الفصل الرابع والعشرون: صياغة الأناجيل

الفصل الرابع والعشرون
صياغة الأناجيل

ليست الأناجيل أولى كتابات العهد الجديد في الزمن، وليست أولى الشهادات عن يسوع. فرسائل القديس بولس قد كتبت قبل أوّل أناجيلنا. ولكن كيف وُلدت الأناجيل؟ على مدى سبعين سنة وفي مناطق جد مختلفة، نضجت في قلوب المسيحيين والجماعات قبل أن تدوّن. وهكذا مرّت في ثلاث مراحل. في المرحلتين الأوليين لعب التقليد الشفهي الدور الأكبر، وفي المرحلة الثالثة سيطر التقليد الخطي: دوّن ما سمي الأناجيل الأربعة: متى، مرقس، لوقا، يوحنا.

أ- المرحلة الأولى
في السنوات 27- 30، تكلّم يسوع وعاش في فلسطين.
إجتمعت حوله جماعة صغيرة، جماعة التلاميذ. ما الذي حدث في هذه الجماعة؟ هنا نعود إلى القسم الاول: يسوع في محيطه الحياتي، حياته مع المرذولين، موقفه الذي قاده إلى الموت، قيامته وظهوراته للتلاميذ. ثم نكتشف أصول ما سيصير إليه التقليد الإنجيلي، نكتشف يسوع رجلاً من عصره. وما سيكون في أصل الايمان المسيحي بحصر المعنى، هو خبرة القيامة كما عاشها الرسل.

ب- المرحلة الثانية
بعد السنة 30. عاشت الجماعات الأولى، تذكّرت، تأملت، صلّت.
أعلن الرسل غداة موت وقيامة يسوع المسيح أمام هذا الشعب الذي حكم على يسوع بالموت، أعلنوا في أورشليم على ما هم شهود له: "أسلمتم هذا الرجل وصلبتموه وقتلتموه. ولكن يسوع هذا قد أقامه الله وجعله رباً ومسيحا". لقد أعلنوا الرب في شخص يسوع، في شخص المسيح.
هذه هي الحقيقة التي يحيا منها التلاميذ الذين رافقوا يسوع خلال نشاطه على الأرض. وسنرى اهمية هذه المرحلة الثانية وما تمثلّه اذا عدنا إلى الفصلين السابع والثامن وما يقدّمانه عن اعلان القيامة.

1- جماعات المؤمنين
إن إعلان يسوع المسيح الحي قاد المؤمنين لتكوين جماعات، لبناء الكنيسة: في أورشليم، في السامرة، في انطاكية، في تسالونيكي...
* بدت مجموعة تلاميذ يسوع في البداية شبيهة بشيعة من الشيع على مثال شيعة الناصريين. ولكن، لماذا يعيشون المشاركة الأخوية؟ إنهم يعيدوننا إلى الطريقة التي بها نظّم يسوع حياته مع تلاميذه، يعودون إلى كلمات يسوع. أما الاجمالات في أع 2: 44- 45؛ 4: 34- 35 فتعمّم فعلات ظلت ي الواقع أمراً شواذاً لا واقعاً يومياً.
* وظل الرسل يؤمّون الهيكل بعض الوقت. ولكن التعلّق بيسوع المسيح يعطي معنى جديداً لارتباطهم بالله. نجد مثلاً في 23:4- 31 رسمة احتفال بالصلاة: المسيحي يعيش في الفرح، ويرفع إلى الرب آيات الشكر لخلاص مجاني ناله بدم المسيح.
وبرزت باكراً أفعال ايمان (1 كور 15: 3- 5) وقد تكون كُتبت لتعلن في الاحتفالات الليتورجية. فالمسيحيون يحتفلون بحضور القائم من الموت في عبادة جديدة. كان الكورنثيون يجتمعون حوالي سنة 55 من أجل "كسر الخبز"، فيخبرون بموت الرب إلى أن يجيء (1 كور 11: 26). وهكذا أخذت فعلة يسوع ليلة العشاء السرّي كل معناها، وكذلك كل مرة أكل يسوع مع تلاميذه.

2- نشاط رسولي متنوّع
الفعل يسند الكلمة والعكس بالعكس. وأهم خطبات أعمال الرسل هي أجوبة على اسئلة أثارها عند السامعين طريقة حياة جديدة تعيشها هذه الجماعات.
اولاً: لا شكّ في أن لوقا بنى هذه الخطب بطريقته الخاصة. ولكن يبقى أنها صدى أميناً للإعلانات الأولى، لكرازة بطرس (أع 2: 14- 41؛ 3: 11- 26؛ 4: 8- 12؛ 5: 29- 32؛ 10: 34- 43) أو بولس (13: 13- 41). إذا أردنا أن ندرك النقاط الرئيسية في هذه الكرازة نتخذ مثلين.
* المثل الأول: خطبة بطرس بعد شفاء كسيح الباب الجميل (أع 3: 11 - 26). توجّه فيها بطرس إلى اليهود في أورشليم، ساعة الصلاة في الهيكل. إنطلق من واقع هو شفاء كسيح (آ12)، وربطه بالقدوس والبار، بأمير الحياة أي بالمسيح القائم من الموت، الذي يشهد له مع سائر الرسل. ويستند مجمل هذا الاعلان إلى الكتاب المقدّس ولا سيّما إلى ما قاله اشعيا (13:52- 12:53) عن عبد الله المتألم (آ 13). وآية الشفاء هذه طلبت من سامعي بطرس أن يتخذّوا موقفاً: يتخلّون عن جهلهم الحالي ويعودون إلى الله فيؤمنون بالمسيح القائم من الموت ويخلصون... وهكذا تنمو الكنيسة، شعب الله الجديد (آ 25).
ما هي العناصر الأساسية في هذه الكرازة الاولانية؟
- أعلن الرسول بشكل احتفالي حقيقة يسوع المسيح الذي مات وقام. إنه شاهد على ذلك.
- جرت هذه الحقيقة حسب الكتب: ففي يسوع تمّت مواعيد الله في القديم. فالأسفار المقدسة تستنير بيسوع المسيح، وفي الوقت عينه تلقي الضوء على سرّه الشخصي (ألقابه).
- وينطلق الرسول من هذه العناصر ليحضّ السامعين على الايمان، على العودة إلى الله في حياتهم اليومية، على قبول العماد "باسم يسوع".
* المثل الثاني: خطبة بولس في انطاكية بسيدية (تركيا الحالية) (أع 13:13- 43). كان انقلاب كامل في حياة بولس على طريق دمشق، جعله يعلن الابن، المسيح المائت والقائم الذي يمنح البشر غفران خطاياهم (آ 26- 37). وألقى بولس نور المزامير (مز 2؛ 16) على آ 33- 37، وشهادة يوحنا المعمدان (آ24- 25). وفي النهاية دعا السامعين إلى الايمان والتوبة (آ 38- 41). هكذا ينمو شعب اله الجديد الذي يعيش من القائم من الموت وينتعش بروحه.
نجد هنا العناصر الأساسية عينها. ولكن بما أن يهود انطاكية لم يسمعوا أحداً يكلّمهم عن يسوع من قبل، توسّع بولس في الحديث عن نشاط يسوع من الجليل حتى أورشليم.
ثانياً: لا تستطيع الكنيسة الفتيهّ أن تجتذب مؤمنين من فلسطين فقط، كما لا تستطيع أن تعيش منغلقة على ذاتها. فوجب عليها أن تنفتح على العالم كلّه، حتى عاصمته في ذلك الوقت، رومة. في زمن أول، توجّه المرسلون إلى الجماعات اليهودية العائشة في الشتات (كانت موزّعة في المدن). وفي زمن ثان، ولا سيّما مع بولس، توجّهوا بصورة مباشرة إلى الوثنيين، وذلك رغم الصراعات التي نتجت عن هذا الوضع في الكنائس.
وبرزت جماعات مسيحية في أمكنة عديدة من حوض البحر المتوسط. ظلّ الرسل متصلّين بها، وقد أرسلوا إليها رسائل. هذا ما فعل بولس الذي توزعت رسائله على 15 سنة فأعطتنا معلومات ثمينة عن ظروف حياة هذه الجماعات.
ثالثاً: هذه المعطيات، صعوبات الجماعات، أسئلة المرتدين، كل هذا فرض على الرسل والمسيحيين أن يعمّقوا معرفتهم ليسوع المسيح. مثلاً، وصلت الرسالة إلى كولسي إلى وحي عن المسيح "بكر كل خليقة" فدلّت على البعد المسكوني لحضور الرب واتساع عمله الخلاصي.
وحين نتعرّف إلى الجماعات، ندرك كيف أن هذا التعمّق شدّد ايمان المعمّدين الجدد وكشف لهم المجالات التي فيها يبدّلون حياتهم.

3- انجيل قبل الاناجيل.
انجيل شفهي وصل إلى الناس قبل الاناجيل التي ستدوّن بعد سنة 70.
سلّم بولس إلى المؤمنين ما تسلّمه. وظل يذكر الاعلان الشفهي الاول حول موت يسوع وقيامته (1 كور 15: 1- 11): هذه هي البشرى السعيدة (= الإنجيل) التي بدّلت حياته، بدّلت حياة الرسل وحياة الكورنثيين.
اولاً: ذكرت رسائل القديس بولس الموضوع الأساسي في الإنجيل. ولكنها وضحّت في نقاط خاصة سر يسوع المسيح. لماذا؟
* تعكس هذه النقاط الخاصة حاجات الجماعات الأولى، كما تنوّعت حسب الظروف. فكيف نستنبط في عالم القرن الاول المسيحي المعقّد، اسلوب حياة جديد ينعشه روح القائم من الموت، فيترجم ما في الحياة المسيحية من جديد؟ أي موقف نتخذ من الغنى؟ كيف تكون علاقاتنا مع الخطأة أو الوثنيين؟ ماذا نقول عن نهاية العالم؟ كيف يتميّز هذا الايمان الجديد عن العبادات السرّانية المعاصرة؟ هل يكون المؤمن مواطناً صالحاً دون أن يعبد الامبراطور؟ كيف نمارس وظائف في المدينة دون أن نشارك في شعائر العبادة الرسمية؟ ومجمل الكلام، كيف نستخرج في الحياة اليومية نتائج الارتداد الذي تمّ في حياة المؤمن؟
* يرى المسيحيون أن ما قاله يسوع وعمله يبقى أفضل تعليم في حياتهم اليومية. وتكرّرت الاسئلة في ظروف جديدة، فتقبلّت أقواله يسوع وأعماله رنّة جديدة وتفسيرات مختلفة:
- عرفت المجموعة المسيحية الهجومات العنيفة أو الاضطهادات، فتذكّرت مجادلات يسوع مع خصومه. مثلاً، خبر شفاء المولود أعمى، يو 13:9- 34.
- تنوّعت نسخات خبر العشاء السري، من جهة في مت 26:26- 29؛ مر 22:14- 25، ومن جهة ثانية في لو 14:22- 20، 1 كور 23:11- 25، فاستعادت تعابير مختلفة ثبتّها الاستعمال الليتورجي في هذه الجماعات.
- تحدث مت 10: 10، عن أناس من فلسطين يعتبرون الحذاء ترفاً فقال: "لا تأخذوا حذاء". وتكيّفت كلمات يسوع لأناس يعيشون في خارج فلسطين لم يعتادوا أن يمشوا حفاة. قال لهم مر 9:6 "إنتعلوا حذاء" دون ان يتنكّر لوصية الفقر التي يعلنها يسوع. وجوهر الحديث هو أن يكون المرسل مستعداً للانطلاق في كل ساعة حسب خر 12: 11.
في هذه الحالة، ما أراد متى ومرقس أن يوردا كلام يسوع إلى الرسل على حرفيّته، بل أن يشددا على متطلبة الفقر المفروضة على كل المرسلين. غير أن هذه المتطلبة ترتدي أشكالاً تتنوع بتنوع البلدان.
* وهكذا، خلال أربعين سنة، تكوّنت تقاليد شفهيّة متعدّدة. وبرزت وحدات صغيرة حسب السامعين وحاجاتهم: أقوال، أخبار، ذكريات عن يسوع. وضعت في أشكال مختلفة فألقت ضوءاً على اسئلة المسيحيين الحالية.
وإذ قام المسيحيون بهذا العمل، أعادوا قراءة كل حياة (أعمال، أقوال، شخصية) يسوع على ضوء الفصح. فبالقيامة أكّد الله طريق يسوع على الأرض. واكتشفت الكنيسة المعنى العميق لأعمال يسوع وأقواله بقيادة الروح الذي ذكّرها بكل ما قاله يسوع (يو 14: 26) وأوصلها إلى الحقيقة كلّها (يو 13:16).
ثانياً: وحين نعرف الرسمة المشتركة التي تؤسّس الكرازة الرسولية، نفهم الاختلافات بين النصوص الإنجيلية بتنوّع الظروف والسامعين.
ماذا كان باستطاعة المرسلين أن يفعلوا أمام هذا التنوّع؟ كانوا متيقّنين أن قيامة يسوع التي دشّنت الازمنة المسيحانية، مهمة جداً لكل الذين تتوجّه إليهم. إذن، عليهم أن يختاروا الطريقة الفضلى لعرض ما يجب أن ينقلوه. لهذا لم يعلنوا القيامة لليهود كما أعلنوها لليونانيين. كما وجّهوا نداءهم إلى التوبة بصورة مختلفة. فعادوا إلى العهد القديم أو لم يعودوا. حين تحدّث بولس في مجمع انطاكية بسيدية، ذكر تاريخ إسرائيل الذي يعرفه سامعوه (أع 13: 16- 23). ولكنه حين تحدّث إلى أهل اثينة ذكر شعراء اليونان (أع 17: 22 ي).
ولامست المسيحية الأولى بعض الافكار والمواقف والعقليات التي عرفها المرتدون أكانوا سامريين أم معمدانيين أم اسيانيين. وفي الوقت عينه، عرف المسيحيون أن يبتعدوا عن بعض الأفكار التي سيطرت في عصرهم. فالكلام عن المسيح سيصاغ بشكل مبتكر، ولكنه سينطلق من مواد عرفها العصر الأوّل المسيحي.

ج- المرحلة الثالثة
هي مرحلة تدوين الاناجيل. في السنوات 70- 100.
سنحاول بشكل موجز أن نعيد بناء "التاريخ السابق" لأناجيلنا الحالية: ما هي الظروف التي دفعت المسيحيين الأولين ليقوموا بهذه الصياغة؟ إن تاريخ اربعين سنة (المرحلة الثانية) جعلت التقاليد الشفهيّة تدوّن في اربعة كتيبات هي متى ومرقس ولوقا يوحنا.

1- تدوين الاناجيل
* برزت باكراً الحاجة لتدوين مجموعات جزئية ومستقلّة بعضها عن بعض، لهذه الجماعة أو تلك. منها ما تعلّق بالموت والقيامة أو بأحداث متعلّقة بيسوع (المعجزات)، أو بأقوال المعلّم (الأمثال، الجدالات). وأتاحت هذه المجموعات استعمال النصوص بطريقة أسهل في الكرازة أو في التعمّق في الايمان.
* هل نستطيع أن نفترض مجموعات أوسع؟ معظم المواد المشتركة بين متى ولوقا والغائبة عن مرقس، قد تدل على ينبوع خاص (= المعين). وقد تلّمح "وثيقة" إلى نص أو خبر من العهد القديم، فتبدو مكتوبة قبل سنة 50 في لغة بسيطة لأوساط مسيحية من أصل يهودي. ويمكن أن تكون دوّنت قبل سنة 60 تفسيرات أحد النصوص لمسيحيين من أصل وثني. وقد يكون نص ثالث صدى لتقاليد مختلفة ظهرت في وقت مبكر... غير أن هذه المجموعات المكتوبة لم توقف اعلان الإنجيل بصورة شفهية. فقد ظل التقليد الشفهي يغني التقليد الخطي حتى التدوين النهائي. وهذا ما نراه واضحاً في انجيل يوحنا أو في خاتمة انجيل مرقس (9:16- 20: كانت النسخة الأولى تنتهي في 8:16).

2- لماذا دوّنت الاناجيل
ومرّت السنون... وتمنى المرتدّون طبعاً أن يعرفوا معرفة أفضل الطريق الذي عاشه على الأرض يسوع الذي قام من بين الاموات والذي يؤمنون به الآن: أن يتذكّروا ويفسّروا ما عمله يسوع وقاله، يلقي النور في طريقهم.
ووصلت المسيحية الفتية، التي انفصلت شيئاً فشيئاً عن اليهودية خصوصاً حوالي سنة 70، وصلت إلى بلدان عديدة في حوض البحر المتوسّط، كما لامست مختلف أوساط العالم في ذلك الزمان. أجل، ان المسيحية ابتعدت جداً عن مكان ولادتها. كيف تصبح فلسطين قريبة من هؤلاء المسيحيين الجدد؟ حين يدوّن الإنجيل.
وغاب الشهود الاولون. يعقوب قُطع رأسه في فلسطين. بطرس صُلب في رومة... وآخرون غابوا لألف سبب وسبب. ما العمل لكي لا نخسر شيئاً مما عاشه ونقله هؤلاء الشهود؟ لهذه الاسباب وغيرها رأت الاناجيل النور بين سنة 70 وسنة 100.

3- هدف الاناجيل
كان هدف الاناجيل: تنمية الايمان وتغذيته
هناك صعوبات تقنية: ورق البردي غالي الثمن. كيف نمسك القصبة؟ والحبر لا يدوم طويلاً. لهذا أجبر الإنجيليون على تدوين وثائق قصيرة ومحدّدة. وهذا ما يدعونا إلى مقابلة المقاطع المتشابهة في الاناجيل.
* قد نعجب من اختلافات واضحة، بل بعض "تناقضات" حرفية بين الأخبار. فالكلمات ليست هي هي، أو هي لا تتوالى في الترتيب عينه. مثلاً، جعل لوقا (6: 11- 16) دعوة الاثني عشر قبل الخطبة الأولى (لو 20:6- 49). وجعلها متى (10: 1- 4) بعد خطبة الجبل (مت 5- 7).
وهكذا نجد أنه يستحيل علينا أن نكتب سيرة مفصلّة ليسوع بأن نتبع تسلسل الاناجيل، أو بأن نمزجها بعضها ببعض. وهذا نفهم أن هذه الكتب لم تهتمّ أول ما تهتم بالناحية التاريخية. هي إنطلقت من الناحية التاريخية، من حياة يسوع وأعماله وأقواله، لتقدّم لنا شهادة عن يسوع.
* لا تكتفي الاناجيل بأن تقدّم لنا الوقائع بصورة بسيطة. فهدف الإنجيليين ليس حصراً بأن يقدّموا "سيرة يسوع" مع الدقة المادية في خطبه وتصّرفاته. هدفهم تنمية وتغذية ايمان المسيحيين انطلاقاً مما قاله يسوع وعمله. واخذ الكتّاب بعين الاعتبار تأثير أعمال يسوع وأقواله على حياة الجماعات التي يتوجّهون إليها. لهذا قاموا بعملية اختبار ولم يكتبوا كل شيء (يو 30:20؛ 25:21).
أعلن الإنجيليون الحدث يسوع المسيح. ولكنهم ظلّوا، شأنهم شأن الرسل، يدعون القارئين إلى الايمان والى حياة مسيحية حقّة. والتأمت الجماعة فضمت وشاركت وتعمّقت ودوّنت ما تعيشه وتعرفه عن المسيح. في هذا المعنى نقول: الكنيسة كوّنت الاناجيل.
* كان كل انجيلي شاهداً لسامعيه، وقد نال نداء خاصاً به. هنا تبرز شخصية كل كاتب وأسلوبه وطريقة التعبير عنده. فهؤلاء الكتّاب يوردون مضمون التقاليد السابقة كما وصل إليهم حرفياً ولا يجعلون القطعة لِجانب الاخرى بدون نظام أو ترتيب. إنهم يعودون إلى مراجعهم وينظّمون مجموعات يشدّدون فيها على أمور ويفضلونها على أخرى.
هذا الاسلوب نكتشفه حين ندرس كل انجيل على حدة. ونأخذ مثلاً يوحنا مع ما فيه من ابتكار: عاد إلى مراجع متنوّعة وقديمة. ولكنه ظلّ حراً في استعمال هذه المراجع، فلجأ إلى التوسّعات الطويلة ليبرز المعنى العميق لأعماله يسوع وأقواله.
* رغم الاختلافات البارزة التي توضحها كل مقابلة بين الاناجيل الثلاثة الأولى (نسميّها الاناجيل الازائية، لاننا نضع نص متى ازاء نص مرقس أو لوقا فنجد التشابهات والاختلافات)، يورد كل من متى ومرقس ولوقا أقوالاً وأحداثاً متعلّقة بيسوع في الفاظ متقاربة وفي تصميم متشابه. مثل هذه التشابهات تطرح سؤالاً: هل ترتبط الأناجيل بعضها ببعض؟
لن نقدّم هنا الفرضيات العلمية المتعدّدة. ولكننا نورد نقطتين:
- الاولى: أثّر مرقس تأثيراً كبيراً على التدوين النهائي لمتى ولوقا، إن على مستوى البيئة العامة، وإن على مستوى الشكل الأدبي.
- الثانية: هناك مواد جهلها مرقس واستعملها متى ولوقا. قد يكون في أساسها متى الأرامي.

د- الخاتمة
انجيل مستمرّ يقدّمه لنا الروح القدس.
حين نقرأ الأناجيل اليوم، لا نستطيع أن نهمل الكرازة الشفهية الطويلة التي تقبلّتها الكنيسة الأولى في حياتها. ولا نستطيع أن نصل إلى يسوع إذا لم نأخذ بعين الاعتبار عمل الجماعات المسيحية الأولى.
1- حين نفتح الإنجيل نجد في الوقت عينه:
* المدوّن الأخير الذي كتب لجماعة محدّدة فعبرّ عن ايمانها وقدّم لها السند. عندما نقول هذا، نفهم أننا أمام إنسان حيّ يتوجّه إلى أناس أحياء، أمام شاهد للماضي (أي: المسيح) وللحاضر (أي: كنيسة عصره).
* تقليداً شفهياً طويلاً نقلته الجماعات، ثم مراجع مكتوبة.
* وعبر كل هؤلاء، يسوع الذي عاش ومات في فلسطين، واعترف به المؤمنون: إنه المسيح القائم من الموت والحي في هذه الكنيسة الفتية وفي العالم.
2- ونحن بدورنا نغني معرفتنا بيسوع المسيح حين ندخل في هذا التيار الذي ينطلق من الماضي مع يسوع إلى الحاضر، إلى الايمان يا جماعة مسيحية. فالايمان بالنسبة الينا الآن، هو ثقة بالتلاميذ والشهود الاوائل الذين رأوا في يسوع سيد الحياة، وخاطروا بحياتهم من أجله.
عبر هؤلاء الشهود وحدهم نعرف اليوم من هو الرب. فايماننا "رسولي"، أي يستند إلى شهادة الرسل. وهؤلاء الإنجيليون الذين ينتمون إلى جماعة ويعيشون للكنيسة، قد شدّدوا على هذه الناحية أو تلك حين أبرزوا وجه يسوع المسيح، واجتهدوا لكي يكشفوه لنا في ما كتبوه. وما زالوا يدعون قرّاءهم ويدعوننا نحن إلى الايمان.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM