الفصل السادس والعشرون: انجيل مرقس انجيل مسيحيي رومة

الفصل السادس والعشرون
انجيل مرقس
انجيل مسيحيي رومة

إنجيل مرقس أول إنجيل دوّن، وقد دوّن حوالي سنة 70. كاتبه هو مرقس، رفيق بولس وبرنابا (أع 12: 25؛ 13: 2؛ 15: 37- 39؛ كو 4: 10)، ثم رفيق بطرس في رومة (1 بط 13:5). ارتبط مرقس برومة وكتب لهذه الكنيسة التي كان معظم مؤمنيها من أصل وثني. إلى هذا الإنجيل سوف نتعرّف من خلال بعض النصوص التي نشير إليها.

أ- بداية الإنجيل (1: 1- 15)
تقدّم لنا الآية الأولى عنوان الكتاب. لم يخترها مرقس عن طريق الصدفة. فالكلمات التي استعملها تحدّد لنا بدقة مضمون انجيله. ماذا نجد في هذا "العنوان"؟

1- نحن أمام شخص
نحن أمام شخص اسمه يسوع. رجل له موقعه في التاريخ وفي عالم عصره. من هو هذا الرجل؟ احتفظ مرقس باسمين: هو المسيح وهو ابن الله. اسمان لهما معناهما للشعب اليهودي. وحولهما سيبني مرقس انجيله.
هناك تدرّج في انجيل مرقس. يبيّن لنا شيئاً فشيئاً كيف توصّل بعض الناس أن يقولوا شيئاً عن يسوع. في مرحلة أولى، أعلن بطرس (تلميذ يسوع)): "أنت المسيح " (8: 27). في مرحلة ثانية أعلن ضابط روماني (وثني) شهد موت يسوع على الصليب: "حقاً، كان هذا الرجل ابن الله" (39:15).
بنى مرقس كتابه فدلّنا على الطريق الذي سار فيه أناس في الماضي. إكتشفوا غنى شخصية يسوع وتحدّثوا عنها في لغة نابعة من تقليد شعبهم. ونحن مدعوون اليوم لنسير في هذا الطريق.

2- نحن أمام إنجيل
بالنسبة الينا، تدل هذه الكلمة على كتاب يتحدّث عن يسوع. ولكن حين دوّن مرقس كتابه، إختار هذه الكلمة ولم يستنبطها. هي كلمة يونانية تعني البشرى، الخبر السعيد. في ذاك الوقت كان يدل على بشارة محدّدة: تنصيب ملك جديد ينتظر الناس أن يحمل اليهم عهدُه السلامَ والعدالة والازدهار.
استعملت هذه االفظة في بلدان عديدة. ولكن كان لها رنّة خاصة لدى اليهود لأن النبي أشعيا استعملها. ففي وقت عصيب من التاريخ (كان الشعب في المنفى بعيداً عن أرضه) اعلن هذا النبي بشرى (انجيل، خبر طيب) تدخّل الله ليحرّر شعبه. وحدّد مضمون هذه البشرى: "هوذا الله، هوذا السيد الرب. يأتي بقوة. ذراعه تدل على سلطانه" (أش 40: 9- 10). "ما أجمل على رؤوس الجبال قدميَ المبشر الذي يعلن السلام، المبشرّ بالخبر السعيد، الذي يعلن الخلاص، الذي يقول لصهيون: قد ملك الهك (أش 52: 7). الخبر السعيد (أو: الإنجيل) هو أن الله آت ليقيم ملكه، مع ما يرافق هذا من انقلابات في حياة البشر. أخيراً، يستطيعون أن يعيشوا في العدالة والسلام.
إذن، سيحدّثنا مرقس عن شخص، عن يسوع الذي هو المسيح وابن الله. حياته وأعماله ترتبط بمجيء الله ليقيم ملكه. ولهذا، فهو يقدّم بداية نشاط يسوع في أحد الأمكنة التي فيها يعبرّ قسم من الشعب حول يوحنّا المعمدان (1: 1- 8) عن انتظار لهذا التبدل وعن عزم لجعل هذا التبدل واقعاً ملموساً.
في هذا الإطار أكد يسوع على هويّته وعلى الرسالة التي جاء يقوم بها (9:1- 13). وسيكشف تدريجياً بما يقول وبما يفعل، سيكشف للبشر مضمون وبُعد انجيل ملكوت الله الآتي. وِقد أعطي لنا ملخّص كرزاته: "تم الزمان واقترب ملكوت الله؛ توبوا وآمنوا بالإنجيل" (1: 14- 15). وهكذا دعا سامعيه لكي يتخّذوا موقفاً منه: "من أراد أن يخلّص حياته يخسرها. من يخسر حياته من أجلي ومن أجل الإنجيل يخلّصها" (35:8؛ رج 29:10).
ويتوقّف الكتاب ساعة يكون الذين اختاروا قد استعدّوا للسير على خطى معلّمهم: "إذهبوا إلى العالم كله، واعلنوا البشارة (الإنجيل) إلى الخلق أجمع" (16: 15؛ رج 13: 10؛ 14: 9).

3- نحن أمام بداية
هذا أمر طبيعي، ونحن في السطر الأوّل من الكتاب. ولكن مرقس يستعمل هذه اللفظة ليدلّ على أننا أمام شيء جديد: ما يبدأ الآن لم يكن موجوداً من قبل. ولكنه يقول لنا أيضاً: "هذه هي البداية فقط. جاء ملكوت الله مع يسوع. ولكن لم يُعطَ كل شيء دفعة واحدة. بدأ الملكوت وسوف يتابع. يجب أن ينمو ويكبر. والعمل عملكم. بدأ يسوع وأنتم تكّملون".

ب- فعل إيمان مسيحي رومة
إنجيل مرقس هو فعل ايمان. هو تعبير عن ايمان.
نحن في رومة حوالي سنة 70. ما الذي يميّز جماعة رومة؟ فالطريقة التي فيها يعيش مسيحيّو رومة ويعبرّون عن ايمانهم، ترتبط بوضعهم وأسئلتهم. وكل هذا يؤثر على الصورة التي رسمها مرقس ليسوع. نحتفظ هنا فقط ببعض وجهات نعتبرها هامة.

1- رومة قلب العالم
رومة هي عاصمة الأمبراطورية الرومانية. إنها مدينة مهمة تعد مليون نسمة. كان شعبها مزيجاً جاء من كل أنحاء العالم مع نسبة كبيرة من العبيد. هذا الوضع قد أثر على الجماعة المسيحية. فاعضاؤها اختلفوا بموطنهم الأصلي ومحيطهم الاجتماعي. والتقى اليهود والوثنيون في الاحتفال الواحد.
تذكرت كنيسة رومة تاريخ تأسيسها. وُجدت لأن أناساً اندفعوا فاعلنوا الإنجيل للوثنيّين، وجاهدوا ليخرجوا الكنيسة من الإطار الضيّق الذي أراد اليهود المحافظون أن يسجنوها فيه. هذه الخبرة ساعدتها على التعرّف إلى يسوع المسيح الذي لا ينحصر عمله في بلد واحد أو شعب واحد.
هنا يتجذّر اهتمام مرقس بأن يقدم نشاط يسوع كبشرى سعيدة لجميع الأمم. والكنيسة مدعوّة على مدّ تاريخها إلى مثل هذا المشروع: أن تغني لقاءها بيسوع فتتقبّل "الأمم" الجديدة التي يحقّ لها أن تسمع الإنجيل كبشارة سعيدة تعنيها.

2- حقبة مضطربة
في سنة 64 وعلى أثر حريق كبير اشتعل في رومة، عرف المسيحيون أول اضطهاد رسمي مهمّ. ويبدو أن بطرس مات في ذلك الوقت. نذكر هنا الرباط الوثيق بين الدين والسياسة: فالدين جزء مهم في الحياة الرسمية. إنه عامل وحدة في هذه الأمبراطورية الواسعة المؤلّفة من شعوب مختلفة. فمن لم يشارك على المستوى الديني بدا وكأنه رافض للمستوى السياسي.
وعرفت نهاية عهد نيرون البلبلة: صعوبات اقتصادية. مناخ الرعب مع الدسائس والمؤامرات. وثارت المناطق الغربية. وفي رومة بدأ الشعب يحتجّ على نقص في التموين، على إدارة فاسدة. وانتحر نيرون سنة 68. فاندلعت بعد موته حرب أهلية بسبب تضارب المنافع لدى المجموعات المختلفة. وهذا الوقت هو أيضاً وقت الحرب اليهودية. أخذت أورشليم وسُلبت سنة 70، كما أحرق الهيكل. وبالنسبة إلى المسيحيين المتحدرين من العالم اليهودي، كان هذا نهاية حضور الله والتزامه في التاريخ. وتأثر الجميع وتأمّلوا في دخوله تيطس القائد المنتصر على أورشليم إلى رومة.
في هذا الإطار، وجب على المسيحيّين أن يقدّروا ما يدعوهم إليه الإنجيل حق قدره: خسران الحياة بالاستشهاد في زمن الاضطهاد. خسران الحياة في فترات الهدوء برفض السعي وراء الغنى. ففي مجتمع الأمبراطورية الرومانية وطبقاتها، كان الغنى وحده يتيح للشخص أن يرتفع في السلّم الاجتماعي.
وهذا الخيار قاد المسيحيين إلى التعمّق في اللقاء بيسوع المسيح. قدّم لنا مرقس يسوع وقد رذلته سلطات شعبه لأنه شهد لإله لا يقبل الظلم ولو ساند الحكم القائم هذا الظلم. يسوع جاء لا لينتصر ويُخدم بل ليخدم ويبذل نفسه. هذا الرفض الذي قاد يسوع إلى الآلام، هو الذي يعيشه المؤمنون اليوم. وهنا يكتشفون فاعلية من نوع آخر، نجاحًا غير نجاحات البشر. نجاح مصلوب، نجاح حياة مبذولة للآخرين، نجاح الحب الذي هو أضعف من أن يفرض نفسه.

3- طريق لا بدّ منها
عبر هذه الأحداث، عاش هؤلاء المؤمنون مرحلتَي مسيرة الإيمان اللذين أشار اليهما مرقس في تصميم انجيله. إكتشفوا أوّلاً في يسوع إلهاً يتجاوب وانتظار البشر. هي مرحلة يسوع المسيح الشخص العظيم. ولكن لا يمكن البقاء هنا. لهذا انتقلوا الى المرحلة الثانية فرأوا في يسوع إلهاً محيراً، إلهاً يتجاوب معنا بغير ما تصوّرنا. مرحلة نقيم فيها فنعطي لا وقتنا وإمكانياتنا فحسب، بل حياتنا لنكتشف إله حب يعطي حياته عبر الفشل وعبر الموت.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM