رسالة يوحنا الثانية

الفصل السابع عشر
رسالة يوحنا الثانية
تُقسم هذه الرسالة القصيرة أربعة أقسام: المقدمة مع العنوان والتحية (آ 1- 3). السير في الحقيقة، بحسب وصيّة المحبّة (آ 4- 6). المعلّمون الكذّابون (آ 7- 11). مشاريع وسلامات. هناك تفسيران لهذه الرسالة: نقرأ فيها الفرح والثقة بالمؤمنين مع تلميحات سريعة إلى المضلّلين (آ 9). عندئذ نجعل 2 يو قبل 1يو، بعد أن تأزّم الوضع بين الرسول وقرّائه. والتفسير الثاني يتحدّث عن حرب على المضلّلين. فالحق (آ 1، 2، 3، 4)، والمحبّة (آ 5، 6)، هما لفظتان هامتان، ونحن نفهمهما في إطار هجوميّ: الحقّ هو التعليم (آ 9، 10) الذي يتعارض مع "مهنة" (آ 7) الكذب التي يمارسها المضلّلون. والمحبّة هي الوصيّة الأولى التي تركها يسوع لتلاميذه التي تعارض "تطاول" المسحاء الدجّالين (آ 9) الذين لا يشكّلون خطرًا داخل الجماعة اليوحناويّة. فكما في 1يو، قطعوا كل رباط معها، وها هم يعودون إليها ليعرضوا "أعمالهم السيّئة" (آ 11)، ليعرضوا تعليمًا عن المسيح (آ 7 ب)، بعيدًا عن التعليم الصحيح (آ 9)، وتصرّفًا بعيدًا كل البعد عن المحبّة الأخوية.
1- العنوان والتحية (آ 1- 3)
بدت 2 يو بشكل رسالة، فعارضت 1 يو. نجد فيها عناصر تتيح لنا أن نكتشف العنوان (الشيخ يحيّي السيّدة المختارة، آ 1- 3) وجسم الرسالة (آ 4- 11) والسلامات الأخيرة (آ 12- 13).
يتألف العنوان من قسمين غير متكافئين: يُذكر الكاتب والقرّاء. ثم يُشار إلى المستوى الذي عليه تقوم الرسالة. المرسل هو الشيخ (في 1يو، نجد ضمير المتكلم المفرد وضمير المتكلّم الجمع). الشيخ شخص يمتلك بعض السلطة: هو يكتب إلى مجموعة، يعطي رأيه في موقف المؤمنين ويذكّرهم بالوصيّة. سلطته حكمة ومشورة وتنبيه. هو من مجموعة مسيحيّي الجيل الثاني. تلميذ تلاميذ يسوع. سلطته والثقة بنفسه ترتبطان بأمانته لتقليد تسلّمه، وهو الآن يسلّمه.
السيدة (كيريا، مؤنث كيريوس) المختارة. هي إحدى الكنائس الشقيقة (آ 13) داخل الجماعات اليوحناويّة. والابناء (تكنيا) هم المسيحيون الاعضاء في هذه الجماعة. إليهم تتوجّه الرسالة.
الكاتب متأكّد أنه في الحقّ (رج يو 4: 16- 17). ونقرأ المثلّث "النعمة والرحمة والسلام". قد نكون أمام عبارة ليتورجيّة. نحن هنا في إطار خطبة الوداع بعد العشاء الأخير (يو 14: 27؛ 16: 33؛ رج 1: 14، 16، 17؛ 20: 19؛ 21: 26).
أ- أنا الشيخ (آ 1)
في الرسائل القديمة، يوضع اسمُ المرسل في البداية. هو لا يعطي اسمه الشخصي. بل اسمه في الرسالة. يبدو أن اسمه الشخصيّ كان معروفًا. الشيخ هو أولاً الرجل المسنّ. هو يشرف على الجماعة ويوجّهها. يذكر العهدُ الجديد مجلسَ الشيوخ في الكنائس المحلّية (أع 11: 30؛ 14: 23؛ 1تم 5: 17؛ يع 5: 14؛ 1بط 5: 1). استعمل اليهود اللفظة للاشارة إلى الكتبة كما في مر 7: 3- 5، ورؤساء الجماعة كما في مر 8: 31. أما هنا فنحن أمام صيغة المفرد. ويبدو أنه يكتب إلى كنيسة ليس عضوًا فيها. قد يكون "الوكيل" أو "الأسقف" مع سلطة على قرّائه.
وجّه كلامه إلى قرّائه: السيدة المختارة وأبناؤها. نحن أمام استعارة: الكنيسة وأعضاؤها إذا كانت الرسالة موجّهة إلى كنيسة خاصة، فلا حاجة إلى تحديد خاص عن الكنيسة التي يعني. في القديم، كانوا يشخّصون الجماعة على ما في العالم اليهوديّ. فأورشليم اعتبرت أم الجماعة (أش 54: 1- 8؛ با 4: 30- 37؛ 5: 5؛ غل 4: 25؛ رؤ 12: 17). وسار المسيحيون في هذا الخطّ فسمّوا الكنيسة أمّنا. رج 1بط 5: 13 في كلامه عن "كنيسة بابل وهي مثلكم مختارة من الله". نحن في كلا الحالين أمام كنيسة محلّية. فالكنيسة الواحدة نراها في الكنائس المتوزّعة في العالم.
الكنيسة هي السيّدة. هي عروس السيّد، الربّ. والابناء هم أبناء الله. والكنيسة هي مختارة. فالله دعاها لكي تكون شعبه. وقد تجاوبت مع هذا النداء فصارت شعب الله (1 بط 5: 13). وبدأ الكاتب فحدّث قرّاءه عن حبّه لهم. استعمل لفظة يونانيّة معدّة في العهد القديم اليوناني والعهد الجديد، للتعبير عن نوع خاص من الحبّ الذي يُظهره الله للانسان، وقد يظهره الانسان لله وللقريب. إن استعمال هذه اللفظة النادرة في الكتابة الدنيويّة، تبيّن الحاجة إلى عنصر خاص للتعبير عن الحبّ المسيحيّ. هو فعل "اغاباوو" الذي يمكن أن يستعمل لأنواع أخرى من الحبّ (2 صم 13: 15 حسب السبعينيّة؛ 2 تم 4: 10). إنه يتضمّن اهتمامًا بالآخرين، وأمانة لهم، وبحثًا عن مصالحهم. وهو يفترق عن ألفاظ يبحث فيها الانسان عن التمتّع بموضوع حبّه، عن الانجذاب المتبادل والعاطفة المتبادلة. هنا نجد "ايروس" الذي لا يرد في العهد الجديد، ويدل على عاطفة الحبّ الجامحة (على المستوى الجسدي). و"فيليو" الذي يعبّر عن حبّ بين الأصدقاء هو لا يرد في رسائل يوحنا. بل في الانجيل فيوازي "أغاباوو" (يو 5: 20؛ 11: 3، 36...).
ولكن الحبّ المسيحيّ يجد تزييفًا له، وتقليدًا لدى أشخاص يتوقّفون عند الظاهر ولا يصلون إلى الحقيقة. لهذا قال الشيخ: "في الحقّ" (اليتاتا). قد تعني العبارة حبًا حقيقيًا، حبًا يصدر من القلب. عندئذ يقابل الظرف (اليتوس) (يو 1: 47) رج مر 12: 32 مع حرف الجر "إبي" بدل "إن" في). هذا الموقف يعارض روح الرياء التي ندّد بها يسوع مرارًا (مت 23: 13 ي؛ لو 12: 1- 3). ولكن حين تتطلّع إلى الدور الذي تلعبه هذه اللفظة، نبحث عن معنى أعمق. إن الشيخ يحبّ محبَّة تتوافق مع الوحي المسيحيّ الذي تقبّله هو وتقبّله قرّاؤه. وبعبارة أخرى: إن "الحق" الذي به يحبّ الشيخ الكنيسة هو حب حقيقيّ وإلهي كُشف في "البلاغ" المسيحي.
كتب الشيخ إلى الكنيسة لا إلى أسرة محدّدة. وما يُثبت ذلك هو أن الذين يعرفون الحقّ يشاركون في حبّه. ومعرفة الحقّ تعني معرفة التعليم المسيحي وقبوله. مثل هذه المعرفة تذهب أبعد من أمور نتعلّمها أو عقائد، فتصل إلى قبول الحقيقة قبولاً إيجابيًا والاستسلام لها. وجميع الذين جاؤوا إلى الحقّ في هذه الطريقة، يرتبطون برباط الحبّ المتبادل الذي يوجد بين الشيخ وجماعته. فقبول الحقّ يتضمّن حبًا ناشطًا. وغياب الحبّ يدلّ على أن الحقّ لم يُقبل.
يُذكر الشيخ في 2يو و 3يو. لا في 1يو. كما لا يُذكر في رسائل البولسيّة. هو كاتب 2 و3 يو. وكاتب 1يو. وربّما الكاتب الأخير للانجيل الرابع. نحن هنا أمام شخص حقيقيّ لا أمام استعارة. الشيخ يعرف الجماعة. والجماعة تعرف الشيخ ولا تعارض سلطته. هو مسؤول عن الحق (آ 1، 2، 3، 4) المرتبط بالايمان (آ 7) والتعليم (آ 9، 10). وهكذا نكون أمام (إروتو، آ 5)، ويخضع هو نفسه للوصيّة القديمة (آ 5)، ويحرّض (آ 8، 10)، ويفضّل الاتّصال المباشر مع الذين يكتب عليهم على التسلّط (آ 12).
السيدة المختارة. عبارة لا نجدها في العهد الجديد. هي كنيسة محليّة. وحرف العطف (كاي) هو تفسيريّ: أي إلى أولادها. هي تتماهى مع أولادها. هي مختارة لأنها كريمة في عين الرب فتتميّز عن جماعات ضالة ومنفصلة، إذن لا مختارة. لا تطبّق فكرة الاختبار هنا وفي آ 13 على شعب الله إجمالاً (1 بط 2: 9)، ولا على كل فرد في الجماعة، بل على جماعة محليّة (أو جماعتين تكتب الواحدة إلى الأخرى). نتذكّر هنا أن المسيح طبّق الاختبار على مجموعة تلاميذه (يو 6: 70؛ 13: 18؛ 15: 16، 19).
"الذين يعرفون الحقّ" هم المؤمنون الذين ظلّوا أمناء للحقيقة اليوحناويّة، الذين ثبتوا على "تعليم المسيح" (آ 9). إن عبارة ثبت في الحقّ نجدها في يو 8: 32. ولكنها ترتدي هنا معنى هجوميًا: لا حقّ إلاّ في جماعة يوحنا، لا لدى المنشقّين والهراطقة. صيغة "يعرفون" تدلّ على وضع متين حصل عليه الكاتب والقرّاء.
ب- الحقّ ثبت فينا (آ 2)
الحقّ يعود إلى الحبّ. وهذا ما أبرزه الكاتب مع "بسبب الحقّ" الذي يبدو تكرارًا لما في الآية السابقة. ولكن الكاتب يكرّر فكرته ليُبرز نقطة من النقاط ويتعمّق فيها. والنقطة هنا هي أن المسيحيين يحبّون لأن وحي الحقّ يتضمّن هذه الوصيّة (نحبّ بعضنا بعضًا). بل ذهب أعمق من هذا: فالحقّ يصل إلى أعضاء الكنيسة ويدفعهم إلى الحبّ. ما قيل في الانجيل عن روح الحقّ (يو 14: 15- 17) يؤكّد ذلك بحيث إن الحقّ صار شخصًا حيًا يؤثر في المسيحيين (إن الضمير "هامين" نحن، يدلّ على الكاتب والقرّاء). وسيضيف الكاتب أن الحقّ سيكون مع قرّائه إلى الأبد. وهكذا يتجاوز الافق المباشر للخبرة المسيحيّة.
بسبب (ديا) الحبّ الذي يثبت "فينا" يستطيع الكاتب أن يحبّ في الحقّ (= في الله)، أولئك الذين يكتب إليهم. إن فعل "ثبت" (أقام، ماناين) يُستعمل مع الحقّ أو التعليم ليدلّ على الأمانة والمسؤوليّة تجاه هذا الحقّ. هذه الحقيقة هي فينا (نحن أعضاء الجماعة). سُلّمت إلينا. وهي تحمينا من الهرطقة. وهكذا يثق الشيخ بهؤلاء الامناء للحقيقة الانجيليّة حتى نهاية التاريخ. هو يحث المؤمنين، ويحذّرهم أيضًا. ليس من حقيقة يوحناويّة صحيحة إلاّ في الأمانة للشيخ ولحقيقته (رج 1 يو 1: 1- 4).
ج- النعمة والرحمة والسلام (آ 3)
وتنتهي 2يو، شأنها شأن كل رسالة، بتمنّ للقرّاء. ولكن الفعل هو في المضارع (إستاي). وهكذا نكون بالأحرى أمام وعد. تكون النعمة والرحمة والسلام معنا بالنظر إلى الحقّ الذي يثبت فينا. حرفيًا: معنا. أي الكاتب والجماعة. يتعلّقون بالحقّ. نجد المثلث "النعمة والرحمة والسلام" في 1تم 1: 2؛ 2تم 1: 2. عند بولس نجد عادة النعمة والسلام. أضيفت لفظة ثالثة، لتدلّ على خيرات ينالها الأمناء للشيخ "من" الله الآب. "بارا". أي هي تأتي من الله الآب. والشيخ يستطيع أن يوصلها من قبل الله (رج يو 1: 6- 14...). إن الآب يعمل بالابن، لأن الذي يعترف بالابن والابن المتجسّد، يمتلك وحده الآب (1يو 2: 23؛ 2 يو 9). وتنتهي الآية مع "في الحقّ والمحبّة". نحن ننال هذه الخيرات حين نكون أمناء للحقّ وللجماعة اليوحناويّة التي تعيش المحبّة.
في آ 2، أشار الكاتب إلى الوضع المسيحيّ. وهنا، اتّخذت التحيّة شكلاً مسيحيًا، نجد عناصره في رسائل بولس. مثلاً: نقرأ في غل 1: 3: "النعمة والسلام لكم من الله الآب والربّ يسوع المسيح" (رج 1 تس 1: 1: عليكم النعمة والسلام). يعلن الكاتب، لأنه أكيد أن ما يطلبه للقرّاء، قد تحقّق، وجعل نفسه مع حلقة المستفيدين من هذه البركة. نجد عند بولس "النعمة والسلام". وقد زاد الشيخ "الرحمة". النعمة تعني محبّة (ورضى) أظهرها الله للانسان. والرحمة قريبة من النعمة. ويمثّل السلام البركات الروحيّة التي يعطيها الله للانسان في نعمته ورحمته.
وتتواصل التحيّة فتدلّ على ينبوع هذه البركات. هو الله الآب وابنه يسوع المسيح. الآب هو أبو يسوع المسيح. في العهد القديم استعملت لفظة أب لتدلّ على الله. ولكننا سننتظر المسيحيّة لكي نتحدّث عن علاقة شخصيّة، علاقة محبّة بين الله الآب والله الابن. تشدّد 1 يو أن الله عُرف كأب عبر وحي الابن، وهو أب للابن الوحيد كما للمؤمنين. فمن رفض الابن رفض الطريقة التي بها كشف الله عن نفسه كأب. ومن قال "لا" للطريقة التي بها أرسل الله وحيه، قال "لا" لله نفسه، لأنه لا يُريد أن يعرف لدى البشر إلاّ "بكلماته". أما الشيخ فاستعمل عبارة ثالوثيّة تذكر الآب والابن وتجعلهما على المستوى الواحد. وقال إن يسوع هو ابن الآب. وإن بركات الآب والابن تكون مع المؤمنين في الحقّ والمحبّة.
كل هذا يُعدّ القرّاء للموضوع الرئيسي في الرسالة (آ 4- 11). الهدف المباشر الاشارة إلى أن البركات (النعمة، الرحمة، السلام) يرافقها الحقّ والمحبة. فوحي الله في يسوع يتمّ في الحقّ والمحبّة (يو 1: 14، 17)،. وهو يقود المؤمنين في هذه الطريق بحيث تختبرون ملء بركات الله.
2- سلوك في الحقّ والمحبّة (آ 4- 6)
يرد فعل "سلك، سار" ثلاث مرات هنا. "يسلكون في الحقّ" (آ 4). "يسلكون حسب وصاياه" (آ 6) "أن تسلكوا فيه" أي في الحبّ أو الوصيّة (آ 6). الكلمة المفتاح هنا هي الوصيّة. والفرح يشكل انتقالة من العنوان (آ 1- 3) إلى جسم الرسالة (آ 4- 11). ويفرح الكاتب لأن المضلّلين لم ينجحوا في اجتذاب الجماعة إلى الضلال والكذب. أما الوصيّة القديمة فاسمها المحبّة. ذاك هو الحبّ: أن تسلك بحسب وصاياه. تلك هي الوصيّة: أن نسلك في الحبّ. وهكذا نكون أمام ترادف مع "سلك في الحق" "سلك حسب الوصايا"، "أحبّ الواحد الآخر".
أ- سلوك في الحق (آ 4)
تبدأ الرسائل عادة بتعبير عن الفرح الذي يُحس به الكاتب لأخبار طيّبة. وصلت إليه من قرّائه. فرسائل بولس مثلاً تبدأ بشكر لله من أجل التقدّم الروحيّ لدى قرّائه (1 تس 1: 1- 2). والشيخ في 2يو يصوّر الفرح العظيم الذي أحسّ به حين علم أن بعض أعضاء الكنيسة يعيشون بحسب الحقّ. إن لفظة "بعض" تعني أن هناك أعضاء آخرين لا يعيشون كما يجب. في هذه الحالة، تتوجّه الأقوال إلى هؤلاء الأعضاء في الكنيسة دون سواهم. وقد يكونون زاروه وعادوا إلى كنيستهم مع رسالة تهنئة. وهكذا رأى بعينيه كيف يسلكون ففرح قلبه. وشعر أن ما هو حقّ بالنسبة إليهم، هو حقّ بالنسبة إلى الكنيسة بشكل عام، بحيث استفاد من الظرف الذي هو زيارة أصدقائه، ليكتب نداء إلى الكنيسة مؤسّسًا عن ارتباطها بالحقّ.
قرأنا هنا "إخارين" (صيغة الاحتمال، فرح أحسّ به الكاتب في الماضي، وفي مناسبة محدّدة) الذي يعود إلى زمن التقى فيه الشيخُ أعضاء الكنيسة. فرحت (خايرو) جدًا (ليان). وقرأنا "اوريكا" وجدتُ رأيت. في صيغة الكامل. يعتقد الكاتب أن ما اكتشفه في الماضي ما زال صحيحًا. يرى بعض الشرّاح أن لفظة البعض تدلّ على أن الذين يسلكون في الحقّ هم قلّة قليلة في الكنيسة. يسلكون (باريباتاين). هذا ما يصوّر حياة المؤمن وتصرّفه. والعيش بحسب الحقّ يعني في توافق مع وحي الله في الانجيل رج 1يو 1: 6- 7؛ 2: 6، 11؛ 3 يو 3- 4؛ مر 7: 5؛ يو 8: 12؛ 12: 35؛ روم 6: 4. ينطلق الاستعمال من العهد القديم. رج تك 17: 1؛ 2مل 20: 3.
العيش في الحقّ يقابل العيش في النور (1يو 1: 7). والذين يعيشون بهذا الشكل يمتلكون عن وصيّة الآب. يبدو أن الشيخ يفكّر في 1يو 3: 23: "هذه هي وصيّته: أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح، وأن نحبّ بعضنا بعضًا كما أوصانا". هناك صعوبة في هذه النظرة، فنظنّ أن الشيخ يتحدّث عن وصيّة المحبّة الاخويّة وكأنها وصيّة إضافيّة. ولكنه يحسّ بضرورة تكرار هذه الوجهة الخاصّة (للعيش بحسب الحقّ) من أجل خير الكنيسة ككلّ. ونُسبت الوصيّة إلى الآب، لا إلى يسوع، وهذا يعني أن الكاتب يعود إلى الينبوع الأخير لتعليم محله يسوع (يو 7: 16- 17) وتلاميذه (1يو 1: 5).
ما هو سبب فرح يوحنا؟ هذا ما لا تقوله 2 يو. أما في 3 يو 3. فالأمور أوضح: وصل الأخوة وهم يحملون أخبارًا طيّبة عن غايس. أما هنا فيبدو أن الرسول زار الجماعة، أو زاره بعض أعضائها. فكتب إليها ليدلّ على رضاه، وأوصاها بالمحبّة. أما الأبناء فهم جميع أعضاء الجماعة سواء كانوا مؤمنين أو طالبين. ونتذكّر أن لفظة "حق" (اليتايا) تؤخذ في المعنى التعليميّ (تجاه الهرطقة)، لا في معنى "الاستقامة". أما كلمة "انتولي" فهي تدلّ على تعليم تسلّمناه، مع إشارة إلى وصيّة المحبّة الأخويّة (آ 5). هي تعليم (آ 9- 10) أمين للتقليد الرسوليّ كما تسلّمته الجماعة من الآب بواسطة الابن في شأن الابن. فعل "لمبانو" (تسلّم، رج يو 3: 11، 32- 34؛ 1يو 5: 9) لا يفهم نقلاً مباشرًا يأتينا من الآب، أو من الآب بواسطة الابن القائم من الموت، بل من الآب بواسطة الابن الذي تجسّد (آ 7). وهذا التعليم يحفظه التقليد اليوحناويّ الذي يرتبط به الشيخ.
ب- المحبّة الأخوية (آ 5)
إن التباس تصرّف قرّاء 1 يو فرض الآن (نين) تحريضًا متينًا. فهذا الظرف (الآن) الذي نجده مرارًا في يوحنا، يشدّد على خطورة القرار الذي يجب أن نأخذه (يو 4: 23؛ 5: 25...). يرى الكاتب أمامه جماعة معروفة، ولكنها جماعة مهدّدة. ونقرأ فعل "إروتان" الذي لا يعني سأل كما في يو 16: 5، 23، بل طلب، أمر، فرض كما في يو 14: 16؛ 1يو 5: 16. هو يفترض عند الشيخ دعيًا لسلطة يتمتّع بها. هو لا يقاسم إخوته هذه السلطة، بل يفرضها. هنا نتذكّر أوغسطينس الذي كان يحسب نفسه مؤمنًا بين المؤمنين. ولكنه كأسقف كان يشدّد على سلطته ورعايته.
ويأتي الشق الثاني من هذه الآية: لا أكتب لكم... رج 1يو 2: 7. هناك جديد المضلّلين. وجديد يوحنا هو غير هذا الجديد. إنه التقليد اليوحناويّ الصحيح. من البدء "أب أرخيس". رج 1 يو 1: 1؛ 2: 13؛ 3: 11. أي بداية الرسالة والايمان في الجماعات اليوحناويّة. ويأتي الكلام عن المحبّة (يو 15: 12، 17) في وجهه الجماعيّ: محبّة الأخوة تعني أمانة للجماعة، وتعليم الشيوخ الذي انفصل عنه الهراطقة (1 يو 2) نلاحظ أن الكاتب ما توقّف عند الوصيّة الجديدة، بل عاد إلى البدء، إلى التقليد (1 يو: 7- 8).
في آ 5، قدّم الشيخ تحريضه الأول إلى الكنيسة ككلّ. أيتها السيّدة. هذا يعني أنه لا يتوقّف عند بعض الأشخاص، بل يوجّه كلامه إلى كل أعضاء الجماعة، ويدعوهم إلى العيش مثل أولئك الذين اتّصل بهم أو اتصلوا به. انطلق من سلطته كراع فقال ما قال. من سمع منكم سمع منّي، هذا كلام يسوع. فالراعي (أو المعلّم) هو الذي ينقل كلمة الله بسلطة أعطيت له في الجماعة. غير أن هذه السلطة تتكامل مع إلحاح ينبع من حبّ تجاه الذين أرسله الله إليهم.
في ضوء كل هذا، لا ندهش أن لا يكون للشيخ تعليم (أو وصيّة) جديد يعطيه للكنيسة. لا شكّ في أن يسوع تحدّث عن وصيّة "جديدة" (يو 13: 34)، واعتبرها الشيخ جديدة، لأنها تعبّر عن طريقة حياة دشّنها يسوع المسيح (1يو 2: 8). ولكن السنين مرّت واعتاد القرّاء على وصيّة معروفة جدًا في الكنيسة. ومع أن هذه الوصيّة تعود إلى البدء (أي بداية عالم جديد دشّنه يسوع، 1 يو 3: 11- 12)، فهي تبدو تكرارًا على المسيحيين أن يحبّوا بعضهم بعضًا. ذاك هو أساس الحياة المسيحيّة التي يُدعى كل واحد منّا لكي يتذكّره. وعلى المستوى العمليّ، تعني هذه الوصيّة الاهتمام بحاجات الأخوة، والاستعداد لنضحّي بنفوسنا من أجل الآخرين (1يو 3: 16- 18). وتتضمّن في الوقت عينه عاطفة حقيقيّة تجاه الأخوة. هي محبّة شاملة تضمّ العاطفة إلى العقل، والشعور إلى العمل اليومي، وإلاّ لا تكون محبّة الله ثابتة فينا.
ج- طريق الوصايا (آ 6)
بما أن لفظة "حبّ" تجمل أكثر من معنى، وبما أن المحبّة لها أكثر من وجهة، نبّه الشيخ إلى سمة خاصة رآها ضروريّة. المحبّة تعني العيش (السير، السلوك مع فعل باريباتيو) حسب وصايا الآب. فمن يحبّ شخصًا يهتمّ لكي يرضيه. ولكن الشيخ سيدعو المؤمنين إلى أن يُحبّوا بعضهم بعضًا. والكاتب يتحدّث مرّة عن الوصيّة (في صيغة المفرد 1يو 2: 7- 8؛ 3: 23؛ 4: 21؛ 2يو 4، 5، 6؛ رج يو 13: 34؛ 15: 12) وأخرى عن الوصايا (في صيغة الجمع، 1 يو 2: 3- 4؛ 3: 22، 24؛ 2يو 6؛ رج يو 14: 15، 21؛ 15: 10). الوصيّة هي أن نحبّ بعضنا بعضًا. والوصايا هي متطلّبات تتوزّع هذه الوصيّة الأساسيّة.
في روم 13: 8- 10، يؤكّد بولس أن مختلف الوصايا الاجتماعيّة في الجزء الثاني من الدكالوغ، أو الوصايا العشر، تتلخّص في المحبّة للقريب، بحيث إن المحبّة هي كمال الشريعة. أراد بولس أن يبيّن أن كل الوصايا تنبع من المحبّة ويُنظر إليها على أنه تعبير عن المحبّة. أما الشيخ فبيّن أن المحبّة تأخذ أكثر من وجه عمليّ يتوافق مع وصايا الله. تطلّع الشيخ إلى الذين لا يعون عدم التوافق حين يقولون إنهم يحبّون إخوتهم ثم يحرمونهم ممّا يمتلكون. شدّد الشيخ على أن المحبّة الأخويّة تعني الطاعة للوصايا التي هي تفصيل لوصيّة المحبّة، مثل هذه الوصايا تشمل الوجهات الاجتماعيّة في الوصايا العشر. كما تشمل وصايا إيجابيّة طلبها يسوع حسب المبدأ: إفعل للغير ما تريد من الغير أن يفعل لك (مت 7: 12).
قال يوحنا: السير في الحقّ (ا 14 أ) هو سير بحسب الوصيّة (آ 4 ب). وهذه الوصيّة هي وصيّة المحبّة الأخويّة (آ 5 ج). وها هو يقول الآن: تقوم (استين) هذه المحبّة بأن نسلك حسب الوصايا (آ 6 أ، في صيغة الجمع)، ليضيف حالاً: ليس هناك في الأصل سوى وصيّة واحدة (آ 6 ب ج) هي وصيّة المحبّة، أو "السير حسب وصاياه" (إن الضمير "اوتي" قد تعود إلى "اغابي" المحبّة أو إلى "انتولي" الوصيّة حرفيًا: تسلكون فيها، في المحبّة أو في الوصيّة).
هنا نجد فرضيتين، لا في 2يو فقط، بل في 1 و3 يو أيضًا. الاولى، لا حقيقة إلاّ التي أوصاها الله في يسوع المسيح، في البدء. وهي تشير إلى التعليم الكرستولوجي كما إلى المحبّة الأخويّة (أمران مهمّان في الجماعة التي يكتب إليها يوحنّا). الثانية، هاتان الحقيقتان يمثّلهما تقليد يكفله الشيخ بوجه "المضلّلين". في هذا المعنى نفهم عبارة "في البدء" كما نفهم فعل "سمع" (ايكوساتي) عن تعليم أعطي منذ بدء الحياة المسيحيّة في الجماعة اليوحناويّة.
3- ردّ على المضلّلين (آ 7- 11)
هنا تبدأ قطعة جديدة مع "لأن" (هوتي، أو الفاء) التي تعطي السبب لما سبق. ولكننا أبعد من شرح بسيط لما سبق، بل ذروة في التحريض الثاني الذي يقدّمه الشيخ. لهذا نعتبر "لأن" رباطًا مع كل آ 4- 6: فرحَ الشيخُ لأنه عرف أن كنيسة تعيش (تسلك، تسير) في الحقّ، فحثّها على إظهار المحبّة الأخويّة، لأن خطرًا يتهدّدها: كذبٌ فاسد يجعلها تفقد المحبّة الأخويّة. خاف الشيخ من أن الذين يقبلون التعليم الضال، لن يمارسوا المحبّة الأخوية، فيبتعدوا عن الجماعة.
في آ 4- 6، كان السير بحسب الحقّ مرادفًا لوصيّة المحبّة الأخويّة، وجاءت آ 7، فقالت إن السير حسب الحقّ يتضمّن الاعتراف بأن يسوع المسيح جاء في الجسد. فالمسيحيّ لا يمكنه أن يعترف بالايمان بمعزل عن الممارسة. إن أراد أن يبيّن صدق اعترافه بالمسيح الذي جاء في الجسد، فعليه أن يمارس المحبّة الأخوية، والعكس صحيح أيضًا. هذا ما تقوله آ 8- 11: فالاعتراف بيسوع جزء من السير بحسب الحقّ. بما أن يسوع تجاوب مع حبّ الآب للبشر فصار انسانًا، فجواب الانسان على حبّ الله لا يكون صادقًا إلاّ إذا تجسّد هذا الحبّ في العمل (محبّة القريب) ولم يتوقّف عند الكلام والخطب الرنّانة. فاعتراف الايمان لا يكفي، كما قال يسوع: "ليس من يقول لي: يا ربّ، يا رب، يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات" (مت 7: 21).
أ- المضلّل والمسيح الدجّال (آ 7)
مع آ 7، تتبدّل اللهجة في الرسالة: يندّد الكاتب بالذين "خرجوا في العالم" كمن ذهب يبحث عن طريدة لفظتان جليانيتان. المضلّل والانتيكرست أو المسيح الدجّال. هذا يعني أننا أمام تنبيه ملحّ: فرفض الاعتراف بالمسيح الذي جاء في الجسد، يدلّ على انحراف عن التعليم اليوحناويّ،. إن الوضع الحاليّ للجماعة يتقابل مع "الآن" الاسكاتولوجيّ: يهدّدها الانتيكرست، أي المسيح الدجّال.
المضلّلون (بلانوي، رج 1يو 4: 6). هم كثر (بولوي، رج 1 يو 4: 1؛ مت 24: 5 وز). هم يرفضون الاعتراف بمجيء يسوع في الجسد. هم لا يرفضون مجيء يسوع إلى العالم، بل يرفضون بشريّته بما فيها من ضعف قادها إلى الألم والموت على الصليب (1يو 5: 6- 8). فالهرطقة التي تحاربها 2 يو هي تلك التي تحاربها 1 يو. فاستعمل الكاتب ذات العبارات اللاهوتيّة ليردّ على المضلّلين. لهذا نقول نحن أمام كاتب واحد. يتوجّه إلى جماعات يتهدّدها خطر واحد.
حدّثنا يسوع عن أنبياء كذبة يحاولون أن يظلّوا شعب الله (مر 13: 5- 6، 20). وها هي نبوءته تحقّقت. خرجوا إلى العالم مثل مرسلين لهم نظرتهم الخاصّة إلى المسيحيّة، أو قد يكونون خرجوا من الكنيسة ليكوّنوا مجموعة خاصّة بهم (1يو 2: 19). وهناك من قال: خرجوا من الانتيكرست. العالم (كوسموس) هو الموضع الذي يعيش فيه المسيحيون، لا ذاك الذي رفض الله وبالتالي رفض الكنيسة (1 يو 2: 15).
هؤلاء المضلّلون جاؤوا ربّما من خارج الكنيسة، فكان من الصعب على المؤمنين أن يعرفوا إن كانوا يشاركونهم في فهمهم لإيمانهم، مع أن الموجّهين كانوا يدلّون على المجموعات التي تلتقي مع نظرتهم. هنا يقدّم الشيخ مقياسًا به تختبر الكنيسةُ التي يكتب إليها ارثوذكسيّة مثل هؤلاء الوعّاظ، ويحذّر من زيارة أشخاص لا يؤمنون إيمان التقليد الرسوليّ.
صوّر قبول الحقيقة المسيحيّة على أنها اعتراف (1يو 2: 23؛ 4: 2، 3، 15)، وهي لفظة بها يعلن المؤمن تعلّقه بيسوع في وقت الاضطهاد. أما هنا فارتبطت اللفظة مع تعلّق بتعبير عن الايمان المسيحيّ، بحيث إن مضمون الاعتراف المسيحيّ يُختبر بالنظر إلى التعليم القديم. في هذه الحال، قدّم الشيخ تعليمًا قويمًا: "أؤمن بأن يسوع المسيح جاء (الآن) في الجسد" (في لحم ودم، في شكل بشريّ). نلاحظ صيغة الحاضر. أما في 1يو 4: 2 فصيغة الماضي: "سبق وجاء في الجسد". هو اعتراف بواقع تاريخيّ، واقع التجسّد في ذلك الزمن. هذا يعني أن يسوع جاء في الماضي في الجسد، وما زال اليوم حاضرًا (وإن بجسد ممجّد). نعرف أن بعض المفكّرين الغنوصيين تحدّثوا عن قدرة (المسيح) السماويّة التي حلّت على يسوع في عماده، بشكل الروح. وأن هذه القدرة تركته قبل الصلب، بحيث لم يعد هناك من وحدة بين المسيح الالهي ويسوع البشريّ. وبالتالي، لم يعد التجسّد أمرًا دائمًا، بل امتدّ في فترة قصيرة وزال. حينئذ جاء تعبير الشيخ من الايمان الارثوذكسي بيسوع المسيح، فاستبعد مثل هذا التفسير لشخص يسوع. لاشكّ، في نظره، بحقيقة التجسّد: الكلمة صار بشرًا وما زال بشرًا (لم يتخلَّ عن بشريّته في مجده. تضاف معنًا وظلّ متضامنًا). رج 1يو 2: 18- 27؛ 4: 1- 6؛ 5: 5- 8.
تيقّن الشيخ من خطر هذا الموقف، بحيث اعتبر أن كل من أخذ به هو خادع ومضلّل، هو انتيكرست. والانتيكرست هو المضلّل المضلّل. هو المضلّل "الأكبر" لأن أفكاره تدمّر المعتقد المسيحيّ من جذوره. فالانتيكرست يجعل نفسه معارضًا للمسيح ومقاومًا. رج 1يو 2: 18، 22؛ 4: 3. نحن هنا أمام إشارة إلى من يقاوم مقاومة جذريّة التعليم الصحيح حول يسوع المسيح، وإن قال إنه مسيحيّ وإنه يمتلك الحقيقة حول يسوع. لهذا قال الشيخ: كل من ينكر الحقيقة هو انتيكرست وبالتالي يرتبط بالشرّير.
لا يهاجم الكاتب أولئك الذين ابتعدوا عنه في نقاط لاهوتيّة بسيطة، بل أولئك الذين يهمشِّون قلب المعتقد المسيحيّ. وبما أن "قلعة الايمان" مهدّدة، يجب على الكاتب أن يقول ذلك بصراحة ويهدّد ويحذّر.
ب- كونوا على حذر (آ 8)
بعد آ 7، نقرأ في آ 8 مع "كونوا على حذر" (بلاباين، نظر، حذر). على مستوى الأعمال (آ 8، 11) وعلى مستوى التعليم (آ 9) الذين ينتميان إلى موضوعي الدينونة الخلاص، دون أن ننسى الثواب الذي يرتبط بالأعمال (رج مت 5: 12؛ 10: 41- 42). نلاحظ أن فعل "حذر" (مر 13: 5 وز؛ رؤ 3: 18) لا يرد إلاّ هنا في النصوص اليوحناويّة الأصيلة. "لئلاّ تخسروا ما عملتم". هذا حرفيًا. فالكتاب يقابل تصرّف قرّائه في الماضي، وإيمانهم وثباتهم وحبّهم مع تصرّف يقدّمه إليهم المضلّلون فيجعلهم يخسرون الخبراء المرتبط بإيمانهم. هناك صيغة الاحتمال مع "أموليمي" (خسر، أضاع) تجاه الفعل "بولمبانو" (نال أجرًا، ثوابًا). ولفظة "مستوى" (ثواب، جزاء) تعني ما تعني في 4: 36 (ولا ترد إلا هنا في الكتابات اليوحناويّة). إن مواعيد الحياة والخلاص ترتبط بالتزام يوحناوي، بالايمان والثبات والمحبّة. هذا الانتظار الواثق يعارض البحث القلق عن عالم سام ينادي به الغنوصيّون.
نبّه الشيخ إلى الخطر، وها هو يحذّر الجماعة من السقوط فيه. ولكن إن أخذ القرّاء بالتعليم الكاذب رغم التنبيه، خسروا ما عملوا، وخسر الثواب الذي انتظروه. لهذا، يعبّر الكاتب عن خوفه أن يكون فشلَ في عمله الرسالي والرعائيّ، من أن تبتعد هذه الجماعة عن الحقيقة التي سُلِّمت إليها. فالحياة المسيحيّة تقود إلى الجزاء الحسن، ومن لم يحافظ على الحقّ (وبالتالي على السلوك المستقيم)، خسر ما وعد به الله شعبه. يقول يوحنا هنا إن قسمًا من الثواب سوف يُخسر. وفي الآية التالية يعلن أن من لا يتمسّك بالحقيقة، يُقطع من العلاقة مع الله. أجل، إن الذين أخذوا بالتعليم المضلّ لم يعودوا منا (1 يو 2: 19). إذن، تحذر التلاعب مع الهرطقة.
ج- تعليم المسيح (آ 9)
يعود "التعليم" (ديداخي) ثلاث مرات في شكلين مختلفي: "نثبت (نقيم) في التعليم" "نحمل التعليم". هل نحن أمام التعليم الذي أعطاه المسيح، أو التعليم حول المسيح؟ في المنظور اليوحناويّ، لا تعليم سوى ذاك الذي يعطيه المسيح، فيذكّرنا به الروح القدس ويعمّقه فينا. غير أن تعليم المسيح هو المسيح (يو 16: 14: الروح يأخذ ممّا لي ويعطيكم). أما رسائل يوحنا تشدّد دومًا، كما في هذه الآية، على التوافق مع التعليم الذي نجده في الانجيل، منذ البدء، نجده في المسيح. أما "تطاولَ" (ذهب أكثر ممّا يجب، بروأغون) فتقابل "خرج في العالم"، تبع تعليم المضلّلين، وتعارض "أقام في التعليم".
إن فعل "بروأغو" لا نجده إلاّ هنا في التقليد اليوحناويّ. أما العهد الجديد فيستعمله في صيغة المعتدي (يسوع يسبق تلاميذه) أو اللازم (سار أمام، سار في رأس الفرقة) تردّد النسّاخ وأحلّوا محلّ هذا الفعل "بروبانيو" أي تجاوز. أما حرف العطف (كاي، وما ثبت) فهو تفسير: من تطاول صار خائنًا لتعليم المسيح. هنا يُذكر الآب والابن معًا كما في 1يو 2: 23. أما كلمة "يداخي" (تعليم) فلا نجدها إلاّ هنا في الرسائل. وفي يو 7: 16- 17، 18- 19: أي ما تعلّمتموه. ما علمتكم إياه المسحة (1 يو 2: 27) ما هو حقّ. يدلّ السياق على أن هذا التعليم كان ثابتًا أقلّه بشكل جزئيّ في عبارات محدّدة نأخذ بها أو نرفضها. مثلاً، المسيح الذي جاء في الجسد. أو: جاء بماء ودم (1 يو 5: 6). أما تعليمنا عن المسيح فما علّمنا هو عن نفسه، وذلك عبر الشيخ وسلطة التقليد في الكنيسة. وحين نتحدّث عن التعليم، إنما نتحدّث عن التعليم الصحيح، التعليم الحقّ. فمن لا يثبت في هذا التعليم، يعتبر معلّمًا كاذبًا جاء من الخارج أو عضوًا من الكنيسة، تخلّى عن العقيدة الاولى ومضى بعيدًا عن الجماعة. يعتبرون هؤلاء الكذبة أنهم وصلوا إلى حيث لا يصل الآخرون. وجاء جواب يوحنا: تجاوزوا حدود المعتقد المسيحيّ الصحيح.
إن الذين يرفضون الحقيقة في شأن المسيح، لا يكون الله لهم. لا شكّ في أنهم يعلنون أنهم "يمتلكون" الله، لكن الشيخ يقول: من لم يفهم فهمًا صحيحًا من هو يسوع المسيح، لا يستطيع أن تكون له علاقة حقّة مع الله. حين نقول "امتلك الله" (كان له الله)، فدلّ على علاقة روحيّة مع الله. والذين يُنكرون مجيء يسوع المسيح، ابن الله، في الجسد، يمتلكون فهمًا خاطئًا عن الله والطريق إلى الله، لأن الابن هو الطريق الوحيد إلى الآب (يو 14: 6؛ 1يو 2: 22- 23). فمن المستحيل أن نفصل الآب عن الابن في الخبرة المسيحيّة. ولا يمكن أن تكون لنا شركة مع الواحد دون أن تكون لنا شركة مع الآخر. إن كان الأمر هكذا، نفهم أن الذين يتقبّلون التعليم (هكذا يقرأ السينائي والاسكندراني والفاتيكاني. نجد أن مخطوطات تقرأ: تعليم المسيح أو تعليمه)، لهم شركة روحيّة مع الآب والابن معًا. لقد تسلّم الشيخ الحقّ الذي نجده في التعليم. وهذا الحقّ هو في النهاية الله نفسه. وهكذا يجد التحذير ذروته في وعد بالبركة الروحيّة للذين يراعونه.
د- إذا جاءكم (آ 10- 11)
تعود بنا آ 10 إلى وضع ملموس في الجماعة، نجد فيه حاملي التعليم الكاذب. فمن استقبل مثل هؤلاء "الضيوف" شاركهم (كوينونيو) في أعمالهم الشرّيرة (آ 11). وهذا ما يتعارض مع الكاتب (الذين يتبعون تعليمه (1يو 1: 3). فحين يشارك بعضنا بعضًا (1 يو 1: 6، 7) نرذل الظلمة ولا نترك روح الضلال يُفسدنا. إن موقف العداء هذا تجاه الأنبياء الكذبة نفهمه في سياق قلت بالنظر إلى مجيء الانتيكرست. وهكذا بدت جماعة يوحنا منغلقة على ذاتها، غير منفتحة على جميع البشر، بمن فيهم أعداؤنا: "أحبّوا أعداءكم. فإن أحببتم من يحبّكم فأي أجر لكم. وإن سلّمتم على أخوتكم فقط، فما هو فضلكم؟ أما يفعل الوثنيّون هكذا (مت 5: 43، 46- 47)؟
نقرأ في آ 10 فعل "ارخوماي" (جاء). هذا يفترض أن الجماعات المسيحيّة الأولى (ولا سيّما اليوحناويّة منها) انفتحت على الخارج، فتلقّت زياراته أو رفضتها. كما يفترض أن الهراطقة تحرّكوا فدخلوا إلى الجماعات كمرسلين متنقّلين. ويفترض أخيرًا أن هؤلاء المعلّمين كانوا ينضمون لامتحان مؤسّس على عبارات معروفة. من هو المسؤول عن هذا "الامتحان"؟ الجماعة كلها (لا بعض المسؤولين فقط كما في 3 يو). "عندكم"، حرفيًا: في البيت (اويكيا). قد يكون بيت كل واحد من المؤمنين. وقد يكون البيت الذي فيه تجتمع الجماعة. "بغير هذا التعليم" (حرفيًا: لا يحمل هذا التعليم). تعود العبارة إلى آ 7، 9 مع إشارة إلى المسيح الذي جاء في الجسد.
إن الشكل السلبي للفعل (لا يحمل) يفهمنا أن هذا الانسان لا يعترف بالمسيح الذي جاء في الجسد (صار بشرًا، آ 7). أو هو يعترف بالمسيح ليس المسيح الذي تؤمن به الجماعة. إن عبارة "حمل التعليم" تعني قدّمه أو نقله إلى جماعات مكوّنة. لا تقولوا له: السلام عليك. أي لا نحيّيه. ونرفض له السلام الذي يرتبط بالجماعة. في 3: 10، نلاحظ أن جماعة غايوس ترفض استقبال مرسلي الشيخ.
إن الذين يقبلون التعليم لا يشجّعون المعلّمين الكذبة بطريق من الطرق. فالمرسلون يرتبطون في ضيافتهم بسخاء أعضاء الكنيسة. وهذه الضيافة لا تتقدَّم إلى المنادين بتعليم كاذب. إذن، لا يُسمح لهم بأن يخدموا في الكنيسة. إذن، لا نحيّيهم، لا نسلّم عليهم. فحتّى سلامنا يمكن أن يكون علامة تشجيع لهم.
مثل هذا الإجراء يخفّف ما تأثير المعلّمين الكذبة. من الواضح أن الشيخ يهتمّ بالخط على أعضاء الجماعة إن هم تعاملوا معهم. فاستقبالهم علامة تضاف معهم. فإن رفضنا نظرتهم، ستكون الضيافة مشاركة في أعمالهم. والذين يساعدونهم بهذا الشكل يقعون تحت الحكم الذي يقع تحته المعلّمون الكذبة أنفسهم. فعلى الجماعة أن تحفظ نفسها من التلوّث بالضلال.
أجل، تحرَّم كل مشاركة مع هؤلاء المضلّلين. والحرب التعليميّة ليست تبادلاً على مستوى العقل وحسب، بل هي تنطلق في علاقات شخصيّة. إن فعل "كوينونيو" يعني شارك في نشاط المضلّلين. أما الضلال المذكور هنا فيعني أيضًا الأعمال (إرغوس) السيّئة (بونيروس).
4- سلامات (آ 12- 13)
إن خاتمة 2 يو (آ 12- 13) تشبه خاتمة 3 يو (آ 13- 14)، كما تشبه نهاية الإنجيل (يو 20: 30؛ 21: 25). أعلن الرسول أنه يزور الجماعة "ليكون فرحنا كاملاً" (1 يو 1: 4). وتمنّى أن يلتقي بهذه الكنيسة التي ظلّت أمينة للتعليم الذي تسلّمته. هل توصّل الكاتب إلى اقناع أبناء "السيّدة المختارة" بأن لا يتبعوا الانتيكرست وتعليمه؟ إن آ 13 تشرّد على أن الجماعات اليوحناويّة ترتبط بالرباطات الأخويّة. تلك هي نتيجة تعليم بحسب الحقّ.
رغم تنبيه الشيخ لكنيسته، فهو واثق كل الثقة بأمانتها للحقّ، ومتعلّق بها تعلّق المحبّة الحارة. ومع أنه يودّ أن يقول لهم الكثير في رسالته، إلاّ أنه يتطلّع إلى مناسبة لقاء شخصيّ وحديث خاص مع أعضاء الكنيسة. مثل هذا اللقاء يمنحه الفرح كما يمنحه لقرّائه.
ما نقرأه هنا في آ 12 نقرأه في 3 يو آ 13- 14. فالرسالة التي أرسلها الشيخ تحلّ محلّ حضوره. ولكن حين تسنح الظروف ويتمّ اللقاء، ففرحُ الشيخ بالكنيسة، وفرح الكنيسة به سيكون كاملاً.
إن المقابلة بين نهاية 2 يو ونهاية 3 يو، تدلّ على أننا أمام كاتب واحد كتب إلى جماعتين متميّزتين. "عندي كثير". هذا يعني أنه لا يستطيع أن يقول هذا الكثير في رسالة، لأن الورق والمداد لا يسمحان له، أو لأن الأمور هي من الدقة بحيث لا يستطيع أن يعبّر عنها بالكتابة. "لا أريد" (بولوماي). اتخذ يوحنا قرارة فما أطال الكتابة، بل استعدّ لوسيلة أخرى بها يوصل فكره (اللقاء بينه وبين جماعته). إن اللفظة "خارتيي، تدل على الورق البرديّ أو على يُستعمل للكتابة. وفعل "أرجو" (إليزو) قد يعني الثقة التامة أو الأمل الذي لا يشك يشعر به. هذا لا يعني تردّدًا على مستوى الرسول، بل لأن زيارة الكنائس لم تكن تمرّ بدون مشاكل (رج 3 يو 13). وجهًا لوجه. حرفيًَا: فمًا لفم (ستوما). رج 3 يو 14 مع فكرة الحوار الحميم، لأن القراءة العامّة في الجماعة تصطدم بصعوبات. والفرح الذي تتحدّث عنه الرسالة هو فرح اللقاء وفرح التشجيع المتبادل. رج 1 يو 1: 1- 3.
في آ 13، الأبناء هم أعضاء الجماعة جميعًا، وقد ارتبطوا بالشيخ. جماعة الشيخ مختارة (بل هي المختارة بسبب مركز الصدارة الذي تتمتّع به. والجماعة التي يكتب إليها هي مختارة (إكلاكتيس). هذا يعني أن كل جماعة منشقّة أو ضالة ليست مختارة. والكنيسة المحلّية هي أخت كنيسة يوحنا مثلاً. إذا كان الايمان الواحد يجعل من المؤمن أخًا للمؤمن، فالكنيسة تكون أخت كنيسة أخرى. وإلاّ تكون غريبة فتعامل كما يعامل الأخُ أخاه الذي يرفض التنبيه: كالعشّار والوثنيّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM