الفصل الرابع: حب الله فينا

الفصل الرابع
حب الله فينا
1: 4-6

تحتلّ فل مكانة خاصّة في رسائل القديس بولس: هي لا تشبه روم حيث حاول الرسول أن يقدّم نفسه، فأعطانا في هذا المجال عرضاً شاملاً عن المبادىء الكبرى في تعليمه. وهي لا تشبه 1 كور أو 2 تس، حيث احتاج الرسولي إلى أن يرتّب الأمور. كما لا تشبه 2 كور حيث ردّ بولس على الذين هاجوا وافتروا عليه، وقدّم توجيهات عمليّة. لقد انطلقت فل من عواطف الفرح والمحبّة التي يكنّها بولس لأهل فيلبّي الأعزّاء على قلبه. إنه يكلّمهم ببساطة كما يكلّم الأب أبناءه. هو معهم كأب يهنّىء نفسه بسخاء أبنائه.
يتذكّر الرسول هذا السخاء فيمتلىء قلبه فرحاً مع أنه الآن في السجن (1: 17)، سواء كان هذا السجن في رومة (أع 28: 30) أو في أفسس (قد يكون بولس سُجن ذاك لبمنة 56 أو 57).
بعد التحيّة التي اعتاد أن يرسلها، لم يهتمّ بوضع أسس تعليميّة يسند إليها في ما بعد عرضه أو توبيخه. بل هو يترك عواطفه تنفجر من قلبه. لسنا أمام مناجاة عاطفية، بل بالأحرى أمام الشكر للخير الذي تمّ (آ 3- 5)، وللصلاة التي يرفعها الرسول حتى يثبت أهلُ فيلبّي إلى المنتهى (آ 6- 11).

1- فعل الشكر (1: 4-5)
إن المحبّة تولّد الفرح، غير أن الفرح يتلوّن بألف لون ولون حسب الأشخاص والظروف. وفرح الرسول ليس مجرّد عاطفة بشريّة، إنه فرح المسيح (4: 4؛ رج يو 15: 11: يكون فرحي فيكم). فرح ينبع من الإيمان بالمسيح (1: 25؛ روم 15: 13: ملء الفرح والسلام). فرح هو عطيّة الروح القدس (غل 5: 22: ثمر الروح هو المحبة والفرح)، هو ابتهاج بالروح القدس (روم 14: 17؛ رج لو 10: 21). هو فرح روحيّ، ولكنه ليس بفرح بعيد عن هذا العالم وما يحمل من صعوبات وآلام.
وقد يحصل أن يكون الحبّ الذي يكنّه الرسول للمؤمنين الذين ولدهم إلى حياة المسيح (1 كور 4: 14- 15)، سبب حزن وغمّ. والسبب هو أنهم لا يسلكون حقاً كتلاميذ للمسيح. ذاك هو وضع الكورنثيين ساعة كتب لهم بولس رسالته الثانية (2 كور 2: 3- 4). ولكن وضع أهل فيلبّي يختلف عن هذا الوضع. فحين يتذكّرهم الرسول لا يعكر تذكّره هذا أيُّ ظلال ولا كدر. بل هو يفكّر فيهم دوماً بسرور (آ 4).
اذا كان تذكّر الفيلبيّين يملأ قلب بولس فرحاً، فالسبب الأساسي ليس وجود كنيسة فيلبّي وحسب. بل هناك سبب أخر يحدّده ويذكره بسرور ورضى: "من أجل مساهمتكم في الإنجيل" (آ 5). حرفياً: مشاركة، مقاسمة، عمل مشترك (كوينونيا) في الإنجيل. ما معنى هذه العبارة؟ قد نفهمها بطريقتين: إما المشاركة في الإنجيل بمعنى أنهم آمنوا به. وءاما الفسط الذي اتخذوه في عمل. التبشير حين ساندوا الرسول لكي يتمّ مهمّته في العالم. إذا عدنا إلى السياق، توقّفنا عند المعنى الثاني دون أن ننفي الأولى. فكأني ببولس يلمّح هنا تلميحاً خفياً إلى الإعانة الماديّة التي أرسلها إليه الفيلبيّون في سخائهم (4: 10- 20).
وبعد هذه النظرة إلى الماضي، يلتفت الرسول إلى المستقبل بفرح وثقة عظيمين.

2- الصلاة (1: 6)
إن عبارة "يوم المسيح يسوع" (1: 6) وعبارة "يوم المسيح" (1: 10) تشكّلان تضميناً وتبدوان كإطار للقطعة كلها. ونحن نقسمها ثلاثة أقسام:
- ثقة الرسول بالنسبة إلى ثبات المسيحيّين: "الذي ابتدأ فيكم هذا العمل يتمّمه إلى يوم المسيح يسوع" (آ 6).
- دفق الحبّ من قلب الرسول: "أحملكم في قلبي... أحبّكم جميعاً في أحشاء المسيح يسوع" (آ 7-8).
- صلاة الرسول من أجل الفيلبيّين: "صلاتي إليه أن تكون محبّتكم على نموّ متصاعد في المعرفة والإدراك التامّ" (آ 9- 11). ونبدأ مع النعمة والرجاء المسيحيّ.
أولاً: ذاك الذي بدأ فيكم
كما أن البشر على المستوى الطبيعيّ يمتلئون فرحاً حين ينقلون إلى أولادهم قيمهم الأخلاقيّة، وينجحون في تأمين مستقبلهم، هكذا امتلأ الرسول بالفرح، لأنه لاحظ العمل الذي حقّقته النعمة في مسيحيّي فيلبّي، ولأنه عرف أن هذا العمل هو عربون نعمٍ جديدة. إذن، يستطيع أن يتطلّع بدون قلق ولا همّ إلى مستقبل الفيلبيّين. هذا لا يعني أنه يستند مرتاحاً إلى استحقاقاتهم الخاصّة، أو صفاتهم، أو الأمانة التي سبق لهم وبرهنوا عنها. بل هو يجعل كل اتكاله في ذاك الذي أتمّ فيهم عملاً عظيماً.
أجل، إن ثقة بولس لا ترتكز على البشر مهما بدوا صلاّحاً، بل على الله. هذا ما لاحظه يوحنا الذهبيّ الفم، فقال: "إن بولس لا يقول: أنا واثق أنكم ستتمّون حسناً لأنكم بدأتم حسناً. إذن، ماذا يقول؟ ذاك الذي بدأ فيكم هذا العمل العظيم يواصل تتميمه...". لا شكّ في أنّ بولس لا ينفي مشاركة الإنسان في النعمة. ولكنه يدلّ بشكل واضح وصريح على أولويّة النعمة لا في بداية الطريق وحسب، بل حين يتمّ عمل التقديس أيضاً.
إذن، يتضمّن هذا النصّ تعليماً لاهوتياً أساسياً عن النعمة: الله وحده هو أساس سلامنا (روم 8: 38؛ 2 تم 1: 12)، لا البشر، مهما كانوا أبراراً. فالخبرة اليوميّة قد علّمت الرسول أن البشر مخيّبون للآمال. هذا ما سبق وقاله صاحب المزامير: "كل إنسان كاذب" (مز 116: 11). والنظريات الحديثة التي تُعلن أن الإنسان يكفي نفسه بنفسه، تقودنا إلى السراب والخداع.
إن ما أبداه أهل فيلبّي في الماضي، يدلّ على قدرة الله وحبّه لهم، كما يدلّ على محبّتهم له. فحبّ الله لهم هو الأول، وهو ينبوع حبّهم لله (روم 5: 5؛ 1 يو 4: 19). وهذا الحبّ القدير الذي منحه الله لأهل فيلبّي هو عربون النعم التي يهيّئها لهم في المستقبل. فإن كان من السهل أن نلتقي بأناس لا يتابعون إلى النهاية العمل الذي بدأوا به، لأنهم متقلّبون، فالأمر لا يصحّ في الله. فهو لا يتخلّى عن أعماله قبل أن ينهيها. فحبّه أمين هو. كان قد قال بفم النبيّ ملاخي: "إني أنا الربّ لا أتغيّر. لهذا، فأنتم يا بني يعقوب لا تزالون أحياء" (ملا 3: 6). ويستعيد بولس العبارة نفسها حين يكتب إلى أهل رومة حول اختيار الله لشعبه: "فعطايا الله ونداؤه لا ندامة فيها" (روم 11: 29).
إذن، يستند الرجاء الحقيقيّ إلى قدرة الله وأمانته، خصواً حين نكون أمام الثبات الأخير الذي هو عطيّة من الله لا يستحقّها الإنسان. نقرأ في 1 كور 1: 8-9: "وهو الذي يحفظكم ثابتين إلى النهاية حتى لا يكون عليكم لوم في يوم ربّنا يسوع المسيح. أمين هو الله الذي دعاكم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا".
ثانياً: حتى يوم المسيح
إن عبارة "يوم المسيح" أو ما يقابلها، هي امتداد لعبارة تتواتر في العهد القديم: "يوم الرب". دلّت هذه العبارة على تدخّل عظيم من قبل الله. إمّا ليخلِّص شعبه كما في أش 11: 11 (يمدّ الرب يده ليفتدي بقيّة شعبه)؛ 13: 6- 9 (هوذا يوم الرب قد حضر)؛ 19: 16؛ 34: 8؛ إر 46: 10، 21؛ 50: 27. وإما ليعاقب شعبه بسبب خياناته. نقرأ في عا 5: 18- 20: "يوم الربّ يكون ظلمة لا نوراً". وفي صف 1: 15: "يوم حنق ذلك اليوم. يوم ضيق وشدّة. يوم خراب ودمار. يوم ظلمة وديجور". رج حز 22: 24.
واتخذ كتّاب العهد الجديد هذه العبارة من التوراة وطبّقوها على يسوع: فصار يوم الربّ يومَ المسيح. وهنا "يوم المسيح" هو يوم عودته المجيدة كالديّان السامي.
ترد عبارة "يوم المسيح" أيضاً في فل 2: 16 (افتخر في يوم المسيح بأني ما سعيت عبثاً). ونجد عبارة "يوم الرب" في 1 تس 5: 2 (يوم الربّ يجيء كاللصّ في الليل)؛ 2 تس 2: 2 (يوم الرب حان)؛ 1 كور 5: 5 (تخلص روحه في يوم الربّ)؛ 2 كور 1: 14 (سنفتخر بكم في يوم الربّ يسوع)... ونقرأ في لو 17: 24: "يوم ابن الإنسان". كما نقرأ "ذلك اليوم" في 2 تس 1: 10 (يجيء في ذلك اليوم ليتمجّد)؛ 2 تم 1: 12، 18؛ 4: 8 (اكليل سيكافىء به الربّ الديّان العادل في ذلك اليوم). ونجد في 1 كور 3: 13 لفظة "اليوم": "فعمل كل واحد سيكون ظاهراً، لأن اليوم سيبيّنه".
وهناك مقابلة بين فل 1: 6 و1 تس 5: 23- 24. نقرأ في النصّ الأول: "سيواصل تتميمه حتى يوم المسيح يسوع". وفي 1 تس: "وإله السلام نفسه يقدّسكم في كل شيء ويحفظكم منزّهين من اللوم، سالمين روحاً ونفساً وجسداً، عند مجيء ربّنا يسوع المسيح". نصّان متوازيان. وعبارة "يوم المسيح يسوع" في فل، تقابل عبارة "مجيء ربّنا يسوع المسيح" في 1 تس.
تدلّ هذه الايرادات على المكانة الخاصة التي يحتلّها انتظار عودة المسيح المجيدة في فكر الكنيسة الأولى، والتي يجب أن يحتلّها في فكر جميع المسيحيّين. إن هذه العبارة تشكّل جزءاً من قانون الإيمان. من جهة، بالنظر إلى مجد المسيح. ومن جهة ثانية، بالنظر إلى دينونة جميع البشر التي ستحصل في ذلك الوقت. والنظرة الثانية تسيطر على سياق النصّ الذي ندرس: فالعمل الذي بدأه الله في تحويل الفيلبيّين تحويلاً داخلياً، هو استعداد لذلك اليوم، يوم الدينونة العظيم، يوم المسيح، وهذا العمل سيكون تاماً في ذلك اليوم.

خاتمة
تلك هي مواضيع هذه المقطوعة. أولاً، الفرح. وهو موضوع يعود مراراً، مع أن بولس هو في السجن، يهدّده الحكم عليه بالموت، ويقلقه همّ من أجل الكنائس. أما ينبوع فرحه فيجده في المسيح. ثانياً، مشاركة أهل فيلبّي في عمل الله الذي هو نشر الإنجيل، وهو عمل كلّف به بولس ورفاقه. ثالثاً، قبول أهل فيلبّي للإنجيل والدلالة على قبولهم بإيمانهم الحيّ، بجهادهم وتألمهم من أجل المسيح، بمساعدتهم الرسول في حاجاته الماديّة. وكل هذا عاشه الفيلبيّون منذ اليوم الأول الذي فيه وصلت إليهم البشارة حتى الآن... ويرجو بولس منهم أن يثابروا على هذا العيش كما فعلوا حتى الآن، لأن الذي بدأ فيهم الأعمال الصالحة يتمّها إلى يوم ربّنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM