رسالة يوحنا الثالثة

 

الفصل الثامن عشر
رسالة يوحنا الثالثة
تبدو 3 يو شبيهة بما في 2 يو: بعد العنوان والتمنيّات لغايس (آ 1- 4)، نقرأ توصيات في شأن الاخوة الذين يزورون الكنائس (آ 5- 8). ويتشكّى الكاتب من ديوتريفس الذي يقف في جماعة غايس فيعارض الكاتب والاخوة المتجوّلين (آ 9- 10) كما يمتدح ديمتريوس (آ 12). وينهي كل هذا بالسلامات (آ 13- 15).
إن 3 يو، شأنها شأن 2 يو، تشبه 1 يو. هذا ما يدفعنا إلى القول أن كاتب رسائل يوحنا الثلاث هو هو. غير أن وضع الجماعة التي يكتب إليها هنا، فمرسومة رسمة دقيقة بسبب ما نقرأ في آ 9- 11 وما فيها من صراع ملموس. وهكذا نرى في 3 يو مسيحيّة متحرّكة، وفي الوقت نفسه منقسمة على نفسها. فعبر التنافس بين الاشخاص فتميّز تعارضًا على مستوى الحقّ، أي تعليم يوحنا وجماعته.
تبدو 3 يو أكثر ما في العهد الجديد، ولكنها تعطينا المعلومات الكثيرة عن حياة الجماعات اليوحناويّة، ومن الصعوبات التي واجهها أول المنادين بالانجيل. هي تشبه إلى حدّ بعيد 2 يو. فهناك العنوان (2 يو 1- 3 = 3 يو 1- 4). وجسم الرسالة (2 يو 4: 11 مع تقسيمات ثلاثة: آ 4- 6؛ آ 7؛ آ 8- 11 = 3 يو 5- 12 مع تقسيمات ثلاثة: آ 5- 8؛ آ 9- 10؛ آ 11- 12). والسلامات في النهاية (2 يو 12- 13 = 3 يو 13- 15).
نجد في هذه الرسالة ثلاثة أشخاص: غايس. دلّ على أنه يمشي في الحقّ (آ 3- 5) فشجّعة الكاتب على متابعة السير (آ 11). ديوتريفس. موقفه موقف التكبّر. كلامه كلام السوء. واستقباله رفْض للاخوة (آ 9- 10). ديمتريوس. شهد له الجميع، شهد له الحقّ، شهد له الشيخ (آ 12). هو نموذج يجب أن نقتدي به، وهكذا ينقسم جسم الرسالة ثلاثة أقسام: تصرّف غايس الايجابي (آ 5- 8). تصرّف ديوتريفس السلبيّ (آ 9- 10). اتباع الخير لا الشرّ (آ 11- 12).
1- عنوان الرسالة (آ 1- 4)
كاتب واحد دوّن 2 يو و3 يو: هو الشيخ (برسبيتاروس). تتوجّه 3 يو إلى غايس الذي هو عضو في الجماعة اليوحناويّة. يمتدحه يوحنا لما فعل، ويشجّعه على متابعة ما بدأ به. ويدعوه إلى تمييز تصرّف ديوتريفس وما فيه من سلبيّة. في هذا "العنوان" نقرأ مضمون الرسالة: "أحبّهم في الحقّ". رج 2 يو 1. ونقرأ في آ 2 على دفعتين "إوودوماي": تكون في صحّة جيّدة، تسير بك الأمور على ما يرام، تنجح.
أ- من الشيخ إلى غايس (آ 1- 2)
يُذكر الشيخ رج 2 يو 1. هو المسؤول في الكنيسة، أو المسؤول عن أكثر من جماعة. غايس هو اسم متداول جدًا. لا نستطيع أن نقول إنه ذاك المذكور في 1كور 1: 14؛ أع 19: 29- 30. إن الصفة المتفرّعة من الفصل (أغابيتوس، الحبيب، المحبوب) تطبّق على في كل الرسالة (آ 1، 2، 5، 11). ونحن لا نجدها في 2 يو. أما في 1 يو فتدلّ على قرّاء الرسالة، وتستعمل في صيغة الجمع في آ 4، تطبّق "تكفرن" (في صيغة الجمع) على غايس وعلى أعضاء الجماعة (هم أبناء). هذا يعني أن يوحنا ولد غايس في المسيح (كما ولد غيره) بعد أن حمل إليه التعليم نشير إلى أن 1 يو 2: 1، 12... يستعمل التصغير "تكنيون"، يا أبنائي الصغار. في أي حال، يعرف الشيخُ غايس معرفة عميقة.
"في الحقّ". لسنا فقط أمام المعنى الظرفيّ (أحبّه حق، بصدق). أن محبّة الرسول مؤسّسة على الحقّ الذي هو في النهاية الله. وهو في توافق تام مع غايس حول الحقّ الذي يُعلن في الكنيسة. ترد لفظة حقّ خمس مرات في هذه الرسالة. محبّة يوحنا هي غير محبّة المضلّلين. هي محبّة مسؤول لممثِّله في كنيسة ما. في 1 يو، كان حديث عن محبّة الاخوة. وفي الانجيل عن محبّة الله أولاً.
من كان غايس هذا؟ هو كان من المسؤولين أم شخصًا في الكنيسة (نقول اليوم من العوام، من الجماعة)؟ اسمه يكفي بالنسبة إلى الكاتب. وهذا ما يدلّ على علاقة حميمة بين الاثنين. أما الكاتب فهو الشيخ الذي يفرض سلطته واحترامه. هذا يعني أننا لسنا أمام رسالة خاصّة، بل أمام "بلاغ" يصل إلى الجماعة. أما المحبّة التي يدلّ عليها الرسول، فتحاول أن تقتدي بمحبّة أظهرها الله نفسه.
نلاحظ أن الرسالة لا تتضمّن التحيّة كما اعتدنا أن نرى في الرسائل (2 يو 3). قد يقابلها عبارة "أحية في الحقّ"، أو التمنيات اللاحقة (أرجو...). لا شكّ في أن هناك سلامات في النهاية (آ 15)، ولكنها لا تحلّ محلّ التحية.
مهما يكن سبب إهمال التحيّة يعبّر الشيخ عن تمنيّاته لصديقه (آ2). هذا العنصر يتخّذ في الرسائل المسيحيّة شكل صلاة أو شكر لله (وقد يكون طويلاً). فعل "اوخوماي" يعني صلّى، ثم تمنّى، رجا. من أجل صحّة الجسد وصحّة الروح. قد يكون التمنّي عاديًا وقد يعني أن غايس لا يتمتّع بصحّة جيّدة (آ 9). نقرأ "هيغياينو"، يكون صحيحًا رج لو 5: 31؛ 7: 10؛ 15: 27. ما يتمّناه يوحنا لصديقه هو ملء السعادة والصحّة والراحة والنجاح. "باري بنتون"، في كل شيء. وفعل "إوودووماي" يعني: قام بسفر موفّق (ردم 1: 10). أما هنا فالمعنى مجازيّ (رج 1 كور 16: 2) . فكما تقدّم غايس على مستوى صحّة الجسد، ليتقدّم على مستوى صحّة الروح.
الروح (بسيخي، النفس). لسنا هنا فقط على مستوى تقدّم روحيّ، بل على مستوى العلاقة بالتعليم اليوحناويّ كما تقول آ 3. وإن تحدّث الشيخ عن صحّة الجسد عند غايس، فهو متأكد أن صحّة التعليم هي بأحسن حال (آ 3).
ب- أنت متمسّك بالحق (آ 3- 4)
كما في 2 يو 4، فرحَ الكاتبُ بالأخبار الطيّبة التي وصلت إليه من بعض الاخوة (هنا، من غايس). "سرّني" فعل "خايرو" في صيغة الاحتمال. يدلّ على الوقت المحدّد الذي فيه وصل (إرخومانون) أناس إلى جماعة الشيخ وطمأنوه في ما يخصّ غايس. أترى جاء المرسلون وقدمّوا "تقريرًا" عن نشاط كنيستهم، كما كان الأمر بالنسبة إلى ابفراس الذين حمل إلى بولس أخبارًا عن كنيسة كولسي؟ ربما. ولكن لا تتسى أن ما يهمّ يوحنا بشكل خاص هو التعليم، هو التمسّك بالحقّ. والحقّ هو التعليم اليوحناويّ الذي يدافع عنه الشيخ (كاتوس سي، كما أنتَ). بدا غايس أمينًا ومتوافقًا مع الحقّ. هذا يعني أن الآخرين لا يسلكون مثله.
قدّم الشيخ السبب الذي جعله يثق يتقدّم غايس الروحيّ. وصلت إليه شهادة تدلّ على رفعة هذه "الحياة". الاخوة هم أعضاء في الكنيسة. وربما مرسلون ينتقلون من كنيسة إلى كنيسة، نعموا بضيافة غايس، وها هم ينعمون الآن بضيافة الشيخ. يدلّ الفعل المستعمل (اسم الفاعل يدل على التكرار (ارخومانون) على أن الزيارات كانت عديدة إلى الشيخ في إطار أكثر من مجموعة جاءت إليه. أدّوا شهادة حول "حقّ" غايس، حول تعلّقه بالحقّ. هناك إشارة إلى التعليم. أما النقطة الأساسيّة، فضيافة غالي المحبّة تجاه الاخوة هي التي دلّت على أنه ما زال يسلك (يعيش حسب) في الحقّ. مثل هذه الشهاد حملها الاخوة (نجد كاتوس، حسب، التي تدلّ على بداية خطبة مباشرة، كما قال الاخوة) فاقتنع بها الشيخ.
تحدّث الكاتب عن الفرح الذي شعر به (آ 4) بعبارة عامة: لا شيء يفرحه قدر فرحه حين يسمع (أكوو) أن (هينا) أبناءه يسلكون في الحقّ. هذا يعني أن هذه الأمانة مهدّدة، بل يخونها عددٌ كبير. في 2 يو 1، 4، 13 قرأنا الاسم "تكنا" (الابناء) أي أعضاء الجماعات اليوحناويّة. نجد هنا "تا إما" مع أل التعريف (أبنائي)، فتدلّ على مسيحيين علّمهم يوحنا تعليم الايمان. إذن، هي علاقة خاصة بينه وبينهم. علّمهم. وقد يكون عمّدهم فارتبطوا به كما الأبناء بأبيهم.
إن الأخبار التي وصلت إلى الشيخ ملأت قلبه فرحًا. فلا فرح عنده يضاهي معرفته حياة أبنائه حسب الحقّ، والابناء هم في نظر بولس (1كور 4: 14؛ غل 4: 19؛ فل 2: 22) هم المهتدون الجدد، ويسعى الشيخ إلى أن يجعلهم يعرفون الحقّ ويعيشون فيه.
2- مديح غايس (آ 5- 8)
بعد أن تحدّث الكاتب بشكل عام عن طريقة حياة غايس التي تصلح لأن تكون مثالاً، عاد إلى وجهة خاصة تبدو رئيسيّة في موضوع الرسالة. رأينا في 2 يو كيف أن الخدمة الانجيلية والتعليم في الكنيسة ارتبطا بعمل المرسَلين الذين ينتقلون من كنيسة إلى كنيسة فيخضعون لواجبات الضيافة وما يتلقّون من هبات من قبل أعطاء الكنيسة التي يزورونها.
أ- أنت أمين في ما تعمله (آ 5- 6)
اهتم غايس اهتمامًا خاصًا بإضافة هؤلاء المرسلين أكثر من مرّة. ذاك هو الخبر الطيّب الذي حمله الإخوة إلى الشيخ (آ 3). صوّر الشيخ عمل غايس بالأمين (بستوس، يدلّ على الايمان). أمين للتعليم. أمين للشيخ ولأصدقائه تجاه موقف ديوتريفس (آ 9- 10) الذي رفض استقبال المرسلين كما رفض مستقبليهم. ففي العالم القديم، لم تكن فنادق. لهذا، كان الناس يقيمون عند أصدقائهم. أمّا ما يميّز غايس، فهو أن ضيافته لم تنحصر في الأقارب والاصدقاء، بل امتدّت إلى أشخاص لا يعرفهم. وإن استقبلهم فلأنهم يسلكون في الحقّ مثله (2 يو 1).
تأثّر الاخوة بكرم غايس وسخائه، فذكروه في اجتماع الكنيسة الذي حضره الشيخ. مثلُ هذا العمل ينبع من حبّ مسيحيّ للحقّ، في إطار هذا، أحسّ الشيخ أنه يستطيع واثقًا أن يطلب من غايس أن يواصل مساعدة الاخوة في زيارتهم. أنت تفعل (يويايو) حسنًا (كالوس). فتابعْ ما بدأت به. كان يقدّم لهؤلاء المرسلين المتجوّلين الطعام والمال الضروري، كما يغسل ملابسهم ويؤمن لهم سفرًا مريحًا (بروبمبو، رافق، رج أع 20: 38؛ 21: 5؛ روم 15: 24. أو جعل شخصًا في الطريق لئلاّ يضلّ، أع 15: 3؛ 1 كور 16: 6، 11؛ 2 كور 1: 16؛ تي 3: 13). ولكن هناك أكثر من طريق لتقديم المساعدة. فأراد الشيخ أن يرضي عملُنا الله (كو 1: 10؛ 1 تس 2: 12) ويكون لائقًا بمن يعطي الاخوة بسخاء من ماله وهبه الله له. احتاج المرسلون المسيحيّون أن يحذروا تجربة تكريس المال بسبب عملهم، والمؤمنون بأن يحذروا المشعوذين وطُلب من الكنائس أن لا تعامل المرسلين كالمتسوّلين والشحاّذين لئلاّ يُساء إلى اسم الله الذي انتظروا منه كل عون.
بدت آ 5- 8 مهمّة من الوجهة التاريخيّة، لأنها تعطينا فكرة عن العلاقات بين الكنائس في نهاية القرن الأول المسيحيّ. مضى الاخوة الوعّاظ المتجوّلين لكي ينادوا بالاسم (اسم المسيح)، فما وجدوا الضيافة عند المسؤول عن الجماعة، ديوفريفس، بل عند شخص كانوا يُحسبون بالنسبة إليها "غرباء". فشهد هؤلاء الاخوة للضيافة التي تلقّوها. فكتب الشيخ طالبًا من الجميع أن يقتدوا بغايس وبما فعله.
"أمين" حرفيا تعمل الأمانة. لا ننسى واقع الايمان. ونضيف: بأمانة من وجهة الشيخ. جاء الفعل "عمل" (بوياين) في صيغة الحاضر. أراد الكاتب أن يدلّ على أن قيمة ما عمل غايس هي حاضرة دائمة، وإن كان العمل في الماضي، ما حصل لك (هو ايان) وفعلت (إرغازاتاي، صيغة الاحتمال). الاخوة (رج آ 3، 10) في 1 يو هم أعضاء الجماعة الذين يجب أن نحبّهم (1 يو 2: 9- 11). هنا ليسوا من جماعة غايس، ولا من جماعة الشيخ. فمن أين جاؤوا؟ هل هم غرباء (كسانوس، لا ترد هذه اللفظة إلاّ هنا في الأدب اليوحناوي) عن جماعة غايس (يستقبلهم مع أنهم لا يعرفهم). أو عن مجمل الجماعات اليوحناويّة (في هذه الحال، لا يسمّيهم الكاتب "إخوة")، أو من المنطقة التي تعيش فيها جماعة غايس (لهذا طُلب منه أن يستقبلهم)؟ إذا كان هؤلاء الإخوة جاؤوا من جماعات أخرى لا يوحناويّة، فقد يكونون جاؤوا من أجل هدف محدّد (لا على مستوى الصداقة، ولا على مستوى الرسالة)، هو هدف تعليميّ، ومن أجل خدمة الحقّ كما يفهمه الشيخ وكما يرفضه المضلّلون. الهدف: إدخال الجماعات اليوحناويّة في طريق قويم بحسب الشيخ.
إن فعل "شهد" (مرتيراين) يعني هنا كما آ 3: فالإخوة المتجوّلون شهدوا لأمانة غايس للتعليم، كما شهدوا لحبّه للاخوة الغرباء، وهو حبّ ملموس شعر به الناس فتكلّموا عنه. هنا نكتشف في تصرّف غايس الرباطَ الوثيق الذي تعرفه المدرسةُ اليوحناويّة. بين أمانة للحقّ وأمانة لوصيّة المحبّة الأخويّة. هذه الشهادة المضاعفة لم تسلّم إلى نخبة معيّنة، بل إلى الكنيسة كلها (إكليسا، رج آ 9)، إلى الجماعة المحليّة. هذا يعني أن سلطة الشيخ ليست سلطة منعزلة. إنه يمارسها مع آخرين (رج 2 يو 13: 1 يو 1: 1- 4). في آ 5 قرأنا "بستون" الأمانة). هنا نقرأ "كالوس" (حسنًا). تصنع حسنًا، مع الفعل عينه (رج مت 12: 12؛ مر 7: 37؛ أع 10: 33) عملُك الحلو يظهر في تصرّفك الأمين لوصيّة تسلّمناها. إن فعل المضارع هنا يبدو وكأنه في صيغة التمني: أتمنّى عليك بأن تفعل.
لا يرد فعل "بروبمباين" (أرسل أمام) إلاّ هنا في الأدب اليوحناويّ. أما في العهد القديم، فيعني الاهتمام بأمور المال والطعام واللباس، بحيث يستطيع الضعيف أن يتابع طريقه في أفضل الظروف. فذاك واجب من واجبات الضيافة الأساسية: لا لاستقال فقط بل لتأمين متابعة الطريق. جاء هؤلاء المرسلون إلى جماعة غايس، وهم يستعدّون للانطلاق إلى جماعة أخرى.
ب- من أجل اسم المسيح (آ 7- 8)
تعطي آ 7- 8 سببين من أجل تأمين حاجات الإخوة المتجوّلين في سفرهم: هم لا يأخذون شيئًا من الوثنيين. ثم هم يشاركون في حمل البشارة والدفاع عن الحقّ. "في أصل الاسم" هناك معنى أول: اسم يسوع المسيح الذي يُنادى به وسط الوثنيين. إن كان هذا التفسير ممكنًا إلاّ أنه لا يوافق السياق المباشر. ففي 1 يو استعمال الاسم (اونوما) للكلام عن يسوع، يشدّد على واقع مصيره التاريخيّ، كينبوع غفران: نحن أمام المسيح يسوع (3: 23) وابن الله هو يسوع هذا (5: 13). وهنا الإخوة المتجوّلون هم في خدمة الحقّ (آ8) الذي يعارض الهرطقة إذن، هؤلاء الاخوة ليسوا فقط واعظين متجوّلين، بل زوّار في خدمة الحقيقة الكرستولوجيّة. ونلاحظ أن هؤلاء الاخوة الذين وصلوا إلى جماعة الشيخ، لم يتحدثوا كثيرًا من نشاط الرسوليّ بل أبرزوا أمانة غايس للحقّ. وعبارة "ما قبلوا شيئًا من غير المؤمنين"، لا تعني فقط أنهم لم يقبلوا هبات ماديّة، بل أنهم لا يقدمّون شيئًا لهؤلاء الوثنيين فلا يأخذون منهم شيئًا. نقرأ "لمباناين" (رج 1 يو :27؛ 2 يو 4، 10) في صيغة اسم الفاعل (عمل يدوم حتى الآن. هو لم يحدث مرّة واحدة ويختفي). "اتنيكوس". هم الوثنيون (غير المؤمنين) تجاه المؤمنين (رج مت 5: 47؛ 6: 7؛ 18: 17)
كتب الشيخ إلى غايس من أجل هؤلاء المرسلين الذين يتّكلون على شعب الله من أجل أولادهم. هم لا يطلبون شيئًا من الذين يبشّرونهم (إكسر خوماي يعني الذهاب من الكنيسة أو من عند الله، إلى العالم الذي هو حقل البشارة). الاسم هو اسم يسوع (أع 5: 41؛ روم 1: 5) لهذا، لهم الحقّ بأن ينتظروا العون من قبل الذين صاروا لهم سفراء من قبل المسيح (2 كور 6: 1). هم لا يطالبون بشيء، بحسب كلام الرب (مت 10: 8): "مجانًا أخذتم، مجانًا أعطوا". فإن طلبنا أجرًا من أجل عمل الانجيل نلغي مجانيّة النعمة، ويصبح المبشّرون مثل هؤلاء الفلاسفة الشعبيين وكارزي الديانات الذين يطلبون المال لقاء خدماتهم (هناك كتابة تتحدّث عن عبد يعمل لإلاهة سورية: كان يمضي متسوّلاً فيعود بالمال الكثير). وسيقول لنا بولس أنه رفض المال لقاء الكرازة، فعمل بيديه من أجل تأمين سبل العيش للكنائس (1 كور 9: 11- 12). ولكن هذا لا يعفي المسيحيين من واجب إشراك حاملي البشارة بخيراتهم الماديّة (1كور 9: 11؛ غل 6: 6)، بحيث ينال العاملون في الرسالة ما يحقّ لهم (1كور 9: 4). ولكن يبقى الفرق واضحًا بين طلب أجرة من أجل الانجيل وتشجيع أولئك الذين تحوّلت قلوبهم بالنعمة فأظهروا شكرهم لسخاء الله لهم في شكل ملموس.
وفعل الشيخُ كما اعتاد، فكرّر فكرته الرئيسيّة: نظر إلى عمل هؤلاء المرسلين، سفراء الاسم، وما أراد لهم أن يطلبوا معونة من الوثنيين، فدعا المسيحيين (نحن) إلى مساعدتهم: شاركوا في الحقّ فليدلّوا عل مشاركتهم في شكل عمليّ.
حين يسند غايس وأصحابه، والشيخ وجماعته، هؤلاء الإخوة المتجوّلين، يشاركون في خدمة الحقّ بوجه الضلال. فالضمير "نحن" (هامايس) يدلّ على الكاتب وجماعته، غايس والذين يتبعونه في جماعة ديوتريفس، لا المسيحيين بشكل عام. لهذا بدت الأداة؛ "أون" (اذن) مهمّة: بما أن هؤلاء الاخوة لا ينالون شيئًا من اللامؤمنين، يجب أن نأخذهم على عاتقنا (هيبولمباناين). هكذا نكون شركاءهم وعاملين معهم (سينارغوس) في العمل والحقّ لا في القول والكلام. فالحقّ الذي يعملون له هو تعليم الله في وحيه. وهو أيضًا تعليم المدرسة اليوحناويّة تجاه ضلال المضلّين.
3- ديوتريفس ديمتريوس (آ 9- 12)
تدلّ آ 9- 11 على أن الرسالة ليست بطاقة تعبّر عن صداقة. فوضعُ ديوتريفس يُشرف عليها كلّها. ونحن لا نفهم آ 2- 8 إن نسينا أنها توجّهت إلى أقليّة مضايقة تسير في خطى غايس. اتّصل به الكاتب قبل ديوتريفس ليستبق المواجهة الشعريّة التي يراها آتية (آ 3- 4). سبق للشيخ أن كتب بضع كلمات للكنيسة (آ 6)، أي إلى جماعة غايس التي يسيطر عليها ديوتريفس. ونظن أنه إن كتب الآن إلى غايس، فلأنه لم يعد يقدر أن يوصل صوته إلى الجماعة ككلّ.
أ- معارضة ديوتريفس للشيخ (آ 9- 10)
بدأت الرسالة بديوتريفس (لا نعرفه إلاّ في هذا النصّ)، فدلّت على خلاف داخل الجماعات اليوحناويّة، كما بيَّنت أن الكنائس المحلّية لا تعيش العيش الأخوي. أول خطأ لدى ديوتريفس: يريد أن يكون الأول في هذه الكنيسة المحلّية. قد يكون "الرئيس" ولكنه يمارس رئاسة بتعجرف ولا يحسب حساب الآخرين. بل يفرض عليهم سلطته على حساب المناداة بالإنجيل. نقرأ الفعل "فيلوبروتوون" (لا نجد إلا هنا في العهد الجديد). يحبّ أن يكون الاول، أن يمارس السلطة، أن يتسلّط. ولكن له سلطة حقيقية. لأنه يقطع الطريق على رسالة الشيخ، ويمنع المؤمنين من استقبال الاخوة المتجوّلين .
"لا يقبلنا" الفعل "ابيداخوماي". يرد في كل العهد الجديد هنا وفي آ 10 يعني: الاقرار بسلطة شخص. هو لا يقبل سلطة الشيخ. ولهذا، فهو لا يستقبل الإخوة في الجماعة. لما أن ديوتريفس يحبّ أن يكون الأول (اسم الفاعل في المعنى السببّي) فهو لا يقبل الشيخ (هاماس، نحن المتكلّم الجمع. ما في آ 8، فنحن تدلّ على الشيخ مع جميع المؤمنين).
من هذا ديتريفس هذا؟ اسقف يقاوم الشيخ والاخوة المتجوّلين؟ أو شخص مليء بالكبرياء ما تهمّه الأمور التعليميّة؟ أو متسلّط قريب من الهراطقة؟ نأخذ بالخيار الثالث. فالاخوة الذين يرفضهم ديوتريفس هم أكثر من مرسلين متجوّلين. إنهم يشاركون الشيخ، وغايس وتبّاعه، في محاربة الهرطقة في هذه الكنائس.
مع أن ديوتريفس لا يُقرّ بسلطة الشيخ، فالشيخ عزم أن يزور كنيسته، ويُسمعه التنبيهات التي يستحقّ. هكذا نفهم أن سلطة الشيخ تمتدّ إلى عدد من الجماعات (كل الحلقة اليوحناويّة) "فإذا جئت" (إيان إلتو). لسنا هنا أمام فرضيّة بل تعني: عندما أجيء. وسوف يقول في آ 14؛ "أراك بعد قليل، قريبًا". أما فعل "هيبو منيسكاين" فيدلّ على تذكير شخص بشيء ما (رج 2 تم 2: 14؛ تي 3: 1). نحن أمام تذكير يدلّ على سلطة الكاتب، ويعبّر عن قساوة تجاه الذي يسمع. يجب أن يُكشف تصرّف ديوتريفس أمام جماعته. وفعل "فلواراين" يعني افترى، ثرثر، إتّهم ظلمًا. ولا يكتفي ديوتريفس بأن يتكلّم، بل هو يفعل السوء. لا يقبل الاخوة في الجماعة المحليّة ويمنع (كولود) الناس من أن يقبلوهم. ولكنه لم يصل إلى مراده، على ما يبدو. فغايس وجماعة ما زالوا هنا. هذا إذا لم يكن ديوتريفس جعلهم على هامش الجامعة، فما عادوا يؤثّرن على إخوتهم. ونقرأ فعل "إكبالاين" طرد، رمى خارجًا. هناك عمل يمارس بالقوّة والعنف.
مع آ 9، تصل 3 يو إلى ذروتها. وكل ما سبق كان تهيئه لها. أعلم الشيخُ غايوس أنه كتب رسالة (شيئًا، في اليونانيّة) إلى الكنيسة فلم يقبلها شخص اسمه ديوتريفس. قد يكون رفض مضمون الرسالة، أو أتلف الرسالة التي يمكن أن تتضمّن توصيات بالنسبة إلى المرسلين المتجوّلين. أتكون هذه الرسالة 2 يو؛ بل يمكن القول إنها رسالة ضاعت.
وماذا عن الكنيسة التي كتب إليها الشيخ؟ هي جماعة محليّة ينتمي إليها غايس. ولكن إن كان غايس من جماعة ديوتريفس، فهو لا يحتاج أن يخبره الشيخ بالوضع. إذن، هو من جماعة أخرى يحاول ديوتريفس، أن يسيطر عليها. ما يطلب الشيخ ليس تدخلاً مع ديوتريفس بل تحريضًا لغايس بأن لا يتبع مثله. ولكن بالنسبة إلى الموقف الأول، نستطيع أن نقدّم إمكانيتين. الأولى، قد يكون الشيخ كتب رسالة فأتلفها ديوتريفس. فكتب رسالة ثانية إلى صديقه غايس لتعرف الكنيسة الوضع وتتصرّف بما يوافق الوضع. الثانية، قد يكون غايس أقام في قرية بعيدة عن المدينة، وهذا ما يفسّر استقباله للمرسلين. وبما أن صحّته ضعيفة، لم يكن بمقدوره أن يمضي إلى المدينة ويواجه ديوتريفس. هذا ما يفسّر جهله للوضع وعجزه عن فعل أي شيء.
بما أن الوضع هو هكذا، فلا بدّ من العمل. حينئذ أمل الشيخ في زيارة هذه الكنيسة، وتذكير ديوتريفس بواجبه، على المستوى الفرديّ أولاً، ثم أمام المؤمنين في الكنيسة، وهكذا استعدّ الشيخ لممارسة سلطانه. إن ديوتريفس يستحقّ الحرم، القطع من الجماعة بعد الذي قاله (اتّهم الشيخ) وعمله (رفض استقبال المرسلين). لا لم يعد الصراع على مستوى الكلام المكتوب والمرسل من بعيد فلا بدّ من الحضور وأخذ الإجراءات اللازمة.
ب- مديح ديمتريوس (آ 11- 12)
بعد أن تكلّم الشيخ عن سلوك ديمتريفس، ها هو يلمّح على غايس بأن يتبع الخير لا الشرّ بأن يقتدي (ميميوماي). رج 1 كور 4: 16؛ 11:1؛ 1 تس 1: 6؛ 2: 14؛ 1 تس 3: 7؛ عب 6: 12؛ 13: 7. نحن نفتدي برجال الله، بقدر ما يقتدون بالربّ (1 كور 11: 10؛ 1 تس 1: 6؛ رج أف 5: 1. هذا يعني أن ديوتريفس يقدّم مثلاً شيئًا. فلا تتبعه. والمثل الصالح هو ديمتريوس الذي يجب على غايس أن يتبعه. لا شك في أن هناك ضغطًا من قبل ديوتريفس. لهذا كتب إليه الشيخ إلى ديتريوس ليميّز ما هو خير ممّا هو الشرّ، ولا سيّما على مستوى الحقّ وواجبات الضيافة تجاه الإخوة.
من يعمل الخير هو من الله. هو يقف في جانب الله، يعمل بمشيئته. "رج يو 8: 47؛ 1 يو 1: 21؛ 3: 10؛ 4: 2- 7. إن المولود من الله، هو مولود من الله، ويمتلك قدرة الله. أما الذي يعمل الشرّ (مثل ديوتريفس)، فهو لم يرَ الله. هو ما اختبر الله. واهتداؤه يُعتبر سرابًا. رج 1 يو 3: 6 يعتبر الشيخ أن ديوتريفس لم ينتم حقًا إلى الكنيسة (1 يو 2: 19).
في آ 12، يقدّم الشيخ شخص ديمتريوس الذي هو مثال عن الخير يجب أن يقتدي به غايس، ويتوصّى به، قد يكون هو الذي حمل الرسالة (رج روم 16: 1- 2)، ويكون أحد المرسلين الذين لم يستقبلهم ديوتريفس، يبدو غريبًا عن غايس، ولهذا أوصى به الشيخ ذاك الذي اعتاد على استقبال الغرباء (آ 5). ففي وضع من التوّتر خلقه ديوتريفس، بدت هذه التوصية ضروريّة، من رفضها، دلّ على أنه يرفض سلطة الشيخ.
تكلّم الشيخ بحرارة عن ديمتريوس، وقدّم ثلاث شهادات. "كل واحد". أي المسيحيون الذين عرفوه بشكل عام. وبشكل خاص حلقة الشيخ تم "الحق". لو استطاع الحقّ أن يتكلّم لشهد بأن حياة ديمتويوس هي مثال للمؤمنين. قد لا ينال الانسان رضى البشر، ولكن عليه أن يبحث عن رضى الله (لو 6: آ 2، 26). ما رضي ديوتريفس وجماعته من ديمتريوس، ولكن له الله الذي يبّرره (1 كور4: 3- 4). من هذا الوجهة، صار "الحق" وكأنه شخص حيّ. ولكن يمكن أن يكون تصرّف ديمتريوس الذي يترافق مع الحقّ، يشهد على استقامته. والشهادة الثالثة هي شهادة الشيخ نفسه (صيغة المتكلم الجمع، نحن، تدلّ على الشيخ وحده، أو على الشيخ وجماعته). وغايس يعرف أن شهادة الشيخ صادقة. فكلام الشيخ يوثق به رغم ثرثرات ديوتريفس وافتراءاته. وهكذا جاءت ثلاث شهادات (تث 19: 15؛ ا يو 5: 8) تؤكّد سلوك ديمتريوس.
ربطنا آ 11 مع آ 12. وهناك من يربط آ 11 مع ما سبق. يطلب الكاتب من غايس أن لا يقتدي بالشرّ الذي يفعله ديوتريفس حين لا يستقبل الاخوة. وهو يقتدي بالخير حين يقبلهم. إن فعل الخير كان من الله، عاش حسب وحي الله في يسوع المسيح، ولا سيّما المحبة الأخوية التي هي هنا محبّة المرسلين المتجوّلين. اعتبر الفنوصيون (وتبعهم ديوتريفس) أن لهم رؤية الله (1 يو 3: 6؛ 4: 20) وإن لم يحبّوا اخوتهم الذين يتعلقون بيسوع الذي وُلد في الجسد، ويطلب منا أن نهتمّ بحاجات الجسد لدى اخوتنا. هناك "اغاتوبويون" (صانع الخير) "كاكوبويون" (صانع الشرّ). كما نكون نفعل. والشجرة تُعرف طبيعتها من ثمارها. بمن سوف يقتدي غايس؟
4- سلامات (آ 13- 15)
تستعيد آ 13- 14 ما في 2 يو 12. إن يوحنا يكتب إلى جماعتين مختلفتين، بلبلهما جدال لاهوتيّ مماثل مع ظروف شخصيّة ومحليّة مختلفة. في 2 يو، كتب إلى كنيسة وعبّر عن فرحه في 2 يو، كتب إلى شخص وما أشار إلى الفرح القريب، لأنه يعرف ماذا ينتظره من مواجهة صعبة مع ديوتريفس.
سبق الشيخ وأعلن نيّته بأنه يزور الكنيسة (آ 10). وشعر بالنظر إلى هذه الزيارة المرتقبة، أنه لا يحتاج (ايخون تعبّر عن واجب) إلى كتابة أطول. بل يرجو أن يرى أصدقاءه بلا تأخير ويتكلّم معهم وجهًا لوجه. أن يكلّمهم بفمه، ويكلموه بأفواهم تعبّر صيغة الاحتمال (غربساي) عن كتابة رسالة واحدة تتضمّن ما يحسّ الكاتب بأنه مجبر على كتابته. أما الحاضر (غرافاين) فيدل على امتداد في خط هذه الرسالة. "كالاموس" هي قصبة يكتبون بها رج 1 يو 12.
وتنتهي الرسالة بالسلامات. أولاً يُذكر غايس. السلام عليك. رج نهاية رسائل بولس (روم 15: 33؛ 16: 20؛ 2 كور 13: 11؛ غل 6: 16؛ غل 4: 9؛ 1 تس 5: 23؛ 2 تس 3: 16؛ رج عب 13: 20). ثانيًا: الأحباء. هم أعضاء الكنيسة التي يقيم فيها الشيخ (لو 12: 4؛ يو 15: 14- 15؛ أع 27: 3). هم يرسلون سلاماتهم. وفي النهاية، يرسل الشيخ سلامه إلى كل واحد بمفرده (كاتاونوما، باسمه). قد تكون أمام الجماعة التي تصلّي في بيت غايس أو أعضاء الكنيسة التي تلتقيّ معه، لا مع دبوتريفس إذا كان ديوتريفس أتلف رسالة الشيخ، فغايس سيقرأ الرسالة الثانية حين تحين الفرصة. لهذا أرسل إليهم يوحنا سلامه: هم يعيشون (يسلكون) في الحق، إذن هم أحّباؤه.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM