الفصل الخامس: انتصار المسيح

الفصل الخامس
انتصار المسيح
1: 15- 23

يحتفل هذا المقطع بانتصار المسيح وجلوسه عن يمين الآب. وفيه تتجلّى حكمة الله وقدرته. لقد زاد بولس صلاة شخصيّة على المباركة التي بدأ بها رسالته (1: 3- 14)، فحلّت محلّ فعل الشكر الذي اعتاد أن يقدّمه. لقد أصعد إلى الله تمنّيات وصلوات من أجل جماعات لم يؤسّسها، ولكنه يحمل دوماً همّها. وفي هذه الصلاة (1: 15- 23) يجعل في اضمامة وثيقة فعلَ الشكر والتوسّل (1: 16) فيعبرّ أفضل تعبير عن مشاركته في سّر الله.
تفجّر فعل الشكر من مشاهدة حدث الخلاص الذي تأوّن (صار الآن حاضراً) في حياة الجماعة. وشدّد التوسّل على أن هذا لا يتحقّق بقوانا الخاصّة. إن التوسّل هو موقف من وعى ضعف الإنسان أمام عظمة مشروع الله، وضرورة دينامية الروح القدس. وهكذا يجعلنا فعل الشكر والتوسّل في دينامية تحمل الكنيسة إلى الملء الذي أعدّه الله لها.

1- نظرة عامة
نحن أمام بحث عن حكمة هي في الواقع "جنون". بدأ بولس فأرسل شكره إلى الله الآب من أجل اثنين هما في الواقع وجهتان من الحياة المسيحية: الإيمان بالربّ يسوع، والمحبّة وسط جماعة الإخوة (1: 15). وانتظرنا ذكر الرجاء لكي يكتمل المثلّثُ البولسي (الأيمان والرجاء والمحبة). وها هو سيظهر في صلاة التوسّل (1: 18: رجاء دعوته)، ولكن كثمرة حكمة ووحي ومعرفة (1: 17). لم يرتبط الرجاء بالمعرفة صدفة واتفاقاً. فارتباطهما هو محرّك جوهري في الفكر البولسيّ ولا سيّما في أف وكو.
فالحكمة في نظر بولس اليهوديّ هي الشريعة ومعرفة مشيئة الله والبحث عن ممارستها بتطبيق الوصايا وبتتميم الأعمال الصالحة وبتكديس الاستحقاقات (مثل الفريسيين). هذه الحكمة الإلهيّة التي سبقت الزمن وأشرفت على الخلق، هي موجودة كلها في الشريعة التي صارت القاعدة السميا والمعيار لجميع الأعمال. والهمّ الأول هو أن يعرفها الإنسان ويمارسها. وبما أن بولس اتّبعها وكان إنساناً غيوراً عليها، أضطهد جماعة المسيح، اضطهد كنيسة الله. وحين التقى في منعطف حياته، يسوعَ القائم من الموت، وجب عليه أن يفكّر في حكمة الله التي هي كلمة الله. هذه الكلمة صارت إنساناً هو يسوع المسيح الذي مجّدَته فدرةُ الله. إذن، الحكمة التي يجب أن نعرفها هي شخص يجب أن نلتقي به ونتبعه. وهو يسوع المسيح.
وانتقل بولس إلى العالم اليوناني حيث يعمل من أجل ربّه، فواجه فيه أيضاً رغبة في الحكمة. وبجانب الذين يطلبونها في براعة الخطبة والفكر، هناك أشخاص اجتذبتهم "غنوصية" أو معرفة انتقلت بوحي. وهذا الوحي يتعلّمه الإنسان عبر تنشئة محفوظة للكاملين (للكمّال). وهذه المعرفة تخلّص في ذاتها، وبالنور الذي فيها. فلا حاجة إلى الصليب. بل لا حاجة إلى المسيح والكنيسة وتقليد الرسل (رج 1 كور 1: 17- 2: 16). أما بولس فعرف أنه ليس إلا وحيٌ إلهيّ واحد، وهو الذي تمّ "في ملء الأزمنة". ففي المسيح كان لنا الوحي النهائي والحاسم المعطى لجميع الذين يتعلقون في الإيمان بشخص يسوع المسيح.

2- سمعت بإيمانكم (1: 15- 16)
"لذلك... بالنسبة إليّ" (آ 15). لقد اعتاد بولس أن يقطع تصويراً عاماً لعلاقة الله بالكنيسة ويورد كلاماً عن نفسه (3: 1، 13؛ 4: 1؛ 6: 19، 21؛ روم 7: 24- 25؛ غل 1: 10- 2: 21). لسنا هنا في معرض البلاغة، بل أمام تعبير عن وعي رفيع لرسالته يجد جذوره في "الوظيفة" التي كلّفه بها الله كرسول. وفي 2 كور 3، وصلت الأمور ببولس إلى تشبيه خدمته بخدمة موسى، فنسب إلى عمله مجداً يفوق مجد موسى (آ 9: إن كانت خدمة القضاء "في موسى" مجيدة، فكم بالأحرى خدمة البرّ تفوقها مجداً". لقد كانت وظيفة بولس الخاصة بأن يعلن دخول الأمم في شعب الله (غل 1: 16؛ روم 1: 5؛ 15: 15- 21؛ أف 3: 5- 6).
"بعد أن سمعتُ" (رج كو 1: 4). يبدو بولس وكأنه يتوجّه إلى جماعة لم يؤسّسها. وقد يكون تيخيكس حمل إليه أخباراً عنها (كو 4: 7؛ أع 20: 4).
"إيمانكم بالرب يسوع". وربما: أمانتكم للربّ يسوع. إن كو 1: 4 قالت: "سمعنا بإيمانكم في المسيح يسوع". أما غل 5: 22 فجعلت "الإيمان" في لائحة ثمار الروح، فصار موقفاً أخلاقياً.
"لجميع القدّيسين". يتحدّث بولس عن هذه الأمانة (هذا الإيمان) وهذه المحبّة التي ظهرت للقدّيسين. لا لجميع البشر. في غل 6: 10 حضّ القدّيسين على عمل الخير من أجل جميع البشر ولا سيّما أهل الإيمان. ونقول الشيء عينه عن العهد القديم حيث الحبّ والأمانة والحقّ تتوجّه أولاً إلى أبناء العهد. فعلى كل إسرائيل أن يحبّ الربّ من كل قلبه و"أخاه" أو "قريبه" مثل نفسه. لا يُذكر المصريّ البعيد ولا العماليقي المعاديّ. والبشريّة كلها (كل بشر) ليست موضوع حبّ. ويتضمّن أف 1: 5 التحديد عينه. فالإنسان لا يستطيع علمياً أن يحبّ كل إنسان. والمسيحي لا يستطيع أن يحب أناساً لا يعرفهم، أناساً لم يجعلهم الله في طريقه.
"لا أزال أشكر لأجلكم" (آ 16). ظنّ بعضهم أننا أمام صلاة الكاهن الأعظم. وآخرون أننا أمام نواة ليتورجيا إفخارستية: موقفان لا يمكن المدافعة عنهما.
"وأذكركم في صلواتي". لسنا فقط أمام عمل عقليّ. فالمضمون البيبليّ للتذكّر يفترض أيضاً عملاً ذا طابع عباديّ. بما أن بولس لا يعرف الأشخاص الذين إليهم يوجّه رسالته، فهو لا يمكنه أن يتذكّر في المعنى الحصري للكلمة. بل هو يستطيع أن يستغلّ كل ما يعرف عنهم: أصلهم، تاريخهم، طريقة حياتهم (1: 13، 15). بعد هذا يتوسّل إلى الله من أجلهم.

3- المعرفة الآتية من الله (1: 17- 18 أ)
حين توسّل بولس من أجل هذه الجماعات، طلب الحكمة الحقيقيّة. وقد بدت منذ البداية بشكل موهبة ننالها ونعمة مجانيّة من الله. ولا يستطيع أن يعطيها إلا "إله ربنا يسوع المسيح وربّ المجد" (آ 17). إن هذه الألقاب الليتورجية (رج 1: 3؛ روم 15: 6؛ 2 كور 11: 31) تجد مكانها الأصلي في صلاة. ولكن بولس قد أدخلها هنأ كباعث على الثقة بالله.
لسنا فقط أمام إله الآباء، أو إله موسى، بل "إله ربنا يسوع المسيح"، الذي كشف عن ذاته به (بالمسيح) وفيه. لا يدخل بولس في لاهوت مجرّد حول كيان الله. بل هو يعود إلى الحدث الذي طبع بطابعه تاريخ العالم، إلى هذا الحدث الذي يجب أن يكون أساس ثقتنا بالله.
وسمّي الله أيضاً "إله المجد". لا شكّ في أن كيانه هو في المجد السماوي. ثم أنه يفيض بقدرته العجيبة شعاع كيانه الذي يستطيع وحده أن يمنح المعرفة والوحي.
وإذ أراد بولس أن يحدّد واقع المعرفة هذا، ضمّ إليه كلمة "روح" (آ 17). فعطيّة الروح تميّز الأزمنة المسيحانية (أش 11: 2؛ يو 3: 1- 5). وهي تطبع بطابعها منعطف التاريخ الذي فيه يتدخّل الله بشكل حاسم في العالم. وحين استعمل بولس هذه العبارة دلّ على أن قدرة الله ما زالت تعمل، وأن هذا التبدّل ليس وليد مجهود الإنسان. فالله يتدخّل في عالم البشر لينشىء مشاركة تكمل يوماً بعد يوم، بين الله والبشر.
فروح المسيح الذي هو موهبة مجانيّة من الربّ، يتيح لنا أن نلج سّر الله، أن ندخل إلى وحيه الذي هو حكمة (أي: صرفة قصده) وتأوين للسّر. فالجسد (أو البدن واللحم والدم) الذي يدلّ على الإنسان المتروك لنفسه، يعارض الروح ولا يستطيع أن يحقّق هذه المعرفة. إن بولس يجعل نفسه طوعاً في تيّار العهد القديم المواجه للاعتبارات الهلنستيّة. وإن استعمل المفردتين "حكمة" و"وحي" فقد استعملهما في خطّ التيّارات اليهودية المرتبطة بعالمَي الحكمة والجليان. فالمعرفة هي حكمة من حيث إنها تتيح لإنسان أن يتعرّف إلى مشيئة الله، أن يميّز ما هو حقّ، وما يجب أن يعمل في وقت محدّد. هنا تظهر الحرّية المسيحية التي هي توافقُ حبّ مع مخطّط الله من أجل خلاص العالم.
وهذه الحكمة التي هي موهبة روح الله، التي تشرك الإنسان في الوحي، هي في خدمة معرفة الله. وقد أكّد بولس مراراً أن معرفة الله تفترض الإيمان والمحبّة أو بالأحرى تتضمّنهما (3: 17 ي؛ 4: 13؛ كو 2: 2). إذن، ليست معرفة الله علماً مجرّداً وخطبة عن الله. إنها خبرة إيمان ومحبّة، ومشاركة مع الله الذي يوحّد الكائن الحيّ ويوحّد معه أعماله. أما سبب هذه المعرفة فهو أن "عيون القلب قد استنيرت" (آ 18).
عبارة تدهشنا للوهلة الأولى، ولكنها مأخوذة من تقليد ليتورجي قديم (مز 18: 9؛ نح 9: 8؛ با 1: 2). فتجاه تقسية القلب التي ترفض التعرّف إلى حضور الله في العالم، نحن أمام استنارة العقل الذي يلتقي بالله في معبده أو في شريعته. والفعل في صيغة الماضي الكامل، يدلّ على أن بولس يفكّر في حدث مضى واستمرت نتيجته باقية: في الواقع، إنه يحيلنا إلى التوبة العمادية. فبالعماد تبدّل قلب الإنسان، تبدّل كائنه الحميم الذي منه تخرج القرارات. فالإنسان الذي كان ظلمة (4: 18؛ رج 1: 21) قد صار نوراً (2 كور 4: 6). إذن، نقطة الإنطلاق هي استنارة أسراريّة في قلب الحياة التي تصبح وجوداً واعياً: وهي تعبرّ عن نفسها مدى العمر. هذه المعرفة التي أعطيت في بدء التوبة العماديّة، وعبرّت عنها خبرة حياة الإيمان والمحبّة، هي توسّع يصلح لأن يكون موضوع توسّل.

4- معرفة من أجل الرجاء (1: 18 ب ج- 19)
يعبرّ بولس عن تمنّيه الحار بأن ننال هذه المعرفة: يجب على المسيحيّين أن لا يضيعوا اتجاهم ولا تأخذهم الحيرة، بل أن يشدّوا الهمّة نحو هدف واضح ووحيد. وتحدّد ثلاثُ جمل استفهامية مضمون هذه المعرفة: تبدو الجملة الأولى عامة. وستفسرها الجملتان التاليتان.

أ- "رجاء دعوته" (آ 18ب)
يجد المرتدّ نفسه أمام حياة منفتحة، مدفوعاً نحو مستقبل، نحو واقع يترجّاه، واقع يسميه الرسول هنا: "الرجاء". لا تعني الكلمة فقط موقفاً سيكولوجياً من الثقة والتأكّد والثبات، بل واقعاً يقدّمه لنا الله (غل 5: 5: بالإيمان ننتظر البرّ المرتجى؛ كو 1: 5، 27). والنداء هو الانفتاح على هذا العالم الجديد. إن النداء (أو: الدعوة) يحتلّ في فكر بولس مكانة من الدرجة الأولى: فكياننا يرتبط بنداء الله الذي يدعونا ويوجّه إلينا كلامه. فالإنسان هو الكائن الذي يدعوه الله من أجل رسالة. والمسيحيّون هم "مدعوّون". وكما أن مصدر دعوة إسرائيل هو نداء (روم 11: 28- 29)، كذلك نقول عن رسالة بولس (غل 1: 15: إرتضى الله ودعاني بنعمته). ونداء الإنجيل يوصل هذه الدعوة إلى المسيحيّين الذين يتقبّلونها في طاعة الإيمان (روم 8: 30؛ كو 3: 15؛ غل 1: 6 ي). إنه دعوة إلى الخلاص، إلى عالم جديد، إلى خليقة جديدة، إلى بُعد جديد لكائن يسمّيه بولس: النعمة، القداسة، السلام، المجد، الحرّية. قال بولس: "إبن الله الذي به دعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح هو أمين" (1 كور 1: 9). وقال في 1 تس 2: 12: "الله الذي يدعوكم إلى ملكوته ومجده". وفي 4: 7: "لم يدعنا الله إلى النجاسة، بل إلى القداسة" (رج 1 كور 7: 22 والحرية؛ غل 5: 13: دعيتم إلى الحرية).
هذه الدعوة ليست نداء عابراً: لهذا يجب أن نبقى أمناء لها. إذا كان كيان المسيحيّ يقوم بأن يكون مدعوّاً (روم 1: 6- 7؛ 8: 28؛ 1 كور 1: 2- 26)، فهذا يتضمّن أمانة خلاّقة وينبوع أعمال تتجدّد باستمرار. فحسب 1 كور 7: 20، "يجب أن يستمرّ كل واحد في الحالة التي دُعي فيها" (رج أف 4: 1، 4). وهذا التوسّع الواعي تجاه أوضاع مختلفة، لا يمكن أن يتمّ إلاّ في المسيح (فل 3: 14: ودعانا الله إليها في المسيح يسوع). وهو يتأصّل في انتمائنا للمسيح الذي فيه ينفتح مستقبلنا الذي يسميّه بولس "الرجاء". إذن، يتفجّر هذا الرجاء من معرفة الله التي أُعطيت لنا بالإنجيل حين نتقبّله في الإيمان والمحبّة.

ب- "غنى مجد ميراثه" (آ 18 ج)
وبعد أن أحاط بولس بمضمون معرفة الله التي هي الرجاء، حاول أن يوضح هذا الرجاء في اثنين من وجهتيه: في واقعه الأخير، في تحقيقه المتدرّج.
الواقع الأخير هو "الميراث بين القدّيسين": هي عبارة ليتورجيّة تقليديّة تعود إلى زمن بولس، وقد استعملت مراراً في الأدب الجلياني. إنها تدلّ على حضور المختارين حضوراً مفرحاً وأبدياً قرب الله في رواق القوى السماوية. ما هو جديد هو أن المدعوّين يستطيعون أن يتعرّفوا إلى "غنى مجد" هذا الميراث. فقد أوحي لهم مجدُ القيامة في المسيح القائم من الموت، وبكر من قام من بين الأموات. إذن، عرفوا تدخّل الله القدير الذي يحوّلهم. والميراث ليس فقط العالم الماديّ ولا الأرض المقدّسة التي دلّت على إرادة الله الخلاصّية، بل عالم متجلٍّ رأوا بهاءه وقدرته ساطعين في قيامة المسيح. أما مضمون رجائنا، فهو تنعّم نهائي بهذا الحاضر المنير الذي يبدّل كياننا.

ج- "عزّة قوّته" (آ 19)
وتتدخّل قدرة الله بالضرورة لكي تقودنا إلى هذا الواقع السماويّ الذي هو حضور مجيد مع القدّيسين. هذه هي الوجهة الثانية للرجاء. فعلى المؤمن أن يعرف عظمة قدرة الله الذي يريد أن يجعلنا في ملكوته. وهكذا تتوازى قدرة الله مع مجده، لأنهما شكلان لواقع واحد: فالمجد وحده يجعلنا جديرين به. وقوّة الله التي لا تُقاس، تحمل القوّة الضرورية لهذا التجليّ، للإنسان الذي لا يستطيع أن يتجاوز نفسه لكي يتألّه.

5- المسيح الممجّد كفيل رجائنا (1: 20- 22)
إن هذه القدرة الإلهيّة تبدو ناشطة فينا ومن أجلنا. وهي تبدو فاعلة وحيّة في شخص الربّ الذي إليه ننتمي وبه نرتبط. وقد أعلنت لنا في واقع سّر المسيح. وما إن يشاهد بولس هذا السّر حتى يحلّ محلّ التوسّل والدعاء مديحٌ يلامس اعتراف الإيمان، بل يوسّعه وينشده ويعظّمه. وتتلاحق كلمات القدّيس بولس وتتوسّع بقدر تأمّله في السّر. وهو يعطينا في أربع عبارات البواعث الأخيرة التي تؤسّس صلاته وتسند رجاءه.

أ- المسيح القائم من الموت (آ 20 أ)
إن قدرة الله عملت حين أقامت المسيح. هذه هي العبارة المركزيّة في اعتراف الإيمان المسيحي. "الله الذي أقام الربّ، يقيمنا نحن أيضاً بقدرته" (1 كور 6: 14). نحن "نؤمن أن يسوع مات ثم قام" (1 تس 4: 14). إنطلق الرسول من هنا فصوّر انتصار المسيح وسلطانه.

ب- المسبح الممجّد (آ 20 ب- 21)
وقد تجلّت قدرة الله هذه في تمجيد المسيح الذي يصوّر بكلمات مز 110 الذي يرد مراراً في هذا المعنى في مواعظ الدفاع في الجماعات المسيحية الأولى (روم 8: 36؛ كو 3: 1). ولمّا تمجّد المسيح شارك الله في سلطانه: إنه "عن يمين الله": هذه عبارة تقليدية تدلّ على مشاركة في السلطان والقدرة.
وتتوضّح هذه السيادة من زاويتين: على مستوى المكان الذي منه تمارس. على مستوى الاتساع الذي لا حدود له. فالمسيح هو "في السماوات". عبارة استعملها بولس في 1: 3 فدلّ على التسامي الإلهي. وبما أنه القائم من الموت، فهو يسوس العالم. إنه لم يلجأ إلى عزلة مجيدة تخفي انتصاره عن الناس.
وإذ أراد بولس أن يبرز هذا التسامي الفاعل والناشط، زاد أنه (أي: يسوع) تمجّد فوق كل القوى السماويّة التي يتكلّم عنها قرّاؤه في حلقات اجتماعهم. ولقد حاول بعضهم أن يجعل المسيح بين هذه القوى. أما الرسول فأكّد تسامي المسيح المطلق عليها. ظنّ الناس في ذلك الوقت أن لهذا القوى منطقة عمل. أنها ارتبطت بموضع تنطلق منه لكي تمارس نشاطها. أما بولس فيرى أن الربّ هو فوقها كلها، وأن لا حدود لتأثيره ونشاطه، فكرّر ما قال في كو 2: 10: "إنه رأس كل رئاسة وسلطان".
وشدّد بولس أيضاً على أزليّة هذا السلطان: إنه يسري "ليس في هذا الدهر فقط، بل في الآتي أيضاً". إذ استعاد بولس التمييز اليهوديّ التقليديّ بين هذا العالم والعالم الآتي، عرف أن هذا التمييز ليس فقط زمنياً، بل نوعياً: نحن أمام تجلّ للعالم نجده الآن في مبدأه، في شخص المسيح وفي عطيّة الروح (عب 6: 5: "ذاقوا الموهبة السماوية وأشركوا في الروح القدس").

ج- "أخضع كل شيء" (آ 22 أ)
وظهرت قدرة الله أيضاً في سلطان المسيح الفاعل في الكون. استعمل بولس مز 8: 7 الذي يطبّق عادة على الانتصار الإسكاتولوجيّ (عب 2: 8 ي). أما هنا فنحن أمام انتصار حاليّ: فهذه القوى ليست فقط أدنى منه، بل هي خاضعة له. هذا طرحٌ توسّع فيه بولس في كو 2: 15 ي وسيعود إليه في أف 6: 12.

د- الله "جعله رأس الكنيسة، فوق كل شيء" (آ 22 ب)
وحين شدّد بولس على هذا التأكيد الأخير، ظهرت الكنيسة في المستوى الأول كواقع اسكاتولوجيّ. والطريقة التي بها أدخله (أي: يسوع) بدت مميّزة: "وهو الذي جعله" بعد انتظار طويل. هذا هو هدف وخاتمة كل التأكيدات السابقة، وما يؤسّس في النهاية رجاءنا. هذه هي ذروة قصد الله الخلاصي. إن فاعليّة قدرة الله تمارَس ملء الممارسة حين تجعل المسيح رأس الكنيسة.
المسيح هو رأس "فوق كل شيء" (رج عب 2: 18؛ كو 2: 10؛ أف 1: 15- 16). وهكذا يستبعد بولس سائر القوى التي لا تأثير خلاصياً لها في الكنيسة. فالمسيح هو وحده الذي يعطي قدرة الخلاص.
إذا كان المسيح رأس الكنيسة ورأس القوى، فهو ليس كذلك بالصفة نفسها والطريقة عينها. إن سموّه على القوى يختلف عن سموّه على الكنيسة. فالقوى خاضعة مستعبدة. وقد جُعلت تحت قدمَي المسيح خلال انتصاره. أما الكنيسة فهي واحدة معه وإن خضعت له. وهو يمارس عليها سلطة التقديس والحبّ لا سلطة القسر والإكراه. ومن أجل هذه الكنيسة التي هو رأسها أعلن المسيح قدرة الله وأظهر نتيجة هذه القدرة في العالم.

6- الكنيسة جسد المسيح وملئه (1: 23)
وبعد أن حدّد بولس الموضوع الأخير في الرجاء المسيحي الذي يوجّه جميع المسيحيّين نحو التتمة، توقّف يتأمّل في الكنيسة. وأعطاها صفتين: هي جسد المسيح، هي ملء المسيح.

أ- الكنيسة جسد المسيح (آ 23 أ)
إن فكرة الكنيسة جسد المسيح هي مركزيّة في الرسالة إلى أفسس (3: 6؛ 4: 4، 12، 16؛ 5: 23، 29). وهي تشكّل نقطة وصول في الفكر البولسيّ. أما هنا فتبدو كمفهوم معروف يجمع كل ما قاله بولس في أمكنة أخرى.
- توخّت العبارة أن توكّد على الرباط الخاص الذي أقامه المسيح مع كنيسته. وهذا الرباط هو وسيلة الخلاص الوحيدة التي أقرّها الله، والنضج الأخير للخبرة المسيحيّة.
- في الكنيسة، جسد المسيح، تتقوّى الوحدة في الكثرة. وحين يتّحد المسيحُ الرأس مع المسيح الجسد، يتكوّن الإنسان الجديد، آدم الجديد (2: 15).
- لا شكّ في أن الجسد يخضع للرأس: هذه هي طاعة الإيمان للمسيح يؤدّيها كل واحد منا. وهو خضوع حبّ يخلق الحريّة الحقيقيّة.
- ما هو جديد في الفكر البولسي هو أن الرأس هو الأول الفاعل للنموّ: المسيح هو رأس من حيث إنه ينمي جسده (4: 15- 16).
- إن سيادة المسيح هي سيادة الزوج الذي يمارس واجب العناية والاهتمام لكي تصبح المحبّة واقعاً حاضراً (5: 22، 25، 28، 32). نفي هذه الخلفية (التي هي خلفيّة كل أف) تتخذ العبارة كامل معناها: إنها تدلّ على كل مستقبل رجائنا، على المعنى الأخير للخليقة، على الهدف الأخير للتاريخ البشريّ والإلهيّ في هذا العالم.

ب- الكنيسة ملء المسيح (آ 23 ب)
نسب بولس هذه الصفة الثانية إلى كنيسة المسيح. إنها "الملء" (بلاروما) والكمال. إن الكنيسة تكمّل المسيح كما يكمّل الجذع الرأس، والأعضاء الجسم.
ولكن إن كان بولس قد استعمل لفظة "رأس" للمسيح ولفظة "جسد" للكنيسة، فليس من أصل واحد لاستعمال هاتين اللفظتين. أخذت لفظة "رأس" من العالم الساميّ، فدلّت على الرئيس وصاحب السلطان. وقد استعملها بولس ليحارب هرطقة الكولسيين التي أبرزت دور الرئاسات والسلاطين. لهذا قال بولس: إن المسيح هو بقيامته الرأس والرئيس. أما أصل كلمة "جسد" فيعود إلى عالم الرواقيّين الذي يتحدّث عن جسم موحّد رغم اختلاف الوظائف، رغم تنوّع الخدم. الفكرة هي الوحدة في الكثرة. لقد أعلن بولس أن المسيح هو رأس الكنيسة في معنيين: هو الرئيس، هو مبدأ الحياة الذي يوحّد الجسد وينمّيه (كو 2: 19).
وهكذا كان للفظة "بلاروما" معنى فاعل. ولكن له أيضاً معنى منفعلاً، معنى الملء الذي نجده في العالم اليونانيّ وفي السبعينيّة.
فحسب 3: 19 و4: 13، الإنسان الكامل وفي عزّ قوته، هو الكنيسة، جسد المسيح. ويتحقّق كمال هذا الجسد وكل عضو من أعضائه دون أن يتوجّب على المسيح الرأس أن "يكتمل". مثل هذه الفكرة غريبة كل الغربة عن النظرة البولسيّة. فمن المسيح الرأس تأتي قوة الحياة الضروريّة من أجل تكملة الجسد. فالكنيسة هي الموضع الذي إليه يحمل المسيح ملء عمله وحياته.
هذا هو المعنى في أف. الكنيسة تسمّى الملء لأنها موضع تدخّل الله التام الكامل، لأن فيها يجتمع كل عمله الخلاصّي.
يبقى علينا أن نفسّر الشقّ الثاني من النعت الذي يتعلّق بالمسيح. "المسيح هو مملوء". أو "المسيح يملأ". وهناك العبارة "كل في الكل". هذا ما يدلّ على اتساع لا حدود له. ويبدو أن صيغة المجهول هي الأفضل (المسيح مملوء). فإذا أراد بولس استعمل المعلوم عندما يراه ضرورياً (4: 10).
إذن، فكّر بولس في المسيح القائم من الموت، "المملوء من الله". الذي يملأه الله. هذا ما قاله في المقطع الموازي في كو 2: 9- 10: "فيه يحلّ جسدياً كل ملء اللاهوت، وفيه امتلأتم" (أي: شاركتم في هذا الملء). وهناك عبارة أخرى في كو 1: 19: "لقد ارتضى الله أن يُحل فيه (في المسيح) الملءَ كلّه".
إذن، امتلأت الكنيسة بالمسيح، بنشاطه، بقدرته. والمسيح نفسه امتلأ من الله بشكل لا يستطيع اللسان البشري أن يعبرّ عنه. مثل هذا القول يُبرز قدرة الله في عمل الخلاص، ويؤسّس رجاءنا بشكل نهائي.
إذن، يحلّ ملء غنى الله على المسيح الذي يفيضه في كنيسته، لكي يجمع المسيح والكنيسة، العالم والبشر. وهكذا تصبح الخليقة من جديد الملء الذي يوحّده حضورُ الله وقدرته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM