلى أهل فيلبّي حين تسلّم عونهم الماديّ بواسطة ابفروديتس. ولكن حين يشكر بولس، فهو لا يطلق العنان لفرحه. أيكون أن الفيلبيّين تجاوزوا توصية الرسول فأرسلوا إليه هذه المعونة الماديّة؟ نحن نعرف كم كان بولس يغار على استقلاله الماديّ الذي كان له مصدر سوء تفاهم ولا سيّما في كورنتوس. غير أن الوضع يبدو هنا مختلفاً.
وتلفت انتباهنا آ 17: "لا أني ابتغي العطيّة". هذا يعني أن الفيلبيّين ظنّوا أن بولس يطلب العطيّة. فكيف يكون عونهم طوعياً؟ لهذا نظنّ أن بولس طلب مساعدة من كنيسة فيلبّي. وقد يكون السبب العلاقات "الباردة" مع الجماعة المحليّة (1: 15- 10)، فما أراد أن يطلب منها مدداً. كان في حاجة إلى مال من أجل مشاريعه الرسوليّة، أو ربّما من أجل الدفاع عن نفسه في المحكمة.
في هذا المنظار نفهم لفظة "أخيراً" (آ 10: 1 ي: لقد تأخرّتم)، كما نفهم تشديده أنه كان بإمكانه أن يستغني عن هذه العطايا (آ 11- 13)، وقوله إلى أهل فيلبّي بأنه لم يطلب من أحد غيرهم (آ 15- 17). وهكذا أبرز المعنى العميق لهذا الطلب، وهو أن يضمّ الجماعة إلى العمل المشترك، إلى الكرازة بالإنجيل.
ب- فرحت في الرب (آ 10- 11)
ينطبع هذا المقطع بطابع الفرح. وهذا الفرح هو "في الربّ". وما يسبّبه هو الأخوّة التي أظهرها الفيلبيّون تجاه الرسول فدلّت على أن المسيح هو الربّ في كنيسته. لقد "أزهرت" هذه الأخوّة مرة أخرى، أو هي خرجت من الجماعة كما البرعم من الشجرة بعد فصل الشتاء. وهكذا نفهم الفعل "اناتالاتي" في معنيين. في معنى التكرار، قدمّتم مرة أولى عطيّة، وها هي المرة الثانية. أي اهتمتم مرة ثانية. "أزهرتم" على مستوى الاهتمام. وفي معنى التفكير بالرسول. نسيتم أن رسولكم في ضيق. لهذا "أزهر" اهتمامكم تجاهي. أي اهتممتم بأن تقوموا بواجبكم وإن متأخّرين.
إرتاح بولس بعض الشيء حين وصل إليه المدد. ولكنه لام بعض الشيء "أصدقاءه" في فيلبّي. واهتمام أهل فيلبّي يرافقه فعل "فرونيو" الذي تحدّثنا عنه بشكل خاص في 2: 3 ي. في 1: 7، استعمل الرسول البنية عينها (فرونيو، هيبر) فعبّر عن اهتمامه بقرّائه.
نستطيع أن نرى في نهاية الآية عبارة سببيّة ترتبط مع "فرحت"، فتدلّ على سبب آخر للفرح. أو عبارة موصوليّة تعيدنا إلى أحد عناصر العبارة السابقة. مهما يكن من أمر، نرى في هذه الجملة تخفيفاً للوم الذي وجّهه الرسول إلى أهل فيلبّي: ليس الفيلبيّون مسؤولين عن تأخّر المدد، بل الظروف.
وهناك اعتراض يجب أن نزيله حالاً (آ 11). إن بولس لا يتكلّم مدفوعاً بالحاجة. فالرسول عرف في مدرسة الرسالة أن يتعامل مع جميع الظروف ومع جميع الأشخاص. عرف أن يكون مستقلاً لا استقلال الإنسان الذي يكفي نفسه بنفسه، بل الإنسان المستند إلى الله. بما أن الرسول عرف أن لا يرتبط إلا بالله، اقتنى الحرّية الحقيقيّة.
ج- أعرف أن أعيش (آ 12- 14)
ويشرح لنا بولس الآن لماذا لا يمكن للفقر أن يكون الدافع لسلوكه، وكيف تظهر استقلاليّته. نجد هنا تعداداً يشبه ما في 1 كور 4: 11؛ 2 كور 6: 3- 10؛ 11: 23- 24. فما يميّز رسالة بولس مفارقة هي انعكاس للصليب والقيامة: شبع وجوع، وفرة وفقر. وهذا الانحدار يذكّرنا بعمل المسيح المذكور في 2: 8. وهو يعبّر عن وضع ماديّ كما يعبّر عن موقف داخلّي. فالسعة المذكورة هنا مرتين (تُذكر بتواتر عند القدّيس بولس) تميّز الأزمنة الجديدة التي دشّنها مجيء المسيح (1: 19- 26). ويأتي الشبع تجاه الجوع والعوز، فيدلّ على الأوضاع المختلفة التي مرَّ فيها الرسول والتي هي نتيجة ما أراده هو وما فُرض عليه.
وهكذا "تدرّب" بولس، "تدرّج" (ماميماي). الفعل المستعمل هنا هو خاص بالديانات السّرانيّة. هذا لا يعني أن بولس يتحدّث عن هذه الديانات. غير أن الأسرار التي أعطي للمسيحيّ أن يتدرّج فيها لا تُبنى خارج الواقع اليوميّ، بل في داخله وبقدر ما تستنير بقدرة الإنجيل. لهذا تأتي عبارةٌ تجعل بولس بعيداً كل البعد عن المثال الرواقيّ: "أستطيع (أتحمّل) كل شيء في ذاك الذي يقوّيني". وفي 3: 10، أشار الرسول إلى أن القوّة هي قوّة القيامة.
ولكن يجب الوصول إلى المعنى الحقيقيّ والعميق "للمشاركة" (آ 14) التي طلبها الرسول من الفيلبيّين: إنه علامة اتحاد (هذا الاتحّاد لا يحمل غايته في نفسه)، علامة أخوّة تعبّر عن نفسها في جهاد من أجل الإنجيل (1: 12 ي)، وحين صار الفيلبيّون مشاركين في هذا الجهاد الذي هو الجهاد الأخير المطبوع بالمحنة، وصلوا إلى معنى المعونة الماليّة التي أرسلوها. في هذا الجهاد يقف الرسول في الخطّ الأماميّ، ولكن الكنيسة كلّها تجاهد معه.
د- تعرفون يا أهل فيلبّي (آ 15- 17)
لماذا يحسّ الرسول الآن بالحاجة إلى أن يعدّد الهبات التي أوصلها إليه الفيلبيّون؟ هو لا يريد أن يخفّف رضى المعطين عن أنفسهم حين افتخروا بما فعلوا. قد يكون أراد أن يطمئن اخوة ظنّوا أنهم لم يفعلوا له ما فيه الكفاية... حدّث بولس أهل فيلبّي لغة العطف والحنان فاستعمل لفظة التحبّب (رج 2 كور 6: 11؛ غل 3: 1). وأعلن لهم أنهم وحدهم تصرّفوا بهذا الشكل. لا، لبس بولس "متشاجراً" مع جماعته! وجماعة فيلبّي تعرف مكانتها المميّزة في قلب الرسول. أما شاركته منذ البداية وبشكل خاص في مسيرة الإنجيل ونجاحه؟
شاركته منذ البداية. وذلك منذ مكدونية. هذا لا يعني أن الرسول بدأ نشاطه التبشيري في مكدونية حوالي سنة 40! أو أن كل رسالة سابقة لتلك الرسالة لا قيمة لها. ولكن بولس ينطلق من وجهة الفيلبيّين كما من وجهة نشاطه كصاحب المسؤولية الكاملة. ففي أول نشاطه الرسوليّ، هو الثاني في المجموعة، ويأتي بعد برنابا (أع 13- 14). إذن، من الممكن أن يكون الرسول اعتبر اوروبا الحقل الرسوليّ الذي أعطي له بشكل خاصّ، والانطلاقة الحقيقيّة لإنجيله.
فمنذ تسالونيكي (آ 16) المحطّة الأولى بعد فيلبّي (أع 17: 2)، ظهر اهتمام أهل فيلبّي برسولهم. ولكن هذا كان البداية. وتبعه عون آخر وربّما أكثر. في 1 تس 2: 9، أكّد بولس أنه لم يثقّل على قرّائه. ولكنه زاد أيضاً أنه وجب عليه أن يعمل ويكدّ. إذن، جاءت معونة فيلبّي فغطّت جميع حاجاته.
إحتاج الرسول إلى أن يبرّر موقفه. واستعاد عبارة "ليس أن" (هذا لا يعني أني ابتغي) التي سبق وقالها في آ 11، وكرّر فعل "ابيزيتو" (ابتغى). كل هذا يدلّ على أنه يواجه لوماً يتعلّق بسلوكه. لهذا يقول مرة أخرى إنه أراد فقط أن يشرك الفيلبيّين في مشروع الإنجيل، فيزيد "رأسماله" كما يزيد رأس مال مراسليه في يوم الدينونة. أخذ بولس كلمته من عالم المال، وزاد عليها النبرة الاسكاتولوجيّة. وهكذا نقرأ هنا ما سبق وقرأناه في 2: 16.

3- عرف طيّب وذبيحة مقبولة (4: 18- 20)
إن كان هناك من التباس حول نوايا الرسول السابقة، فهذا الالتباس يجب أن يزول الآن: فهو لا يطلب بعدُ شيئاً من الفيلبيّين. "عنده كل ما يلزم، بل أكثر ممّا يلزم". ويأتي فعل "اباخو" (استوفى) فيدلّ على معنى طلب بولس وفعلة مراسليه. فالذي تسلّم حقاً العطيّة هو الله نفسه، فكانت له بمثابة تقدمة يرضى بها. الألفاظ المستعملة هنا نجدها في العهد القديم. كما نجد الموضوع الذي قرأناه في 2: 17: إن نشاط بولس والمعونة التي تسند هذا النشاط، يشكّلان وحدة يحكم فيها الله. إن لفظة "اوارستوس" (مرضيّ) ترجع عند بولس إلى وضع الإنسان أمام الله. رج روم 12: 1- 2؛ كو 3: 20؛ تي 2: 9. وهكذا يكون أمامنا موضوع تأمّل حول معنى المال في كنائسنا.
غير أن الله ليس فقط ذاك الذي يدين، ذاك الذي يحكم (آ 19). إنه قبل كل شيء ذاك الذي يعطي (روم 2: 4؛ 9: 23؛ 11: 12؛ أف 1: 17- 18). وكما أغدق خيراته على بولس في حاجاته، فهو يفيض على الفيلبيّين الخيرات الماديّة والروحيّة. وإذ أراد بولس أن يبيّن هذا التبادل الذي يأتي من الله، استعمل لفظة "إلهي" (رج 1: 3). فسينال الفيلبيّون بغزارة (لا في المجد). سينالون "في المسيح يسوع". سينطبع اغتناء أهل فيلبّي بعلامة الصليب والقيامة، كما بعلامة المجد الموعود بها في الشقاء الحاضر.
وينتهي 4: 10- 20 بمجدلة تدلّ على هدف الرسول العميق (20): إن شكر الرسول يتوجّه قبل كل شيء إلى الله. فهو الذي أعان خادمه بواسطة كنيسة فيلبّي. وانطبعت هذه المجدلة أيضاً بالتقليد الليتورجيّ مع عبارة "دهر الدهور" ولفظة "آمين". وتكرّرت لفظة "الله" التي قرأناها في آ 19. كما تحدّث النصّ عن "أبينا" فجعلنا في إطار الصلاة الربيّة مع بدايتها: "أبانا الذي في السماوات".

4- سلامات أخيرة (4: 21- 23)
كتب بولس إلى جماعة مفسّخة، فما أراد أن يأخذ جانب أحد دون الآخر. لهذا استعمل "كل من القدّيسين". وترك عادته، فلم يسمِّ أحداً في هذه السلامات الأخيرة. مراسلوه هم "قدّيسون" لأنهم ينتمون إلى شَعب الله المقدّس (1: 1). وهذا الانتماء ينطبع بـ "في المسيح". لهذا، لا نقول: سلموا في المسيح، بل سلموا على كل من القدّيسين في المسيح يسوع. ثم إن الرسول ليس وحده. فهو جزء من جماعة مكوّنة من "إخوة" (3: 1) ينضمّون إليه ويرسلون سلامهم إلى كنيسة فيلبّي.
"والقدّيسون" (آ 22) الذين ضمّوا سلاماتهم إلى سلامات الرسول، هل هم الاخوة المذكورون في آ 26، أم هل يشكّلون حلقة واسعة يكوّن الاخوة نواتها؟ لا جوابَ مقنعاً. ومهما يكن من أمر، فقد أحسّ بولس بالحاجة إلى القول بأن الجماعة التي تحيط به هي جماعة حقيقيّة، وسمّى قسماً منها: "الذين هم من بيت قيصر". هم ليسوا أقارب الامبراطور، بل عبيد أو مُعتقون ارتبطوا بقيصر فجعلهم في إدارات الدولة في كل مكان من الامبراطوريّة. لماذا ذكر هذه الفئة؟ ليدلّ على رباطات خاصة بين المسيحيّين وموظّفي الامبراطور.
"نعمة الرب يسوع مع روحكم" (آ 23). استعاد بولس هنا عبارة ليتورجيّة فدلّ على أن رسائله تُقرأ في الاحتفال الليتورجي، وأن شعائر العبادة والاجتماعات هي "موضع" هامّ في الحياة المسيحيّة.
جاءت الجملة بشكل مقولب كما في المباركات التي تنهي رسائله. ذُكرت النعمة هنا كما تُذكر في جميع الرسائل. وهي تدلّ على عمل الربّ الخيّر والخلاصيّ تجاه البشر، وهو عمل كُشف لنا في يسوع المسيح. ويتحدّث بولس بالطريقة عينها عن ينبوع هذا العمل في جميع رسائله ما عدا في كو وأف. فالربّ الذي تعترف به الكنيسة هو أصل هذه النعمة ومحرّكها (2: 11). وكما في كل اعتراف إيمانيّ، هذا الربّ هو يسوع المسيح، هو هذا الإنسان، يسوع الناصريّ، الذي صُلب في أيام بونطيوس بيلاط وقام في اليوم الثالث. أما الروح الذي تدركه النعمة (غل 6: 18؛ فلم 25)، فيدلّ على الشخص كلّه، ولا سيّما على مستوى النفس والروح.
وهكذا نجد في هذا التمنّي الأخير اهتمامات عبرّ عنها الرسول على مدّ رسالته، ولا سيّما في 1: 9- 11. وإذا كان "آمين" الذي نقرأه في معظم المخطوطات أصيلاً، فقد يكون بولس نفسه قد دوّنه بيده، ليدلّ على صحّة ما كتب في فل (روم 16: 22؛ 1 كور 16: 21؛ غل 6: 11؛ كو 4: 18؛ 2 تس 3: 17). وإلاّ، يكون نهاية الرسالة خلال القراءة الليتورجيّة، فيدلّ على جواب الجماعة على كلام الرسول.

خاتمة
حمل ابفروديتس إلى بولس مدداً كان بحاجة ماسّة إليه. في هذا المقطع الذي يرتفع فيه بولس من المستوى الماديّ والأرضي، إلى المستوى الروحي، كما فعل في الرسالة إلى فيلمون، يعبّر الرسولي من جهة عن شكره وعن استقلاليته في ما يخصّ المال والأمور الماديّة. ومن جهة ثانية، ينظر إلى كل هذا على ضوء رسالته، لا على ضوء مصلحته الشخصيّة. وإن كان أهل فيلبّي الذين أعطوا قد "خسروا"، إلا أن الربح كان كبيراً لهم ولرسولهم. فقد زاد "الرأسمال" الروحيّ في كنيسة فيلبّي بفضل هذا العطاء.
وتنتهي الرسالة بالسلامات، لا سيّما من بيت قيصر. هذا لا يفرض علينا القول إن فل كتبت من رومة. فأهل بيت قيصر (عبيد ومعتقون) توزّعوا في كل أنحاء الامبراطوريّة. وإذ ذكرهم بولس، أراد أن يبيّن أن الإنجيل دخل في جميع الأوساط فوصل إلى "بيت قيصر". وسيأتي يوم سيصل فيه إلى أقارب قيصر بانتظار أن يعتنق قيصر نفسه الدين الجديد في شخص قسطنطين خلال القرن الرابع المسيحيّ.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM