الفصل الخامس عشر: نداء إلى الفرح والسلام

الفصل الخامس عشر
نداء إلى الفرح والسلام
4: 1- 9

بدل أن يترك المسيحيُّ العالم يسيطر عليه، يجب أن يعلم أنه يخصّ الربّ. وموطنه هو ملكوت الله. بمعنى أن طريقة حياته تحوّلت تحوّلاً جذرياً إلى جديد القيامة. بمعنى أن جسده سيتحوّل تحوّلاً متدرّجاً إلى جسد يسوع المسيح القائم من الموت، حيث يشعّ مجد الله. وينهي بولس كلامه في عبارة استنتاجيّة (إذن، 4: 1) تتبعها توصيات أخيرة (آ 2- 7)، ونداء إلى حياة من الفضيلة (آ 8- 9). ونبدأ أولاً في دراسة النصّ من الناحية النقديّة.

1- دراسة النصّ (4: 1- 23)
* في آ 1، ألغى المخطوط د والرقم 209 لفظة "اغابيتوي" (يا أحبائي) الثانية. فصارت الجملة: "إذن، يا إخوتي الأحبّاء الذين إليهم حنيني... أثبتوا على هذا في الربّ". أما الفاتيكاني والرقم 33، فألغيا الضمير المتصل (مو، لي أنا) فلم تعد اللفظة: أحبّائي. بل: الأحبّاء.
* في آ 3، يُطرح سؤال أول: هل نقرأ "سيزيغي" كاسم علم (سيزيغوس)، أم كاسم جنس فيعني: "الرفيق". لهذا نستطيع القول "سيزيغوس الحقيقيّ". أو: الرفيق (الزميل) الحقيقيّ. هنا قال اكلمنضوس الاسكندرانيّ إن "سيزيغي" هي زوجة بولس. ولكنها مجرّد فرضيّة. ثم إن بردية 16 والسينائي يمتلكان نصاً أطول ممّا نجد في معظم الشهود: "اكلمنضوس ومعاونيّ" والآخرون الذين أسماؤهم...
* في آ 4، نستطيع أن نربط الأداة "دائماً" (على الدوام) بالفعل الثاني (وأقول أيضاً على الدوام) أو بالفعل الأول (إفرحوا في الربّ على الدوام). فالذين يربطونها بالفعل الثاني يستندون إلى وجود المضارع (سأقول دائماً).
* في آ 7، يقرأ الاسكندرانيّ "سلام المسيح" بدل "سلام الله". ونجد في المخطوط ج "الأجساد" بدل "الأفكار". أما في بردية 16، فنجد "الأفكار والأجساد". لهذا قد نقرأ كما في نستله: "يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع". ومع ج: "يحفظ قلوبكم وأجسادكم في المسيح يسوع". وفي بردية 16: "يحفظ قلوبكم وأفكاركم وأجسادكم في المسيح يسوع". وهكذا نكون أمام الاستشهاد والموت. أخيراً، نجد في بردية 16 "الربّ يسوع" بدل "المسيح يسوع".
* في آ 8، انزعج د و ج من الاستعمال الخاصّ للفظة "إبانيوس" (مدح، حمد)، فزاد لفظة "ابستيميس" (العلم)، فصارت الجملة: "مدح في العِلم".
* في آ 13، حدّدت الترجمة الشائعة أن المسيح هو الذي يقوّي الرسول. فقالت: "أستطيع كل شيء في (المسيح) الذي يقوّيني".
* في آ 16، قرأ السينائي والفاتيكاني و ج اليونانيّ: "أرسلتم إليَّ للحاجات". وقالت برديّة 46 والاسكندرانيّ: "أرسلتم إليّ الحاجات". والمخطوط د، ف: "أرسلتم من أجل حاجاتي".
* في آ 19، نجد المصدر الماضي (بليروساي) بدل المضارع في المخطوط د، ج...
* في آ 23، أحلّت النسخة الشائعة "كل" مكان "روح". فصارت العبارة: "نعمة الربّ يسوع المسيح مع جميعكم". ولكننا نحافظ على نصّ نستله: "مع روحكم". ونجد في الختام: "كُتب في رومة بيد ابفروديتس". وانتهت معظم المخطوطات (ما عدا الفاتيكاني و ج) بلفظة: آمين. فصارت آ 23: "نعمة الربّ يسوع المسيح مع روحكم. آمين".

2- توصيات أخيرة (4: 1- 3)
أ- إذن، يا اخوتي الأحبّاء (آ 1)
إنّ الأداة "هوستي" (إذن) تربط هذه الآية مع ما سبق. هي تختتم حضّاً على الثبات يتواصل حتى آ 8- 9. "أثبتوا". أي لا تتراخوا أمام الهرطقة، ولا تتركوا الخطّ الذي رسمه الانجيل. "أثبتوا معاً" تجاه الأخطار التي تهدّد وحدة الجماعة (1: 27). وأخيراً، واجِهوا جميع الصعوبات والآلام التي تتضمنّها الحياة المسيحيّة. واهربوا من المواقف "الملائكيّة" التي تدعوكم إلى العيش خارج الجسد وخارج الواقع. فالإنسان ليس بملاك. إنه إنسان يحيا في محيط محدّد. لهذا، يجب أن يكون هذا الثبات "في الربّ"، أي في الخضوع لذاك الذي هو وحده سيّد الجماعة لأنه سيّد التاريخ وسيّد الكنيسة (2: 6- 11).
في هذه النظرة لا يستطيع قارئو الرسالة إلاّ أن يكونوا "أخوة بولس"، "سروره وإكليله". وموضوع الفرح الذي يميّز فل نجده هنا أيضاً. وما جاء به هو صورة "الإكليل" (ستافانوس). نحن نقرأ في 1 تس 2: 19: "أنتم رجاؤنا وفرحنا وإكليلنا الذي به نفتخر أمام ربنا يسوع في عودته". وهكذا تتحدّد هذه الآية في موقع اسكاتولوجيّ بدأ مع 3: 20- 21. إن "جائزة الجري" (3: 14) الذي قام به الرسول، إن هذا الاكليل (رج 1 كور 9: 25؛ أم 16: 31)، هو في الحقيقة جماعة الذين يقودهم إلى المسيح (1: 6؛ 2: 15 ي؛ 2 كور 3: 2).
ب- افودية وسنتيخي (آ 2- 3)
بعد أن تحدّث بولس عن تيموتاوس وابفروديتس، ذكر أشخاصاً آخرين. وسوف ينهي بتحريض عام يحتلّ فيه الفرح موضعاً مركزيّاً. فعبر الصعوبات التي تعرفها جماعة فيلبّي (آ 2؛ رج 1: 27- 2: 18)، يبقى المستقبل مفتوحاً، تُحرّكه ديناميّةُ الانجيل (آ 3) واقترابُ ربّ الفرح والسلام.
لعبت النساء دوراً هاماً في الجماعات البولسيّة (روم 16) ولا سيّما في فيلبّي (أع 16: 13 ي). فلا نعجب إن ذكرَ الرسول هنا اثنتين شاركتا في تأجيج الخلافات في الجماعة (2: 3). لا نعرف شيئاً عن هاتين المرأتين اللتين ورد اسماهما مراراً في العالم اليونانيّ. "أفودية" أي الطريق السهلة الطيّبة. "سنتيخي" أي اللقاء. فكأني ببولس يقابل بين اسميهما وسلوكيهما. وقد رأت مدرسة توبنغن في هاتين المرأتين رمزاً إلى الجماعة المسيحيّة الآتية من العالم اليهوديّ، وتلك الآتية من العالم الوثنيّ. هي مجرّد فرضيّة بالنسبة إلى شخصين حقيقيّين.
ومهما يكن من أمر، ما زال الرسول يستعمل لغة الإقناع. رج فعل "باراكالو" الذي يعني "نصح، أشار، توسّل"، والذي يرد مرّتين. والمهم في كل هذا هو أن تقف هاتان المرأتان "أمام الربّ" (2: 19).
ماضيهما هو في صالحهما، ويجب أن يدفعهما للعودة إلى ذاتهما. فهما تعلمان ما هو الانجيل الحقيقيّ الذي لأجله جاهدتا بجانب الرسول (1: 27). لهذا يجب مساعدتهما. ووسيط هذه المساعدة هو شخص سّري: سيزيغوس. أو "الرفيق". هناك من يقول إن "سيزيغوس" كاسم علم غير موجود في اليونانيّة. ومقابل هذا، يقول آخرون: إن لم يكن اسم علم، فكيف يتعرّف الفيلبيّون إليه؟ هذا مع العلم أن تحويل اسم الجنس إلى اسم علم أمر متواتر في العالم اليونانيّ. وهناك الصفة "غنيسيوس" (الصادق، الحقيقي) التي لا يمكنها أن ترتبط باسم العلم (هناك من قال سيزيغوس المعروف).
إنّ لفظة "غنيسيوس" (2 كور 8: 8؛ 1 تم 1: 2؛ تي 1: 4) تصف مهمة تيموتاوس في فل 2: 19. لهذا نظنّ أنه حين يصل إلى فيلبّي سيعيد التناغم إلى الجماعة. وإليه يتوجّه بولس لا إلى ابفروديتس ولا إلى سيلا ولا إلى لوقا. نشير مرة أخرى إلى الروح الجماعيّة في سياق ترد فيه خمس كلمات مع "سين" (مع). ونفهم أن بولس أراد أن يشدّد على صفة هذا الموفد من أجل المهمة التي يطلبها منه.
ولكن لم تكن افودية وسنتيخي وحدهما في الجهاد بجانب الرسول. فهناك العاملون معه والذين دوّنت أسماؤهم في "سفر الحياة". في السفر الذي فيه يتسجّل المختارون الموعودون بالحياة (دا 12: 1؛ خر 32: 32 ي؛ مز 69: 29). الله يعرفهم وهو يعلم أنهم يخصّونه. وبين هؤلاء نجد اكلمنضوس الذي ظنّ بعضهم أنه قد يكون اكلمنضوس أسقف رومة.

3- فرح في الربّ (4: 4- 6)
أ- نداء إلى الفرد
نجد في بداية ف 3 رسمة سريعة لموضوع 4: 4- 6: "وأخيراً يا أخوتي إفرحوا في الربّ". فكأني ببولس وصل إلى الفكرة الهامة التي احتفظ بها للخاتمة. ولكن ما إن بدأ الرسول بموضوعه حتى أوقفه. فتذكّر فجأة أنّ عليه أن يتكلّم أيضاً عن خطر يهدّد كنيسة فيلبّي: مسيحيّون أشرار يضعون الفوضى. لهذا حذّر منهم المؤمنين الحقيقيّين. غير أنّ بولس لا يجعل نظرته كلها على "عمّال السوء". فهو يرى حالاً بجانبهم التلاميذ الذين هم "سروره واكليله". وها هو يعود إلى موضوع الفرح الذي يفيض من قلبه. "إفرحوا في الربّ على الدوام، وأقول أيضاً افرحوا".
إنّ لصيغة الأمر هنا المعنى القويّ. لسنا فقط أمام تحريض، بل أمام وصيّة تتكرّر لتُغرز في قلب المؤمنين: "وأقول أيضاً افرحوا". غير أن على الفيلبيّين أن يتألّموا من أجل المسيح (1: 29). فكيف يتجاسر بولس ويقول لهم إن عليهم أن يفرحوا؟ هو يستطيع لأنه هو نفسه "في القيود" (1: 7). وبدلاً من أن يبكي وينوح، ها هو ينشد فرحه (1: 18).
ما هي ميزات هذا الفرح الذي إليه يدعو الرسول المسيحيّين؟
ب- ميزات الفرح
* هو فرح "في الرب" (آ 4)
لسنا أمام فرح من أي نوع كان. لسنا أمام عاطفة نستخرجها من ملذّات هذا العالم. قال بولس: "إفرحوا في الربّ"، أي في المسيح الذي مات على الصليب لأجلنا وقام من بين الأموات.
غير أننا نجد في العبارة التي استعملها بولس شيئاً لم نعتَد عليه. عادة لا نفرح "في" شخص بل "بسبب" شخص الذي سيأتي فيغدق علينا خيراً من الخيرات. أما هنا فكتب الرسول "في الربّ" فاستعاد عبارة ذات بُعد لاهوتيّ عميق. فالفرح في الربّ هو فرح ينتج عن اتحّاد بالمسيح، هو فرح داخلي ينقله المسيح إلى أعضاء جسده السّري بالإيمان (روم 15: 13). هو فرح لا تدمّره الضيقات التي تأتي من الخارج (2 كور 7: 4؛ روم 12: 12).
* هو فرح متواصل (آ 4)
جمع بولس الفرح والصلاة المتواصلين في 1 تس 5: 16- 17: "كونوا فرحين على الدوام وصلّوا بلا انقطاع". ويرافق وصيّةَ الصلاة الظرفُ "دوماً" أو "بلا انقطاع". وهذا ما نجده في إطار الحديث عن الصلاة.
* هو فرح تداخله المحبّة (آ 5 أ)
أوصى بولس المسيحيّين بالحلم والعطف، كاستعداد أساسيّ للنفس يقابل الفرح والسلام. وتمنّى أن يسطع هذا على عيون الجميع. فالفرح المسيحيّ، وإن لم يظهر في الخارج ظهوراً فيه الضجّة والخشونة، يبقى فرحاً ينتقل إلى الآخرين، يبقى شعاع شمس يعطي الدفء لجميع البشر. ونحن نلاحظ هذه الوداعة والعطف والرزانة، لأنها تتنافى مع قساوة هذا العالم.
* فرح اسكاتولوجي (آ 5 ب)
"الرب قريب". وهنا أيضاً، الربّ هو المسيح يسوع. قد نتخيّل أن بولس يريد القول بأن الخالق قريب من خليقته حين يخلقها. غير أن هذه الفكرة على حقيقتها وجمالها، ترتبط بنظرة ميتافيزيقيّة لم نعتَد عليها عند الرسول. وقد نظنّ أننا أمام قُرب أدبيّ كما في مز 34: 19؛ 145: 18: الربّ قريب من الذين يدعونه، من الذين هم في الضيق. وبعبارة أخرى، هو مستعدّ لأن يساعدهم. ولكن ليست تلك طريقة بولس في التعبير عن أفكاره.
عندما ينسب العهد الجديد إلى المسيح لفظة "قريب"، فهو يشير دوماً إلى حدث الملكوت (مت 24: 32- 33 وز؛ 26: 18؛ رج لو 19: 11). ونقول الشيء عينه عن فل 4: 5. فمنذ بداية الرسالة، وُجدت فكرة عودة المسيح في قلب اهتمامات الرسول (1: 6- 10)، الذي يُعنى بتهيئة المسيحيّ لذلك اليوم. أما هنا فتبدو فكرة عودة المسيح باعثاً للفرح.
في 1 تس اعتبر الرسول المجيء قريباً. وهو سيحصل قبل أن يختفي الجيل الحاضر (4: 15). وفسرَّ مت 24: 34 في هذا المعنى. وقد كان هناك تقليد نبويّ يعود إلى العهد القديم، فيرى قرب تدخّل الله العظيم من أجل شعبه. وفي هذا التقليد، كان لكلمة "قريب" بعدٌ نوعيّ لا بُعد كميّ: فهي تمثّل موضوعاً اسكاتولوجياً وصورة جليانيّة (رج رؤ 1: 3؛ 22: 10). إذن، يبقى التحديد الكرونولوجيّ أمراً نسبياً.
وسيقول يوحنا في شكل آخر: "يا أبنائي الصغار، ها قد جاءت الساعة الأخيرة" (1 يو 2: 18). فهنا كما في مثل العمّال الذين أرسلوا إلى الكرم، تمثّل الساعة إحدى حقبات تاريخ البشريّة. وتجاه حدث مهمّ جداً مثل عودة المسيح، تبدو سائر الأحداث بلا أهميّة، ويبدو المدى الزمنيّ قصيراً.
فعلى التفكير بهذه "العودة" (باروسيا) أن يملأ قلب المسيحيّ فرحاً: حين نحبّ شخصاً يفيض قلبنا فرحاً حين نعلم بقدومه. وفي الوقت ذاته تمّحى كل فكرة حزن قد نكون احتفظنا بها. لهذا، فعودة المسيح تضع حداً لكل ظلم ولكل مشكلة تقلق بالنا.
* فرح كله استسلام (آ 6)
وأوصى بولس المؤمنين بأن لا يقلقوا. فالثقة والاستسلام ينتجان بشكل مباشر من إيمان عميق. منذ العهد القديم، دعا المرنّم المؤمن أن يلقي همّه على الربّ (مز 37: 5؛ 55: 23). وشرح صاحب سفر الأمثال لماذا الاستسلام للربّ يليق بالإنسان، ويدلّ عنده على حكمة كبيرة. فحسّ الإنسان تجاه عقل الربّ يبقى ضعيفاً (أم 3: 5). وجعل يسوع (في عظة الجبل) من الاستسلام لله متطلّبة أساسيّة من متطلّبات الملكوت (مت 6: 24- 34).
وتسليم همومنا للربّ، لا يعني التخفّي عنها أو الاستقالة واللامبالاة. بل يتضمّن نشاطاً داخلياً. فعلى المسيحيّ أن يقدّم همومه إلى الله "في الصلاة والابتهال مع الشكر". إن هذه العبارة بما فيها من إسهاب، تجمع الشكر إلى الطلب. ونحن نفهم هذا بطريقتين متكاملتين لا متعارضتين: لا نطلب شيئاً للمستقبل دون أن نشكر على النعم التي حصلنا عليها في الماضي (لا سيّما نعمة الفداء، كو 1: 12- 13). ولا نطلب شيئاً دون أن نبارك الله بشكل مطلق بسبب سموّ عطاياه (كو 3: 17؛ أف 5: 4، 20؛ 1 كور 11: 24).
* فرح يتفتّح في السلام (آ 7)
السلام هو ما يحيط بكل وجهات السعادة. السلام ينتمي إلى الواقع الاسكاتولوجيّ لأنه يرتدي طابع الملء، والكمال. وسنعود إلى ذلك في المقطع التالي.

4- سلام الله في المسيح يسوع (4: 7- 9)
يُبرز الرسولُ هنا حول السلام الذي يعطيه الله في المسيح يسوع، موضوعين قد يكفي كل منهما نفسه بنفسه. ولكنهما يبدوان متكاملين. في آ 6- 7: كيف نحمل همومنا في الصلاة؟ في آ 8- 9: ممارسة الفضائل الإنسانيّة وتطبيق التعليم الذي حمله بولس إلى أهل فيلبّي.
أ- الهموم وحياة الصلاة
أمام هموم الحياة، أوصانا بولس بموقف يسري في كل الظروف. ولكن عندما يقول "لا تهتمّوا بشيء"، فهو يدلّ على هموم تشغل قرّاءه وهي كثيرة.
إذا كان كل شيء يؤدّي إلى مجد المسيح (1: 21)، فالسجن يضايق الرسالة المباشرة التي يقوم بها الرسول، وقد يحمل إليه الموت. إن حُكم على بولس، فهو يستطيع أن يستأنف، وقد يُجبر على الذهاب إلى رومة. وهكذا يبتعد عن المؤمنين وتطول سنوات الأسر. وتزاد على صعوبات بولس هذه الشخصيّة، صعوباتُ مسيحيّي فيلبّي والمرتدّين من الوثنية. وهناك الخصومات والحسد في غياب بولس، وهناك الجدال بين النساء التقيّات (4: 2).
لا نجد عند الرسول أثراً لتفاؤل غبيّ يُنسيه هموم الحياة، أو يحمله على تصغير حجمها. وإذ ينظر إليها بشجاعة، يطلب منا أن لا تصبح همومنا باعثاً على القلق. فإن غرقنا فيها لا نستطيع أن نتجاوزها.
سيتوسّع لوقا ومتّى في هذا الموضوع. "لا تهتمّوا للغد". وأوصيا بالثقة بالله والاستسلام إلى العناية. "يكفي كل يوم شُّره" (رج مت 6: 25- 34؛ 10: 19؛ لو 11: 22؛ 12: 11). ودلاّ على أن هذا الاستسلام يجتذب إليه صلاة واثفة (مت 7: 7- 11؛ لو 11: 9- 13).
وقدّم بولس بدوره دواء لهمومنا، صلوات متواصلة ومتجدّدة. وهذه الصلوات يتداخلها الشكر. فالهموم الحاضرة لا تولّد القلق إلاّ إذا أبعدتنا عن النظرة الإيمانيّة، النظرة إلى حسنات الله التي لا تنقطع. وحين نتذكّر هذه الحسنات، نصلّي واثقين بأن الله يرافقنا في عنائنا وينجّينا بالطرق التي يريد. أو قد يريد أن يظهر قوّته في ضعفنا، فيقول لنا ما قاله لبولس: "تكفيك نعمتي، وفي الضعف تظهر قوّتي" (2 كور 12: 7- 10).
ب- سلام الله وإله السلام (آ 7)
والسلام الذي تُحدّثنا عنها التوراة ليس فقط غياب الحرب، بل ملء السعادة. وهو يتضمّن الراحة والصحة والوفاق.... هو ثمرة البرّ ولهذا يجب أن نستحقّه وندافع عنه.
هذا هو سلام الله الموعود به. إنه الهدف الطبيعيّ لسلوك المسيحيّ. والذين مارسوا الفضائل الإنسانيّة وتعليم الخلاص، يتأكّدون وحدهم من حضور إله السلام (آ 9). إله السلام هو الإله الذي يعطي السلام.
فإن كان هذا السلام يتجاوز كل فهم، يتجاوز كل ما يمكن أن نتخيّله، فهذا لا يعني أننا نضعه فوق مجهودنا العقليّ: لا يكفي أن نتصوّره أو نتكلّم عنه، بل نطلب من الله بأن نشعر بنتائجه. وحين يخلّصنا هذا السلام من القلق، فهو يجعل بلا جدوى مجهود تفكيرنا وتصوّرنا.
على مستوى العهد القديم لا يصوّر سلامُ الله بحصر المعنى السلامَ الإلهي، السلام على أنه صفة إلهيّة. بل السلام الذي يستطيع الله وحده أن يعطيه للبشر. وليس هناك من سلام إلاّ حيث يملك الله على القلوب والأفكار. أما عند بولس، فهذا السلام يُعطى لنا في المسيح يسوع: فيه وبه. وهذا ما يعطيه بُعداً يجهله العهد القديم. فبما أن يسوع هو في الوقت عينه إله وإنسان، فهو يعطينا حقاً سلامه، ونصبح نحن جديرين بأن نتقبّله. "سلامي أتركه لكم، سلامي أعطيكم" (يو 14: 27). هذا ما قاله يوحنا. وتمنّى لنا بولس فقال: "ليملك سلام المسيح في قلوبكم" (كو 3: 15).
غير أننا نستطيع أن نقول أيضاً إن المسيح هو موضع هذا السلام الذي نعيشه بقدر ما نعيش في المسيح. ويذكّرنا بولس أن اليهود والوثنيين صاروا قريبين في المسيح يسوع، في دمه (أف 2: 13). ويتابع في آ 14 فيقول: "لأنه هو سلامنا، وقد جعل من الاثنين شعباً واحداً".
ج- شعائر العبادة وممارسة الفضائل (آ 8)
هناك تعارض لافت بين موضوع رفيع قرأناه في آ 6- 7، وعودة إلى اعتبارات حول الفضائل الإنسانيّة في آ 8. بعد هذا نقرأ في آ 9 تذكيراً بالمتطلّبات المسيحيّة. وأعطى بولس أربعة أهداف واضحة: ما هو عادل. ما هو نقيّ. ما هو حقيقيّ. ما هو شريف. ثم وسّع البحث باتجاه ما يُحبّ ويكرم، ما هو أهل للمديح، ما يستحقّ اسم فضيلة.
إنّ هذا التعداد يختلف عن لوائح الفضائل المسيحيّة التي نمارسها، والتي يقدّمها الرسول رابطاً إيّاها بشكل واضح بالمحبّة وسلام المسيح (كو 3: 12- 14). إن الألفاظ التي يستعملها بولس هنا نادرة عنده، ولكننا نجدها في السبعينيّة كما في اللغة الدينيّة الهلنستيّة. كما نمتلك هنا الاستعمال الوحيد لكلمة "فضيلة" (أراتي). وإذا عدنا إلى الفضائل الأساسيّة الأربع في الخلقيّة القديمة وهي: التعقّل، التصرّف كإنسان، السيادة على الذات، والعدالة، إذا عدنا إليها، لن نجد في لائحة بولس إلاّ العدالة.
ولقد طلب منا بولس أن نجعل من هذه الفضائل الإنسانيّة مثالنا، أو أقلّه أن نأخذها على عاتقنا. أما في آ 9، فسيفرض بكل بساطة ممارسة التعليم المسيحيّ. هو لا يريد أن يقول لنا إنه يجب علينا أن نتأمّل فيها قبل أن نمارسها. بل يجب علينا أولاً أن نعرف ونحترم الخلقيّة الطبيعيّة كما هي موجودة في العالم الوثنيّ. فما يعرفه هؤلاء، يجب أن يعرفه المسيحيّون أكثر منهم، كما يجب عليهم أن يمارسوه. بعد هذا، ستفرض عليهم معرفة الإله الحقيقيّ أن يخطوا خطوة إلى الأمام ويمارسوا هذه الفضائل بدقّة وصرامة.
د- أمانة ناشطة (آ 9)
ليست المسيحيّة أولاً تعليماً أخلاقياً، وليست بشكل خاص تعليماً أخلاقياً يختلف عن سائر التعاليم. فبولس يقدّمها لنا كنتيجة وحي. وإن معرفة الله تتضمّن معرفة الوصايا: "ما تعلّمتموه وتسلّمتموه... مارسوه". ثم إنه يشدّد بشكل واضح على ضرورة حفظ ما تسلّمناه لكي ننقله (رج غل 1: 9؛ كو 2: 6؛ 1 تس 2: 13). نحن نلاحظ أنه منذ موت الرسل امتلكت الكنائس فكرة واضحة جداً عن "التقليد الرسوليّ".
وزاد بولس على هذا الغنى المشترك لمسَته الخاصة: شدّد على ما علّمه هو ودلّ المؤمنين عليه. ما خاف أن يقول: "إقتدوا بي جميعكم أيها الإخوة، وتبصّروا في الذين يسلكون على المثال الذي لكم فينا" (3: 17). وهو يحدّد هنا: "ما تعلّمتموه وتسلّمتموه وسمعتموه مني ورأيتموه، فبه اعملوا". لا يكفي أن نكرز. بل يجب أن تتوافق حياتنا مع المثال الذي أمامنا. ويظنّ الرسول بيقين وبساطة أنه يقوم بمجهوده في هذا المجال.
غير أنه ليس بفرّيسي صالح قد استفاد من دروس الربّ ليجعل سلوكه يتوافق مع كلامه، فلا ينال توبيخ مت 23: 3 (يقولون ولا يفعلون). فدعوته التي كرّرها مراراً (رج 1 تس 1: 7؛ 2 تس 3: 7) تستند إلى ما يؤسّس حياته: البحث عن المسيح والاقتداء به. "إقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح" (1 كور 11: 1). لسنا فقط أمام "سعدنة" واقتداء حرفيّ يتوقّف عند شخص بولس. هنا نسمع كلام الرسول في 1 كور 1: 13: "هل تجزّأ المسيح؟ هل صُلب بولس لأجلكم؟ هل اعتمدتم باسم بولس"؟
إذن، كل شيء مرتّب بالنسبة إلى المسيح في حركة تظهر داخل الكتب الروحيّة العديدة التي تتحدّث عن الاقتداء بالمسيح. ولكننا نلفت نظر الذين أوكل إليهم نقل تعليم المسيح وحياته: إنهم مسؤولون عن النقل الصحيح. ونحن مدعوّون اليوم أيضاً للرجوع دوماً إلى المسيح عبر الرسل. كما علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ما تنقله الكنيسة من تعليم اغتنى واغتنى على مرّ العصور. بعضهم يهتمّ بالأمانة لمسيح "جامد" عبر كنيسة تبدّل وجهُها مع كل جيل. والبعض الآخر يحسّون بأمانتهم لكنيسة متحرّكة وقد أوكل إليها أن تدلّ على المسيح وتنقل تعليمه. ولكن في كلا الحالين، نحن مدعوّون إلى الأمانة الخلاّقة، لا تلك التي تكتفي بالتكرار الماديّ الذي يقود إلى أصوليّة متحجّرة.

خاتمة
وهكذا انتقلنا من الوفاق على مستوى الكنيسة المحليّة (بين افودية وسنتيخي)، إلى نداء إلى الفرح بدا امتداداً لجوّ الفرح الذي رافقنا طوال الرسالة إلى أهل فيلبّي. وبعدها نصل إلى السلام الذي يفوق كل فهم، ويحفظ القلوب والأفكار في المسيح يسوع. فالفهم الذي يجعله الفيلبيّون في منازعاتهم يجب أن يخضع في النهاية إلى السلام الذي يعطيه الله. واتّفاق الرأي لا يكون ممكناً إلا لأن السلام قد قام بين الله والبشر بواسطة يسوع المسيح. وهذا السلام يصل إلى القلوب والأفكار. فالقلوب هي موضع الإرادة وكل تصرّف فرديّ وجماعيّ. والأفكار قد تضلّ. لهذا هي تحتاج إلى حدود تجدها في المسيح، أي في عمل الله العظيم الذي ما زال يتوسّع اليوم والذي يجد أساسه في حدث الصليب والقيامة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM