الفصل الحادي والثلاثون: انجيل متى بناء الكنيسة

الفصل الحادي والثلاثون
انجيل متى
بناء الكنيسة
ف 11- 18

من هو مع المسيح؟ من هو ضد المسيح؟ هذا هو وقت الخيار قبل ان نتوجّه إلى زمن الكنيسة. وهكذا نكون أمام قسمين: زمن التمييز، زمن الكنيسة.

أ- زمن التمييز (ف 11- 13)
1- خيارات مختلفة
نتجوّل معاً في هذه الفصول ونتعرّف إلى خيارات يقوم بها هؤلاء الذين التقوا بيسوع:
- يوحنا المعمدان ومعه جيل من الناس دُعوا لكي يتعرّفوا إلى يسوع من خلال أعماله (11: 2- 24)
- وحي وصل إلى الصغار، صغار القوم (11: 25- 30).
- الشياطين المطرودون والتفاسير العديدة لهذه العلامة (12: 22- 32).
- آية يونان (12: 38- 42).
- عائلة يسوع الحقيقية (46:12- 50).
- رفض أهل الناصرة ليسوع (13: 53- 58).
إن يسوع يتكلّم ويفعل بسلطان: والذين يسمعونه ويرونه لا يستطيعون أن يبقوا على الحياد. فهناك ردّة فعل عندهم. عليهم أن يتخذّوا موقفاً. إنهم مدعوّون إلى عمل تمييز، إلى التعرّف إلى حضور الملكوت.

2- مثل الزارع (13: 3- 23)
نجد في مثل الزارع عناصر عديدة:

أولاً: المثل في ذاته (آ 3- 9)
يشدد النص على شخص: هو ذلك الذي يزرع. وعلى عمله: خرج ليزرع. وعلى حبوب تقع هنا وهناك، في كل مكان. كم من الحب زُرع بدون فائدة! ولكن رغم هذا الفشل الظاهر، فالقلّة التي تعطيها الحبوب الباقية هي كافية وتزيد.

ثانياً: لماذا يتكلّم يسوع بالامثال (آ 10- 17)
تشدّد هذه الايات على انقسام الناس إلى مجموعتين. الأولى: مجموعة التلاميذ الذين يرون، يسمعون، ويفهمون (لاحظ أهمية فعل فهم: آ 13، 14، 19، 23، 51). الثانية: الآخرون (هم، هؤلاء) ينظرون ولا يرون، يسمعون ولا يسمعون ولا يفهمون. أعطي للأولين أن يعرفوا أسرار ملكوت السماوات. أما الآخرون فلا.
لا نفهم هذه العبارة وكأن الله يعطي هؤلاء ويرفض العطاء لأولئك. هذه هي طريقة التوراة، وهي تدعونا لكي نحسب حساب مبادرة الله وحريّة الإنسان. حين يدعو الله الإنسان فالإنسان يستطيع بكل حرية أن يقوله: لا. ولكن حين يقول نعم، يفرح قلب الله.

ثالثاً: تفسير المثل (آ 18- 23)
لا يشدّد التفسير على ما شدّد عليه المثل، إنه يبرز ردّة فعل الناس الذين سمعوا الكلمة المزّروعة: فهموا أو لم يفهموا. ونرى تلميحات إلى حياة الجماعة: الضيق، الاضطهاد بسبب الكلمة، هموم العالم، سحر الغنى. كل هذا يشكّل حاجزاً يمنع الإنسان من الفهم، ويقيّده فلا يحمل الثمار.

رابعاً: ما هو الموضوع
الموضوع حسب آ 17 هو أن "كثيراً من الانبياء، كثيراً من الأبرار تمنّوا أن يروا". فالله سيزرع في الأيام الأخيرة بذار شعب جديد (هو 2: 23 – 25؛ إر 27:31). وعمل الله هذا بدأ يتحقّق في يسوع.
وإذ استعاد يسوع صورة الزرع أراد أن يعلن أنه يدشّن شيئاً جديداً لا يحمل ثماراً الآن، بل فيما بعد. الآن، الحبة صغيرة، ولكنها مدعوّة لتكبر وتصير شجرة (13: 31- 33).
إن المثل نفسه يعبّر عن ثقة يسوع برسالته. فرغم الخسارة الكبيرة في هذا المنعطف من حياته، وحيث يفترق عنه عدد من الناس، فالكلمة التي يعلنها تحمل ثماراً وثماراً وافرة.
وتفسير المثل هو تأوين جديد قامت به الجماعة. قرأت المثل لا الزمن الذي تعيش فيه. فأبرزت أهميّة الاستعدادات الاخلاقية عند كل مؤمن لكي تحمل الكلمة المعلنة ثماراً. كل واحد مدعو لكي يفهم أن ملكوت الله جاء، وأن علينا أن نستخلص نتائج هذا المجيء في كل حياتنا (44:13- 46: مضى فباع). علينا أن نختار اليوم. وهذا الخيار يُلزم المستقبل بانتظار ذاك اليوم الأخير الذي يقسم الناس إلى أشرار واخيار (13: 24- 30، 36 - 43، 47- 52).
كل هذا قيل في الامثال. لغة بسيطة وصور مأخوذة من الحياة اليومية. ولكن الأمثال صعبة أيضاً، لأن ما تكلّمنا عنه هو عمل بدأ يسوع يحقّقه. فلنتشبّه بالتلاميذ الذين سلّموا أمرهم إلى يسوع ليفهموا كيف أن تقبّل الملكوت الآتي أو رفضه يتمّ في واقع الحياة اليومي.

3- جماعة متى
عرفت الجماعات الأولى في حياتها أزمنة صعبة مثل الاضطهادات، وعرفت أيضاً أوقاتاً هادئة. فهذه الأزمنة "العادية" أتاحت للمؤمنين أن يتعمّقوا في إيمانهم. فمجيء الملكوت في يسوع القائم من الموت لم يقلب العالم كله رأساً على عقب. غير أن هناك شيئاً نهائياً قد ظهر. قد يكون صغيراً الآن، ولكنه مدعو لأن يكبر رغم كل فشل سيلاقيه. كيف نكتشفه؟ كيف نثبت، وماذا نعمل لئلا نكون مؤمنين "إلى حين" (13: 21)، لئلا نكون بلا جذور (13: 6)؟
هذا الوقت هو زمن فيه يتعمّق اللقاء مع يسوع القائم من الموت انطلاقاً من خيارات (ولا سيما حول الغنى والمال) تشهد أننا اخذنا بجد مجيء الملكوت. وفي أماكن أخرى، سيكون انجيل متى نداء للجماعة التي يمكن أن تتعرّض للفتور والكسل (43:5- 48؛ 20: 20- 28؛ 24: 45 -51).

ب- زمن الكنيسة (ف 14- 18)
بعد هذا الخيار الذي تمَّ مع يسوع أو ضد يسوع، بدأت مجموعة الرسل تبني نفسها وتثبّت موقفها.

1- يسوع يطعم خمسة آلاف (13:14- 33)
أولاً: فلما سمع يسوع.
بدأ متى هذا القسم كما فعل في 12:4: ولما سمع يسوع باعتقاله يوحنا، اعتزل ثم بدأ رسالته في الجليل. وهنا اعلان موت يوحنا، جعل يسوع يعتزل ثم يبدأ مرحلة جديدة في رسالته، حيث سيلعب التلاميذ دوراً هاماً. سنجد فيما بعد إشارة إلى هذه المرحلة الجديدة. كتب متى في 4: 17: "منذ ذلك الوقت بدأ". وفي 16: 21: "منذ ذلك الوقت بدأ يسوع المسيح يبينّ".

ثانياً: واعتزل يسوع
نقرأ العبارة أيضاً في 15: 21 و 16: 4. إن اعتزال يسوع هذا كان سببه الفطنة. فهو لا يركض وراء الموت، وإن كان عارفاً بالمصير الذي ينتظره. ولكن في مجمل هذه الفصول، تتّخذ تحركات يسوع شكلاً بارزاً، حين نلاحظ ردّة الفعل عند كل الذين يقتربون منه. ونحن نستطيع أن نقرأ هذه الفصول فنلاحظ المرات التي ترد الفاظ مثل: اقترب، نحو، بقرب، جاء... ونحس كأن يسوع يعتزل (يهرب) ليدفع التلاميذ إلى البحث عنه. فمن خلال كل التحركات الجغرافية المذكورة بتواتر، يشير متى إلى تحرّكات الايمان، إلى مسيرة الايمان. ويزاد على هذا تراجع يسوع عن الشعب اليهودي ساعة يضع أساسات الكنيسة (18:16).

ثالثاً: طعام للشعب (14: 15- 21)
تبدو أهمية هذا الخبر في تدوين الأناجيل بالذات. إنها الحالة الوحيدة التي فيها نجد أخباراً مختلفة لحدث واحد. يرويه متى أيضاً في 32:15- 39. ثم مر 30:6-44؛ 8: 1-10؛ لو 9، 10-17؛ يو 6: 1- 15.
حصل واقع مدهش أثارها الشعب حماساً مسيحانياً وأنمى ايمان التلاميذ. بدا يسوع كنبي الأزمنة الأخيرة الذي يستطيع أن يجمع الشعب في البرية ويطعمه كما فعل موسى في الماضي. وهذا ثابت في آ 22 حيث يوقف يسوع حماس التلاميذ عند حدّه (رج يو 15:6).
حين نقابل هذا الخبر مع ما في مرقس ولوقا، نلاحظ أن متى قريب من خبر تأسيس الافخارستيا (26: 26). ثم إنه يُبرز بشكل أكبر دور التلاميذ: فهم الذين يعطون الخبز للجمع. إتّخذ يسوع المبادرة، ولكنهم أخذوا مسؤوليتهم فتجاوبوا مع جوع الشعب.

رابعاً: يسوع وبطرس يمشيان على الماء (14: 22- 33)
في هذا الخبر، يلاحظ متى بصورة خاصة: واقع القارئ (صورة عن الكنيسة) الذي تلطمه المياه. سير بطرس على الماء: بدأ واثقاً وخائفاً، ثم انتهى باستغاثة أجاب عليها يسوع ليجنّب بطرس الغرق. وأخيراً فعل ايمان التلاميذ: سجدوا له وقالوا: "بالحقيقة انت ابن الله".
إذا أردنا أن نفهم هذا النصّ نتذكّر العقلية البيبلية التي تعتبر البحر مركز قوى الشرّ. ولهذا، فالله وحده يستطيع أن يسيطر على المياه (تك 1: 6 - 10). هو يلعب بوحوش البحر المخيفة (مز 25:104- 26). هو يمشي على البحر (أي 9: 8).
حين يقدّم متى يسوع ماشياً على المياه، فهو يدلّ على هويته بوضوح. إنه الرب الذي أطعم شعبه. والذي ينتزع الكنيسة الآن من العواصف التي تهدّدها. وهذه القدرة يمنحها يسوع لبطرس، ولكن بطرس يتقبّلها بقَدر إيمانه.
هنا تعيش الجماعة الجديدة أيضاً خبر خروج شعب إسرائيل: بعد أن تغذّى بالمن في البرية، عبر بدون ضرر مياه الاردن، ودخل إلى أرض الموعد بفضل تدخلّ الله (يش 3).

2- بطرس يعلن يسوع ابن الله (13:16- 20)
إن المسيح سيبني كنيسته على بطرس. فالكنيسة كلمة قديمة نجدها في التوراة وهي تدلّ على الجماعة الدينيّة. في اليونانية، يعني الفعل دعا، وهو يدلّ على أن تجمع البشر هو أولاً جواب على نداء الله. في العربية، كنيسة تدلّ على الجمع. هناك يجتمع المؤمنون.
سلّم يسوع بطرس سلطان السماح والمنع، الادخال والاخراج (18:18). ولكن بطرس لم يزل بعيداً في مسيرته ليدخل في مخطط الله. عليه أن يمشى وراء يسوع، أن ينكر ذاته ويحمل صليبه. وهذه المرحلة الجديدة في الإنجيل تنطبع، كما عند مرقس، بإنباءات الآلام الثلاثة (16: 21؛ 17: 22- 23؛ 17:20- 19).

3- كيف نعيش في كنيسة (ف 18)
يعطي هذا الفصل بعض عناصر من الجواب:
- نصير مثل الاطفال: فالطفل لا يستطيع أن يعمل شيئاً وحده. لاحقّ له يطالب به. ينتظر كل شيء من الآخرين.
- نحن مسؤولون بعضنا عن بعض. نعمل لكي لا يهلك أحد. نكون متطلّبين الواحد من الآخر. ولكن نتذكّر أنه إن كان الله غفر لنا، فعلينا أن نغفر بدورنا لبعضنا.
- نجتمع لنرفع صلاتنا إلى الآب مع يسوع المسيح الحاضر وسط المؤمنين.
كيف تبدو جماعة متى هنا؟
تحدثنا سابقاً عن العواصف التي مرّت فيها هذه الجماعة. وعبر هذه الفصول نكتشف وعيها بأنها ليست مجموعة من المجموعات، بل هي هذه الكنيسة التي أسّسها يسوع القائم من الموت. أسّسها على إيمان الشهود الأولين ولا سيما بطرس. وتتعمّق في هذا الوعي في لقائها مع الرب القائم من بين الأموات. هذا اللقاء يتمّ بصورة مميّزة في الاحتفال بالافخارستيا. كما يتمّ في شكل جديد من الحياة المشتركة: هنا كلّهم مسؤولون بعضهم عن بعض. ولكن لبعض منهم مسؤولية خاصة. والمؤمنون عبر محاولات التنظيم التي يقومون بها، يكتشفون أيضاً شيئاً من يسوع الذي لا ينفصل عن جماعة التلاميذ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM