الفصل الثلاثون: انجيل متى اقترب ملكوت السماوات

الفصل الثلاثون
انجيل متى
اقترب ملكوت السماوات
ف 5- 10

"ومن ذلك الوقت" (4: 17) بدأ يسوع كرازته بالكلام (خطبة الجبل، 5- 7) وبالعمل (سلسلة معجزات، 8- 9). نحن أمام اعلان وبشارة فيهما التعليم والأشفية (23:4؛ 9: 35). وكل هذا يدلّ على سلطان يسوع (29:7؛ 9: 35). وسنجد طوال الإنجيل هذا التعاقب بين الأقوال والأعمال.

أ- العظة على الجبل (ف 5- 7)
جمع متى أقوال يسوع بشكل خطبة كبرى. هذا خاص بمتى الذي قدّم انجيله في اربع خطب أخرى. خطبة الارسال (ف 10). خطبة الامثال (ف 13). خطبة الحياة في الجماعة (ف 18). الخطبة الاسكاتولوجية أو حول نهاية العالم (ف 24- 25).
وتنتهي هذه الخطب كلها بالخاتمة عينها: "ولما أتمّ يسوع" (28:7؛ 11: 1؛ 53:13؛ 19: 1؛ 26: 1). وهكذا يدلّ متّى أن يسوع ترك خمس خطب، كما ترك موسى أسفار الشريعة الخمسة. وهكذا يكون يسوع موسى الجديد الذي جاء يتمّ الشريعة ويعطيها معناها الحقيقي.
تتركز الخطبة الأولى على تتميم الشريعة والانبياء (17:5؛ 7: 12)، على "بر الملكوت". بدأت باعلان التطويبات (5: 3- 12: طوبى للمساكين)، وانتهت بالدعوة إلى العمل (7: 13- 27: أدخلوا من الباب الضيق).
نتوقف عند بجض الكلمات المهمة
أ- ملكوت السماوات (3:5، 10، 19، 20؛ 6: 10، 33؛ 21:7)
حين نتحدّث عن الملكوت نشدّد على أن الله يعمل لإقامة ملكوته. وقد نشدّد أيضاً على نتائج هذا العمل وعلى تقبّل الناس لهذا الملكوت.
نحن هنا أمام عنصر هام في انتظار إسرائيل. ينتظرون أن يتدّخل الله لإقامة ملكه مع كل ما يتضمّن هذا الانتظار من نتائج سياسية واجتماعية ودينية: استعادة الاستقلال، إقامة العدالة، تنقية شعائر العبادة.

2- البرّ (6:5، 10، 20؛ 33:6)
البرّ كلمة غنية بمعانيها. تدلّ على طريقة بها نعيش علاقات بين البشر تأخذ معياراً الطريقة التي بها يتعامل الله مع البشر. البار هو الذي يتكيّف مع طريقة تصرّف الله.
حين نتحدّث عن البرّ نصوّر موقف ذاك الذي ينظر إلى الله نظرة صحيحة، ويقبل أن تتبدّل حياته. هذان المعنيان يرتبطان ارتباطاً وثيقاً في التوراة حيث يترافق البرّ ومعرفة الله الحقّة (حك 1: 1). ومقابل هذا، إن جهل الله الحقيقي يقود إلى الظلم الاجتماعي والظلم الاجتماعي يجرّنا إلى عبادة الاوثان، إلى العبادات الكاذبة (أش 1: 10- 17).
أخيراً تُستعمل كلمة "بر" لتدل على عمل الله لكي يجعل الإنسان باراً، فيتيح له أن يحبّ كما الله يحبّ. وهذا العمل يظهر بصورة خاصة في يسوع الذي جاء "يتم كل برّ" (15:3).

3- ابوك، ابوكم (ترد كلمة أب 14 مرة)
الآب هو الشخص الرئيسي في هذه الفصول. إنه في قلب هذا الملكوت. هو حاضر، يرى، يعرف ما يحتاج إليه أبناؤه، وهو مستعد أن يجيبهم حين يتوّجهون إليه ويقولون: "أبانا الذي في السموات" (6: 9).

4- سمعتم أنه قيل... أما أنا فاقول (5: 21، 27، 31، 33، 38، 43)
هذا نداء إلى تجاوز الشريعة القديمة. تكلّم الله في الأمس بموسى. ولكن هذه الكلمة تأخذ كامل وزنها في يسوع الذي يكشف المعنى الأخير للشريعة: أن نحيا حباً لا حدود له. وهذا يذهب بنا أبعد من قواعد نوّد أن نراها ثابتة.

5- صنع (7: 17، 18، 21، 22، 24، 26)
كلمة يونانية واحدة نترجمها بطرق عديدة: حمل (ثمراً)، عمل.
ولا نكتفي بالكلام، بل نصل إلى العمل. نحن كالشجرة، ويجب أن نحمل ثمراً.
كيف نفهم هذه الخطبة؟ أما تبدو برنامجاً نظرياً جميلاً لا يمكن أن يتحقّق؟ إذا حسبناه مجرّد قواعد أخلاقية نطبّقها، يكون جوابنا بالإيجاب. ولكن يكون جوابنا كلاّ إذا اعتبرنا هذه الخطبة صورة لما يحقّقه الآب في يسوع، ابنه الحبيب، لكي يأتي هذا الملكوت المنتظر. إذا اعتبرنا هذه الخطبة أيضا صورة لكل ما يستطيع الآب أن يحقّقه في الذين يقبلون بأن يكونوا أبناءه.
هذه الخطبة تدلّ على فرح الذين يعملون فيكتشفون آخر (هو الله) يعمل فيهم، ويقبلون أن يتركوه يحوّلهم، فيسيرون في طريق تتجاوز عالم المعقول. ولهذا، يستعيد متى التطويبات مشدّداً على استعدادات القلب الضرورية لتقبل واستقبال ملكوت السموات. نستطيع أن نقابل هذه التطويبات مع ما يقوله لو 6: 20- 26.

ب- سلسلة من المعجزات وتفسيرها (ف 8- 9)
هذان الفصلان يميّزان متى في طريقة كتابته. جمع عشر معجزات (عدد أصابع اليد) وفيها اشفية، كلام قدرة، إخراج شياطين.

1- عشر معجزات
تتجمع في ثلاث سلاسل.
السلسلة الأولى (8: 2- 15): ثلاثة أشفية: أبرص، وثني، امرأة. هم مرذولون من المجتمع.
السلسلة الثانية (23:8- 8:9): ثلاث كلمات قدرة: على البحر، على الشياطين، على الخطيئة.
السلسلة الثالثة (18:9- 34): ثلاثة أشفية: إحياء صبية وشفاء النازفة (شاهدتان على قدرة يسوع)، شفاء اعميين (شاهدان)، شفاء أخرس.
حين نقرأ هذه النصوص نكتشف طريقة بنائها. كما نجد فيها علامات مشابهة:
- نجد جوهر الخبر. أقل ما يمكن من التفاصيل (نجد تفاصيل أكثر في مرقس).
- يُلقي متى الضوء على يسوع وعلى المتحدّث معه.
- يشدّد على دور الايمان.
- ويبرز ردّة الفعل عند الناس.

2- تفسير يستند إلى العهد القديم (16:8- 17)
يتميّز العهد القديم بتشديده على تدخل الله في غفران الخطايا (إر 31: 31)، في زوال المرض والضعف اللذين هما من نتائج الخطيئة (أش 35: 5)
ولكي يتحقّق هذا التدخلّ، لا بدّ من شخص يلعب دوراً فاعلاً. هناك عبد الله المتألمّ الذي يتحدّث عنه أشعيا. يستعيد متى كلام أشعيا فيقدّم لنا يسوع على أنه عبد الله المتألّم الذي يحمل آلامنا ليحرّرنا منها.
وهكذا، ليست معجزات يسوع آيات خارقة تؤمّن نجاح هذا "الشافي". إنها تقابل حاجات حقيقية لدى الناس، وهي علامة عالم جديد جاء يسوع يدّشنه.

3- جماعة التلاميذ
هنا نجد مكانة جماعة التلاميذ ونسمع نداءات لاتباع يسوع (18:8- 22؛ 9: 19- 17؛ 9: 35- 38)
أقحم متى هذه النصوص الثلاثة بعد كل سلسلة من المعجزات، لماذا؟ لأن تعليم يسوع والأشفية تتحدّث عن هذا العالم الجديد الآتي، ولكن لا بدّ من وجود جماعة تكون علامة لهذا الملكوت. ووسط هذه الجماعة، دُعي التلاميذ، وهم يحتاجون أن ينمو "إيمانهم القليل" (8: 26) متطلّعين الى ما يفعله يسوع.
وعمل يسوع هذا يحيرّ. إنه يفجرّ العادات القديمة ويشقّ "الزقاق البالية" ولكن التلاميذ سيختبرون مشاركة يسوع في سلطانه: "فلما شاهد الناس ما جرى، خافوا ومجدّوا الله الذي اعطى البشر (وليس يسوع وحده) هذا السلطان (سلطان مغفرة الخطايا)" (9: 8).

ج- رسالة الاثني عشر (10: 1- 42)
"السلطان" (7: 29؛ 8: 9؛ 9: 6؛ 9: 8؛ 10: 1) الذي أظهره يسوع بالقول والعمل، قد انتقل إلى مجموعة الاثني عشر تلميذاً، إلى الاثني عشر رسولاً. وقد أرسلوا ليشهدوا بدورهم بالقول والعمل أن ملكوت الله قد اقترب. هم لا يستطيعون أن يحتفظوا لنفوسهم بما اخذوه مجاناً، وبما اكتشفوه برفقة يسوع (8:10).
يحدّثنا كل هذا الفصل عن خيارات متطلبة، ضرورية لاتمام هذه الرسالة. وإن آ 24- 25 اللتين هما في قلب الخطبة، تكشفان لنا الأساس الوحيد للالتزام المطلوب، والتبرير الوحيد: هي علاقة وثيقة بين التلميذ ومعلّمه.
في الواقع لن ينطلق التلاميذ إلا بعد القيامة. بعد أن يكونوا خبروا كل وزن سلطان يسوع الذي هو أقوى من الموت. فتستند ثقتهم إلى وعد المعلّم بأن يكون "معهم كل الأيام حتى انقضاء الازمنة" (18:28- 20).

د- جماعة التلاميذ
دوّن متى انجيله ساعة انطبعت الحياة اليهودية بنهاية اورشليم وبنتائج هذه النهاية: ما هو معنى هذا الحدث؟ كيف تتنظّم الجماعة لتتابع عيش ايمانها في وضع مختلف؟
إن التعمّق في هذا الحدث قادهم للتعرّف إلى السبب الحقيقي لهذه الكارثة: عدم ايمان إسرائيل. خيانته للرب. والطريقة الوحيدة للخروج من الأزمة هي العودة إلى ممارسة الشريعة بشكل أدقّ. وهكذا يغفر الله لشعبه ويعيد بناءه. وكان دور المعلمين، دور الاخصائيين في الشريعة جوهرياً. سموا "رابي" أي معلّم. وحدّدوا لائحة الاسفار المقدسة، الاسفار القانونية. وبدأوا يدوّنون التقاليد الشفهية التي ستجمع في التلمود.
في هذا الاطار، أفهم متى المسيحيين معنى العودة إلى الشريعة: ليست في الاكثار من الفرائض، بل في تقبّل يسوع والسير على خطاه.
طريق بسيطة ولكنّها متطلّبة. هل هذا ممكن؟ نعم. فالجماعة المسيحية ما زالت تختبر قدرة المسيح القائم من الموت عبر كل الذين يقبلون أن ينفصلوا عن الشر، عبر كل العميان الذين بدأوا ينظرون، عبر كل الخرس الذين بدأوا يتكلّمون.
وهذه المعجزات ليست من الماضي. إنها آيات تُعطى اليوم للذين يتجاوزون ضعف ايمانهم ليروا في التاريخ الذي يعيشون فيه، حضور ذاك الذي "اخذ عاهاتنا وحمل أمراضنا" (8: 17).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM