الفصل الثاني عشر: بعثة تيموتاوس وابفروديتس

الفصل الثاني عشر
بعثة تيموتاوس وابفروديتس
2: 19- 30

بعد أن صوّر الرسول وضْعه الخاصّ (1: 12- 26) ووضْع الجماعة في فيلبّي (1: 27- 2: 18)، تطرّق إلى مسائل خاصّة تلامس المستقبل القريب. فبدأ يتكلّم عن رفاق يعيشون بقربه (2: 19- 30) أو في فيلبّي (4: 2 ي). هذا التذكّر لأناس لا نعرف عنهم الشيء الكثير يعطينا المعلومات عن واقع الجماعة المسيحيّة في ذلك الوقت. نجد كل الغنى الذي نجده في كل مجموعة بشريّة، كما نجد المشاكل والصعوبات. يتقبّل الرسول هذا الغنى بالشكر، ولكنه لا يتهرّب من المشاكل، ولا يُخفي الصعوبات، بل ينظر إليها بالهدوء وروح الأخوّة. كل هذا يستنير بنور الإنجيل، فلا يتخّذ أيُّ عائق أهميّة لا يستحقّها. وينظر الرسول إلى الصعوبات وهو واثق من الغلبة. لهذا يشعّ الفرح أيضاً في هذا القسم من الرسالة: "حتى إذا ما رأيتموه من جديد، تفرحون أنتم، وأكون أنا أقلّ غماً. فاقبلوه إذن بكل فرح" (2: 28- 29). "وبعد أيها الأخوة، إفرحوا في الربّ" (3: 1). "إفرحوا في الرب على الدوام، وأقول أيضاً إفرحوا" (4: 4).

1- إرسال تيموتاوس (2: 19- 24)
نجد هنا تيموتاوس بعد أن ذُكر في 1: 1 كمن شارك بولس في كتابة الرسالة. والحديث عنه هنا يجعلنا نفترض أن الكلّ لم يقبلوا بسلطته في فيلبّي. لهذا يتّخذ بولس كل الاجراءات فيؤكّد أن تيموتاوس هو الأفضل. ولكنه ينهي كلامه قائلاً بأنه سيأتي هو بنفسه. هذا ما يدلّ على خطورة الوضع في فيلبّي، وعلى أن الأمور لن تكون سهلة أمام تيموتاوس. هنا نتذكّر ما تقوله 1 كور 16: 10؛ 1 تم 4: 12؛ 2 تم 1: 16 ي عن طبع هذا المرسَل وما ينقصه من حزم. ونفهم أن بولس ينتظر أن يرتّب المشاكل في أفسس (1: 15- 18) قبل أن يلتحق بتيموتاوس. وهكذا نفهم مرة أخرى أن فل قد دوّنت بالأحرى من أفسس، لا من رومة.
أ- لي رجاء في الربّ يسوع (آ 19- 20)
نقرأ فعل "إلبيبزو" الذي يستعمله الرسول ليعبّر عن مشاريع السفر التي يُزمع أن يقوم بها، وهذا ما يدلّ على أن وضعه طبيعيّ. وأنه ليس قريباً من الموت كما اعتبر بعض الشرّاح حين قرأوا "أرقت سكيباً" وكأنها نبوءة عن موته. نقرأ في روم 15: 24: "فأنا أرجو أن أراكم عند مروري بكم في طريقي إلى اسبانيا". وفي 1 كور 16: 7: "أرجو أن أقيم بينكم مدّة طويلة". وفي فلم 22: "أرجو أن يستجيب الله لصلواتكم فيردّني إليكم".
إن هذا الرجاء "في الربّ"، يدلّ على أن رسالة تيموتاوس جُعلت تحت سلطة ربّ الكنيسة. أما هدف البعثة فأخبار من فيلبّي أفرحت قلب الرسول. وقد يكون هناك هدف غير خفيّ: عودة الفيلبيّين إلى الصواب. وصلت إلى أهل فيلبّي أخبار عن الرسول، وهو يتمنّى أن تصله أخبار أولئك الذين ولدهم في المسيح.
ماذا نقرأ في آ 20؟ ليس لي أحد يقاسمني اهتماماتي.... أو: ليس لي أحد يساويه... ما يريد الرسول أن يقوله هو أن القرارات التي قد يتّخذها تيموتاوس ستكون قراراته. فيجب أن لا يعارضوا "التلميذ" معتبرين أن "المعلّم" قد لا يكون من رأيه. وهكذا يستطيع تيموتاوس بشكل شرعيّ أن يهتمّ بمسائل الجماعة. تيموتاوس هو "ولد شرعيّ" لبولس (آ 22). إذن، هو الممثّل الوحيد والمكلّف من قبل الرسول.
ب- يلتمس الجميع ما هو لأنفسهم (آ 21- 24)
هنا يقابل الرسول بين تيموتاوس وبين الآخرين. تيموتاوس لا يلتمس ما هو لنفسه، بل ما هو للمسيح يسوع. فمن عارض سلطته يكون وكأنه يعمل من أجل مصلحته الخاصّة، لا من أجل المسيح.
"إنه رجل مختبر" (آ 22). قال بولس إن تيموتاوس هو ابن له (1 كور 4: 17؛ 1 لم 1: 2، 18؛ 2 تم 1: 2؛ 2: 1). ولكن هذه الكرامة لها أساسها. فقد كان رفيق بولس (معي). هو رفيقه في الخدمة. هنا نفهم ما قلنا في 1: 1، كما نفهم المعنى الأساسيّ لهذه المقاطع: لا تستطيع السلطة أن ترتكز إلا على التواضع والخدمة. ولكننا لسنا أمام أية خدمة كانت، بل تلك التي هدفها ومضمونها الإنجيل، أي إعلان تدخّل الله في التاريخ عبر حدث الصليب والقيامة (1: 5). هنا نكتشف من جديد موضوع فل: إن خدمة الإنجيل ليست بسهلة، بل تتضمّن المحن التي تقع بين الصبر والرجاء (روم 5: 4).
وتستعيد آ 23 ما في آ 19 فتقول: لن يذهب تيموتاوس الآن. قبل ذلك يجب أن تتوضّح أمور عديدة تتعلّق بجماعة أفسس وبسائر الجماعات التي ترسل أخبارها إلى الرسول. لهذا يحتاج بولس إلى أن يكون تيموتاوس بجانبه في هذا الخضمّ من الهموم.
ويرجو الرسول أن يأتي هو بنفسه إلى فيلبّي (آ 24). بل هو متأكّد من ذلك. هذا يعني أن فرضيّة موته القريب غريبة عن اهتماماته. فمن 1: 25 إلى 2: 24، يتوضّح فكر الرسول. أما وصوله إلى فيلبّي فهو مشروع "في الربّ"، مشروع مرتبط بربّ الكنيسة الذي يوجّه كل شيء لخير الذين يحبّونه.

2- عودة ابفروديتس (2: 25- 30)
أ- شخص ابفروديتس
إن ابفروديتس الذي يتحدّث النصّ عنه الآن، قد كلّفه الإخوة في فيلبّي بأن يحمل تقدمتهم الماديّة إلى الرسول. هذا ما نقرأه في 4: 18 (هبتكم على يد ابفروديتس) في خطّ 2: 25 (أرسلتموه). اسم ابفروديتس يتواتر في العالم اليونانيّ. ويعني الحبيب العزيز. أما في العهد الجديد فلا نقرأه إلا هنا وفي 4: 18. قد يعود اسم ابفراس (كو 1: 7؛ 4: 12؛ فلم 23) إلى الأصل عينه، ولكننا لسنا أمام الشخص ذاته.
ظنّ بولس أنه من الضروريّ أن يعيد ابفروديتس إلى "بيته" بعد أن حلّ به مرض خطير وصل به إلى حافة الموت. هذا هو السبب الأساسيّ الذي دفع بولس إلى أن يرسله إلى فيلبّي، وقد امتدحه لئلا يلومه أهل فيلبّي على عودته السريعة من عند الرسول. وقد يكون ابفروديتس حمل "رسالة" إلى أهل فيلبّي. على كل حال، يفترض هذا المقطع عدداً من الاتصالات بين بولس وفيلبّي، وهذا ما يدلّ على أن فل دوّنت في أفسس.
من الوجهة اللاهوتيّة، يلفت نظرنا ناحيةٌ من شخصية بولس الذي ليس فقط ذلك المهاجم المحارب الذي "يحطّم" خصومه. فهو يعرف أن يعيش صداقة عميقة ومتينة. تكوّنت هذه الصداقة (رج 2: 22) في خدمة الإنجيل، في الأتعاب الرسوليّة والآلام. وتشدّد آ 29 ي على هذا الأمر معارضةً مع سلّم القيم المعمول به في جماعة فيلبّي (2: 1 ي). ففي الأوضاع الصعبة، تُختبر النعمة الاختبار الصحيح (آ 27). "نعمتك تكفيني. وقوّتي تتمّ في الضعف" (2 كور 12: 9). والليتورجيا الحقيقية الوحيدة والعبادة المقبولة التي وحدها يرضى عنها الله (2: 25- 30؛ 4: 18)، تظهران في هذا الجهاد من أجل الإنجيل. في تهديد يتسلّط على الذين يعيشون في ظلّ الصليب لكي يختبروا في العمق واقع القيامة.
ب- رأيت من اللازم (آ 25- 27)
إنطلق إرسال ابفروديتس من قناعة داخليّة (رج 1: 24؛ 2 كور 9: 5). جعل الكاتب نفسه موضع القرّاء، ففهموا وكأن ابفروديتس وصل إليهم. غير أن هذا لا يعني أنه انطلق ساعة كتب بولس رسالته.
يتحدّث النصّ عن ابفروديتس في خمس ألفاظ مختلفة. الثلاث الأولى تدلّ ما يربطه ببولس. والإثنتان الأخيرتان عما يربطه بأهل فيلبّي. هو أولاً "أخي". كان المسيحي يسمّي المسيحي أخاه. ولكن ابفروديتس هو أكثر من ذلك. هناك صداقة بين الإثنين، مع العلم أن هذه الصداقة تتجذّر في الإيمان. وقد بُنيت هذه الأخوّة بشكل جوهريّ في الجهاد المشترك من أجل الإنجيل.
ونجد لفظتين مع "سين" (مع) (رج 1: 7). الأولى: سينارغوس: العامل معي. ترد هذه الكلمة 13 مرة في العهد الجديد، منها 12 مرة عند القديس بولس. وهي تدلّ على التلميذ، بمعنى أن التلميذ والمعلّم تجنّدا معاً لعمل الله الواحد الذي هو الإنجيل (1 كور 3: 9؛ 2 كور 6: 21). الثانية: سيستراتيوتيس (المتجنّد مع). تعود إلى اللغة الحربيّة وتدلّ على الذين حاربوا جنباً إلى جنب فعرفوا أخطار الموت معاً. أجل، الإنجيل هو جهاد لم يتهرّب منه ابفروديتس.
وبالنسبة إلى أهل فيلبّي، ابفروديتس هو المرسل الذي ذهب إلى بولس من أجل حاجاته الماديّة. نشير هنا إلى أن كلمة "لايتورغوس" تدلّ على عدد من الخدم العامّة. ولما جاءت السبعينيّة شدّدت على أحد المدلولات، فصار المعنى محصوراً في عالم العبادة. إعتاد بولس على الاستعمال الدنيويّ. ولكن المقابلة مع ذبيحة (تيسيا) في 2: 17 و4: 18، تدلّ على النظرة العباديّة عنده. هنا نتذكّر روم 12: 1 ي حيث العبادة المرضيّة لله هي تلك التي تظهر في تضامن أولئك الذين يعملون من أجل نجاح الإنجيل.
لماذا أعيد ابفروديتس (آ 26)؟ بسبب مرضه. بسبب حنينه إلى أهله. ويتحدّث الرسول عن مرض ابفروديتس (آ 27) الذي كان خطيراً، فوصل به إلى حافة الموت. لجأ بولس إلى رحمة الله فشُفي المريض. لا يقول النصّ شيئاً عن كيفيّة الشفاء: بالإيمان، بالصلاة، بوضع اليد؟ هل جاء الطبيب أو كان نشاط عجائبي؟ ما يهمّ الرسول في الواقع هو الشفاء في ذاته. إنه عمل الله السامي والرؤوف. إنه يدلّ على تجلٍ ملموس ومحدّد لقصد الله العظيم الذي يلامس في يسوع المسيح أبعاد التاريخ والبشريّة. ولكن بما أن هذا التجلّي هو من الله، فلا يتمّ بشكل آلي. بل هو نعمة مجانيّة لا يمكن أن يتوقّعها أحد.
استعدّ بولس لأن يحتمل لا سجنه وصعوباته مع جماعة أفسس وحسب، بل موت أخ ورفيق في الجهاد. استعدّ أن يكون له "غمّ على غمّ".
ج- عجّلت في بعثه (آ 28- 30)
أعاد بولس ابفروديتس على عجل. وهكذا كان منطقياً مع مجمل الاهتمامات التي تقلقه. أعاد الفرح إلى الجماعة حين رأت ابفروديتس يعود، وحين رأته صحيحاً معافى.
وهذا الفرح قد شعر به الرسول، وهو يطلب من قرّائه أن يقبلوا ابفروديتس بفرح. فمثل هؤلاء الرجال يستحقّون الاكرام (روم 16: 2) تقبّلوها في الربّ قبولاً يليق بالقدّيسين، وساعدوها في كل ما تحتاج إليه). يستحقّون أن نتقبّلهم في الرب، أي حسب روح النشيد الكرستولوجي (2: 6- 11).
فما يجب أن يفرض الاحترام في الكنيسة، ويكون مقياس السلطة، ليس اهتمام الإنسان بنفسه وبصحته (2: 21)، بل اهتمامه بالإنجيل، بعمل المسيح كما نقرأ في 1: 6. لم يتراجع ابفروديتس عن هذا الاهتمام، بل عرّض نفسه لخطر الموت. إذا كان الإنجيل جماعة، فابفروديتس قد ضحّى بنفسه من أجل حياة هذه الجماعة. هذه هي العبادة التي يرضى الله عنها (ليتورغيا، 2: 25).

خاتمة
حين تحدّث بولس عن إرسال تيموتاوس، لم يعبّر فقط عن مشروع بشريّ، بل عن رجاء في الربّ، وهكذا تقوى المشاركة بينه وبين أصدقائه في فيلبّي. هل نحن في مشروع يشبه مشروع كورنتوس: ينطلق تيموتاوس ثم يتبعه بولس. ولكن هذا المشروع سيتأخّر بعد أن تكاثرت الهموم على الرسول. وليس أقلّها مرض ابفروديتس. إنه موفد كنيسة فيلبّي، بل موفد الكنائس على مثال سوباترس وارسترخس وغايوس... (أع 20: 4). إنه من الجيل الثاني والثالث، من جيل أولئك الذين كان عملهم امتداداً للرسل وتلاميذهم لكي يحملوا الإنجيل في العالم الوثنيّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM