الفصل السابع والعشرون: إنجيل مرقس يسوع وانتظار البشر

الفصل السابع والعشرون
إنجيل مرقس
يسوع وانتظار البشر
1: 16- 8: 30
اقترب ملكوت الله. ولكن كيف نعرف ذلك؟ ما هي ردّة الفعل عند الناس؟ هذا ما تحدّثنا عنه الفصول الثمانية الأولى من إنجيل مرقس.

أ- نداء صيادين أربعة (16:1- 20)
1- إن الأحداث المروية هنا تسير بسرعة. يسوع يمرّ، يرى، يتكلّم. حالاً ترك الصيادون شباكهم، أباهم مع العمّال، وتبعوه. يقدّم لنا الإنجيل أربعة رجال مع وظيفتهم وعائلتهم، في لحظة، قبلوا أن يتبعوا شخصاً لم يقل لنا مرقس حتى الآن الشيء الكثير عنه. هو الانطلاق نحو المجهول مؤسّس على كلمة يسوع وحدها: "أجعل منكم صيادي بشر". ليست هذه الصورة عادية في التوراة. ولكنّها معبرّة لدى أناس يعيشون صنعتهم. يشدّد النص هنا على مبادرة الله. تدخّل الله فلا مجال للتأخير. وملكوت الله ليس تعليماً وحسب: إنه قوّة في البشر تعمل في البشر وتقلب حياتهم رأساً على عقب.
2- حصل المشهد على شاطئ البحر. يشير مرقس مراراً إلى شاطئ البحر (13:2؛ 7:3؛ 4: 1). هو لا يريد أن يعطينا خريطة لتحرّكات يسوع. فللبحر معنى رمزي في العقلية البيبلية. إنه يمثّل مركز قوى الشر. وهكذا يشدّد مرقس على أن كلمة الله ستواجه قوى الشر هذا لكي يلتئم شعب جديد. وتهبّ العاصفة حين يمرّ يسوع مع تلاميذه إلى الشاطئ المقابل، إلى عالم الوثنيّين، وكأنها تريد أن تقف في وجهه. وسيستعمل يسوع كل سلطة كلمته لكي يعود الهدوء (35:4- 41).
3- ليس هذا النص تقريراً عمّا حدث في ذاك النهار. فعبر الخبر، يجعلنا مرقس نشارك في ما اكتشفه هؤلاء الرجال حين يعيدون قراءة حياتهم. حين نستعيد الأحداث على فترة طويلة، هناك أمور تستنير بنور جديد. فهموا أن لا معنى لحياتهم كلّها إلاّ بشيء واحد: إرادتهم بأن يمشوا وراء يسوع الذي دعاهم.
وطريقة رواية هذا النداء عادية في التوراة. فالكاتب يستعمل الرسمة عينها ليعبرّ عن هذا اليقين الذي يعلن أن أناساً قد دعاهم الله. هو لا يقول كل شيء. هو ملخّص يخبئ الشيء الكثير. نحن نعرف كم نحتاج إلى وقت لنسير على خطى يسوع. هناك صعود ونزول، تقدّم وتأخّر. هناك خيارات نقوم بها لنعمّق هذه الخبرة ونقدّر وزن هذا الاعتقاد: يسوع يدعو.
4- لماذا بدأ مرقس إنجيله هنا؟ لماذا لم يخبرنا أولاً من هو يسوع؟ لأنه أراد أن يبيّن أن يسوع ليس شخصاً منعزلاً. منذ البداية، إنضم رجال إلى رسالته، ويستطيعون أن يكونوا شهوداً لما رأوا وسمعوا. ما صنعه يسوع لا ينحصر في الزمان والمكان، لا في سنوات معدودة عاشها على الأرض، ولا في بلد محدّد مثل فلسطين. هذا الانتشار سيتم بواسطة جماعة بدأت الآن تلتئم وفيها أناس يستطيعون أن يؤكّدوا أن روح يسوع ينعش حياة المؤمنين وبحثهم عن الله.
5- نستطيع أن نقرأ منذ الآن أربع مراحل في تكوين هذه الجماعة:
الأولى: نداء لاوي واستقبال الخطأة (2: 13- 17). دعا يسوع عشّاراً (جابي الضرائب) ليدخل في جماعته. كان اليهود يضعون هذا الرجل في فئة الخاطئين أي في أولئك الذين يعتبرونهم أضعف من أن يحفظوا شريعة الله. إذن، كانوا على هامش المجتمع. لا يهتم يسوع بالتمييز بين الأبرار والخطأة (كما كان يفعل الفريسيون. تمييز خارجي فقط!). ما جاء يصنعه يتوجّه إلى جميع البشر. معه سقط الجدار الذي يفصل بين هاتين الفئتين.
الثانية: تأسيس الاثني عشر (13:3- 19). ستكون هذه المجموعة نواة الجماعة الجديدة: أقامهم يسوع ليكونوا معه وليرسلهم للكرازة مع سلطة على طرد الشياطين. دعاهم ليعيشوا خبرة تجعلهم جديرين بالشهادة فيما بعد. وبهم سيواصل يسوع حضوره ووحيه. لهم مكانة هامة في الإنجيل كله. وكل مرة تطلّ الصعوبة، ينطلق يسوع معهم من جديد.
مثلاً، بحثوا عن وسائل ليهلكوه (3: 6) فأسّس الاثني عشر (3: 13). رفض أهل الناصرة أن يؤمنوا به (6: 1- 6) فأرسل الاثني عشر في مهمة (7:6). تحدّث يسوع عن مصيره فبدت ردّة الفعل عند السامعين سلبية (32:9؛ 10: 33). حينئذٍ توجّه إلى التلاميذ مع تعليم خاص (9: 35؛ 10: 32). معهم عاش يسوع الأوقات القاسية في نهاية حياته في أورشليم (11: 11؛ 14: 17). أشركهم في حياته عن قرب، فكانوا الضمانة على أن رسالته ستتواصل.

ب- يوم كفرناحوم (1: 21- 39)
1- الإطار
هو يوم السبت. يوم الراحة. اليوم المحفوظ لله. يذكّر السبت براحة الله بعد الخلق في اليوم السابع (تك 2: 2). ويذكر أيضاً بالتحرير من مصر (تث 5: 14- 15). وهو أخيراً علامة العالم الجديد والمنتظر. إذن، هو يوم نعيّد فيه الحياة والحرية اللتين أعطاهما الله لنا. ولكن، "الكتبة" أكثروا من الفرائض ليحدّدوا ما يُمنع وما يُسمح بعمله في ذاك اليوم، بحيث صار يوم السبت حملاً ثقيلاً. وكان الخطر أن يتوقفوا عند الممارسات الخارجية (7: 3 - 4) وينسوا الجوهر وهو: حياة الإنسان، تحرّره، تفتّحه. وقد عارض يسوع اليهود مراراً في هذا الموضوع (2: 23- 27: دافع عن تلاميذه: 3: 1- 5: صاحب اليد اليابسة).
المجمع هو مكان التجمّع للصلاة. فيه يتعلّم الصغار والكبار أن يدرسوا الكتاب المقدّس. إندمج يسوع في حياة شعبه، فاستعمل الوسائل التي هي في تصرّف كل يهودي لكي يعيش إيمانه.
في هذا المجمع، رأى يسوع رجلاً "يمسكه روح شرير، روح نجس". كانوا يعتبرون المرض نتيجة الخطيئة. إذن، كان المريض نجساً، ولا يستطيع أن يشارك في الحياة الاجتماعية والدينية. وكان يرون وراء فوضى الطبيعة هذه، حضور روح شرير.
وينقلنا ولي الخبر إلى بيت بطرس ثم إلى باب المدينة (أي الساحة العامة) حيث يجتمع الناس.

2- عمل يسوع
كان يسوع يعلّم. لا يقول لنا مرقس شيئاً عن مضمون هذا التعليم، ولكنه يشدّد على أنه كان جديداً. تعليم يُعطى بسلطان. وهذا السلطان يظهر أولاً في طريقة الكلام. فيسوع يعلّم كشخص يستطيع أن يقول ما به يفكّر دون الحاجة إلى الاعتماد على سلطة أخرى غير سلطته. إنه يختلف عن الكتبة الذين يبرّرون موقفهم مستندين إلى النصوص والتقاليد الموروثة. ويظهر هذا السلطان أيضاً في نتائج كلمته. إنها ليست مجرد كلام، بل هي تفعل. تتغلّب على الشر، تشفي.

3- أمره: اسكت
نحن هنا أمام أمر غريب. قال يسوع للروح النجس: أخرس. كان الرجل الممسوس قد قال ليسوع: "أنت قدّوس الله". تدلّ هذه العبارة على شخص يرتبط رباطاً وثيقاً بالله. لأن الله وحده قدّوس. هو يختلف كل الاختلاف عن الإنسان. وهو أبعد من كل ما يمكننا أن نقول أو نتصوّر. إنه كله حب وأمانة. وتدهشنا ردّة فعل يسوع، حين نعرف أنه يريد أن يعرّف عن نفسه، أن عنده تعليماً يريد أن ينقله. يشير مرقس مراراً إلى هذا الأمر بالصمت (1: 44؛ 3: 12؛ 5: 34؛ 7: 36؛ 8: 26؛ 8: 30). ليس هذا مجرّد صدفة. فلنحاول أن نفهم.
هذه آية جديدة تدلّ على اقتراب ملكوت الله: كلمة تفعل في المجمع (مكان عام، موضع الصلاة) كما في بيت بطرس (موضع الحياة العادية، مكان خاص)، كما في ساحة المدينة حيث يجتمع الناس (باب المدينة). هذه الكلمة هي في بيتها أينما قيلت، ولا حدود لفعلها. وهي لا تستطيع أن تبقى سجينة في إطار ضيّق، في هذه المدينة. لهذا قال يسوع: "نذهب إلى القرى المجاورة (38:1). وطاف في أنحاء الليل.
هي كلمة تؤثر حيث تنزل: تزيح حدود الشر، تتيح للناس أن يستعيدوا الصحة، أن يستعيدوا مكانتهم في الجماعة، وحريتهم الحقّة بشفاء جسدي وغفران خطاياهم. حينئذ يُطرح السؤال: إذن، من هو يسوع هذا الذي يُلقي مثل هذه الكلمة؟
تقدّم لنا هذه الفصول الأولى علامات عن اقتراب ملكوت الله: تعليم جديد، كلّه سلطان. إنتصار على الأرواح النجسة. جماعة جديدة تبدأ بالالتفاف حول يسوع. ولكن الجديد في موقف يسوع سيفجّر إطار المجتمع والديانة اليهودية. وسنشهد مجادلات عديدة. فالتعارض بين يسوع ورؤساء الشعب ينمو. لا شك في نهاية هذا الصراع: "فخرج الفريسيون وتشاوروا مع الهيرودسيّين حول الوسائل الكفيلة بقتل يسوع" (3: 6).

ج- ما هو جواب البشر (7:3- 26:8)
إقترب ملكوت الله، ولكن من اقترب من هذا الملكوت؟
أنكون مع المسيح أم ضد المسيح؟ هناك خيار أول. إذ تنظّمت مجموعة الاثني عشر (13:3- 19) فقرابة يسوع لم تفهمه (3: 20- 21، 31- 35). والرسميون رفضوا كلامه واعتبروه مسكوناً بالشيطان (3: 22 - 30). وأهل الناصرة رفضوا هم أيضاً أن يؤمنوا به (6: 1- 6).
هل هو الفشل ليسوع؟ أما حيرّ الناس بتصرّفاته (6: 6)؟ ودفعته الصعوبات لكي يعمّق معني رسالة. نستطيع هنا أن نقرأ مثل الزارع (4: 1 - 9). فيه يعبرّ يسوع أولاً عن المعنى الذي يعطيه لعمله. حين نقرأ هذا المقطع نحسّ أننا أمام تبذير كبير: يسقط الحب في كل مكان، وقسم منه لا فائدة منه. ولكن المهم، ولكن عبرة المثل نجدها في آ 8: في النهاية الغلّة حسنة.
هذه هي قصة الكلمة التي يعلنها يسوع لا كل مكان. إذا نظرنا من الخارج رأيناها من دون ثمر. هي تثير الحذر والمعارضة. ومع ذلك ستحمل ثمراً كثيراً جداً. فرغم الفشل الذي لقيه يسوع، هو يثق بفاعلية عمله. فملكوت الله يتحرّك وينمو (26:4- 34). والناس مدعوّون لأن يتعرّفوا إليه ويقبلوه بحرية تامة. لهذا، ليتعلموا أن ينظروا، أن يسمعوا، أن يتحوّلوا (4: 10- 25). إن حياة البشر قد تستطيع أن تكون كلمة عن هذا الملكوت الآتي. ويعطينا ف 5 علامة عن هذه الفاعلية: عبر يسوع البحيرة وذهب إلى الوثنيّين. حتى هناك فعلت كلمته وحملت ثمرة.
واختبر يسوع التجمّعات (6: 6- 8: 26). فاختيار التلاميذ ليتبعوا يسوع يتعمّق حين يشاركونه في رسالته. فيسوع ليس فقط لبعض الناس. إنه لجميع الناس. إنه ذلك الذي يقدر أن يجمع الجماهير ويطعمهم (6: 30 – 44؛ 8: 1- 10). والتلاميذ الذين لعبوا دوراً في هذه الأحداث، رأوا في يسوع ذاك الذي هو الراعي الحقيقي لشعبه، كما كان الله في العهد القديم (حز 34؛ مز 23).


د- بطرس يعترف بالمسيح (8: 27- 30)
عرف بطرس أن يسوع هو المسيح. ربط بين هذا الشخص الذي هو أمامه وذلك الذي ينتظره الشعب مخلّصاً ومحرراً.

1- وسأل يسوع
إن عمل يسوع دفع الناس لأن يطرحوا سؤالاً، أن يتحرّكوا (6: 14 - 16). بعضهم جعل يسوع في فئة الأنبياء. مثلاً، يوحنّا المعمدان، آخر الأنبياء الذي أعلن خلاصاً مقدَّماً للجميع شرط أن يتوبوا (1: 1- 11). أو إيليا الذي اعتبره اليهود أعظم الأنبياء. آمنوا بعودته في ساعة تدخّل الله الحاسم ليثبت ملكه. ووسط تساؤلات الناس وبحثهم، طرح يسوع على التلاميذ سؤالاً وطلب منهم أن يتخّذوا موقفاً: "وأنتم، من تقولون إني هو؟".

2- أنت المسيح
المسيح هو المكّرس بالزيت، الممسوح بيد الله. المختار من أجل رسالة. دلّت هذه الكلمة أولاً في تاريخ إسرائيل على الملك الذي يُمسح بالزيت في بداية عهده. لا شكّ في أن الله كان الملك الوحيد في إسرائيل. وكان الملك يعمل مكانه وباسمه ليُحلّ الحق والعدل في البلاد. قام بعض الملوك بهذه المهمة فلعبوا دوراً حقيقياً. ولكن العدد الأكبر ترك الظلم يسيطر، فخان الله وخان شعبه. حينئذٍ تطلّع الناس إلى أبعد من ملك زمني. ترجوا أن يتدخّل الله بنفسه. واعتبر البعض أن تدخل الله هذا يرتبط بمجيء مسيح جديد، تصوّره على مثال ملك مثالي تحدّث عنه الأنبياء. من هنا اسمه "ابن داود" (47:10).
وكان لهذا الرجاء الذي وُلد مضمون غني جداً، مضمون ديني: الله يقيم عهداً (ميثاقاً) جديداً ونهائياً فتُغفر الخطايا. ومضمون اجتماعي: تُعاد العدالة على الأرض. حينئذ يصير الفقراء سعداء، ويستعيد المحرومون مكانهم في المجتمع. ومضمون سياسي: تتحرّر البلاد من التسلّط الخارجي وتقوم مملكة داود من جديد. نحن أمام رجاء بعالم جديد يغيب منه كل ما يقف حاجزاً أمام تفتّح البشرية: "عيون العميان ترى، آذان الصمّ تسمع. حينئذ يقفز الأعرج كالغزال وفم الأخرس يهتف هتاف الفرح" (أش 5:35).

3- نهاية مرحلة
نحن الآن في نهاية مرحلة في الإنجيل. عاش التلاميذ مع يسوع، شهدوا عدداً من آياته. آيات تتعدّى الناس. وفسّروها بطرق مختلفة. والتلاميذ أنفسهم استصعبوا فهمها رغم نواياهم الطيّبة (6: 45- 52؛ 7: 14- 23).
ومع ذلك، فقد استطاعوا الآن، بعد أن انطلقوا من خبرتهم واستعملوا الكلمات التي في متناولهم، استطاعوا أن يقولوا كلاماً حقيقياً عن يسوع: "أنت هو المسيح". أنت ذاك الذي يوافق انتظارنا. ويقدّم لنا مرقس شفاء أعمى حالاً قبل هذا المشهد (22:8-26). حين يبحث الناس، يسوع وحده يفتح عيونهم ويعطيهم أن يروا، لا بعين الجسد فقط، بل بعين الإيمان.
ولكن يسوع لا يعارض هذا التأكيد. غير أننا نجد الأمر بالصمت وعدم إعلان هوية يسوع. وسنرى السبب في ما يلي من النص.
أجل، يسوع هو المسيح. ولكن لا تقولوا لأحد. سيأتي وقت يعلن يسوع مسيحانيته. وهو سيفعل ساعة كان أمام رئيس الكهنة، ساعة اقتربت آلامه ومجده.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM