الفصل الثامن والعشرون: انجيل مرقس سرّ شخص يسوع

الفصل الثامن والعشرون
انجيل مرقس
سرّ شخص يسوع
8: 31- 16: 20

يسوع ليس فقط جواباً لانتظار البشر. إنه أكثر من ذلك. إنه حقاً ابن الله. هذا ما نكتشفه في هذا الفصل الذي يحدّثنا عن سر يسوع.

أ- يسوع ينبئ بآلامه وقيامته (8: 31- 33)
وبدأ منعطف في الإنجيل. شدّد عليه مرقس فقال: "وبدأ يسوع". هناك شيء جديد يبدأ. وهذا الجديد يبدأ في الطريقة التي فيها بدأ يسوع يتكلّم عن مستقبله. لقد تركّز القسم الثاني من انجيله على الطريقة المذهلة التي فيها سيقوم يسوع بدوره كمسيح. لهذا يبنيه مرقس حول ثلاثة انباءات بالآلام والقيامة: 8: 31؛ 9: 31؛ 10: 33- 34.
أول فعل استعمله يمكن ان يصدمنا: يجب. نحس وكأننا أمام تصميم ثُبّت مسبقاً. فكأن يسوع يمشي بفرح إلى الموت: وهو يعلم بكل شيء مسبقاً، وهو يتبع برنامجاً حدِّد له. لا ننسى أننا لسنا أمام ريبورتاج يروي لنا يوماً بعد يوم أحداث حياة يسوع. نحن هنا أمام تأمل المؤمنين الذين حاولوا أن يفهموا معنى رسالة يسوع مع هذا العثار الذي يشكلّه الألم، ورفض الشعب له، وموته. لهذا استعادوا كل تاريخ الشعب. وقرأوا فيه من جديد إرادة الله بان يقيم عهداً. وارادته هي اقوى من رفض البشر وخطيئتهم. وأعادوا أيضاً قراءة خبرة كل الذين أرادوا أن يكونوا شهوداً لحب الله هذا، وهو حب لا حدود له، غير أنه متطلّب: كلّهم تعرّفوا إلى الألم. يجب. أي: لا يفلت إنسان من الألم إن أحبَّ حقاً وحتى النهاية. وعبر هذا، تابع عمل الله مسيرته. ولكن هذه الطريق لا تُفرَض. اننا نختارها بكل حريتنا.

ب- كيف نتبع يسوع (34:8-1:9)
ونجد نفوسنا أمام انقلاب للقيم. وسيُعطى التفسيرِ في السطر الأخير: القيمة النهائية هي أن نعيش بتوافق مع ملكوت الله الآتي. ولهذا لا يستطيع التلاميذ أن يعيشوا "كيف ما كان"! فيسوع إبن الإنسان لم يقبل أن يعيش "كيف ما كان" ليكون أميناً لرسالته. وهذا ما قاده إلى خيارات ثقيلة يصعب حملها. واذ يقوم التلاميذ بهذه الخيارات، يكتشفون اكتشافاً أفضل ما هو هذا الملكوت الآتي، ومن هو يسوع هذا الذي يدّشنه ويقوده إلى تحقيقه الكامل.
يسوع هو حقاً المسيح. ولكن لا كما يتصوّره الناس. هو يرفض أن يلعب لعبة "مخلّص وطني". يبدأ ملكوتٌ جديد، هذا ما لا شك فيه. ونحن أمام بداية خلاص. ولكن يجب أن نتعلّم من جديد من يسوع المضمون الحقيقي لهذه الكلمات. إنها طريق طويلة نسيرها على خطى التلاميذ الذين حدّثنا عنهم مرقس سائرين مع معلمهم (9: 30؛ 10: 1؛ 10: 32؛ 11: 1). وطوال هذه المسيرة، يدفعهم بكلمته وعمله لكي يتجاوزوا ما فهموه أو بالاحرى ما ظنّوا أنهم فهموه.
وهكذا نفهم تحفّظ يسوع لأن يعطى له بسرعة اسم المسيح. فهي لفظة ملتبسة، تحمل معنيين. فهناك فرق بين ما يعيشه يسوع وبين ما في عقول الناس. ولكن حين ينهي يسوع مسيرته، وبعد أن يكون التلاميذ اختبروا السير معه، حينئذ يعطى إسم المسيح ليسوع بدون التباس ممكن. فاللفظة لا تأخذ معناها كله إلا إذا تجذرت في حياة الذين يتلّفظون بها.
وحول انباءات الآلام الثلاثة، توسّع مرقس في الانقلاب الذي يدعونا يسوع إليه: أن نكون الآخر لا الاوّل (33:9- 37)0 أن نعطي كل شيء فنصير أغنياء (17:10- 31). لن نكون خادم الجميع لنصير أكبر من الجميع (35:10- 45). إنه نداء متطلّب، ولا نستطيع أن نعيش الجواب إلا حين نلتقي بالمسيح لقاءً حقيقياً، نلتقي به على حقيقته (2:9-10). وهو وحده يساعدنا أن نرى، كما ساعد ابن طيما (46:10- 52) فتبعه في الطريق.
وتنتهي مسيرة يسوع مع تلاميذه في اورشليم. لقد وصلت إلى ذروتها المعارضة بين يسوع والرؤساء اليهود. فالمؤسسات في خطر (ف 11- 13). وكان صراع قويّ وجد حلّه في خبر الآلام (ف 14- 16).

ج- يسوع أمام المحكمة العليا (53:14- 56)
1- محاكمة يسوع (53:14- 65)
نحن أمام ظاهر محاكمة. فكل شيء تقرّر مسبقاً وبُني على الكذب. هم لا يحاكمون رجلاً، بل يبحثون بكل الوسائل عن بواعث تبرّر حكمهم عليه بالموت. نحن أمام انقطاع تام بين يسوع ورؤساء شعبه.

2- اتهامات ضد يسوع (14: 57- 59)
تدور هذه الاتهامات كلها حول المعبد مع تعارض بين هيكلين. واحد صنعته يد البشر وآخر لم تصنعه يد البشر. وإذا أردنا أن نفهم هذا الجدال نقرأ ما يقوله لنا مرقس عن موقف يسوع بالنسبة الى الهيكل في 12:11- 26.
إذا قابلنا هذا الخبر مع خبرَيْ متى ولوقا، لنرى ما يتفرّد به مرقس، نجد نقطتين يشدّد عليهما. الأولى، في آ 16: "ومنع كل من يحمل بضاعة أن يمرّ من داخل الهيكل". والثانية، في آ 17، زاد مرقس: "لجميع الأمم". هاتان الملاحظتان تسيران في الخط عينه.
نتذكر أنه كان في الهيكل مستويان مختلفان. في نظر اليهود، المكان المحفوظ لهم هو مقدّس وحده. وإن دخل إليه الوثنيون قُتلوا. وكان كل النشاط منظماً في المكان المخصّص لليهود. ولكن لا شيء يمنع التجارة والصرافة في الرواق الاول الذي يستطيع أن يدخل إليه الوثنيون. واعتبر هذا الرواق موضع عبور "قادومية" يأخذونها فيصلون بسرعة مع ما يحملون.
شدّد مرقس على ردة فعل يسوع ضد هذه الممارسة. فالمعنى واضح: كل مكان هو مقدس، مكان الوثنيين كمكان اليهود. فالتمييز بين الفئتين لم يعد معمولاً به. فكل البشر، وكل الشعوب مدعوون إلى لقاء الله. وهيكل لا يتيح هذا اللقاء لا نفع منه. إن آخرته الدمار على مثال التينة التي لا تحمل ثمراً (11: 12- 14، 20- 25؛ رج 13: 1- 2).
ونعود إلى ف 14. فعبر شهادة الزور نفهم موضوع الجدال. ما الذي هو علامة حضور الله؟ بناء من حجر شيّده البشر، أو يسوع المسيح الذي يقيمه الله من الموت في الثالث والذي يستطيع أن يجده البشر حيث يعيشون؟ وسيوضح يوحنا كلمة يسوع هذه في انجيله: "وكان يتكلّم عن هيكل جسده" (يو 2: 21). وهذا ما سيبرره مر 38:15 فيما بعد: عند موت يسوع انشقّ حجاب الهيكل. لم يعد للهيكل دور يلعبه. فكل إنسان يصل إلى الله مباشرة (رج 29:15- 32).

3- سؤال عظيم الكهنة (14: 60- 65)
دلّ مرقس أولاً على الرباط الوثيق بين يسوع والله. إنه يقيم عن يمين الله، أي يشاركه في سلطانه. واستعار اسم ابن الإنسان. هي عبارة تعود إلى العهد القديم (دا 7)، ففي زمن الاضطهادات، عبرّ هذا الشخص السري عن رجاء المؤمنين. اليوم هناك مضطهدون أقوى منهم وهم يحكمون عليهم. ولكن غداً مع ابن الإنسان الذي يصوّر صاعداً إلى السماء بجانب الله، معه سيكونون هم أيضاً عن يمين الله. حينئذ تنقلب الأدوار: يدين المؤمنون الأمم التي كانت تضطهدهم.
وشموع ابن الإنسان لاقى الألم والموت، ولكنه لم يُسحق. لقد أعطى معنى لهذه الاحداث: قام بعبور يتيح له بان يحيا كله مع الله: ومعه شعب كامل سيقوم بهذا العبور عينه. لقد انقلب الوضع: ظن الناس أنهم يحاكموا يسوع. في الواقع، هم يحاكمون نفوسهم حين يرفضون الوسيلة الوحيدة للعبور إلى الله، يرفضون أن يتقبلّوا الابن. إنهم يهزأون بالنبي الذي يكشف لنا وجه الله الحقيقي ويعطينا الوسيلة لنحيا معه حياة تامة.


د- موت يسوع (14: 66- 15: 47).
ووصل اليهود. إلى أهدافهم. حكموا على يسوع بالموت. وصادق بيلاطس الروماني على قرارهم. بدا وكأن كل شيء انتهى. وحتى بطرس نفسه استسلم (14: 66- 72). ومع ذلك، ففي خبر موت يسوع يحدث شيء جديد: ضابط روماني، وثني، يعلن ايمانه بيسوع: "حقاً كان هذا الرجل ابن الله" (39:15).
عرفت التوراة هذه العبارة فطبّقتها على الشعب وعلى من يلعب دوراً خاصاً في الشعب، وهو الملك. إنها تشير إلى علاقة وثيقة بالله. ولكن هنا، وبسبب كل ما عاشه يسوع، تتخذ العبارة معنى قوياً جداً. إنها تعيد أمامنا اعلان المؤمنين الأولين: أن يسوع هذا هو الله بالذات.
كل شيء صار واضحاً، ولا حاجة إلى سر نخفيه بعد اليوم. فلا التباس ممكناً. هذا المصلوب هو المسيح وابن الله. ففي كل خبر الآلام، قدّم لنا مرقس الوقائع بطريقة موضوعية، مهما كانت مذهلة، ومهما صدمت القارئ. ففشل الصليب وعثاره يكشفان وجهاً جديداً لله: لا قوّة فوق قوّة المحبّة التي تذهب إلى النهاية وحتى بذل الحياة. مثل هذا الحب لا يقدر أن يفرض نفسه. إنه يُفرض بحريّة على خيار البشر فيبقى الجواب لهم.
إن فعل ايمان هذا الوثني هو بداية شعب جديد سيلتئم حول يسوع، ولا يكون محدداً في بلد أو في أمة من الامم. فالإنجيل يكرز به لكل خليقة.

هـ- خاتمة الإنجيل
هناك خاتمة ثانية (9:16- 20) تقدّم ملخصاً لاخبار الظهور كما ذكرتها الأناجيل الاخرى. إنها تعبّر عن سر يسوع وشهادة الرسل. ولكننا سنتوقّف عند الخاتمة الاولى في 16: 1- 8.
نقرأ هذه الآيات الثمانية فنبقى على جوعنا. ما الذي حدث بعد ذلك؟
كانت النسوة نشيطات، ولكن الأحداث تجاوزتهنّ. لم يصل بلاغ مهم، ويسوع غائب. إن عمل الله يحيرّنا ويذهلنا. ومع ذلك، هناك إشارة ثمينة بقيت لنا: "إنه يسبقكم إلى الجليل". الجليل موضع مهم في انجيل مرقس: إنه ملتقى الأمم، ويرمز إلى الانفتاح على الوثنيين. ولكن الجليل يعيدنا أيضاً إلى بداية الإنجيل: "وجاء يسوع إلى الجليل" (1: 14).
وهكذا يدعونا الإنجيلي لكي نعود إلى الكتاب، إلى بدء انجيل يسوع المسيح ابن الله. فالكلمة القديمة التي اعلنت في الامس، يجب أن تعلن اليوم في جماعاتنا فتخلق كلمة جديدة. ومع هذه الكلمة نتعرّف إلى ذلك الذي يبدو غائباً ولكنه يسبقنا إلى جليل حياتنا اليومية. هذا ما فعله مؤمنو رومة ساعة رافقوا مرقس في مسيرته. وهكذا نفعل نحن.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM