الفصل السابع والعشرون: السلام والبركة الأخيرة

 

الفصل السابع والعشرون
السلام والبركة الأخيرة
6: 21- 24

ونصل إلى نهاية الرسالة مع كلام شخصّي يذكر فيه الرسول أول اسم علم في رسالته. ويكون الختام بالسلام كما في البداية. سندرس في هذا المقطع الأخير، النصّ ونحلّله. وبعد هذا نتوقّف عند الاخبار الخاصّة (6: 21- 22)، ثم البركة الأخيرة (6: 23- 24) التي تبدو بشكل تحيّة إلى كنيسة أفسس كما إلى كنائس عدّة وصلت إليها هذه الرسالة.

1- دراسة النصّ وتحليله
أ- الدراسة
في آ 23، نقرأ "القدّيسين" في برديّة 46، أما سائر المخطوطات: "الاخوة". لفظة الاخوة "عادية". أما لفظة "القدّيسين" فهي توافق لغة الرسالة التي بدأت: "إلى القدّيسين (الذين في أفسس) والمؤمنين في يسوع المسيح" (1: 1). وأحلّ الفاتيكاني لفظة "الرحمة" محلّ "المحبة". فقد أراد الناسخ أن يجعل نهاية أف في خط السلامات البولسيّة التي تجمع الرحمة إلى السلام. مثلاً، غل 6: 16، "والسلام والرحمة على جميع الذين يسلكون هذه الطريقة". أو 1 تم 1: 2: "نعمة ورحمة وسلام من الله الآب والمسيح يسوع ربنا" (رج 2 تم 1: 2؛ 2 يو 3). ونقرأ في يهو 2: "لتكثر لكم الرحمة والسلام والمحبة".
وفي آ 24، نجد في السينائي والبازي ومعظم المخطوطات الجرارة "آمين" في نهاية الرسالة. هكذا انتهت غل (6: 18، نعمة ربنا يسوع المسيح مع روحكم، أيها الأخوة، آمين)، وروم (16: 27، المجد بيسوع المسيح إلى دهر الدهور، آمين) أخت أف الكبرى. لا نزالا معلّقين، ونحن ننتظر شيئاً آخر بعد الكلمات الأخيرة في هذه الرسالة. ولكن تأتي "آمين" فتضع حدّاً لانتظارنا.
ويأتي التوقيع أو الكلمة الأخيرة بيد الناسخ. نقرأ في السينائي والاسكندراني والبازي: "إلى المؤمنين". وفي الفاتيكاني ومخطوط 25: "إلى الأفسسين. كتب من رومة. والنصّ الشائع: "إلى الأفسسيّين، كُتبت من رومة بيد تيخيكس السكرتير". وسقط "التوقيع" في بردية 46 ومخطوط 365، 629، 630...

ب- تحليل الرسالة
تقدّم الآيات الأخيرة خبراً شخصياً مأخوذاً من كو، ثم تحيّة نهائيّة. أما الخبر فيذكر إرساله تيخيكس، والتحية تحمل السلام المنتظر مع التمني بالنعمة.
هذه الآيات القصيرة تؤكد مع 1: 1- 2 أننا أمام رسالة تستطيع أن تدخل في المجموعة البولسيّة رغم طبيعتها الخاصة. "من بولس... نعمة لكم وسلام". "النعمة مع جميع الذين يحبّون ربّنا".
لولا البداية والنهاية لسمّينا أف: تعليم، كرازة عماديّة، صلوات تُتلى في الاحتفالات الليتورجيّة.

2- أخبار خاصة (6: 21- 22)
نقطة الانطلاق في هاتين الايتين هي كو. فإن آ 22 تنسخ حرفياً كو 4: 8. أما آ 21 فتستعيد كو 4: 7 وتسبقه بمقدمة قصيرة: "لكي تعرفوا أنتم أيضاً أخباري كلها". وهكذا ترتبط أف هنا بما في كو.
"أنتم أيضاً". هذا يعني أن جماعات أخرى تلقّت هذه الأخبار. هذا ما يدلّ مرّة أخرى على أننا أمام رسالة دوّارة، وقد وصلت نسخة منها إلى أفسس. هناك "ما يخصّني". ما يتعلّق بوضعي. كلام لم نكن نتوقّعه من قبل سجين. نحن نقرأ في 1 تس 4: 11: "تعملوا كل واحد ما يعنيه".
هذا يفترض توزّع التعاليم. هناك تعليم خطّي يرسله الرسول وهو نقل "السّر". وهناك تعليم شفهي يحمله تيخيكس وهو نقل الأخبار.
إن الملاحظة حول تيخيكس تتبع اتباعاً شبه حرفي كو 4: 7- 8. هذا يعني أنه حمل رسالة إلى كولسي وأخرى إلى أفسس ووادي ليكوس. كان تيخيكس في رفقة بولس، ساعة كتب، فحمل أيضاً أخباراً شفهيّة.
من هو تيخيكس؟ كان أحد الذي أوفدتهم كنائسهم ليحملوا المساعدة الماديّة إلى كنيسة أورشليم مع سابتروس وارسترخوس وسكندوس وغايوس (أع 20: 4). ذُكر تيخيكس، كما قلنا، في كو 4: 7، كما في 2 تم 4: 12 (أما تيخيكس فقد بعثته إلى أفسس) وتي 3: 12 (ومتى أرسلت إليك ارتماس أو تيخيكس). نحن هنا في ينبوع واحد تستقي منه مراجع متعدّدة.
إن الكلمة الأخيرة في أف تدلّ على أن دور تيخيكس قد تعاظم مع الزمن. كان حاملَ الأخبار، حامل الرسالة في البدء. ثم صار الكاتب. وقد يكون دوّنها بقيادة الرسول أو ربّما بعد موت بولس. صفاته هي: الأخ الحبيب، المعاون الأمين في الربّ. هذه الصفات يستعملها بولس مراراً لكي يدلّ على معاونيه. وتزيد كو 4: 7: الخادم معي، رفيقي في الخدمة. هل تتوافق هذه التسمية مع الصورة السابقة التي اتخذها الرسول؟ أما كلمة "أخ" فترد مرة واحدة في أف وهي في صيغة المفرد. وكلمة خادم (شمّاس في المعنى الأول، دياكانوس) فوردت في 3: 7 ودلّت على خدمة بولس. غير أنها غابت عن 4: 11 ي حيث ترد سلسلة من "الوظائف" (رسل، أنبياء، مبشّرين) وحسب الاستعمال البولسي، حلّت عبارة "في الربّ" محلّ "في المسيح" حين يكون الحديث عن النشاط الخدميّ.
قامت رسالة تيخيكس (آ 22) بنقل الأخبار. نجد المفرد في آ 21: وضعي، ما يخصّني. وفي آ 22 صيغة الجمع: أحوالنا، أخبارنا. ولكننا لا نستطيع أن نستخرج معلومات عن محيط بولس، وعن زمن سجنه.
وتتنامى وظيفة تيخيكس في نهاية آ 22: كان حامل رسالة، فصار راعياً مع مهمّة الوعظ والتعزية والتشجيع. تقوم مهمّته بالتحريض (4: 1. قالت بولس: أحرّضكم. دوره كدور بولس)، وبالتعزية في الشدائد كما يقول الكتاب: إنه يدلّ المراسلين على حضور الربّ ويشاركهم في كلام يشجعهم. نقرأ في أش 40: 1- 2: "عزّوا، عزّوا شعبي، يقول الربّ. طيّبوا قلب أورشليم. بشّروها بنهاية أيام تأديبها". هكذا يعرف المسيحيون، شأنهم شأن أهل المنفى، أن زمن العزلة قد ولّى وأن الخلاص صار قريباً. ويتحدّث النصّ (يعزّي قلوبكم) عن القلب فيدلّ على أعمق ما في الإنسان.

3- البركة الأخيرة (6: 23- 24)
وتأتي التحية الأخيرة في بنية خاصة. قرأنا في البداية (1: 1): النعمة والسلام. فانعكست الكلمتان في النهاية: "السلام" (آ 23). "النعمة" (آ 24). لقد ذُكر السلام أيضاً في غل 6: 16. وكان "إله السلام" جوهر البركة في روم 15: 33 (رج 16: 20). ونقرأ في فل 4: 9: "إله السلام يكون معكم". وفي 1 تس 5: 23: "ليقدّسكم إله السلام تقديساً كاملاً" (رج عب 13: 20- 21: إله السلام يؤتيكم أن تتمّموا مشيئته). ونجد "ربّ السلام" في 2 تس 3: 16 (ربّ السلام يؤتيكم السلام). ونقرأ في 2 كور 13: 11: "إله الحبّ والسلام".
"المحبّة والإيمان". فالمحبة ترافق الايمان عادة في البركة الأخيرة. قد يكون حبّ الله للمؤمنين كما في 2 كور 13: 14 (عبارة ليتورجيّة في صيغة ثالوثيّة). وقد يكون حبّ بولس نفسه كما في 1 كور 26: 24 (محبتي معكم أجمعين، أو: أحبّكم جميعاً). ولكن ما هي قوة الإيمان؟ إن ارتباطه بالمحبة يجعله فعل شكر كما في 1: 15 (سمعت بإيمانكم بالربّ يسوع، وبمحبتكم لجميع القدّيسين، رج كو 1: 4). ففي هذا النصّ يعبّر الرسول عن مسّرته حين سمع الأخبار حول إيمان القرّاء أو أمانتهم كأعضاء في الجماعة المسيحيّة، وحول محبّتهم للقدّيسين. وفي نهاية الرسالة، يصلّي بولس لكي يحافظ المؤمنون على هذه الصفات التي ستكون جواباً للسلام والنعمة اللذين أعطاهما الله لهم. وهذه الصفات، شأنها شأن سائر الفضائل المسيحيّة، تجد ينبوعها في الله. "الله أبو ربنا يسوع المسيح" (1: 2).
"من الله الآب والربّ يسوع المسيح". عبارة تقليدية تُعطي الله (تيوس، الوهيم) لقب أب، وشموع المسيح لقب ربّ (كيريوس، يهوه). وهكذا تعود نهاية الرسالة إلى بدايتها: "من الله أبينا والربّ يسوع المسيح" (1: 2). كما يعود "السلام" إلى ف 2، وتذكّرنا المحبة بالصلاة في 3: 14- 29 حيث نقرأ: "إذا تأصّلتم في المحبة وتأسّستم عليها، تستطيعون... أن تدركوا تلك المحبة التي تفوق كل إدراك".
"النعمة مع جميع الذين يحبّون ربنا" (آ 24). قالت كو: "النعمة معكم". هكذا اعتاد بولس أن ينهي رسائله. في صيغة المخاطب الجمع. أو في صيغة الغائب (كما في أف) في خط "الاخوة" في آ 23. فالرسول لا يتوجّه إلى كنيسة محدّدة، بل إلى عدة كنائس أرسل إليهم رسالة واحدة توزّعت في أماكن عديدة.
وجاءت عبارة "الذين يحبّون ربنا يسوع المسيح" ككلام إيجابيّ يقابل ما في 1 كور 16: 22 من تعبير سلبيّ في إطار تنبيه إفخارستي: "إن كان أحد لا يحب الربّ فليكن مبسلاً".
أجل، ما استطاعت أف أن تنتهي في عبارة باهتة. فالنعمة هي الكلمة الأولى والأخيرة في مجمل الرسائل. وعبر المراسلين المباشرين، تنطلق التحيّة إلى أفق أوسع. إلى العالم كله عبر الأزمنة والأمكنة، إلى الذين يحبّون ربّنا. ما اعتاد بولس أن يسمّي المسيحيّين بهذا الاسم. ففعل "أحبّ" لا يُبنى إلا نادراً مع المسيح كمفعول به (1 بط 1: 8: تحبونه وإن لم تروه، يو 13: 17؛ يو 21: 15: اتحبّني). ففي خط صلاة 3: 14- 21، تجعل الكلمات الأخيرة المحبّةَ تجاه المسيح كتحديد للجماعة المسيحيّة. ولقد حاولت أف أن تعطي هذه المحبّة تجذّرها وأبعادها والتعبير عنها.
ونقرأ: "إن افتارسيا": في اللافساد. رج 1 كور 15: 42: "الجسد يقوم بلا فساد". لا شكّ في أننا في جوّ ليتورجيّ. والعبارة تذكّرنا بعبارات أخرى مثل "في المسيح"، "في المحبة". فما معناها؟ هناك أقله ثلاث امكانيّات.
* الأولى: ترتبط العبارة "بالنعمة". فكما في آ 23 (المحبة مع الايمان). يتضمن التمنّي عنصرين مختلفين: لتكن النعمة واللافساد.
* الثانية: ترتبط العبارة "بالذين يحبّون"، فتصف حبّنا للربّ. وهكذا ترتبط "في اللافساد" بالفعل الوحيد في الجملة.
* الثالثة: ترتبَط العبارة "بيسوع المسيح" فتصف الحياة التي هي حياته. فاللافساد صفة إلهيّة في روم 1: 23 (استبدلوا مجد الله غير الفاسد) و1 تم 1: 17 (لملك الدهور الذي لا يدركه فساد). هذا ما نجده مراراً في العالم اليوناني وعند الآباء. إن هذا البناء يتضمّن وجهتين لم نعتد عليهما: حلّ محلّ الصفة عبارةٌ مفخّمة (في اللافساد) لئلا ينتهي النصّ مع صفة. ثم، تُنسب هذه الصفة الإلهيّة للمرّة الأولى إلى المسيح.
الإمكانيّة الثانية هي الأفضل: حبّ لا يعتريه فساد. والمعنى لا يعارض تعليم النعمة الذي حملته أف رغم قرب العبارة من "ربنا يسوع المسيح": فحبّنا للربّ يوحّدنا بالربّ. فمثله وفيه، هو حبّ لا يفنى ولا يتبدّل، فيه نشاركه في حياته التي تتجاوز الموت إلى القيامة. وهكذا تصبح النهاية بداية.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM