الفصل الرابع: اختارنا في المسيح

الفصل الرابع
اختارنا في المسيح
1: 3- 14

نقرأ في هذا النصّ فعل شكر ومديح يفيض من قلب الرسول. في جملة واحدة تمتدّ على 12 آية، يُنشد الكاتب عمل نعمة الله في الكنيسة، ولا يتوقّف إلاّ بعد أن يذكر حمد مجد الله ثلاث مرات. ينتمي هذا النصّ إلى فنّ أدبي معروف هو فنّ المباركة (2 كور 1: 3؛ 1 بط 1: 3) الذي اشتهر في الليتورجيا اليهودية. الله هو فاعل الأفعال. فعمله يتمّ في المسيح، ويتوزّع في عبارات المجدلة: لحمد مجد نعمته (آ 6). لحمد مجده (آ 12). نداء لشعب الله الذي اقتناه لحمد مجده (آ 14). بركة الله هي اختيار وفداء، ميراثٌ وُعدنا به وروح أُعطيناه. بركة تتمّ في لقاء بين فكرة الميثاق في العهد القديم وفكرة الكنيسة، جسد المسيح، في العهد الجديد. نصّ يبدأ به الرسول رسالته فيتداخل التأمل وتعابير الصلاة. نصّ يحمل مواضيع الرسالة الكبرى ويفتح قلوبنا لكي نسمع التوجيهات الأخلاقيّة التي تنبع من لاهوت نقرأه في القسم الأول من أف. بعد المقدّمة، نكتشف ثلاثة مقاطع، الأول: اختيار الله لنا. الثاني: الفداء الذي حمله يسوع المسيح. الثالث: عمل الروح القدس.

1- المقطع الأول: اختيار الله لنا (1: 4- 6)
ونبدأ بالمقدّمة (آ 3). فلفظة "تبارك" تعبرّ عن الإعجاب والمديح من أجل تدخُّلات الله في التاريخ. في الصلاة اليهوديّة، يُمتدح الله على أنه إله الآباء. وهنا يُنشد على أنه أبو ربّنا يسوع المسيح. كانت بداية سفر التكوين قد أشارت إلى بركة منحها الله إلى أول أسرة بشريّة (تك 1: 28). وتقبّل إبراهيم وعداً بأنّ به تتبارك جميع عشائر الأرض (تك 12: 3؛ غل 3: 8). ولكن في المسيح يسوع نلنا كمال البركة وملء النعمة.
"كل بركة روحيّة في السماوات". لفظة "السماوات" خاصة بالرسالة إلى أفسس. نقرأ في 1: 20: "حين أقام يسوع المسيح من بين الأموات، وأجلسه عن يمينه في السماوات". وفي 2: 6: "أقامنا مع يسوع المسيح وأجلسنا معه في السماوات". رج 3: 10؛ 6: 12. نجد في العالم السماويّ المسيح والكنيسة والمؤمنين. ونجد أيضاً أرواح الشر (6: 12: عالم الظلام والأرواح الشرّيرة). أما عبارة "في السماوات" فتجمع جمعاً وثيقاً المختارين إلى انتصار المسيح الذي قهر القوّات السماويّة. باركنا نحن. لم تصل البركة فقط إلى الرسول، بل إلى الكنيسة كلّها. فالرسالة هي رسالة جماعة تُرسل إلى جماعة أخرى. والرسول يعبرّ في كلامه عن تأمّلات الجماعة في كلمة الله التي هي ثمرة بركته. نحن مباركون في السماء بواسطة يسوع المسيح. نحن مباركون مع المسيح الجالس عن يمين، الله.
ويبدأ المقطع الأول (آ 4- 6) بحصر المعنى. "إختارنا فيه قبل إنشاء العالم". يعبرّ الكاتب عن موضوع الاختيار بسلسلة من الألفاظ تبدأ مع "المسبّق" (برو): سبق وأعدّنا على حسب مرضاته (آ 5). سبق وقصد في المسيح (آ 9). قصد سابق لدى من يعمل كل شيء حسب مرضاته (آ 11).
نستطيع العودة إلى مواضيع الاختيار في الكتاب المقدّس. نعود إلى النداء الاحتفالّي الذي تلقّاه أبرام (أي: إبراهيم): "أترك أرضك وعشيرتك وتعالَ إلى المكان الذي أريك إيّاه" (تك 12: 1- 3). ويتوسّع سفر التثنية بشكل خاصّ في موضوع الاختيار: "إختار الرب الإله أن تكون له أمّة خاصة من جميع الأمم، لا لأنكم أكثر من جميع الشعوب. فإنّما أنتم أقلّ من جميع الشعوب. غير أنّ الرّب أحبّكم وأتمّ ما وعد به آباءكم" (تث 7: 6- 8). إذا كان الله اختار شعبه فيجب على هذا الشعب أن لا يتكبرّ، بل أن يبقى أميناً للميثاق المجانيّ الذي منحه الله له (تث 9: 5- 6: لا تظنّ أنك مستحقّ بسبب برّك واستقامة قلبك).
والطابع الخاصّ في نصّ أف هو أنه يحدّد موقع اختيارنا بالنسبة إلى الحبيب، يسوع المسيح. هذا ما يشير إلى الإعلان السماوي ساعة عماد يسوع. نقرأ في مت 3: 17: "هذا هو ابني الحبيب، عنه رضيت". وهنا، يغمرنا الله بنعمته في ابنه الحبيب. إنّ مرضاته (اودوكيا، آ 5، 9) الإلهية تتفجّر من المسيح على المؤمنين. وهكذا تتحرّك الرسالة كلّها على هذا المستوى السامي الذي فيه يقرّر الله كلّ شيء منذ البداية (آ 3، 9). لسنا هنا أمام الهلاك، بل أمام تحقيق الخلاص (رج 2: 10)، حين نتحدّث عن قصد الله منذ إنشاء العالم.
أما هدف الاختيار، فلكي نكون قدّيسين وبلا عيب (5: 27) في المحبّة. سيتوسّع القسم الثاني من الرسالة (ف 4- 6) في هذا الموضوع، فيصوّر بإلحاح هذه الحياة في المحبّة. نقرأ في 1: 15: "سمعت بإيمانكم بالرب يسوع، وبمحبّتكم لجميع القدّيسين". فهذا الإيمان نعبرّ عنه بالمحبّة تجاه المؤمنين. ونقرأ في 3: 17: "تأصّلتم في المحبّة وتأسّستم عليها". نحن أمام شجرة قويّة تجد جذورها في المحبة. نحن أمام بناء شاهق يجد أساسه في المحبّة. وفي القسم الإرشادي يدعونا الرسول: "إحتملوا بعضكم بعضاً بمحبّة" (4: 2). "أعلنوا الحقيقة في المحبّة (4: 15) في حياة المحبّة اليوميّة. هكذا يُبنى الجسد "في المحبّة" (4: 16). ويتابع بولس كلامه: "أسلكوا في المحبّة على مثال المسيح" (5: 2). الرجل مع امرأته (5: 25، 28، 33)، والأبناء مع والديهم، والعبيد مع أسيادهم. بل يعيش كلّ منا كابن بفضل تدخّل ابن الله الحبيب "لحمد مجد" الآب.
إنّ عبارة "في المحبّة" تختتم عادة المباركات اليهودية. ولكن هناك من يربط العبارة بما يلي: وقضى بسابق تدبيره في المحبّة. وتأتي الأفعال التي تتحدّث عن مبادرة الله المطلقة، مبادرة نعمته. لقد عملتْ مسبقاً. وهي ما زالت تعمل ولن تزال حتى النهاية. والاختيار منذ البدء يشكّل البشرى التي تتحدّث عن الله الذي تبنّانا، الذي جعلنا أبناءَ له في الابن. هذا لا يعني "ضياع" مسؤوليتنا، بل إنّ الاختيار يُلزمنا بالمحبّة. يلزمنا بالتجاوب مع نداء الله.
في آ 6 نقرأ: لحمد مجد نعمته. نحمد نعمته المجيدة. لتمجيد نعمته السنيّة. مدحاً لمجد نعمته. يتوزّع "حمد المجد" هذه المباركة، فيجعل من مجد الله هدف كل عمله، كما يكوّن ينبوعَ هذا العمل قصدُه الحرّ.
وهكذا نجد في هذا المقطع فكرتين.
* الفكرة الأولى، نداء إلى المشاركة مع الله والاتحاد به
هذا هو المشروع الذي أراده الله لنا منذ البداية، قبل إنشاء العالم وبداية التاريخ. في هذا المجال نقرأ كو 1: 22: "صالحكم الآن بجسد ابنه البشريّ ليظهركم لديه قدّيسين، بغير عيب ولا مشتكى". وتحدّد الآية التالية أنّ كل هذا يتحقّق حين يبلغ المؤمنون إلى كمال رجائهم. "يجب فقط أن تستمرّوا في الإيمان، مثبّتين على أسس متينة، راسخين، غير متزعزعين على رجاء الإنجيل" (كو 1: 23).
أجل إنّ الله رتّب مجمل قصده بالنظر إلى العلاقة الاسكاتولوجية التي أراد أن يقيمها مع البشريّة. ونقرأ لفظة "أمامه" (في حضرته"، آ 4؛ كو 1: 22). هنا يكون المؤمنون مقدّسين بحسب قصد الله. ولكن الله هو "في السماوات". إذن، ما تشير إليه المباركة الأولى (بين المباركات الست، اختارنا، حدّد، فدانا، عرّفنا، فرزنا، ختمنا) (آ 4) وتلتقي به مع المباركة السادسة (آ 14) هو التمام الاسكاتولوجي عبر الميراث المحفوظ للمؤمنين.
ولكن بمَ يقوم هذا التمام الاسكاتولوجي الذي يتوخاه الله منذ البدء؟ ماذا يعني بالنسبة إلى المزمنين أن يكونوا أمام الله قدّيسين وبلا عيب؟ يعني كما تقول كو 1: 22 أن يعيشوا في اتحاد مع الله. ولكي نصل إلى هذه الحالة، نحتاج إلى الفداء والمصالحة معه. "كنتم غرباء وأعداء بضمائركم وأعمالكم الشّريرة، والآن قد صالحكم لتكونوا أمامه قدّيسين وبلا عيب". إذن، رغم الخطيئة، لم يتراجع الرب عن مشروع أعدّه منذ البدء، وهو أن يُشرك البشر في حياته وسعادته.
* الفكرة الثانية، نعمة التبنّي
"قضى بسابق تدبيره أن يتبنّانا بيسوع المسيح... في ابنه الحبيب". ليس فقط "فيه" أو "في المسيح" كما في سائر المباركات. فـ "الابن الحبيب" هو اللقب الذي يُعطى ليسوع كابن الله. نجد هنا في أف وفي آ 13 عبارة "ابن حبّه".
العلاقة البنويّة هي خاصّة بيسوع. فهو الابن الوحيد، كما أعلنته المباركة منذ البداية: "تبارك الله، أبو ربنا يسوع المسيح" (آ 3). ولكن الله أراد عبر هذا التبنّي أن يؤمّن هذه العلاقة للمؤمنين، بحيث يسمّون بدورهم أبناء الله الأحبّاء (كو 3: 12؛ 1 تس 1: 4؛ 2 تس 2: 13). هذا ما هيّأه الله مسبقاً بالنسبة إلينا. والفعل المستعمل هنا (بروأوريزو) قد استعمله بولس في روم 8: 29 في معرض الحديث عن قصد الله تجاه المؤمنين. لم تتحدّث روم عن التبنّي بل عن صورة الابن فقالت: "لأنّ الذين سبق فعرفهم، سبق أيضاً فحدّد أن يكونوا مشابهين لصورة ابنه، فيكون هكذا بكراً بين إخوة كثيرين. فالذين سبق فحدّدهم إيّاهم دعا. والذين دعاهم إيّاهم برّر أيضاً. والذين برّرهم إيّاهم مجّد أيضاً" (روم 8: 29- 30).

2- المقطع الثاني: فداؤنا بيسوع المسيح (1: 7- 12)
أ- تدبير الله (آ 7- 10)
إنّ المقابلة مع كو 1: 13 تتيح لنا أن نقوله إنّ الفداء الذي تتحدّث عنه آ 7 يعود على المستوى النمطيّ إلى خلاص الشعب العبرانيّ من عبوديّة مصر. وقد استعمل أشعيا الثاني بشكل خاص تشبيه الفدية التي تدفع من أجل تحرير العبد. "لا تخف، يا يعقوب، أنا نصرتك، وفاديك هو قدّوس إسرائيل" (أش 41: 14). "لا تخف فإني افتديتك ودعوتك باسمي. أنت لي... هذا ما قال الربّ فاديكم" (43: 1، 14؛ رج 44: 22- 24؛ 52: 3؛ 54: 5). ولكن في نصّ أف، لم نعد أمام دم الحمل الفصحي، بل أمام دم المسيح (2: 13) الذي قدّم ذاته لأجلنا (5: 12).
فالعبوديّة التي خضعنا لها هي عبوديّة الخطيئة (آ 7 ب). وسيتوسّع ف 2 في خطورة وضع البشريّة قبل المسيح (آ 1: كنتم أمواتاً بزلاّتكم؛ آ 3: خاضعين لشهوات الجسد). ونجد الملاحظة نفسها في 2: 17- 19 (أظلمت بصائرهم، تغرّيوا عن حياة الله). وهكذا يدعونا الكاتب إلى أن نُنشد غفران الله قبل أن نتوقف مطوّلاً عند خطايانا. لو لم يختبر بولس سّر الخلاص، لما كان تحدّث عن الخطيئة ونتائجها في البشريّة كما فعل هنا وفي الرسالة إلى رومة.
وشدّد الرسول على نتيجتين من نتائج النعمة: الحكمة، المعرفة أو الفطنة أو الفهم. سيتحدّث عن الحكمة في 1: 17: "يؤتيكم ربُّنا روح الحكمة الذي يكشف لكم عنه لتعرفوه". وفي 3: 10: "تتجلّى حكمة الله بوجوهها". يعني: الظهور الأخير لقصد الله. هكذا تفهم القوّات أنّ البشريّة الجديدة بلغت بشكل مباشر إلى الله في المسيح. وأن قد زال دورها العابر والملتبس.
ونصل إلى المعرفة بوحي (بكشف) عن السّر. نقرأ في 3: 3: "كشف لي سّر تدبيره بوحي"، عرفتُ السّر بوحي. والسّر هو قصد الله الأزليّ. كان خفياً على البشر، والآن قد انكشف. هذا السّر تمّ في يسوع المسيح، وكشف الآن عمّا يتضمّنه في الكنيسة، وذلك بواسطة المهمّة الموكلة إلى الرسول. يتضمّن هذا السّر دعوة الوثنيين إلى الخلاص، ومصالحة اليهود والوثنيين، وخضوع الكون كله للمسيح. أما الوحي الذي تتحدّث عنه الرسالة، فيدلّ على مجيء يسوع في المجد، وعلى وحي وصل إلى حامل الإنجيل إلى الأمم، وعلى وحي بالنسبة إلى إرادة الله في حالة خاصة.
مع الحكمة والمعرفة تتسجّل أف في خطّ دانيال والأسفار الجليانية التي تطلب اكتشاف مخطّط الله وتحديد المهلة المحدّدة من أجل الخلاص (1 بط 1: 10- 12). ولكن حلّ محلّ الانتظار القلق، يقينُ ذاك الذي يعرف أنّ الزمان قد تمّ الآن (آ 10؛ رج مر 1: 15)، أن قد جاء الوقت الذي فيه يجمع المسيح الكون في شخصه: ما في السماء وما على الأرض.
"من أجل تدبير ملء الأزمنة" (آ 10). التدبير الذي يتمّمه عندما تكتمل الأزمنة. قد تُفهم هذه العبارة في خطّ غل 4: 4: "لما تمّ ملء الزمان، أرسل الله ابنه". بعد العهد القديم، كان التجسّد الذي تجاوب مع انتظار الشعب العبرانيّ أجيالاً وأجيالاً. وقد تُفهم في خط خاص بالرسالة: يدلّ ملء الأزمنة على زمن الكنيسة التي تدشَّن بالقيامة. و"التدبير" هو الطريقة التي بها يقود الله التاريخ إلى تمامه.
"يجمع في المسيح". الفعل المستعمل هنا هو نادر. يتألّف من جذر "الرأس"، ومسبّق (أنا) يدلّ على حركة من أسفل إلى أعلى. يجمع المسيح كل شيء ويرفعه من الأرض إلى السماء. الرب "يُجمل، يستعيد، يجمع"، ويجعل كل شيء خاضعاً له. نجد هذا الفعل في روم 13: 9: "فإنّ كل الوصايا تلخّص في هذه الكلمة: أحبب قريبك كنفسك". أما في نصّ أف فمعنى الفعل قويّ جداً: نحن أمام المسيح الرأس الذي يؤمّن الترتيب والتماسك في الكون، حين يصير رأسَ البشريّة المفتداة ويفرض سلطانه على القوى المعادية (1: 20- 21). وسيدلّ ولي الرسالة بشكل خاص كيف يقوم يسوع بعمل التجميع هذا: يضمّ في واحد اليهود والوثنيين الذين فصلتهم العداوة حتى الآن. يضمّهم في الهيكل الوحيد الذي يسكنه روح الله (2: 13- 22).

ب- الميراث الذي لنا (آ 11- 12)
نقرأ في آ 11: فيه نلنا ميراثاً. ونستطيع أن نقرأ: "فيه حدّدنا بالقرعة". وهناك اختلافة تقوله: "فيه أيضاً دُعينا". إذا عدنا إلى العهد القديم، نفهم العبارة بطريقتين اثنتين: فيه أيضاً نلنا حصّتنا. أو: فيه أيضاً اختارنا (الله) كحصّته. الطريقة الأولى تستعيد فكرة أرض الموعد التي أعطاها الله لشعبه على أنها ميراث له (تث 3: 18: أعطاكم هذه الأرض لترثوها). فكرة معروفة لدى القدّيس بولس (روم 8: 17؛ غل 3: 29؛ 4: 6). وهي ستتوضّح في آ 14 (عربون ميراثنا) وفي 1: 18 (غنى مجد ميراثه). أما الطريقة الثانية فتستند إلى قول يعتبر إسرائيل حصّة الله الخاصة (خر 34: 19).
نجد في آ 11بصيغة المتكلّم الجمع (دعينا نحن)، وفي آ 13 صيغة المخاطب الجمع (أنتم أيضاً). لسنا هنا كما في ف 2 أمام مجموعتين مختلفتين، اليهود والوثنيين. أما الألفاظ العامة فتصبح حيّة وبارزة حين نكتشف تجذّرها في تاريخ العهد القديم: نلنا حصتنا من الميراث. فحين دخلت القبائل إلى أرض الموعد، نالت كل منها حصّتها بالقرعة (يش 18- 19). أما اللاويون فلم تكن لهم حصّة خاصّة بهم، لأن الرب نفسه هو حصّتهم وميراثهم (تث 18: 2؛ رج مز 16: 5). وتعود لفظة "قرعة" في كتابات قمران لتدلّ على مكانة كل عضو في الجماعة. أما نحن فميراثنا هو في السماوات (1: 14). وهو يُعطى لنا حين نتّحد اتحاداً وثيقاً بالمسيح (2: 6؛ رج كو 1: 12).
يرى البعض أنّ آ 11- 12 تعرض فكرة الوثنيّين واليهود، التي ستحتلّ مكانة هامّة في أف. قد تعني صيغة المتكلّم الجمع المسيحيّين الآتين من العالم اليهودي. وصيغة المخاطب المسيحيين الآتين من العالم الوثني. والرجاء الذي لنا في المسيح يعود في هذه الحالة إلى انتظار إسرائيل (2: 12). ولكن يرى آخرون أن البركة تعني بالإجمال جميع المسيحيين، وأنها تنتهي في صيغة المخاطب. فتوجّه إلى القارئين نداء إنجيل الخلاص. في هذه الحالة، لا نستطيع أن نتحدّث عن التمييز بين اليهود والوثنيين إلاّ في ف 2. أما كلمة "ترجّينا مسبقاً" فتدلّ على انتظار ما سيتمّ في النهاية (آ 10) بالنسبة إلى جميع المسيحيين.

ج- المعنى اللاهوتي
نكتشف في هذه القطعة الثانية ثلاثة أفكار. تحرير من الخطيئة. كشف عن السّر. آفاق الرجاء.
* تحرير من الخطيئة
مع آ 7 نبدأ مرحلة جديدة. لم نعد أمام تكوين قصد الله وتثبيته قبل الزمن، بل بالحريّ أمام تحقيقه في الزمن. وإذ أراد الله أن يحقّق مخطّطه، كان عليه أن "يصلح"، أن يكفّر. كان الكائن البشري خاطئاً. فلا بدّ من العمل الفدائي ليصير الإنسان مقدّساً، بلا عيب. تدخّلَ الله، فكان لنا به الفداء وغفران الخطايا.
يتحدّث النصّ هنا عن الفداء وسيتحدّث عنه في آ 14 (كما في 4: 30) حيث نكون أمام المعنى الإيجاب للتتمة الإسكاتولوجيّة. وهكذا يكون الفداء في أف قد تمّ على مرحلتين: بدأ مع موت المسيح (آ 7). وتمّ بامتلاك الميراث النهائي (آ 14). في آ 7، فُهم الفداء في المعنى السلبي: غفران الخطايا (كو 1: 14). وارتبط بدم المسيح. وهكذا يعود الكاتب إلى التاريخ، إلى حدث يسوع، دون أن يشير إشارة صريحة إلى التجدد. إذن ننتقل من آ 3- 6 إلى آ 7- 8 وبشكل مباشر من مخطّط الله إلى التحرير من الخطايا.
أما تدخّل المحرّر فقد ربطته آ 7 مع "غنى نعمته". والنعمة لا تدلّ فقط على الرضى السابق، بل على الرحمة. لقد انتقلنا من النعمة التي تهيّىء مخطّط الله إلى النعمة التي تصلحه: إنّ نعمة الله كانت من الغنى بحيث قامت بعمل الغفران. هذا ما يعبرّ عنه أيضاً 2: 7 الذي يتحدّث عن "غنى نعمة" الله. ولكن قبل ذلك، ارتبطت هذه النعمة بغفران الذنوب فتماهت مع الرحمة بشكل صريح. "ولكن الله بواسع رحمته وفائق محبته لنا، أحيانا مع المسيح بعد أن كنّا أمواتاً بزلاّتنا. فبنعمة الله نلتم الخلاص" (2: 4- 5).
* الكشف عن السّر
تحدّثت المباركة الرابعة عن الكشف عن السّر. موضوع مهمّ في كو (يُذكر 4 مرات) وفي أف (يُذكر 6 مرات). وهو يرتبط بفعل "عرّف، كشف". "هذا السّر الذي ما كشفه الله لأحد من البشر في العصور الماضية، وكشفه الآن في الروح لرسله وأنبيائه القدّيسيين" (3: 5). المنظار هو هو، هنا وفي آ 9- 10: كان السّر خفياً في الله الذي كوّنه من قبل، وها هو يُكشف الآن. وهذا الكشف يرتبط مع ملء الأزمنة في آ 10 (رج غل 4: 4). تحدّث بولس في غل عن ملء الأزمنة بالنظر إلى الإسكاتولوجيا التي تحقّقت بمجيء يسوع. أما أف 1: 10 فيوجّهنا إلى الإسكاتولوجيا الأخيرة. فجمع كلّ الكائنات (هكذا يتحقّق السّر) يتحدّد موقعُه ساعة يصل قصد الله إلى تمامه النهائي.
منذ بداية المباركة في آ 3 تحدّث النمو عن مخطّط الله وعمله تجاه البشر. أما آ 10 فقد وسّعت الآفاق: فعملُ الله وتصميمُه لا يعنيان البشريّة فقط، بل الكون كله. وهكذا يكون عمل فداء على مستوى الكون كما على مستوى البشر. هناك غفران خطايا وهنا استعادة الكون وجمعُه في شخص المسيح.
قامت المباركة السابقة (آ 7- 8) بافتداء البشريّة. إنطلقت النظرة من بشر مطبوعين بالخطيئة إلى مجمل الكائنات المخلوقة (آ 9- 10). والنظرة عينها نقرأها في كو 1: 15- 20. بعد أن أعلن النشيد خَلْق جميع الكائنات في المسيح، بالمسيح، للمسيح (آ 16)، قال إنّ "الله صالح به لنفسه كلّ الخلائق صانعاً السلام بدم صليبه" (آ 20). فبفضل دم المسيح تمّ فداء البشريّة، بل مصالحة الكون وإعادة ترتيبه لجمعه في المسيح.
* آفاق الرجاء
ونصل إلى المباركة الخامسة. "فيه أيضاً". هنا يختلف الشرّاح. يرى البعض أنّ فعليَ "حدّد مسبقاً" و"سبق وترجّى" يعودان إلى اختيار إسرائيل الذي كان رجاؤه مشدوداً إلى المسيح. في هذه الحالة، نجد نفوسنا أمام اليهود والوثنيين. ويرى البعض الآخر أننا أمام مجمل المؤمنين الذين اختارهم الله مسبقاً (آ 4) فرجوا قبل الأوان ملء تحقيق قصد الله في المسيح. في هذه الحالة، تدلّ صيغة المخاطب الجمع (أنتم) على قرّاء الرسالة الذين يتوجّه إليهم الكلام بشكل خاص.
يبدو أنّ التفسير الثاني هو الأفضل. فمجمل المؤمنين (لا جزء منهم) ينعم ببركات الله، لا فئة من الفئات. فكلّهم مدعوّون إلى ميراث الله. وان عنت آ 11- 12 مجمل المؤمنين المتطلّعين إلى ملء تحقيق مخطّط الله، فهذا يعني أننا في خط ما رُسم في آ 10 (كل شيء)، وقبل آ 13- 14 اللتين تفتحان الباب على نظرة إسكاتولوجية. أما إذا عنت آ 11- 12 اختيار إسرائيل، وجب أن تأتيا قبل آ 7- 10 لكي نراعي ترتيب المراحل في تحقيق مخطّط الله.

3- المقطع الثالث: عمل الروح القدس (1: 13- 14)
أ- آمنتم، ختمتم
في آ 13، تتطوّر المباركة فتصبح كلاماً يتوجّه إلى المؤمنين: ليشكروا الله، لأنهم نالوا كلمة الحياة. نالوا هذا الإنجيل الذي ليس تعليماً كسائر التعاليم، بل المسيح نفسه (4: 20) المقيم فينا بالإيمان.
وتنتهي المباركة بذكر الروح القدس الذي هو ذروة وعد الله (روح الوعد، رج غل 3: 14). إختلفت أف عن كو المركّزة كلّها على المسيح، فتركت مكاناً واسعاً للروح القدس، وبالتالي جاءت في خطّ الرسائل البولسيّة الكبرى. في 2: 18، نصل إلى الآب بروح واحد. وفي 2: 22 نصير مسكناً لله في الروح. الروح هو الذي أعلن السّر للرسل والأنبياء (3: 5)، وقوّته هي التي تؤيّد المؤمنين (3: 16). إن كان الجسد (أو كنيسة المسيح) واحداً، فالروح واحد (4: 4). هذا الروح الحاضر فينا، لا نحزنه (4: 30)، لا نتمرّد عليه كما فعل العبرانيون في البرية، لا نجدّف عليه رافضين أنواره كما تقول الأناجيل الإزائية. هذا الروح نمتلىء منه (5: 18) ونتسلّح به (6: 14- 18)، فهو يحرّك فينا كل صلاة ودعاء.

ب- حمد مجده
أما في آ 13، فالروح يتميّز بأنه عربون (كلمة تستعمل على مستوى التجارة 2 كور 1: 22) ميراثنا. لقد طَبعنا بخاتمه، بعلامة انتمائنا النهائي إلى الله. لقد طبعنا بوسم المعمودية، وهتف فينا: أبّا، أيها الآب.
ترد عبارة "حمد مجده" ثلاث مرّات في هذه المباركة، فتدعونا إلى الإقرار بأن كلّ مخطّط الخلاص يعلّمنا أنّ لله وحده المجد. عرفت الكنيسة عبارة "تمجيد الله". ولكننا نتساءل اليوم: هل يحتاج الله إلى أشخاص "يمالقونه" فينشدون في كلّ ساعة حسناته؟ كلا. ونبدأ فنقول إنّ مجد الله هو عظمة سالإنسان. يتمجّد الله حين تنمو البشرية وينمو كل إنسان فيها، حين يتمّ جمعُ البشرية والكون تحت رأس واحد، هو يسوع المسيح.
وإذا أردنا أن نفهم مجد الله نعود إلى التقليد البيبلي: فالمجد لا يعبرّ عن شيء غريب لدى شخص من الأشخاص، بل عن عمق كيانه وشعاع عمله. كما الشمس تنشر النور والدفء، كذلك يخلق الله في مجده الكون كله ويسوسه. وحين يعلن السرافيم أنّ الأرض كلّها قد امتلأت من مجد الله (أش 6: 3)، فهم يقرّون بأن كلّ شيء في الخليقة صالح، ما عدا خطيئة الإنسان. ولا يتجلّى مجد الله فقط في الكون الماديّ، بل في تصرّفه تجاه شعبه. ولقد فهم الأنبياء (حزقيال، أشعيا الثاني) بعد خيانات الشعب للربّ، أنّ الباعث الأعظم على الرجاء هو مجد الله أو قداسة اسمه (حز 36: 21- 23).
وحين نسمع الله يعلن: "لا أعطي مجدي لأحد آخر" (أش 42: 8)، نفهم أنه الإله الأمين، وأنه وحده يخلّص شعبه، لا أحد آخر (مز 115: 1). أما قمّة هذا الوحي فنجدها في مجيء المسيح المخلّص والفادي. ونحن نعيش لمجد الله، حين نتجاوب مع النداء الذي يوجّهه الله إلينا لكي نشارك القدّيسين في غنى مجده (1: 18).

ج- روح الوعد
"فيه أنتم أيضاً سمعتم كلمة الحق، إنجيل خلاصكم". تتميّز هذه المباركة الأخيرة عن الخمس التي سبقتها بسمتين اثنتين. الأولى، هي لا تعود إلى عطايا (الاختيار، الفداء، الوحي) قدّمها الله لنا في وقت من الأوقات، في الماضي، قبل المسيح أو مع المسيح. إنّ هذه المباركة تحدّثنا بالأحرى عن عطايا (الروح القدس، استباق الميراث) تصل إلى كل مؤمن بمفرده في حاضر الكنيسة. الثانية لا ترسم آ 13- 14 فقط عطيّة الله أو عمله، بل ردّة فعل المؤمنين تجاه هذه العطيّة: سمعتم الكلمة، آمنتم، خُتمتم بالروح القدس.
نحن هنا أمام المراحل الأساسيّة الثلاث في طريق تجعل الإنسان مسيحياً. كل شيء يبدأ بالاستماع إلى الكلمة. هنا نتذكّر ما قاله بولس في روم 10: 14، 17: "كيف يؤمنون إن لم يسمعوا... فالإيمان إذن من الكرازة". بعد هذا، يُختم تقبّل الكلمة في الإيمان بختم المعمودية التي هي الموضع المميّز لعطيّة الروح القدس.
نقرأ في آ 13 ب: "خُتمتم بالروح القدس، روح الموعد". قد نكون هنا أمام تلميح عماديّ. فإن أف تتحدّث مراراً عن هذا السّر الأوّل من أسرار التنشئة (2: 1- 6؛ 4: 5، 20- 24؛ 5: 14، 25- 26). نقرأ في 4: 5: "ربّ واحد، إيمان واحد، معموديّة واحدة". وفي 1: 13: "وفيه، آمنتم، فختمتم". إرتبط الختم بعطيّة الروح، فكنا في التقليد البولسي حوله العماد (1 كور 6: 11؛ 12: 13؛ تي 3: 5). ثمّ لا ننسَ أنّ صورة الختم طُبّقت في الكنيسة الأولى على سّر العماد.

خاتمة
هكذا بدت المباركة التي تفتتح أف، وهي تحاول أن ترفعنا منذ البدء إلى عالم السماء. من هناك تنطلق منذ الأزل البركاتُ الروحيّة، وهناك تتحقّق. بركات ست يتوسّع فيها الرسول. في البركة الأولى، نداء المختارين إلى حياة من السعادة تبدأ على هذه الأرض بشكل مستيكي باتحاد المؤمنين مع المسيح الممجّد. وفي البركة الثانية نعرف الطريقة المختارة من أجل هذه القداسة، طريقة البنوّة الإلهية التي ينبوعها ونموذجها هو يسوع، الابن الوحيد. البركة الثالثة هي عمل الفداء التاريخي كما تمّ بصليب المسيح. في الرابعة نكتشف السّر بوحي وصل إلينا. وفي الخامسة، نحن امام اختيار إسرائيل كحصّة الله والشاهد في العالم للانتظار المسيحاني. والبركة السادسة تحدّثنا عن نداء يوجّه إلى الوثنيين ليشاركوا الشعب اليهودي في الخلاص الموعود به في الروح. وهكذا تأتي عطيّة الروح فتتوّج تنفيذ مخطّط الله وعرضه بشكل ثالوثي. بدأ هذا المخطّط بشكل سّري منذ الآن ساعة لا يزال العالم القديم قائماً. وسيكون كاملاً حين يقوم ملكوت الله بشكل مجيد ونهائيّ في مجيء المسيح. هذا هو أساس رجائنا. هذا هو عربون ميراثنا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM