الفصل الحادي عشر: تحريض على الوفاق

الفصل الحادي عشر
تحريض على الوفاق
2: 12- 18

لا ننسى حين نقرأ هذا المقطع، الوضعَ الملموس الذي يعيشه أولئك الذين يوجّه إليهم. كانت جماعة فيلبّي فريسة الخلافات والمزاحمات. فرأى الرسول أنه من الضروريّ أن يقدّم لهم نشيداً يعلن سيادة المسيح ويدعونا إلى الاقتداء بتنازل ذاك الذي أخذ صورة العبد وصار طائعاً حتى الموت على الصليب. وإذ ينظر بولس إلى هذا الوضع عينه يحرّض قرّاءه على العمل "في خوف ورعدة"، في الوفاق، بغير تذمّر ولا مماحكات (ولا جدال). هكذا يستفيدون من الخلاص الذي أعطي لهم في المسيح يسوع.
بعد نظرة عامة، نسمع في قسم أوّل كلام الرسول: إعملوا لخلاصكم. وفي قسمٍ ثانٍ نتوقّف عند الحياة في الجماعة، التي يجب أن تكون حياة من القداسة.

1- نظرة عامة
أ- عودة إلى الطاعة
"ومن ثمّ". هكذا ينطلق الرسول من نشيده إلى المسيح فيطلب من المسيحيّين أن يحقّقوا المثالي الذي وجدوه في المسيح. كان المسيح طائعاً وسيطيع الفيلبيّون. من سيطيعون؟ بولس. وهذه الطاعة هي التي برهن عنها أهل فيلبّي، لا حين كان بولس هنا فحسب، بل حين كان غائباً أيضاً (رج 1: 27).
يلاحظ بولس دون أن يفرض شيئاً. وهكذا يكون "المديح" تحريضاً خفيفاً. غير أن السياق يعود إلى أبعد من النشيد، فيصل إلى النصائح الملحّة التي قرأناها في 2: 1- 4. فموضوع الطاعة هو ممارسة هذه النصائح، لتقوم داخل الجماعة علائق المحبّة بواسطة تصرّف متواضع ومُخلص، من أجل الوفاق. وإذ يعيش المسيحيّون حياة تليق بإنجيل المسيح (2: 1) "يُضيئون كالنيرّات في العالم" (آ 15).
في هذه النظرة الجماعيّة يعلن بولس كلاماً لا نجد مثله في كل العهد الجديد: "إعملوا لخلاصكم في خوف ورعدة". يُعطى الأمر في صيغة الجمع. هذا يعني أنه يوجَّه إلى الجماعة المدعوّة إلى نشاط دينيّ، فيعمل كل واحد جهده في إطار الخلاص المقدّم له.
ويتأمّل الرسول هذا الخلاص في المستقبل (روم 13: 11: فالخلاص الآن أقرب إلينا ممّا كان يوم آمنّا). أما المؤمنون فيقفون بين الماضي الذي جعلهم ما هم عليه في المسيح، وبين المستقبل الذي هو موضوع رجائهم (روم 8: 24: في الرجاء كان خلاصنا). في هذا الموضع يتابع بولس جرْيه (فل 3: 12) الذي يقدّم له الاطار السيكولوجيّ للعمل الذي يدعو إليه قرّاءه.
ب- عمل مشترك
ويقوم المسيحيّون بهذا العمل المشترك "بخوف ورعدة". عبارة مأخوذة من التوراة كما نقرأها في السبعينية. مثلا، تك 9: 2؛ خر 15: 16؛ تث 2: 25؛ 11: 25... استعملها بولس مراراً ليدلّ على العلاقات بين البشر. في 1 كور 2: 3، يذكّر بولس أهل كورنتوس بتصرّفه المتواضع في الامحّاء "وفي الضعف"، وهو تصرّف يتناسق كل التناسق مع كرازته عن المسيح المصلوب "ضعف الله". وتجاه هذا التصرّف نجد كلاماً عن موقف بشريّ مليء بالعجب وخائن للتعليم الذي يحمله. وفي 2 كور 7: 15، نقرأ عن الطاعة التي بها استقبل الكورنثيون تيطس والتعليمات التي حملها. وفي أف 6: 5 تدلّ العبارة على طاعة العبيد لأسيادهم.
في هذا الإطار نفهم عبارة "في خوف ورعدة" كما ترد في فل 2: 12. فتنازلُ المسيح "الطائع حتى الموت على الصليب"، يرسم قاعدة تُدعى الجماعة لكي تسير بموجبها، فيعي كل واحد أنه لا يمكن أن يساوم حول مثل هذا المبدأ الأساسيّ الذي حدّده المسيح. بهذه الصورة يعملون من أجل الخلاص محقّقين دعوتهم مترجّين أن تتوّج في المستقبل.
ج- الله يعمل
غير أن هذا التحريض لا ينفصل عمّا يلي، وهو يشكل أساسه: "إعملوا... فالله هو الذي يعمل فيكم" أو: في وسطكم. هكذا نشدّد بالأحرى على الوجهة الجماعيّة كما يريدها سباق النصّ (1: 6). بولس هو غائب. ولكن هذا لا يكون السبب في الاستسلام إلى الاهمال. لهذا يقول: لا تحتاجون إلى أن تنتظروا مجيئي لكي تصلحوا حياتكم الجماعيّة. فالله نفسه، لا أنا، هو الذي يُشرف على هذا العمل.
المفارقة واضحة في هذا الكلام. نقرأ في 131 عبارة يُقال فيها إن الله يحقّق كل شيء حتى الارادة (الباطن) والعمل (الظاهر، الخارج) في مسعى تُسأل عنه الجماعة. هل نحن أمام استقالة جماعيّة؟ ومع ذلك، فالفكرة واضحة: لا شيء يفلت من عمل الله الذي يفرض على الإنسان أن يعمل كل مجهوده. ونحن نفهم هذا الكلام إذا قلنا إن أعمالنا التي نعملها ونحن نتوخّى الطاعة لله، ليست كلها أعمالنا وكأن الله يزيد عليها شيئاً قليلاً يتوّج به مجهودنا الشخصي. كلاّ، فهذه الأفعال هي عمل الله الذي تمتدّ قدرته في الضعف (2 كور 12: 9) فتضمّ إليها حتى جذور العمل، تضم الإرادة من أجل تتميمها.
هذا من جهة الله. وهناك جهة الإنسان، ونحن نستطيع القول إن الإنسان أيضاً يعمل العمل كله. فبدون إرادة الإنسان وقبوله لنداءات النعمة وإلحاحها، لا يستطيع الله أن يحقّق برنامجه. وهكذا نستطيع القول مع بولس: إعملوا... لأن الله يعمل فيكم كل شيء. فأنتم أقوياء بقوّته. فالله يعمل كل شيء بقدر ما تعملون، لأن قدرة الله تبقى جامدة بدون إرادتكم ومجهودكم البشريّ. وإذ كتب بولس "إعملوا فهو يدعو أهل فيلبّي أن "لا يكون قبولهم نعمة الله بغير فائدة" (2 كور 6: 1).

2- الحياة في الجماعة (2: 12- 14)
"إعملوا لخلاصكم". قد نكون هنا أمام قول مأثور قد أخذه بولس من تراثه اليهوديّ. وهو يطلب من المؤمنين أن يتمّوا عمل خلاصهم، أن يجعلوه يُثمر. بدأ يسوع ونحن نكمّل. وعمل خلاص يسوع قرأنا عنه في آ 6- 11. فعلى الجماعة (صيغة الجمع، لا المفرد) أن تعيش هذا الخلاص، في الطاعة، في الاحترام المتبادل، في التواضع. هذا ما سمّيناه "في خوف ورعدة".
قد يكون المطلوب طاعةً للرسول، أو لسلطات الجماعة. ولكن المهمّ كما في روم 1: 5؛ 15: 18؛ 16: 19، طاعة الإيمان الملموس كما يتجسّد في الأعمال اليوميّة وكما ينتج عن عمل المسيح. ثم احترام داخل الجماعة. فُسّرت عبارة "في خوف ورجدة" بشكل مبتور فدلّت على الارتعاد أمام الله، بينما تجعلنا في إطار الجماعة في فيلبّي.
كان بولس متحفّظاً في التوجيهات التي وجّهها إلى قرّائه حول سلوكهم. أخذ بلغة المحبّة فسمّاهم "الأحبّاء" (رج 4: 1). ويشير الرسول إلى عودته القريبة. هو لا يعرف متى سيأتي إلى فيلبّي. إذن، المحرّك الذي يعمل من أجل الوفاق لا يرتبط بعودة الرسول والخوف من قدومه.
قال بولس: لا تحتاجون إلى رجوعي لتصلحوا حياتكم الجماعيّة. هنا نفهم كلمة "اودوكيا" بمعنى: التفاهم، الوفاق. فتصبح العبارة: "الله يفعل فيكم الارادة والعمل من أجل التفاهم والوفاق".
الله هو الذي يعمل. ولكن ما يقوله بولس لا يريد أن يوقف عمل الحرّية البشريّة. هو لا يقول: الله يعمل، وليس الإنسان بشيء. بل: ليس من حاجز بعد الآن يوقف المجهود الذي تقومون به من أجل هذا الوفاق. فالله نفسه يعمل من خلال هذا الجهد. فعمل الله لا يعيق عمل الإنسان ويوقفه، بل يحرّك ردّة فعل عند الإنسان. فما هو "انارغاين" (عمل) عند الله يقابل عند الإنسان "كاترغازين". لقد تمّ الخلاص من قبل الله، يبقى أن نحقّقه في حياتنا.
وتأتي آ 14 فتقول: لماذا الجدال والمماحكة. فكلمة "غوغسموس" (تذمّر) تدلّ على موقف أناس آخرين. إذن، لا تدلّ الكلمة على تصرّف ضد الله. هكذا تستعمل اللفظة في يو 7: 12 (كان في الجمع مهامسة)؛ أع 6: 1 (إذ تكاثر عدد التلاميذ حدث تذمّر)؛ 1 بط 4: 9 (مضيفين بعضكم بعضاً بلا مهامسة). ونقول الشيء عينه عن كلمة "ديالوغسموس" (جدال، مجادلة) التي تعني الشكّ بالله ونكرانه، بل نظريّات تدلّ على مرض في الجماعة. هنا نتذكّر أعمال الرسل الكذبة في فيلبّي.

3- حياة في القداسة (2: 15- 18)
أ- هدف الجماعة (آ 15- 16 أ)
لماذا يجب أن تظهر الجماعة المسيحيّة بهذا المظهر؟ لأنها ليست مجتمعاً مغلقاً، يحيا بذاته ولذاته. فالكنيسة لا توجد إلا من أجل هدف، وهذا الهدف يعطي الكنيسة شكلها. وها هو الرسول يذكر الآن هذا الهدف عائداً إلى المواضيع التقليديّة. يرد تث 32: 5 (جيل شّرير معوجّ. أبهذا تكافىء الربّ أيها الشعب الأحمق؟). كنتيجة لاعتبارات سابقة، وذكر العالم يكرّر ما قاله الموصول. ويبقى أن هدف الكنيسة يظهر هنا: أن تحمل النور إلى عالم من الظلمة بالنظر إلى الدينونة المقبلة.
قد نكون هنا في إطار هجوميّ. فبولس يذكّر خصومه المفتخرين بأصلهم اليهوديّ (3: 2 ي)، أن الكتاب نفسه يقول إنهم "جيل معوجّ" (تث 32: 5). فعلى الكنيسة أن تبتعد عنهم. ويذكّر الرسول أولئك الذين يعتبرون أنهم يشعّون الانخطاف (2 كور 3)، أن الإشعاع الحقيقيّ هو الكرازة والحياة المسيحيّة الحقّة.
تكونون بلا لوم (اممبتوس). ولكننا نقرأ في 3: 6 أن الرسول يشجب هذه الصفة. فالنظرة مختلفة. فالعلم الخلقيّ ليس مبادىء مسبقة، بل نتيجة. لا نستطيع أن نؤسّس عليها "الخلاص"، ولكنها تنبع كما من معين من هذا الخلاص الذي أعطي لنا، فيبقى علينا أن ننشره.
"تضيئون في العالم كالنيرّات". كان يُعتبر بعض المعلّمين وكأنهم حامِلو نور. وهنا تظهر أهميّة المسيحيّين بأن يحملوا النور إلى العالم. إن لفظة "فوستير" تعني النور أو ما يحمل النور. وهذا النور هو كلمة، وهذه الكلمة تحمل الحياة. ومقابل هذا لا يمكن أن تصل الحياة إلا بهذه الكلمة.
ب- مثال بولس (آ 16 ب- 18)
والبرهان الأخير الذي توسّله يولد لكي يقنع أهل فيلبّي بضرورة حياة جماعيّة "في المسيح" هو: مصير الرسول في "يوم المسيح" (1: 9). هل يترك الفيلبيّون الرسول يبدو وكأنه "سعى عبثاً"؟ نرى صورة السعي (أو: الجري) مراراً في الرسائل فتدلّ على الحياة المسيحيّة بشكل عام (غل 5: 7؛ روم 9: 16)، أو على الخدمة الرسوليّة بشكل خاصّ (1 كور 9: 24 ي؛ غل 2: 2؛ 2 تس 3: 1). أما فعل "كوبياوو" (تعب) فيدلّ على الأتعاب والآلام التي هي جزء من النشاط الرسوليّ. نلاحظ أن الرسول لا يعود في تحديد خدمته، إلى كلمات تدلّ على الفخر أو الكرامة أو المجد، بل إلى تلك التي تدلّ على المجهود والصعوبات. فاكرامة تأتيه من مكان آخر. هي لا تأتي من الرسول نفسه، ولا من وظيفته، بل من الآخرين، من أولئك الذين سيكونون فخره في يوم المسيح. وهكذا تكون لفظة "كاوخيما" (افتخار) قريبة من المجد.
"لو أرقت سكيباً" (آ 17). قد نرى في هذه الآية تلميحاً إلى استشهاد الرسول. فلو وجب على بولس أن يموت ويقدّم ذبيحة، فهو يفرح مع الفيلبيّين، لأنه يتّحد معهم في تقدمة واحدة لله، فيقدّم الرسول حياته، وأهل فيلبّي إيمانهم. ولكننا نجد الفرح بمناسبة الحديث عن هذا الاستشهاد.
هنا يُطرح سؤال حول معنى "سبندوماي". في المعلوم: قدّم تقدمة من السوائل، سكب. وفي الوسيط: سكب سكيباً. فالسكيب يرافق تقدمة الذبائح، وينهي مجمل الليتورجيا، ويكمّل التقدمة اليوميّة. ولكننا لا نجد أي إراقة للدماء، لا في العالم اليوناني ولا في السبعينيّة.
إنطلق الرسول من اتعابه فتطلّع إلى "الموت" الذي قد ينتظره، أو هو يتساءل: هل كانت أتعابه عبثاً؟ غير أنه ما أراد أن ينهي كلامه في إطار متشائم، فتحدّث عين ذبيحة إيمان الفيلبيّين (كما أن السكيب يختتم الذبيحة). إيمان المؤمنين يكلّل أتعاب الرسول. وينهي الرسول: إذا كنت أتعب على ذبيحة إيمانكم فأنا أفعل ذلك بفرح. الفرح المذكور هنا هو علامة جماعة تعيش تقدّم الإنجيل ونجاحه (1: 12- 18).
أما الإيمان (بستيس) فهو ذاك الذي يحاول بولس أن ينعشه في فيلبّي (1: 29؛ 3: 2 ي). إنه ذبيحة (تيسيا) وليتورجيا. وهاتان هما العلامتان اللتان تدلاّن عليه، واللتان هما غائبتان لدى قرّاء بولس. الأمر واضح في ما يخصّ روح التضحية (أف 5: 2؛ روم 12: 1)، والليتورجيا التي لا تدلّ فقط على خدمة عباديّة، بل على خدمة عامّة أيضاً. وقد يكون بولس ملمّحاً هنا إلى العون الماديّ الذي أوصله إليه الفيلبيّون في سجنه.
إذن، ينهي الرسول هذا القسم من رسالته الذي يحدّثنا عن وضع الجماعة المسيحيّة في فيلبّي، فيتجاوز النقص والخيانات، ليذكّر المؤمنين بما هو موافق للإنجيل (1: 27). هذا ما يمنعه من أن يحسب أتعابه عبثاً وبلا فائدة، ويدفعه إلى أن يفرح متمنّياً أن يفرح الجميع معه.
هذا ما تشدّد عليه آ 18 فتقول: "فافرحوا أنتم أيضاً بذلك". هل فعل "خايراتي" يدلّ على الوداع؟ إنه بالأحرى يزيد لفظة على لفظة ليدلّ على الفرح والبهجة اللذين يعمر قلبه بهما.

خاتمة
عاد الرسول إلى الطاعة لله، التي أعطى المسيح عنها أفضل مثال. ويحقّ للرسول أن يطلبها من المؤمنين، لأنه عاشها بنفسه حين أتمّ مهمّته. هنا ترتبط الحياة اليوميّة مع الإطار الاسكاتوبوجي، حين يدعو الرسول المؤمنين لكي يعيشوا بلا لوم في جيل فاسد ومعوجّ. فيبدو هذا العالم وكأنه مرادف للظلمة. والعالم الآتي كأنه مرادف للنور. وهكذا يعيش المسيحي العالم الآخر وهو بعد في هذا العالم، يضيء كالنور على ما قال له المسيح: أنتم نور العالم. وهكذا يسعى المسيحيّ اليوم على مثال الرسول ويتمنّى أن لا يكون سعيه عبثاً، فيكون الإيمان مكلّل حياة من الأتعاب اليوميّة والأعمال الرسوليّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM