الفصل الثالث: السلام والشكر

الفصل الثالث
السلام والشكر
1: 1- 3

حين يقدّم بولس رسائله فهو يستعيد رسمة مثلّثة عرفها عصره: اسم الكاتب أو المرسِل. اسم المرسَل إليه أو القرّاء. السلام والتحيّة. غير أنّ العبارة ستغتني عنده غناءً خاصاً بالنسبة إلى الاستعمال الكلاسيكي. هل هناك تأثير شرقيّ عليه، أم تأثير ليتورجي؟ هذا ما لا نستطيع أن نجزم في أمره. ولكن ما هو واضح هو العمق اللاهوتيّ والغنى البشريّ اللذان يجعلهما الرسول في عبارات عاديّة وباهتة. وميزة كل رسالة من رسائله ندركها منذ كلمات التحيّة.
أما هنا في فل، فبولس لا يقدّم نفسه كرسول، بل كعبد وخادم للمسيح يسوع. وهو يضمّ إلى صوته صوت تيموتاوس. ويوجّه تعليمه إلى جميع الفيلبيّين بمن فيهم "الأساقفة والشمامسة". ولكن ما يسيطر على هذا المدخل هو اسم "المسيح يسوع" الذي يعود ثلاث مرات. فكل ما يوحّد الرسول بجماعة فيلبّي، والروح التي بها نفهم مضمون الرسالة، يتحدّدان "في المسيح" وفيه وحده.
بعد أن ندرس نصّ 1: 1- 30 من الناحية النقديّة، نشرح 1: 1- 3، ونتوقّف في النهاية عند مفهوم الأساقفة والشمامسة.

1- الدراسة النقديّة (1: 1- 30)
* في آ 1، قرأت بعض المخطوطات لا سيّما الفاتيكاني، وآباء الكنيسة وخصوصاً يوحنا فم الذهب، لفظة "سينابسكوبويس" أي أساقفة مع بولس وتيموتاوس، محل "ابسكوبويس" أي الأساقفة. ولكننا نحتفظ بالنصّ القائل: "الأساقفة والشمامسة".
* في آ 7، اقترح نستله أن يقرأ "خراياس" (حاجة)، بدل "خاريتوس" (النعمة). ولكن هذا الاقتراح لا يفرض نفسه. لهذا نقرأ: "شركة في النعمة التي أوتيتُها".
* في آ 8، تقرأ بعض المخطوطات "موي" (ضمير المتكلّم المفرد) بدل "مو" (مضاف إليه). ولكن بردية 46 تستغني عن هذه الكلمة. أما النصّ الشائع فيزيد "استين" (فعل كان) بين "مو" و"تيوس" (الله). غير أنّ هذه الاختلافات لا تؤثّر إطلاقاً على معنى النصّ. ونحن نقرأ: "الله يشهد لي".
* في آ 9، قرأ الفاتيكاني والمخطوط د وغيرهما صيغة الماضي (باريسوسي) بدل الحاضر (باريسوي) أي: يزداد حبّكم.
* في آ 11، يقرأ النصّ الشائع صيغة الجمع: "ثمار البرّ" بدل المفرد. أما المجدلة الأخيرة فتنتهي بـ "المسيح" لا بـ "الله" في البازي. لا نستطيع أن نقبل بهذا النصّ بسبب عبارة "يسوع المسيح" التي تسبق المجدلة. وتنتهي الجملة في بردية 46: "لمجد الله وحمدي". عبارة غريبة وهي شبيهة بما في 1 كور 4: 5: "حينئذ يكون لكل واحد مدحه من الله".
* في آ 14، تستعمل "الكلمة" بشكل مطلق في بردية 46. أما المخطوط ج فيقول: "كلمة الربّ".
* في آ 16- 17، يقلب النصّ المتعارف هاتين الآيتين ويصحّح فعل "اغايرن" (نهض) بفعل "ابيغاراين" (حمل، زاد). ولكننا نقول بالأحرى: "يزيدون تثقيلاً على قيودي".
* في آ 18، تحوّلت "بلان هوتي" (ما عدا) إلى "هوتي" (لأن) في الفاتيكاني، وإلى "بلان" (إلاّ أن) في د. وتأتي علامات الوقف في نهاية هذه الآية مختلفة بين المخطوطات. تربطها بردية 46 بما يسبق فتزيد "ألا" (لكن).
* في آ 21، اقترح أحد الشّراح: خراستوس (مفيد) بل "خرستوس" (المسيح) فقرأ "العيش لي مفيد". ولكنه اقتراح مرفوض: "العيش لي هو المسيح. حياتي هي المسيح".

2- تفسير 1: 1-3
أ- من بولس وتيموتاوس (آ 1)
تبدأ كل رسائل بولس بذكر اسمه. في ثماني حالات يضمّ أسماء إلى اسمه. وفي خمس حالات يضمّ اسم تيموتاوس. في 1 تس و2 تس ينضمّ تيموتاوس إلى سلوانس دون الإشارة إلى "صفة" "الكتّاب" الثلاثة لهاتين الرسالتين. في 2 كور، كو، يأتي اسم تيموتاوس في الدرجة الثانية، وهو يتميّز تميّزاً واضحاً عن الرسول بولس الذي يستعمل لنفسه هذا اللقب. "بولس رسول يسوع المسيح، وتيموتاوس الأخ" (2 كور 1: 1).
أولاً: تيموتاوس
في فل، يبدو تيموتاوس مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بصاحب الرسالة. لا شكّ في أن تيموتاوس لا يمكن أن يكون مشاركاً في تدوين هذه الرسالة، فهي جدّ شخصيّة. وتسيطر عليها صيغة المتكلّم المفرد: أنا. "أشكر إلهي. إني على الدوام. إني لواثق". ومع ذلك يظهر اسم تيموتاوس مرة ثانية في 2: 19 ي، ويتميّز تميّزاً واضحاً عن صاحب الرسالة: "أبعث لكم تيموتاوس عن قريب... فليس لي نظيره للاهتمام بشؤونكم".
قد يكون تيموتاوس سكرتير (أمين سر) بولس. وقد يكون ناقش مع الرسول مضمون هذه الرسالة. أو قد يكون بولس ذكر اسمه ليعطي كلامه بُعداً واسعاً وأساساً متيناً. بل ذُكر تيموتاوس لمشاركته في تأسيس كنيسة فيلبّي. هو ابن لسترة في ليقونية. وقد لازم بولس حين عبوره في تلك المدينة خلال الرحلة الرسوليّة الثانية (أع 16: 1). كان تيموتاوس أحد أعضاء الفريق الذي عمل في فيلبّي (أع 16: 12 ي)، إلاّ أنّ سفر الأعمال لا يميّزه عن غيره في هذه المناسبة، ويبدو أنّ دوره كان أكبر في كورنتوس (أع 18: 5؛ رج 1 كور 4: 7؛ 16: 10؛ 2 كور 1: 1: روم 16: 21). وبما أنّ تيموتاوس لا يظهر في فيلبّي إلاّ كأحد المشاركين في العمل، فالرسول ضمّه منذ البداية إلى سلطته من أجل الرسالة "المطلقة" التي سيسلّمه إياها في تلك المدينة (2: 19 ي). وإذ فعل بولس ما فعل، بيّن مرّة ثانية لأهل فيلبّي أنّ العلاقات بين العاملين في الكنيسة لا تقف على مستوى السلطة، على علاقات الأكبر والأصغر، بل على مستوى المساواة والتواضع. وكم كان أهل فيلبّي (ونحن أيضاً) يحتاجون إلى هذا الدرس.
ثانياً: بولس وتيموتاوس خادمان
يقدّم بولس وتيموتاوس نفسيهما على أنهما عبدان ليسوع المسيح، خادمان (دولوس). هنا نجد الفرق مع سائر الرسائل حيث يقدّم الكاتب نفسه على أنه رسول. ولكن ما أراد بولس أن يبيّنه هنا هو العلاقات الشخصيّة التي تربطه بكنيسة فيلبّي. أما زلنا نقول حتى الآن في كنائسنا: هذا خادم الرعيّة. فالعبد الخادم في العهد القديم هو المرسل الذي فرزه الله، اختاره، أرسله. هنا نتذكّر أشعيا وأناشيد عبد يهوه.
ولكن حين جاءت اللفظة بعد عبارة "يسوع المسيح"، دلّت على عبوديّة من نوع آخر، دلّت على وضع المسيح المتجسّد الذي اتّخذ صورة العبد وصار طائعاً حتى الموت، بل موت الصليب (2: 6- 8). امتلأ القرّاء عُجباً وزهواً فقدّم لهم بولس الوضع المسيحيّ في إطار سيادة واحدة هي سيادة المسيح. لقد طُبع هذا الوضع بطابع التواضع. ما أراد بولس أن يعطيهم درساً في الأخلاق، بل أن يقف معهم متواضعاً على خطى المسيح الذي وضع نفسه فرفعه الله.
ثالثاً: "القدّيسين في المسيح يسوع"
سمّى بولس أهل فيلبّي "القدّيسين". اعتادت الرسائل البولسيّة أن تسمّي القرّاء "كنيسة" أو "قدّيسين". ليست القداسة في الأصل نتيجة سلوك خلقيّ خاصّ، بل نتيجة انتماء إلى شعب الله. فهنا كما في العهد القديم، أصل القداسة يكمن فقط في الله، وهو يمنحها لنا نعمة مجانيّة. وهذا التجذّر تدلّ عليه عبارة "في المسيح يسوع".
إنّ حرف الجرّ "إن" (في) لا يتّخذ المعنى المكانيّ، بل المعنى الزمانيّ والتاريخيّ. فوضعنا "في المسيح" ينطبع بحدث تاريخيّ هو موت يسوع المسيح وقيامته. وهكذا فالكنيسة مقدسة لأنّ المصلوب والقائم من الموت دعاها لتشهد لهذا الحدث الذي هو تاريخيّ (عمل وضيع) واسكاتولوجي (يربطنا بالنهاية) معاً. لهذا، كانت القداسة ميزة جميع المسيحيّين: فالتحزّبات والنزاعات حول الأولويّة كما نجدها في فيلبّي، هي خيانة كبيرة للإنجيل.
وفي هذا المنظار، يذكر بولس بشكل خاصّ الأساقفة والشمامسة. من هم هؤلاء الأشخاص؟ لماذا يذكرهم بولس هنا؟ هل وُجدوا فقط في فيلبّي أم في جماعات بولسيّة أخرى؟ سنعود إلى هذه الأسئلة في المقطع الثالث من هذا الفصل.
ب- نعمة لكم وسلام (آ 2)
جاءت التحيّة في الرسائل البولسيّة بشكل مقولب، فدلّت على وضع الرسول في قلب العالم اليونانيّ والرومانيّ في ذلك الزمان. فالرسمة اليونانيّة تجعل التحيّة تتبع العنوان وجهة الإرسال. أما لفظة "نعمة" (خاريس) فترتبط بفعل "خايراين" (سلّم). ولكن توسّع التحيّة يجعلنا نفكّر بالشرق لا ببلاد اليونان. وعبارة "نعمة وسلام" هي عبارة ساميّة تستعيد ما في المباركة اليهوديّة: الرحمة والسلام. رج طو 7: 12؛ رج أيضاً 1 تم 1: 2؛ 2 تم 1: 2؛ 2 يو 3؛ يهو 2؛ غل 6: 16.
غير أنّ هذه الآية التي نقرأها الآن هي أبعد ما تكون عن الجملة التلفيقيّة المركبّة. فـ "السلام" يدلّ على ملء العلاقات بين الله والبشر. وهو واقع تاريخيّ متجسّد بقدر ما يكون ينبوعه ذاك الذي كشف لنا يسوع عن أبوّته. وبقدر ما يكون كافله سيادة يسوع على أخصّائه وعلى العالم كلّه. لهذا، فالسلام هو أيضاً "نعمة"، والنعمة كلمة هامّة في الفكر البولسيّ.
إذن، هذه التحيّة هي في جوهرها "مسيحيّة" وقد ترجع إلى إطار ليتورجيّ. وما يوضح كلامنا هو التناسقُ بين أجزائها الثلاثة: ذكر أبوّة الله. ذكر سيادة المسيح (رج 2: 6- 11). نعمة لكم وسلام. استعاد بولس مباركة يهوديّة. وكانت الرسائل تُقرأ خلال شعائر العبادة. فكأني بالقديس بولس يبارك قرّاءه ببركة آتية من الله الآب ومن الربّ يسوع المسيح. وهكذا نجد نفوسنا منذ البداية في إطار دشّنه عملُ يسوع الناصريّ، ويتابعه الآن الربُّ في الكنيسة.
ج- أشكر إلهي (آ 3)
إنّ كل الرسائل البولسيّة تبدأ بفعل شكر (اوخارستيو) يتوسّع حسب رسمات مشابهة تكون قصيرة أو طويلة. حين نعود إلى برديّات ذاك العصر ومدوّناته، نجد أنّ رسائل بولس تقف من الوجهة الأدبيّة بين الرسالة الشخصيّة والرسالة الرسميّة أو الإداريّة.
إذا عدنا إلى أفعال الشكر في الرسائل البولسيّة، نجد أنّ ما في فل موسّع جداً، وهذا ما يدلّ على الفرح العامر لدى الرسول: يفرح حين يذكر هذه الجماعة. يفرح حين يتذكر حبّه لها (آ 4، 7، 8). كانت هناك بعض الغيوم في هذه العلاقات، كما برزت اهتمامات الرسول بالنسبة إلى هذه الجماعة (آ 6، 9، 11). كل هذا جعله يرفع شكره إلى الله.
وكان فعل الشكر، حسب عادات ذلك العصر، يُدخل القارىء في كبرى مواضيع الرسالة. فإنّ آ 9- 11 تقدّم لنا منذ البداية لمحة عن الوضع في فيلبّي، وعن المواضيع التي سيتوسّع فيها الرسولي بعد 1: 27. ولكن بولس يذهب أبعد من ذلك: فالفرح والمحبّة اللذان يطبعان كلامه في فل، هما ثمرة يقينه حول عمل الله في تاريخ البشر. لهذا، فالمصادفات المحيرّة التي ستُذكر، يجب أن تأخذ موضعها الحقيقيّ، أي أن تجد معناها بين "اليوم الأول" (آ 5) واليوم "الأخير" (آ 6، 10). حينئذ يقودنا كل شيء بواسطة يسوع المسيح إلى "مجد الله وحمده" (آ 11).

3- الأساقفة والشمامسة
يلفت الانتباه ذكرُ الأساقفة والشمامسة، وهذا ما يدلّ على قدم "الأسقفيّة" في الكنيسة. قد نجد هنا جذور الدرجة الأسقفيّة والشماسيّة في الكنيسة. ولكن لا ننسى أنّ بولس يتحدّث عن الأساقفة في صيغة الجمع، لا في صيغة المفرد. أترى كان في جماعة فيلبّي أكثر من أسقف؟
أ- معنى الألفاظ
الأسقف هو "ابيسكوبوس". هو الساهر على، هو المراقب. يدلّ على وظائف متنوّعة تختلف باختلاف الأطر الاجتماعيّة والتاريخيّة. إذن، لسنا أمام نظام واحد.
الشماس هو "دياكونوس". ما يميّزه هو الخدمة. إنه خاضع لسيّد. هذا لا يعني أنّ عمله مذلّ. فأفلاطون يسمّي القوّاد السياسيين "خدّام المدينة". وابيكتاتس يسمّي الفيلسوف "خادم الآلهة ورسولهم".
ويبدو أنّ لَفظتَي "الأساقفة والشمامسة" تشكّلان عبارة ثابتة. نحن نجدهما في ثلاثة نصوص من المسيحيّة الأولى: ديداكه 15: 1؛ اكلمنضوس الروماني والرسالة إلى كورنتوس 42: 4- 5؛ راعي هرماس، الرؤى 3/ 5: 1. هذا يعني أننا أمام مجموعة مؤلّفة من فئتين. ويظنّ يوحنا فم الذهب أنّ هذه المجموعة تدلّ على الشيوخ أو القسس (قشيشا في السريانيّة أو الأقدمون). إنهم يقومون مقام الرسل داخل الجماعة. يسميهم اكلمنضوس بواكير الجماعة. فيشكّلون النواة الأولى. أما الديداكه فتقول إن رفاقهم ينتخبونهم. نلاحظ أن 1 تم 3: 1- 13 تقدّم تعليماً عن الأسقف (آ 1- 7) وآخر عن الشمامسة (آ 8- 13). ويتحدّث بوليكربوس عن "القسس والشمامسة" في الرسالة إلى الفيلبيّين (5: 3)، فلا يميّزهم دوماً عن "الشمامسة" (5: 2. ولكن رج 6: 1).
في أع 20: 28، يتحدّث بولس إلى شيوخ (براسبيتاروي) أفسس فيقول: "إحذروا لأنفسكم ولجميع القطيع الذي أقامكم فيه الروح القدس أساتفة (ابسكوبوس) لترعوا كنيسة الله". وهذا التماثل بين "الأساقفة و"الشيوخ" نجده أيضاً في 1 بط 5: 1- 2؛ تي 1: 5-7. قد يكون في الجماعة "شيوخ" توزّعوا إلى "أساقفة وشمامسة".
ولكن لماذا نجد فئتين؟ هنا يعود الشّراح إلى تث 16: 18 حيث يُذكر "القضاة والحكّام" الذين جُعلوا على رأس كل مدينة في إسرائيل. ولكن هذه الفرضيّة لا تقنع الجميع، فيعودون إلى بولس الرسول نفسه، ويستندون إلى يوحنا فم الذهب الذي يقول: "في ذاك الزمان كان الأساقفة يسمّون خدّاماً" (دياكونوس).
ب- تنظيم الجماعات البولسيّة
ما يلفت النظر بادىء ذي بدء، هو أنّ بولس لا يستعمل لفظة "شيوخ" (التي نجدها في أع 11: 30؛ 14: 23؛ 20: 17) إلاّ في الرسائل الرعائية (1 تم 5: 17، 19؛ تي 1: 5؛ رج يع 5: 14). ولكنه يستعمل مراراً لفظة "خدّام" أو "شمامسة". غير أنّ غياب اللفظة في بعض الرسائل، لا ينفي الواقع نفسه. فمن الواضح أنه مع امتداد الجماعة برزت الحاجة إلى تحديد نواة من "الشيوخ" هم أول المرتدّين. وسوت يسمّيهم بولس "الباكورة" (أبارخي" في روم 16: 5؛ 1 كور 16: 15 (باكورة أخائية. ثم تُذكر الخدمة). أو "القوّاد والرؤساء" (برواستامانوي) في 1 تس 5: 12 ي (هذه اللفظة تطبّق على الشيوخ في راعي هرماس، الرؤى 2/ 4: 3).
وهكذا يترك الرسول جانباً لفظة الشيوخ لأنها تحمل تاريخاً خاصاً، ولأن لها مدلولاً جامداً. ويفضّل استعمال ألفاظ سيظهر معناها من خلال الوظيفة التي يقوم بها أصحابها. بالنسبة إليه، ليس من بُنى كافية في ذاتها فيقيم فيها البشر. هناك الروح الذي يعمل لبناء الجماعة بواسطة المواهب (1 كور 12: 4- 11، 31). فالمواهب ليست "سوبر عطايا" تخصّ بعض الأفراد، بل وظائف يرتّبها الروح لبناء الجماعة، ويحدّد هو بواسطة كنيسته من يمارسها.
هنا نفهم لماذا زاد بولس لفظة "شمامسة" (أو: خدّام) على "أساقفة". فهو يهتمّ بالخدم المتنوّعة ولا سيّما خدمته. ولكنه يحدّد في كل وقت أن هذه المهامّ هي في خدمة عمل الله العظيم في المسيح، وأن هذه الخدمة تفترض التواضع والبساطة والوداعة.
حملَ بعض شيوح أفسس لقب "أساقفة" (أي: مراقبين). ولكن هذه الوظيفة لا قيمة لها إلاّ في خدمة الجماعة وبنيانها.
وجد بولس نفسه تجاه جماعة فيلبّي في وضع دقيق. من جهة، امتدحها لإيمانها ولموقفها منه. ومن جهة ثانية، لا يستطيع أن يتجاهل الخلافات السائدة فيها والتي يسببها نقص في التواضع. لهذا لجأ إلى الوداعة والإقناع: "أتمّوا فرحي بأن تكونوا على رأي واحد... لا تعملوا شيئاً عن منازعة أو عجب، بل فليحسب بتواضع، كل واحد منكم، أن الآخرين خير منه" (2: 2- 3).

خاتمة
تحيّة، نعمة وسلام، شمكر. تلك هي بداية الرسالة إلى فيلبّي. فبولس وتيموتاوس هما خادمان. وقدّيسو فيلبّي يعيشون مع الأساقفة والشمامسة فينالون بركة يرسلها إليهم بولس تحمل نعمة المسميح وسلامه. أما فعل الشكر الذي يتطلّع في البداية إلى الخيرات السابقة، فهو يتحوّل سريعاً وبشكل طبيعيّ إلى صلاة حارّة من أجل المستقبل. قال بولس في 4: 6: "لا تهتمّوا بشيء، بل في كل حال اعرضوا حاجاتكم على الله بالصلاة والابتهال مع الشكر". وهكذا يصبح كلام الرسول نداء إلى الرجاء في الصعوبات التي نعانيها الكنيسة من أجل عيش المحبّة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM