وَصِيَّة ابراهِيم أبينا البَار وَأبي الآبَاء - وصيّة ابراهيم

وصيّة ابراهيم
أبينا البار وأبي الآباء
حين قاوم محنة الموت
ودلّ كيف يجب على كل انسان أن يموت.
بارك يا ملك الملوك.

وصيّة ابراهيم

نهاية غامضة للحياة
1 (1) أدرك ابراهيم قياس حياته وهو بعمر 990 سنة، بعد أن عاش حتى نهاية أيامه في السلام والوداعة والبرّ. وبرهن البار على ضيافة كاملة. (2) كان قد نصب خيمته على مفترق سنديانة ممرا، حيث يستقبل كل أحد: أغنياء وفقراء، ملوكاً ورؤساء، عرجاً وضعفاء، أصدقاء وغرباء، جيراناً ومسافرين. كان ابراهيم يقدّم للجميع ذات الاستقبال بتقوى، وبقداسة كبيرة، وحسن ضيافة. (3) ولكن إليه أيضاً جاءت الكأس المرة والمشتركة والتي لا بدّ منها، (كأس) الموت، والنهايةُ المظلمة للحياة. (4) فجاء الله السامي برئيس ملائكته ميخائيل وقال له: "يا ميخائيل، رئيس القوّاد، إنزل إلى ابراهيم خليلي، وكلّمه عن الموت لكي يرتّب أموره (5) فقد باركتُه (6) مثل نجوم السماء، وكالرمل الذي على شاطئ البحر. امتلك الكثير من المال والخير، وهو غنيّ جداً. ولكنه فوق كل شيء، برهن عن برّه وصلاحه، فأحبّ حتى النهاية ممارسة الضيافة، ومساعدة (القريب). (6) لهذا أنت، يا ميخائيل رئيس الملائكة، فأذهب إلى ابراهيم خليلي وحبيبي، وذكّره بالموت، وأكِّد له أن (7) قد جاء الزمن الذي فيه يجب أن يترك هذا العالم الباطل، الذي فيه يجب أن يترك جسده ليذهب إلى مَلكه الخاص وسط الابرار".

مرسل الملك العظيم إلى ابراهيم
2 (1) ابتعد رئيس القوّاد من أمام الرب الاله، ونزل لدى ابراهيم عند سنديانة ممرا. فوجده في الحقل جالساً قرب زوج بقر للفلاحة مع بني ماشك وعبيد آخرين عددهم اثنا عشر. فذهب رئيس الملائكة إليه. (2) حين رأى ابراهيم القديس ميخائيل رئيس القوّاد آتياً من بعيد كجندي ذات قامة نبيلة، قام وذهب إلى لقائه، حسب عادته بأن يذهب إلى أمام الغرباء ويستقبلهم. (3) حيّى رئيسُ القوّاد ابراهيم البار بهذه الكلمات: "سلام أيها الاب الوقور، يا نفساً بارة وخليلاً حقيقياً لإله السماء"! (4) فقال ابراهيم لرئيس القوّاد: "سلام أيها الجندي الكريم، المشعّ كالشمس، صاحب قامة أنبل من كل ابناء البشر! أهلاً وسهلاً (5) أتوسّل إلى حضرتك. ما هو سرّ شبابك؟ أعلمني أنا المتوسّل إليك: من أين أتيت؟ من أي جيش؟ في أي طريق؟ إشرح لي سرّ جمالك". (6) فأجابه رئيس الملائكة: "يا رجلاً باراً! أنا أتيت من المدينة العظيمة. أرسلني الملك العظيم لأهتمّ بتركة صديقه الحقيقيّ، لأن الملك يدعوه هو أيضاً إليه". (7) فقال له ابراهيم: "تعال يا سيّدي ورافقني إلى الحقل". فأجابه رئيس القوّاد: "أنا آت". (8) ومضيا إلى حقل الفلاحة وجلسا يتحادثان. (9) فطلب ابراهيم من خدمه بني ماشك: "إذهبوا إلى قطيع الخيل وجيئوا بحيوانين وديعين وسهلين ومروَّضين لنركبهما، أنا وهذا الغريب". (10) ولكن رئيس القوّاد قال: "لا يا سيدي ابراهيم. لا يجيئوا بالخيل، لأني لا أركب حيواناً بأربع قوائم (11) هذا لا يعني أن مَلكي ليس له وفر الغنى وهو الذي له سلطان على البشر، وعلى الحيوان من كل نوع. أما أنا فأحذر من ركوب حيوان بأربع قوائم. (12) تعال، يا نفساً بارة، نمشي بنشوة إلى بيتك". فأجاب ابراهيم: "آمين. هكذا يكون يا سيّد".

دموعه حجارة كريمة
3 (1) فابتعدا من الحقل إلى البيت. (2) على جانب الطريق انتصبت شجرة سرو. (3) وبأمر من الله أخذت الشجرة تتكلّم بصوت بشريّ: "قدّوس، قدّوس، قدّوس هو الرب الذي دعا هذا الرجل بين محبّيه". (4) احتفظ ابراهيم، بالسرّ مخفياً، ظاناً أن رئيس القوّاد لم يسمع صوت الشجرة. (5) ولما وصلا إلى البيت، جلسا في الدار. فلما رأى اسحاق وجه الملاك قال لسارة أمّه: "يا أمي الوقورة، هذا الرجل الجالس مع أبي ليس ابناً من النسل الساكن على الأرض"! (6) وأسرع اسحاق وحيّى اللاجسدي مرتمياً عند قدميه. فباركه رئيس القوّاد قائلاً: "الرب الاله يمنحك نعمة تنفيذ الوعد الذي صنعه لابيك ابراهيم، ويمنحك نعمة أن يستجيب الصلاة النبيلة التي رفعها أبوك وأمك". (7) وقال ابراهيم لابنه: "يا اسحاق ابني، إذهب إلى البئر وجئني إلى هنا بوعاء ماء لنغسل رجلَي هذا الغريب، لأنه تعب من الطريق الطويل الذي قطعه ليصل إلينا". (8) فاسرع اسحاق. إلى البئر، وملأ الوعاء ماء، وجاء به إليه. (9) فاقترب ابراهيم من رئيس القوّات ميخائيل، وغسل له رجليه. ولكنه تأثّر في قلبه، وذرف دموعاً على الغريب. (10) فلما رأى اسحاق أباه يبكي، أخذ يبكي هو أيضاً. ولما رآهما قائد القوات يبكيان أخذ هو أيضاً يذرف الدموع، (11) ولكن دموع رئيس الملائكة سقطت في الوعاء وتحوّلت إلى حجارة كريمة. (12) فاندهش ابراهيم حين رأى ما حصل. فأخذ الحجارة خلسة، وأخفى السرّ عن الجميع حافظاً إياه لنفسه وحده في قلبه.

4 (1) وقال ابراهيم لابنه اسحاق: "يا ابني الحبيب، إذهب إلى المائدة، وزيّنها، وضع فيها سريرين. واحداً لهذا الرجل الذي هو ضيفنا اليوم، وواحداً لي. (2) هيّئ لنا هناك كرسياً ومصباحاً وطاولة مملوءة بكل الخيرات. جمّل القاعة يا ابني، ومدّ النسيج الناعم من الارجوان والكتان. أحرق كل أنواع العطور الكريمة، واملأ البيت بنبات عطر تأتي به من الحديقة. (3) علّق سبعة مصابيح بزيت لكي نفرح، لأن هذا الرجل الذي هو ضيفنا اليوم هو أمجد من الملوك والرؤساء، وهو يتفوّق بمنظره على جميع بني البشر". (4) فهيّأ اسحاق كل هذا تهيئة رائعة. فدعا ابراهيم ميخائيل ومضى إلى المائدة. واستلقيا كلاهما على السريرين: وكان بينهما طاولة مملوءة بوفرة من كل الخيرات. (5) فقام رئيس الملائكة إلى الخارج وكأنه يلبّي حاجة طبيعية. وفي لحظة، صعد إلى السماء ووقف أمام الله. (6) قال للملك السامي: "يا رب، يا رب، لتعرف قدرتك أنني لا أقدر أن أذكّر هذا الانسان بالموت". (7) فأجابه الرب: "يا ميخائيل رئيس الملائكة، اذهب إلى ابراهيم خليلي. إن سألك شيئاً فافعله له. إن أكل فكل معه أنت أيضاً. (8) أما أنا بروحي القدوس فاهتمّ بابنه اسحاق. سأرسل فكرة الموت في قلب اسحاق ليرى في حلم موت أبيه. يورد اسحاق الرؤية وانت تشرحها، فيعلم هو (= ابراهيم) أن نهايته أتت". (9) فقال رئيس الملائكة: "يا رب، كل الارواح السماوية هي لاجسدية. لا يأكلون ولا يشربون. وهذا الرجل هيّأ مائدة وافرة مليئة بكل الأطعمة الأرضيّة والفاسدة: ماذا سأفعل في هذه الظروف يا رب؟ كيف أنساه ساعة أكون متّكئاً معه على ذات الطاولة وسط كل هذه الطيّبات"؟ (10) فقال الربّ: "انزل إليه ولا تهتمّ بهذا. فحين تكون متكئاً معه، أرسل أنا روحاً آكلاً فيزيل بيديك وفمك كل ما يكون على المائدة. إفرح انت أيضاً معه. (11) فلا يبقى عليك إلاّ أن تشرح عناصر الرؤية لكي يعرف ابراهيم منجل الموت والنهاية المظلمة للحياة ويتخذ اجراءاته في ما يتعلّق بكل أموره. لأني باركته مثل نجوم السماء ومثل الرمل الذي على شاطئ البحر".

ملاك يتكلم
5 (1) فنزل ميخائيل رئيس الملائكة إلى بيت ابراهيم، واتّكأ إلى المائدة. فخدمهما اسحاق. (2) وعند انتهاء الطعام، صلّى ابراهيم كالعادة، وصلّى ميخائيل معه. ثم رقد كل واحد في سريره. (3) ولكن اسحاق طلب من أبيه: "أريد أنا أيضاً أن أرقد معكما في هذه القاعة، لأني أحب أن اسمع كلمات هذا الرجل بما فيها من رفعة". (4) فأجابه ابراهيم: "لا يا اسحاق ابني. إذهب واسترح في غرفتك لئلا نزعج هذا الرجل" (5) فذهب اسحاق إلى غرفته بعد أن شاركهما صلاتهما ورقد على فراشه. (6) ولكن الله ارسل ذكر الموت إلى اسحاق كما في حلم، في الساعة الثالثة من الليل. (7) فاستيقط اسحاق ونهض من فراشه وأسرع إلى القاعة التي يرقد فيها أبوه مع رئيس الملائكة. (8) فكما وصل اسحاق إلى الباب نادى: "ابي، أبي، إنهض وافتح لي سريعاً! أريد أن أدخل واتعلّق بعنقك وأقبّلك قبل أن تخطف بعيداً عني". (9) فنهض ابراهيم وفتح. فدخل اسحاق وتعلّق بعنقه واخذ يبكي ويشهق. (10) فتأثّر ابراهيم في العمق، وبكى بدوره وشهق. فلما رأى ذلك رئيس القوّاد بكى هو أيضاً. (11) وكانت سارة في خيمتها. فلما سمعت بكاءهما، جاءت مسرعة فوجدتهما متعانقين يبكيان. (12) فسألت وهي باكية: "سيدي ابراهيم، لماذا تبكيان؟ إشرح لي. (13) سيّدي، أيكون هذا الأخ الذي استضفناه قد حمل إليك خبراً عن ابن أخيك لوط الذي يقيم في سدوم، خبر موته؟ ألهذا تبكيان هكذا"؟ (14) فبادر رئيس القوّاد وأجابها: "يا سارة اختي، ليس الموضوع ما تقولين، بل حلم ابنُك اسحاق، على ما يبدو فجاء إلى أبيه وهو يبكي. فتأثّرنا تأثّراً عميقاً لرؤيتهما وأخذنا نبكي".

6 (1) حين سمعت سارة كلمات رئيس القوّاد وما فيها من رفعة، عرفت حالاً أنه ملاك الرب يتكلّم. (2) فأشارت إلى ابراهيم ليخرج إلى الباب وقالت له: "سيدي ابراهيم، أما عرفت من هو هذا الرجل"؟ (3) أجاب ابرهيم: "كلا". (4) فقالت سارة: "سيدي، هل تذكر الرجال الثلاثة الذين كانوا ضيوفنا قرب سنديانة ممرا؟ ذبحنا العجل الذي قدمته أنت على المائدة. (5) ولكن حين أكل اللحم، ظهر العجل من جديد ورضع أمّه وهو يعجّ بالحياة. أما تذكر، سيّدي ابراهيم، أنه أعطي لنا اسحاق ثمرةُ الحشا بعد وعد منهم؟ هذا هو أحد الرجال الثلاثة". (6) فقال ابراهيم: "يا سارة، ما تقولينه صحيح! المجد والسلام من قبل الله الآب! أما أنا، فحين غسلت رجليه في آخر المساء، في وعاء الاغتسال، قلتُ في نفسي: هما قَدَما أحد الرجال الثلاثة اللتان غسلتهما في الماضي. (7) فدموعه التي سقطت هذا المساء في الوعاء صارت حجارة كريمة". وأخرجها (= الحجارة) من طيّ ثوبه وأعطاها لسارة قائلاً: "إن كنت لا تصدّقيني فانظريها". (8) فأخذتها سارة وسجدت وقبّلتها، وقالت: "المجد لله الذي أرانا معجزات! فاعلم الآن يا سيّدي ابراهيم أنه سيُكشف لنا حدث سعيد أم تعيس".

حلم اسحاق
7 (1) ترك ابراهيم سارة، ثم دخل إلى القاعة وقال لاسحاق: "تعال، يا ابني الحبيب، واروِ لي الحقيقة. ماذا رأيت، وما الذي حصل لك لكي تدخل إلينا بعجلة وتبكي هكذا يائساً"؟ (2) فشرع اسحاق يروي خبره فقال: "يا سيّدي، رأيتُ في هذه الليلة الشمس مع القمر فوق رأسي. كانت تحيط بي وتنيرني بأشعّتها. (3) نظرتُ وتساءلت عن هذه الرؤية، فرأيت أيضاً السماء تنفتح وينزل منها انسان مضيء يشعّ أكثر من سبع شموس. (4) فاقترب هذا الرجل الشبيه بالشمس، فأخذ الشمس عن رأسي وصعد إلى السماء من حيث خرج. فحزنتُ حزناً عميقاً حين رأيت أنه قد أخذ الشمس. (5) وبعد وقت رأيت، وأنا قلق وحزين، هذا الانسان المضيء يخرج مرّة ثانية من السماء. وأخذ أيضاً القمر عن رأسي. (6) فبكيت كثيراً ودعوت هذا الرجل قائلاً: "لا، يا سيدي، لا تأخذ مجدي. إرحمني واسمع لي. إن أخذت الشمس فاترك لي أقلّه القمر". (7) فأجابني: "اتركهما يذهبان الآن إلى ملكوت العلاء لأنه يريدهما هناك. وأخذهما مني. ولكنه ترك أشعّتهما بقربي". (8) فقال رئيس القوّاد: "إسمع أيها البار ابراهيم. الشمس التي رآها ابنك هي انت أبوه. والقمر هو أمه سارة. أما الرجل المضيء الذي نزل من السماء فهو رسول الله الذي سيأخذ نفسك البارّة. (9) فالآن، يا ابراهيم الوقور، إعلم أن الزمن جاء، وفيه تترك الحياة في هذا العالم وتنطلق إلى الله. (10) فقال ابراهيم لرئيس القوّاد: "يا لمعجزة أعظم من جميع المعجزات! اذن أنت الآن ستأخذ نفسي"؟! (11) فأجاب رئيس القوّاد: "أنا ميخائيل، رئيس القواد، الذي يقف أمام الله. أرسلتُ إليك لأذكّرك بالموت، ثم أعود إليه كما أمرني". (12) أما ابراهيم (فقال): "الآن أنا أيضاً علمت أنك ملاك الرب، وأنك أرسلت لتأخذ نفسي. ولكني لن أتبعك. فأفعل الآن ما أمرت به".

منجل الموت
8 (1) بعد أن سمع رئيس القوّاد هذا الكلام، صار في الحال لامنظوراً. صعد إلى السماء، ووقف أمام الله، ونقل إليه كل ما رآه في بيت ابراهيم. (2) وقال رئيس القواد أيضاً للملك السامي: "قال ابراهيم خليلك أيضاً: "لن اتبعك فافعل ما أمرت به". (3) فالآن أيها الملك القدير، ليأمر مجدك وملكك الخالد". (4) فأجاب الله ميخائيل: "إذهب أيضاً إلى ابراهيم خليلي وقل له هذا: (5) "هذا ما تكلّم به الرب الاله. ما هذا؟ هل تركتك على الأرض؟ أنا إلهك الذي قادك إلى أرض الموعد، الذي باركك أكثر من رمل البحر، ومثل كواكب السماء، (6) الذي خلّص حشا سارة من عقمه، ومنحك في الشيخوخة نعمة ثمرة الحشا، ابنك اسحاق. (7) آمين. أعلن لك أني أغمرك بالبركات، وأكثر نسلك جداً وامنحك ما تطلب مني. فأنا الرب إلهك ولا إله سواي. (8) أما أنت فلماذا قاومتني، ولماذا أنت حزين؟ قل لي. ولماذا قاومت ملاكي؟ (9) أما تعلم أن جميع الذين وُلدوا من آدم وحواء قد ماتوا؟ فالملوك أنفسهم لسوا خالدين، وما أفلت أحد من آبائك من وديعة الموت. كلهم ماتوا. كلهم أحدروا إلى الجحيم. كلهم جمَعتهم منجلُ الموت. (10) ومع ذلك، ما أرسلت إليك الموت. وما سمحت له أن يأتي حاملاً الموت. وما قبلت أن تأتي منجل الموت للقائك. وما تركت شباك الجحيم تحيط بك. ما أردت أن تذهب إلى أمام الشرّ مهما كان. (11) ولكني أرسلت رئيس قوّادي ميخائيل لنداء الابرار، فتعرف أن عليك أن تترك العالم، أن تأخذ استعداداتك في ما يخصّ بيتك وكل ما تملك، وأن تبارك اسحاق حبيبك. فاعلم الآن أني فعلت ذلك لأني ما أردت أن أحزنك. (12) فلماذا قلت لرئيس قوّادي: "لن أتبعك"؟ لماذا تكلّمت هكذا؟ أما تعرف أني إذا سمحت للموت أن يأتي إليك، استطع أن أرى إن كنت تأتي أم لا".

غمام النور
9 (1) بعد أن سمع رئيس القوّاد تحريضات العليّ، نزل إلى ابراهيم. وحين رآه البار، سقط بوجهه على الأرض كالميت. (2) فقال له رئيس القوّاد كل ما سمعه لدى العليّ. فانتصب ابراهيم القديس البار باكياً، ثم سجد لدى قدمي اللاجسدي، وتوسّل إليه قائلاً: (3) "ارجوك يا رئيس قوّات العلي، بما أنك اعتبرتني أهلاً لأن تأتي إليّ كل يوم، أنا المتوسّل إليك الخاطئ وغير المستحق، فأتوسّل إليك بأن تؤدّي لي خدمة أخرى لدى العليّ. تقول له: (4) "هذا ما يقول ابراهيم: يا ربّ، يا ربّ، ما طلبتُه منك بالقول والفعل عملتَه. عطاياك غمرتْ قلبي. كلَّ رغباتي استجبتَها. (5) فالآن يا رب أنا لا أقاوم قدرتك لأني أعرف أنا أيضاً أني لست بخالد، بل مائت. فبما أن الجميع يخضع لأمرك، يرتعش ويرتجف أمام قدرتك، فأنا أيضاً أخاف. ولكن لي طلبة واحدة أطلبها. (6) فالآن أيها الرب السيّد، إسمع صلاتي: ما زلت في هذا الجسد أريد أن أرى المسكونة كلها، والخليقة كلها التي نظمتها كلمتُك وحدها، أيها السيّد! وبعد أن أرى هذا، إن وجب عليّ أن أترك الحياة فلا أكون حزيناً". (7) فانطلق رئيس القوّاد مرّة أخرى ووقف أمام الله الخفي، ونقل إليه كل هذا الكلام. "هذا ما يقول ابراهيم خليلك: "أريد أن أشاهد المسكونة كلها خلال حياتي، قبل أن أموت". (8) فلما سمع العليّ هذا، أمر ميخائيل رئيس القوّاد: "خذ غمامة من نور مع الملائكة الذين يقودون المركبات، واحمل ابراهيم البار على مركبة الكروبيم وأصعده إلى أثير السماء ليرى المسكونة كلها".

رؤية الأرض من فوق
10 (1) فنزل ميخائيل رئيس الملائكة، وحمل ابراهيم على مركبة الكروبيم، وأصعده إلى أثير السماء، وقاده على الغمام مع ستين ملاكاً. جال ابراهيم في المركبة على المسكونة كلها. (2) فرأى الكون كما كان في ذلك اليوم: رأى بعضاً يفلحون، وآخرين يقودون العجلات. في موضع آخر، كان أناس يحرسون القطعان. وأقام غيرهم في الحقول يرقصون ويلهون ويعزفون بالقيثارة. في موضع آخر أيضاً، كان أناس يتقاتلون ويدينون. وفي مكان آخر أناس يبكون ثم يقودون الموتى إلى القبور. (3) ورأى أيضاً زوجين جديدين يسيران في موكب. رأى كلَّ ما في الكون، ما هو صالح وما هو شرير. (4) وتابع ابراهيم (طريقه)، فرأى رجالاً مسلّحين بالخناجر يمسكون بيدهم سلاحهم القاطع. فسأل رئيس القوّاد: "من هم هؤلاء الناس"؟ (5) فأجابه رئيس القوّاد: "هم سرّاق يريدون أن يقترفوا جريمة، أن يسرقوا، يقتلوا، يدمّروا". (6) فقال ابراهيم: "اسمع يا رب صوتي، ومُرْ أن تخرج وحوش من الغابة وتفترسهم"! (7) فلما قال هذا الكلام، خرجت وحوش وافترستهم. (8) وفي موضع آخر رأى رجلاً وامرأة يزنيان. (9) فقال ابراهيم: "مر يا ربّ أن تنفتح الأرض وتبتلعهما". وفي الحال انفتحت الأرض وابتلعتهما. (10) وفي موضع آخر، رأى رجالاً يحدثون ثلمة في البيوت ويسرقون خيرات الغير. (11) فقال ابراهيم أيضاً: "مر يا رب أن تنزل نار من السماء وتلتهمهم". ولما قال هذا الكلام، نزلت نار من السماء والتهمتهم. (12) وفي الحال جاء صوت من السماء، فقال لرئيس القوّاد: "يا ميخائيل رئيس القوّاد، أوقف المركبة لئلاّ يرى ابراهيم كل المسكونة. (13) فإن رأى جميع العائشين في الخطيئة، دمّر كل خليقتي. فبما أن ابراهيم ما خطئ، فهو لا يُشفق على الخطأة، (14) أما أنا فخلقت الكون ولا أريد أن يهلك واحد منهم. بل أؤخّر موت الخطأة إلى أن يتوبوا ويحيوا. (15) قُد ابراهيم إلى أول باب في السماء لكي يرى الدينونة والمجازاة، ويندم بسبب نفوس الخطأة التي أهلكها".

أول باب في السماء
11 (1) فحوّل ميخائيل المركبة وقاد ابراهيم إلى المشرق، إلى أول باب في السماء. (2) هناك رأى ابراهيم طريقين، واحداً ضيقاً محصوراً، والآخر رحباً واسعاً. (3) ورأى في هذا الموضع بابين، باباً واسعاً في طريق واسع، وباباً ضيقاً في طريق ضيّق. (4) وخارج البابين اللذين هناك، رأيا رجلاً جالساً على عرش مطعّم بالذهب. كان منظرُ هذا الرجل مرعباً على صورة السيّد الربّ. (5) ورأيا عدداً كبيراً من النفوس يدفعها الملائكة أمامهم ويعبِّرونها في الباب الواسع. ورأيا نفوساً أخرى قليلة يعبّرها الملائكة في الباب الضيّق. (6) فما إن يرى الرجل اللاعاديّ الذي كان جالساً على العرش الذهبيّ، العدد القليل من النفوس التي تمرّ في الباب الضيّق، ساعة تمرّ في الباب الواسع نفوس عديدة، فما إن يراها هذا الرجل القديس واللاعادي حتى ينتف شعر رأسه ولحيته، وينطرح على عرشه إلى الأرض باكياً منتحباً. (7) ولكن عندما يرى نفوساً عديدة تمرّ في الباب الضيّق، كان ينهض عن الأرض ويجلس على العرش ويفرح مبتهجاً. (8) فسأل ابراهيم رئيس القوّاد: "سيّدي، رئيس القواد، من هو هذا الرجل الذي أدهشني جداً، وهو مزيَّن بكل هذا المجد؟ تارة يبكي وينتحب، وطوراً يفرح مبتهجاً". (9) فأجابه رئيس القوّاد: "هو آدم المكوَّن الأول يجلس هناك في مجده وينظر إلى الكون، لأنهم كلّهم خرجوا منه. (10) فحين يرى نفوساً عديدة تعبر الباب الضيّق، ينهض (عن الأرض) ويجلس على عرشه فرحاً مبتهجاً، لأن هذا الباب الضيّق هو باب الأبرار الذي يقود إلى الحياة. والذين يعبرونه يذهبون إلى الفردوس. لهذا يفرح آدم، المكوَّن الأول، لأنه يرى النفوس المخلَّصة. (11) ولكن عندما يرى نفوساً عديدة تعبر الباب الواسع، ينتف شعر رأسه ولحيته ويرتمي إلى الأرض باكياً منتحباً بمرارة، لأن الباب الواسع هو باب الخطأة، الذي يقود إلى الهلاك والعقاب الأبديّ. لهذا ينهض آدم، المكوَّن الاول، عن عرشه، فيبكي وينتحب لهلاك الخطأة. فالذين يهلكون عديدون، والذين يخلصون قليلون. (12) فعلى سبعة آلاف نفس، قد لا نجد نفساً واحدة تخلص لأنها بلا عيب".

النار والميزان
12 (1) وإذ كان يكلّمنا أيضاً، ظهر ملاكان في مظهر مشتعل وعواطف لا شفقة فيها ونظر لا رحمة فيه. كانا يقودان ربوات النفوس، يضربانها بلا شفقة بأسواط من نار. (2) فأخذ الملاك نفساً في يده. ثم قاد (النفوس) كلها بالباب الواسع، إلى الهلاك. (3) تبعنا الملاكين، نحن أيضاً، وولجنا الداخل عبر الباب الواسع. (4) كان بين البابين عرش مرعب في شكل بلّور يتّقد كالنار. (5) وعلى هذا العرش جلس رجل مدهش، مشعّ كالشمس، يشبه ابن إله. (6) أمامه طاولة، كلها من ذهب، تشبه البلّور. (7) وعلى الطاولة كتاب سماكته ثلاث أذرع وعرضه ستّ. (8) عن يمين هذا (الكتاب) ويساره، وقف ملاكان يحملان درْجاً وحبراً وقصبة. (9) وجلس ملاك منير أمام الطاولة وأمسك بيده ميزانا. (10) وجلس عن يساره ملاك من نار لا شفقة لديه ولا رحمة، وكان في يده بوق تخرج منه نار ملتهمة لامتحان الخاطئين. (11) فدان الرجلُ اللاعادي والجالس على العرش، النفوسَ وأعلن الحكم. (12) وكتب الملاكان اللذان كانا عن اليمين وعن اليسار. فالذي عن اليمين دوّن أعمال الابرار. والذي عن اليسار الخطايا. (13) وتجاه الطاولة، وقف حامل الميزان يزن النفوس. (14) وكان الملاك المتقد الذي يمسك النار يضع نفوس البشر في محنة النار. (15) فسأل ابراهيم رئيس القوّاد: "ما هذا المشهد الذي نراه"؟ فأجاب رئيس القوّاد: "ما تراه، يا ابراهيم القدّيس، هو الدينونة والمجازاة". (16) وإذا الملاك الذي حمل النفس بيده قد وضعها أمام الديّان. (17) فقال الديّان لأحد الملائكة الذين يعاونونه: "إفتح لي هذا الكتاب، وابحث لي عن خطايا هذه النفس". (18) ففتح الكتاب، فوجد أن خطاياها ومبراتها تتساوى. فلم يسلّمها إلى الجلاّدين، ولم يجعلها مع الخالصين، بل جعلها في الوسط.

13 (1) فقال ابراهيم: "سيدي، رئيس القوّاد، من هو هذا الديّان المدهش للغاية؟ ومن هما الملاكان اللذان يكتبان؟ ومن هو الملاك الذي بشكل الشمس ويمسك الميزان؟ ومن هو الملاك المتّقد الذي يمتحن (النفوس) بالنار"؟ (2) فأجاب رئيس القوّاد: "يا ابراهيم القديس جداً والبار، هل ترى هذا الرجل المرعب والجالس على العرش؟ هو ابن المكوّن الاول. اسمه هابيل الذي قتله قايين الشرّير. (3) يجلس هنا ليدين الخليقة كلها، ويتّهم الأبرار والخطأة. لأن الله قال: "أنا لا أدين العالم. بل كل انسان يُدان بواسطة انسان". (4) لهذا سلّمه الدينونة ليدين العالم حتى مجيئه العظيم والمجيد. عندئذ، يا ابراهيم البار جداً، تكون دينونة أخيرة وجزاء أبدي لا يتبدّل بحيث لا يستطيع أحد أن يستأنف (الحكم): (5) كل انسان خرج من المكوّن الأول، يدينه مثلُ هذا الانسان. (6) وفي المجيء الثاني، تُدان كل نسمة حياة، كل خليقة، بفم قبائل اسرائيل الاثنتي عشرة. (7) ولكن في المرة الثالثة، سيدين الله، سيّدُ الجميع، كلَّ انسان. عندئذ تكون نهاية هذه الدينونة قريبة، والحكم هائلاً ولا أحد يلغيه. (8) إذن تتمّ دينونة العالم والمجازاة في ثلاث محاكم. لهذا فالآن أيضاً لا تثبت قضيّة إلاّ بحضور شاهد أو شاهدين. ولكن كل قضيّة تُسمع بحضور ثلاثة شهود. (9) فالملاكان اللذان يأتيان عن اليمين واليسار، يسجلان الخطايا والمبرّات. ملاك اليمين يسجل المبرّات، وملاك اليسار الخطايا. (10) أما الملاك الذي يشبه الشمس ويمسك الميزان في يده، فهو رئيس الملائكة دوقيئيل، الوازن العادل: يزين الخطايا والمبرّات بعدالة الله. (11) والملاك الذي من نار ولا يرحم، الذي يمسك النار بيده، فهو فورئيل، الملك الذي يسود على النور: هو يمتحن بالنار أعمال البشر. (12) إن أحرقت النارُ أعمال انسان، أمسكه ملاك الدينونة حالاً وحمله إلى حيث الخطأة، إلى كأس مرارة عظيمة. (13) ولكن إن امتحنت النار أعمال انسان وما التهمتها، أُعلن باراً. فيأخذه ملاك البرّ ويحمله إلى الخلاص، إلى حظّ الأبرار. وهكذا، يا ابراهيم البار، تُمتحن كل أعمال جميع البشر بالنار والميزان".

التشفّع
14 (1) ثم سأل ابراهيم الملاك: "سيدي، رئيس القوّاد، هذه النفس التي أمسكها الملاك بيده، لماذا حُكم عليها أن تبقى في الوسط"؟ (2) فأجاب رئيس القوّاد: "إسمع أيها البار ابراهيم. فالديّان وجد أن خطاياها ومبرّاتها تتساوى، فلم يسلّمها إلى العقاب ولا إلى الخلاص إلى أن يأتي الله ويدين الكل". (3) فقال ابراهيم: "وماذا ينقص بعد هذه النفس لتخلص"؟ (4) أجاب اللاجسدي: "لو حازت مبرّةً (عملاً باراً) واحدة فوق خطاياها لذهبت إلى الحياة". (5) فقال ابراهيم لرئيس القوّاد: "تعال يا ميخائيل، رئيس القوّاد، لنصلّي من أجل هذه النفس ونرى إن كان الله يستجيب لنا". فقال رئيس القوّاد: "آمين. ليكن هذا". (6) ورفعا طلبة وصلاة إلى الله من أجل النفس. فاستجابهما الله. وحين نهضا بعد الصلاة ورأيا أنّ النفس لم تعد في ذلك الموضع، (7) سأل ابراهيم الملاك: "أين هي النفس"؟ (8) فأجابه رئيس القوّاد: "خلُصت بفضل صلاتك البارة. أخذها ملاك النور واقتادها إلى الفردوس". (9) فقال ابراهيم: "المجد لاسم الله العلي ورحمته التي لا تقاس"! (10) (وقال) لرئيس القوّاد: "أرجوك يا رئيس الملائكة أن تسمع طلبتي: لندعُ الرب أيضاً، ولنتوسّل إلى مراحمه. (11) لنسأل رأفته من أجل نفوس الخطأة الذين سبّبت لهم أنا الهلاك خطأ: أولئك الذين ابتلعتهم الأرض، أولئك الذين مزّقتهم الوحوش، أولئك الذين أحرقتهم النار بسبب كلامي. (12) أعرف الآن أني أخطأت أمام الله. فتعال يا ميخائيل، رئيس قوّاد القوّات العلويّة. تعال نتوسّل إلى الله بحرارة ودموع غزيرة لكي يعفو عن خطيئتي ويغفر لهم". (13) فسمع له رئيس القوّاد حالاً، ورفعا الصلاة إلى الله. وبعد دعاء طويل، جاء صوت من السماء (14) قائلاً: "ابراهيم، ابراهيم، سمع الربُّ طلبتك، وغُفرت خطيئتك. أما الذين تظن أنك في الماضي سبّبت هلاكهم، فأنا في حناني الكبير دعوتهم وقدتهم إلى الحياة الابديّة. (15) أنت ضربتهم بحكم زمني. أما أنا، فالذين أدينهم خلال حياتهم على الأرض، لا أعود أتّهمهم في الموت".

العودة إلى بيت ابراهيم
15 (1) وقال صوت الربّ أيضاً لرئيس القوّاد: "ميخائيل ميخائيل خادمي، أرجع ابراهيم إلى بيته. فقد اقتربت نهايته، وتمّ قياس حياته بمداها الكبير. فليأخذ استعداداته حول بيته ويصنع كل ما يريد. ثم احمله انت وجئ به إليّ". (2) فحوّل رئيس القوّات الغمامة، واقتاد ابراهيم القديس جداً إلى بيته. (3) فلما وصلا، جلس ابراهيم على سريره في غرفته. (4) فجاءت سارة امرأته وقبّلت رجلَي اللاجسدي، وتوسّلت إليه قائلة: "شكراً لك يا سيدي، لأنك أعدت ابراهيم زوجي. ظننا أنه أُخذ منّا". (5) وجاء اسحاق ابنه فعانق أباه في رقبته، وأحاط بابراهيم جميع الخدّام والخادمات وقبّلوه ممجّدين الله القدوس. (6) وقال له اللاجسدي: "اسمع يا ابراهيم البار جداً. ها خدّامك وخادماتك حولك. (7) خذ استعداداتك حول كل ما تريد، لأنه قد اقترب اليوم الذي فيه تترك جسدك لتذهب مرّة أخرى إلى الربّ". (8) فسأل ابراهيم: "هل الربّ قال هذا أم تقوله أنت من عندك"؟ (9) فأجاب رئيس القوّاد: "أنا أقول لك ما أمر به السيّد السامي". (10) ولكن ابراهيم أعلن: "لن أتبعك". (11) عند هذا الكلام، ترك رئيس القوّاد حالاً ابراهيم وصعد إلى السماء ووقف أمام الله العلي (12) وقال: "أيها الرب القدير، سمعتُ كل ما قاله لك ابراهيم خليلك. ولبّيتُ كل طلباته، وأريته مملكتك؟ كل الأرض التي تحت السماء، والبحر، والدينونة والمجازاة، أريته إياها مع الغمام والمركبات. وها هو يقول أيضاً: "لا أتبعك". (13) فسأل العليّ رئيس القوّاد: "أحقاً أعلن ابراهيم خليلي قائلاً: "لا اتبعك"؟ (14) فأجاب رئيس القوّاد أمام الرب إلهنا: "هكذا تكلّم ابراهيم خليلك. أما أنا فأحذر من أن آخذه. هو خليلك منذ البدء وعمل كلَّ ما يرضيك (15) فليس من انسان يشبهه على الأرض حتى يعقوب، ذاك الانسان المدهش. لهذا أحذر من أن آخذه. قرّر، أيها الملك الخالد، ما سيحصل".

الاسم المرّ والقاسي
16 (1) فقال العليّ: "جيئوا إليَّ هنا بالموت الذي يُسمّى "الوجه الوقح والنظر الذي لا يشفق". (2) فذهب ميخائيل يقول للموت: "تعال، فسيّد الخليقة والملك الابدي يدعوك"! (3) عند هذا الكلام، اقشعرّ الموت وارتجف، وكان فريسة قلق عميق، ومضى مرتعداً إلى الاله الخفيّ. وانتظر أمرَ السيّد مرتعشاً باكياً مرتجفاً. (4) فقال الاله الخفيّ للموت: "تعال أيها الاسم المرّ والقاسي على العالم. خبِّئ قساوتك وكل صورة لها. وتخلّص من كل مرارتك. وارتدِ جمالك وكل مجدك. (5) إنزل إلى ابراهيم خليلي، خذه وقدْه إليّ. ولكن أطلب منك الآن أن لا تُرعب نفسه. خذه، ولكن بوداعة لأنه صديق صدوق". (6) عند هذا الكلام، ابتعد الموت من أمام العليّ وارتدى لباساً لماعاً جداً، وأخذ وجهاً مشرقاً كالشمس، وصار جماله كريماً بحيث تفوّق على جمال بني البشر. وأخذ شكل رئيس ملائكة. وكان وجهه يرسل شرراً. هكذا ذهب إلى ابراهيم. (7) فلما رآه ابراهيم البار، خرج من غرفته، وذهب تحت أشجار ممرا. وجلس. جعل ذقنه في يده، وانتظر أمر رئيس القوّاد. (8) وإذا رائحة معطّرة ونور مشع أحاطا بابراهيم. (9) فالتفت فرأى الموت آتياً إليه في كل مجده وجماله. فنهض ابراهيم وذهب إلى لقائه بعد أن ظنّ أنه رئيس القوّاد. حين رآه الموتُ سجد له وقال: "سلام أيها العزيز ابراهيم، يا نفساً بارّة، وخليل الله العليّ الذي يقيم في خيمة يقيم فيها الملائكة"! (10) فأجاب ابراهيم الموت: "سلام عليك، يا حارس الشرائع المنير، يا كلّي المجد والضياء، يا رجل المعجزات! من أين جاء مجدك إلينا؟ وأنت من أنت"؟ (11) فأجابه الملاك: "ابراهيم، يا أباً باراً جداً، سأقول لك الحقيقة: أنا كأس الموت المرّة". (12) فقال ابراهيم: "كلا. بل أنت نبل العالم. أنت مجد وجمال الملائكة والبشر. أنت أجمل الأشكال كلها وتقول: "أنا كأس الموت المرّة"؟ لماذا لا تقول بالاحرى: "أنا أجمل كل الخيرات"؟ (13) ولكن الموت قال: "أيها الأب، أنا أقول لك الحقيقة. وأقول لك الاسم الذي أعطانيه الله". (14) فسأل ابراهيم: "لماذا جئت إلى هنا"؟ (15) فأجابه الموت: "أنا هنا بسبب نفسك البارّة". (16) فقال ابراهيم: "عرفت ما تقول. ولكني لن أتبعك". فصمت الموتُ وما أجاب.

الموت المزيَّن والموت الفاسد
17 (1) فنهض ابراهيم ومضى إلى بيته. فتبعه الموت إلى هناك. فصعد إلى غرفته. فصعد الموت أيضاً. وتمدّد ابراهيم على فراشه. فجاء الموت ووقف عند قدميه. (2) فقال ابراهيم: "ابتعد، ابتعد عني. أريد أن ارتاح على فراشي". (3) فأجابه الموت: "لن انسحب قبل أن آخذ روحك". (4) فقال له ابراهيم: "باسم الله الخالد، أسألك أن تقول لنا الحقيقة: هل أنت الموت"؟ (5) فأجابه الموت: "أنا هو ذاك الذي يدمّر العالم". (6) فسأله ابراهيم: "ارجوك، بما أنك الموت، أن تقول لي: هل تسير هكذا أمام جميع البشر بمظهر جميل ومجد عظيم وجمال رائع"؟ (7) فأجابه الموت: "لا، يا سيّدي. ولكن أعمال برّك وضيافتك التي لا قياس لها ومحبتك العظيمة لله جعلت إكليلاً على رأسك. وهكذا اقتربُ من الأبرار بجمال، وبكثير من السلام والسحر. (8) مقابل هذا، اقتربُ من الخطأة مغطّى بالفساد والقسوة، مليئاً بالمرارة والنظرة الفظّة. أذهبُ إلى الخطأة بدون شفقة، لأنهم كانوا بلا شفقة". (9) فسأله ابراهيم: "أرجوك أن تسمعني: أرني قساوتك وكل فسادك". (10) فأجابه الموت: "لا تستطيع أن ترى قساوتي يا ابراهيم البار جداً"! (11) فقال ابراهيم: "بل أستطيع أن أرى كل قساوتك بسبب اسم الله الحيّ، لأن قدرة إلهي السماوي هي معي". (12) حينئذ تعرّى الموت من كل شبابه وجماله، ومن كل مجده وكل شكل الشمس الذي ارتداه، (13) وجعل عليه ثوب التسلّط، وأخذ مظهراً نَفوراً، واكثر فظاظة من كل وحش، وأكثر احتقاراً من أي احتقار. (14) وأرى ابراهيم سبعة رؤوس من التنانين مشتعلة وأربعة عشر وجهاً: وجهاً أشدّ حراً من النار بوحشية كبيرة، وجه الهوّة المرعبة، وجهاً أظلم من الظلام، وجهاً أسود كله بسواد الافعى، وجهاً أكثر فظاظة من الصلّ، وجه أسد مرعب، وجه حيّة بقرون. (15) وأراه أيضاً وجه سيف يلمع، وجه خنجر مسلّح، وجه برق يلمع ويرعب، وصوت رعد هائل. (16) وأراه أيضاً وجهاً آخر، وجه البحر الذي يرفع أمواجه بجنون، وجه نهر جامح وصاخب، وجه تنين بثلاثة رؤوس وكؤوس مليئة بالسموم. (17) وهكذا أراه وحشيّة كبيرة ومرارة لا تُحتمل وكل مرض يحمل الموت ويُميت قبل الأوان. (18) وهكذا مات سبعة خدّام وسبع خادمات بسبب رائحة الموت ومرارته العظيمة ووحشيّته. (19) أما البار ابراهيم فشعر باللامبالاة تجاه الموت إلى حدّ تخلّى عن روحه.

18 (1) بعد أن رأى ذلك ابراهيم البار جداً، قال للموت: "أرجوك أيها الموت المشؤوم أن تخفي وحشيّتك، وترتدي الجمال والشكل اللذين كانا لك من قبل". (2) وفي الحال أخفى الموت وحشيّته، وارتدى الجمال الذي كان له من قبل. (3) فسأله ابراهيم: "لماذا فعلت هذا؟ لماذا قتلت كل خدّامي وخادماتي؟ ألهذا أرسلك الله"؟ (4) فأجاب الموت: "لا، يا سيدي، ليس هذا هو السبب. بل أرسلت إلى هنا بسببك". فقال ابراهيم: (5) "ولكن لماذا مات هؤلاء إن كان الرب لم يطلب ذلك"؟ (6) فأجابه الملاك: "صدقني. إنه لمن العجب أن لا تكون انت أُخذت أيضاً بعدهم. ولكن في عني أقول الحقيقة: (7) لو لم تكن يمين الرب معك في هذه الساعة، لأجبرتَ على ترك هذه الحياة". فقال البار: (8) "أما أنا فاعرف أني صرت أحسّ باللامبالاة تجاه الموت بحيث أتخلّى عن روحي. (9) ولكن أرجوك، أيها الموت المشؤوم، تجاه هؤلاء الخدم الذين ماتوا قبل الاوان أن تأتي فنطلب إلى الله إلهنا أن يستجيبنا ويقيم الذين ماتوا قبل الاوان بسبب وحشيّتك". (10) فأجاب الموت: "آمين. فليكن هكذا". ونهض ابراهيم وسجد بوجهه إلى الأرض وأخذ يصلّي والموت معه. (11) فأرسل الله روح حياة إلى الذين هلكوا، فأعيدوا إلى الحياة. حينئذ مجّد ابراهيمُ البار الله.

19 (1) وذهب إلى فراشه ونام. فجاء إليه الموت أيضاً ووقف أمامه. (2) فقال له ابراهيم: "أخرج من بيتي! أريد أن ارتاح. لقد استسلم روحي لليأس". (3) فأجاب الموت: "لن انسحب من بيتك قبل أن آخذ نفسك". (4) فأجاب ابراهيم بنظرة قاسية ووجه مغضب: "من أمرك بأن تقول هذا؟ أمن عندك تتلفّظ بهذا الكلام لتفتخر؟ ولكني لن أتبعك حتى يأتي رئيس القوّاد ميخائيل. عندئذ انطلق معه. (5) ولكن عندي أيضاً كلمة: إذا كنتَ حقاً تطلب مني أن أتبعك، فاشرح لي كل تحوّلاتك ورؤوس التنانين الشريرة السبع. ما هو وجه الهوّة؟ وأيّه السيف القاطع؟ وأيّه النهر بعجيجه العظيم، وأيّه البحر الموحل، الذي يحرّك أمواجه بوحشيّة؟ (6) إشرح لي أيضاً الرعد الذي لا يطاق، والبرق المرعب. ولماذا الكؤوس النتنة المليئة بالسموم؟ إشرح لي كل هذا"! (7) فقال الموت: "اسمع أيها البار ابراهيم. أنا أدمِّر العالم خلال سبعة دهور. أنزل الجميعَ إلى الجحيم: الملوك والرؤساء، الاغنياء والفقراء، العبيد والأحرار. لهذا أريتك سبعة رؤوس التنانين. (8) وأريتك وجه النار، لأن كثيرين يهلكون بنار تحرقهم، ويرون الموت بوجه ناريّ. (9) وأريتك وجه الهوّة لأن كثيرين يُعدَمون ويموتون حين يسقطون من أعالي الشجر أو الهوّة: هم يرون الموت بشكل هوّة. (10) وأريتك وجه السيف، لأن كثيرين يُضربون بالسيف في الحرب، فيرون الموت مسلّحاً بسيف. (11) وأريتك وجه النهر العظيم الهائج، لأن كثيرين تجرفهم كثرة مياهه الفائضة، وتختطفهم الأنهار الكبيرة جداً فيختنقون ويموتون حين يرون الموت قبل ساعته. (12) وأريتك وجه البحر يرفع أمواجه بغضب لأن الكثيرين ينقلبون في البحر بسبب النوّ القويّ فيغرقون. هم ينحدرون إلى أعماق المياه فيرون الموت مثل بحر. (13) وأريتك الرعد الذي لا يطاق والبرق الهائل، لأنه في ساعة غضب التنانين والافاعي والمقرّنات والصلّ، يفاجئ عدداً من الناس الرعدُ الذي لا يُطاق والبرق الهائل. يُخطفون فيرون الموت هكذا. (14) وأريتك الحيوانات السامة، الصل والمقرَّنة والنمر والاسد والشبل والدبّ والأفعى. أجل، أريتك جميع الوحوش، يا ابراهيم البار جداً، لأن كثيراً من الناس يموتون عن يد الوحوش. (15) وهناك آخرون يُزيلهم الصلّ. وآخرون أيضاً تجعلهم الأفعى يموتون ويخسرون الحياة، أو الحيّات السامّة. (16) وأريتك أيضاً كؤوساً نتنة مليئة بالسموم، لأن عدداً من الناس يزولون فجأة وبشكل غير متوقّع، لأن آخرين سقوهم السمّ".

الملائكة يرافقون نفس ابراهيم
20 (1) حينئذ قال ابراهيم: "أرجوك أن تعلمني إن كان من موت غير منتظر". (2) فاجاب الملاك: "آمين، آمين. أقول لك بحقّ كلمة الله: هناك 72 ميتة. ولكن هناك ميتة واحدة عادلة تأتي في الوقت المحدّد. كثير من الناس يموتون ويُوضعون في القبر قبل الساعة. (3) ها أنا أعلمتك كل ما سألتني. والآن، يا ابراهيم البار جداً، عندي أيضاً شيء أقوله لك". -"وما هو"؟- "تخلّ عن كل إرادة واتبعني بحسب ما أمرني إله كل شيء". (4) فقال ابراهيم للموت: "ابتعد أيضاً عني قليلاً لكي أرتاح على سريري، لأني أحسّ بيأس عظيم. (5) فمنذ رأيتك بعينيّ، تركتْني قوّتي وبدتْ كل أعضاء جسدي ثقيلة كالرصاص، وصارت روحي في ضيق عظيم جداً. إبتعد عني لحظات قليلة: لا أطيق أن أرى منظرك". عندئذ رشح من عينيه سائل يشبه جلطة دم، (6) فجاء اسحاق وارتمى على صدر أبيه ابراهيم باكياً. وجاءت سارة امرأته أيضاً وقبّلت قدميه وهي تبكي بكاء مراً. (7) واقترب جميع عبيده وأخذوا يبكون بكاء مراً. فأحسّ ابراهيم باللامبالاة تجاه الموت. (8) فقال له (الموت): "تعال وقبِّل يميني، فيأتي إليك الفرح والحياة والقوّة". (9) ضلّل الموتُ ابراهيم، فقبّل له يده، وفي الحال ظلّت نفسه معلّقة بيد الموت. (10) وفي الوقت نفسه جاء ميخائيل رئيس الملائكة مع جمهور الملائكة فوضعوا بأيديهم نفسه الجليلة في كتّان رقيق نسجته يد الله. (11) واعتنوا بجسد البار بالطيوب وبعطور الهيّة الرائحة حتى اليوم الثالث بعد موته. ثم دفنوه في أرض الموعد، عند سنديانة ممرا. (12) وصعد الملائكة إلى السماء يرافقون نفسه الجليلة وهم ينشدون مديح التثليث إكراماً لله سيّد كل شيء. ووضعوه ليسجد أمام الله الآب. (13) وبعد عدد من المدائح والشكر، سُمع صوت الله الآب: (14) "إحملوا ابراهيم خليلي إلى الفردوس. فهناك خيام أبراري ومساكن قدّيسيّ، اسحاق ويعقوب في صلب هذا الرجل. هناك لا تعب ولا حزن ولا تأوّه، بل سلام وبهجة وحياة دائمة".
(15) وهكذا نحن أيضاً، يا إخوتي الاحبّاء، لنعمل على الاقتداء بضيافة أبي الآباء ابراهيم. ولنأخذ بطريقة حياته الفاضلة لنستحقّ الحياة الابدية ممجّدين الآب والابن والروح القدس. الآن ودائماً وإلى دهور الدهور. آمين

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM