الفصل الثالث والعشرون: أحداث ما بعد سنة 70

الفصل الثالث والعشرون
أحداث ما بعد سنة 70

أذّل نظام الاحتلال الروماني الكبرياء اليهودي. فتكاثرت الحوادث. وقادت مجموعات من المقاومة اليهودية البلاد إلى فوضى: أعمال تمرّد، محاولة مفاوضات باءت بالفشل، مصرع شخصيات يهودية، هجوم على مراكز الجيش الروماني.
ورغم خلافاتهم الداخلية، جابه اليهود الرومان بين سنة 66 وسنة 70 بمقاومة زادت عنفاً حتى وصلت بهم إلى الجوع. ولكن هذه المقاومة لم تنفع إلا في تأخير النهاية وهي: حرق الهيكل في نهاية آب سنة 70، واحتلال تيطس لاورشليم المدينة المحصّنة. إحتفظ تيطس لنفسه بسبعمئة يهودي ليسيروا في ركبه ساعة يدخل رومة في حزيران 71. والذين بقوا على قيد الحياة بيعوا كعبيد أو أرسلوا ليعملوا في المناجم. وظل قسم صغير من الناس يقاومون قرب البحر الميت. وانتهت المدافعة البطولية في قلعة مصعدة بانتحار جماعي للمهاجمين سنة 73. وهكذا دخل الشعب اليهودي في صمت طويل، وتشتّت في كل أصقاع الأرض.
إن سنة 70 تشكل منعطفاً هاماً في تاريخ العالم اليهودي كما في المسيحية ساعة ولادتها.

أ- سقوط المدينة المقدسة
1- انغلاق العالم اليهودي
كان سقوط اورشليم بيد الجيوش الرومانية مأساة هائلة. وسيأتي الامبراطور ادريان سنة 130، فيقرّر إعادة بناء المدينة. سيسميّها لا أورشليم، بل ايليا كابيتولينا. ويكون هيكل لزوش مكان هيكل الله الحي. وسيسمي البلاد فلسطين إذلالاً للشعب اليهودي. صارت البلاد مقاطعة مستقلة عن مقاطعة سورية ويحكمها والٍ. ألغيت وظيفة رئيس الكهنة والسنهدرين أو المحكمة العليا.
تأثر العالم اليهودي بهذه الكارثة، فانغلق على نفسه. دُمّر الهيكل فلم يعد من مكان للذبائح، ولم يعد من عمل للكهنة. فتركّزت الحياة الدينية حينذاك في المجامع، وانحصر العالم اليهودي في تيار واحد هو تيار الفريسيين، بعد أن زالت سائر التيارات. وصارت يمنية، قرب يافا، المركز العلمي والديني مع مدرسة الرابانيين والمجلس الأعلى.

2- أزمة في الكنيسة
شارك المسيحيون الأولون الشعب اليهودي تكريمه للمدينة المقدّسة والهيكل: فيسوع علم في أورشليم، وهناك أنهى حياته. وظلَّ لكنيسة اورشليم تأثير كبير على سائر الكنائس. وأحسّت المسيحية الفتية بالمأساة الفلسطينية، فاكتشفت فيها في وقت من الأوقات إحدى الكوارث المريعة التي تسبق مجيء الرب. وفي النهاية، رأت فيها مصيبة جرتها عليها ظروف سياسية، بل عقاباً يحلّ على إسرائيل ويعاقبه لأنه رفض أن يؤمن بيسوع المسيح، وعلامة تثبت صدق الايمان الجديد وتؤكده: أصمَّ إسرائيل اذنيه عن نداء يسوع. هذا ما قاله الإنجيل (مت 6:22- 7، 13- 14) وردّده اسطفانس (أع 7) وبولس في رسالته إلى اهل رومة (ف 9- 11).
في هذه الحقبة الجديدة، ستمرّ المسيحية في أزمة نموّ وانطلاق، وهي أزمة تكيّف لمجابهة الوضع الجديد.

ب- أزمة نمو في العالم المسيحي
1- العالم اليهودي والعالم المسيحي
تجابه العالم اليهودي والعالم المسيحي، ولكن ظل الواحد يتطلع إلى الآخر ويهتم به؛ حاول كل واحد أن يجلب اعضاء من الفريق الآخر، ويحافظ على مؤمنيه.
بعد سنة 70، صدر أمر من الامبراطور فسباسيان يفرض على اليهود أن يدفعوا لهيكل جوبيتر في رومة ضريبة الدرهمين التي كانوا يرسلونها إلى أورشليم. ولكنه عفا المسيحيين منها. وهكذا برز انفصال بين الديانتين، ولن يصبح هذا الانفصال واضحاً في نظرة السلطة الرومانية إلا في بداية القرن الثاني، على أيام الامبراطور تراجان.
أما المسيحيون الذين من أصل يهودي فوجدوا نفوسهم في موقف صعب. لقد حاول هذا الفرع الذي أفرخ في الكنيسة الأولى، وتكوّن من مؤمنين يعود معظمهم إلى فلسطين، حاول أن يجمع بين الايمان بيسوع المسيح وبين ممارسة دقيقة للشريعة اليهودية. رفضوا أن يقفوا بجانب الغيورين خلال أحداث سنة 66- 70، وهاجر قسم منهم إلى بلا، وهي مدينة تقع شرقي الاردن، ولكنهم ظلّوا متضامنين مع شعبهم ومع النظم اليهودية. تأثروا تأثراً مباشراً بالكوارث التي حدثت في فلسطين، كما رأوا الكنيسة تضمّ إلى صفوفها الوثنيين بشكل يكاد يكون حصرياً. هذا الوضع غير المُريح حوّل هؤِلاء المسيحيين اليهود الأصل الى شيعة ستنتطفئ شيئاً فشيئاً تاركة بعض الآثار في العالم الشرقي حول ما سيسمّى شيعة الناصريين أو النصارى. كان ذلك نسبة إلى الناصرة حيث عاش "اخوة" (أي: أقارب) يسوع وظلوا يسوسون هذه الكنيسة (يعقوب، يهوذا).
عرفت الكنيسة في بدايتها مركزين كبيرين: أورشليم وانطاكية. لم يحتفظ المركز الأول إلا بأهمية نظرية بعد سنة 70. أما انطاكية فستصبح المركز الحي في العالم اليوناني، وسيزداد عدد المسيحيين فيها بشكل كبير.

2- الشمولية
لقد ربحت الشمولية على الانغلاق: كل البشر مدعوون إلى الخلاص دون تمييز في العرق أو الارض أو الوضع الاجتماعي.
منذ سنة 30 عمل مرسلون لا نعرف اسماءهم في معظم مدن الامبراطورية وزرعوا الإنجيل هناك: في انطاكية وسورية. في رومة منذ سنة 49 على الاقل. في الاسكندرية مدينة الشتات الكبرى. وتابع مرسلون آخرون عمل بولس في آسية الصغرى: يتوجّه رؤ 2- 3 إلى كنائس مسيحية متجذرة تجذراً متيناً في مناطق مثل سميرنه، تياتيرة، سرديس... وتوسّعت مع الوقت ليتورجيا مسيحية. وفي الادب المسيحي الذي ظهر سنة 70، لن تعود مسألة الشمولية تُطرح على بساط البحث. لا، لن تنحصر الكنيسة في العالم اليهودي. فلو انحصرت لصارت شيعة مثل اختها لدى الناصريين. بل انفتحت على العالم كله كما يقول لوقا يوم العنصرة فيرسم لنا لوحة عن انتشار المسيحية في أيامه، في الشرق والغرب (أع 2: 9- 11).
وبموازاة هذا الانتشار الجغرافي، إمتدت المسيحية أيضاً إلى كل طبقات المجتمع. كانت قد انتثرت أولاً وسط العناصر الوضيعة من السكان: صيادون جليليون، ثم العبيد والمحررّون، ثم أصحاب الصناعة في حواضر البحر المتوسط. ولا ننسى العمّال ولا سيما في المرافئ الكبرى كما في كورنتوس. في ايام نيرون، وخصوصاً في أيام دوميسيان، تعاطفت الارستوقراطية في المدن مع المسيحية. وسيدخل في الدين الجديد عدد كبير من الطبقات الوسطى.

3- الاضطهادات
في هذه الحقبة غاب الجيل الأول المسيحي، جيل "الشهود العيان" (لو 1: 2). والكنيسة التي انغرست في بلدان بعيدة وكثيرة، لم تعد مرتبطة بالحدث يسوع، إلا بواسطة التقليد. لهذا سيفرض تدوين الاناجيل نفسه على الجماعات.
لماذا هذا الغياب؟ هناك سبب هام: الاضطهادات.
فمجموعات المسيحيين بدت للوهلة الأولي لليهود وللوثنيين وكأنها جسم غريب، فارتابوا بها وبنواياها. وحين توضّحت الأمور، كان الرأي العام اكثر قساوة لهذه المسيحية الآتية من زاوية مجهولة. فالعقل الروماني كان ينظر إلى الديانات الشرقية نظرة ملؤها الحذر والاحتقار. إتهموا المسيحية بأنها تنكر وجود الله او بالأحرى وجود الالهة ولا تتعبّد لهم. واتهموها بأنها تبغض الإنسان... وافتروا عليها قدر ما شاؤوا.
لم تكن شريعة عامة في الامبراطورية تحرّم المسيحية. ولكن أعمالاً محليّة اضطهدت هذه الديانة التي لا تعترف بها الدولة، واعتبرتها مخلّة بالامن والنظام العام. فأقلّ حدث يجعل "الشرطة" يلاحق المسيحيين، وكذلك الوشاية مهما كانت غامضة أو غير أكيدة. وهكذا عاش المسيحيون في مناخ لم يعرف الأمان والطمأنينة.
أول اضطهاد عرفته المسيحية هو اضطهاد نيرون سنة 64 ضد كنيسة رومة. مات في ذلك الوقت بطرس وبولس. والاضطهاد الثاني الذي عمّ البلاد قد أشعله دوميسيان: ففي فترة قصيرة من الزمن (سنة 95) أعدم أو أرسل إلى المنفى بعض اعضاء الارستوقراطية الرومانية الذين اتهمهم بأنهم ملحدون، بأنهم مسيحيون. ونجد صدى عن هذا الاضطهاد في سفر الرؤيا.

ج- الكنيسة والاوضاع الجديدة
نمت الكنيسة ونمت. فعليها أن تنظّم ذاتها. وهي مجبرة على أن تتكيّف والأوضاع الجديدة التي تواجهها.

1- علاقة الكنيسة بالعالم
تجذّرت الكنيسة في المحيط اليوناني والروماني، فوجب عليها أن تتخّذ موقفاً من هذا المحيط، لا سيما وأن معظم المرتدين يأتونها الآن من العالم الوثني.
* إن لم تكن أحداث سنة 64 قد أدّت إلى اتخاذ اجراءات عامة ضد المسيحيين في المناطق، إلا أنها أثرت على بعض التيارت في الكنيسة: بدا العالم الوثني اولاً وكأنه يتقبل الكنيسة بفرح. ولكنه ما عتّم أن أظهر العداوة لها في اضطهاد سنة 64 وفي تدمير أورشليم سنة 70. وإن يو 16: 1- 4 يتحدّث عن الاضطهاد وكأنه النتيجة المنطقية لقلّة الايمان التي رفضت يسوع: سيطردونكم من المجامع.
والانتظار الاسكاتولوجي، انتظار نهاية الازمنة، نهاية العالم، كان قد خبا بعض الشيء في السنوات السابقة، فولد الآن من جديد. فاتخذّت بعض الكنائس موقفاً سلبياً من هذا العالم الذي انغلق على نفسه، فسادت عليه قوى الشر. والبرهان على ذلك، لعنات سفر الرؤيا على الوحش والزانية الكبرى اللذين يمثلان الامبراطورية الرومانية وحضارتها (رؤ 13: 17). فحسب سفر الرؤيا، لا ينتظر المسيحيون المضطهدون خلاصهم إلا من الله. هم يعيشون "على الارض كغرباء ومسافرين" (1 بط 2: 11؛ عب 13:11- 14). وقد ارتبط هذا اليقين مراراً بانتظار قريب لمجيء المسيح.
* في محيطات اخرى، رفض المسيحيون أن يعيشوا على هامش المجتمع، وحاولوا أن ينظمّوا حياتهم بوسائلهم (1 تم 2: 1- 4؛ صلاة من أجل الملوك واصحاب السلطة). فهذه التيارات تعتبر المجتمع الوثني في الامبراطورية الرومانية جزءاً لا يتجزأ من العالم الحاضر الذي طُلب (الله طلب) من الكنيسة أن تنمو فيه. وطرح السؤال عليهم كما طرح على يهود الشتات من قبلهم: هل نستطيع أن نُدخل في المسيحية بعض عناصر التراث الثقافي والروحي المنتشر في العالم الروماني واليوناني؟
وولاء المسيحيين للسلطة السياسية أتاح لهم أن يعيشوا حياة هادئة ومطمئنة: "لتكن سيرتكم بين الأمم سيرة حسنة" (1 بط 2: 12). واراد اكلمنضوس، اسقف رومة في نهاية القرن الاول، أن يجنّب الكنيسة موقفاً معادياً تجاه الامبراطورية، فتجرَّأ وسمى اضطهاد دوميسيان كأنه حدث عابر لم يكن له تأثير فيما بعد. وهذا التيار سوف يسيطر في القرن الثاني.

2- الحياة الاخلاقية
أن يكون الواحد مسيحياً، هذا يتضمن طريقة عيش وأخلاقية جديدة، ترتبط بالارتداد والعماد. وعلى مرّ السنين، إحتاج المسيحيون إلى النداء تلو النداء ليبقوا أمناء للايمان، ليثبتوا رغم الصعوبات. ولكننا لن نجد المواضيع البولسية الكبرى بما فيها من دينامية. فكتابات نهاية القرن الأول المسيحي تميل إلى تعليم أدبي لا يتعدّى مستوى الاخلاق. هذا ما رأيناه في رسائل يعقوب ويهوذا وبطرس الثانية. وهذا ما نجده في انجيل متى مع خطبة الجبل بصورة خاصة.

3- الحياة في الكنيسة
جاء المسيحيون من أوساط مختلفة، فلم يعبرّوا عن ايمانهم بالمسيح بطريقة واحدة، وتحدّدت شيئاً فشيئاً علاقات بين الوحدة والتنوّع في جماعات الكنيسة القديمة.
قدّمت لنا الرسائل الرعائية بعض الجديد على مستوى الخدم في الكنيسة. والمسؤولون عن الخدمة مكلّفون بأن ينقلوا إلى خلفائهم "عطية الله" (2 تم 1: 6). وهكذا برز نظام تراتبي سيلعب دوره في الأزمات.
وجاءت تفاسير خاطئة للتعليم المسيحي، فهدّدت حياة الجماعات وعرّضت الايمان للخطر: إما رفضت تعاليم محدّدة بوضوح، وإما شوّهت المضمون الأصلي للايمان المسيحي. وتعلّقت الشيع العديدة بمعرفة (غنوصية) تخلّص الإنسان وتبلغ به إلى الوحي المحفوظ للنخبة. وكانت ردّات فعل ضد هذه الأزمات. وبدا من الضروري والملّح مواجهة هذه الأخطار، أن تحدَّد الأسس التي ينطلق منها المعتقد المسيحي ليبني نفسه.
من جهة، ظلّت الكنيسة تعتبر البيبليا كتاباً ملهماً. وسمتّها العهد القديم، ومن جهة ثانية، اعتبرت أن الشهادة الرسولية هي القاعدة التي نعود إليها لنصل إلى الأساس، إلى شخص يسوع وعمله. وإذ أرادت أن تثبت اللائحة الرسمية (= القانون= الاسفار القانونية) لأسفار العهد الجديد، إحتارت شيئاً فشيئاَ بين كتب تتناقلها الكنائس، تلك التي تعتبرها صحيحة وتتخّذ سلطتها من الرسل.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM