الفصل السادس عشر
الحياة الابدية
5: 13- 21
تشكّل آ 13 رباطًا بين القطعة السابقة (آ 6- 12) وآ 14- 21. يشرف على هذه الآيات الأخيرة فعل "عرف": على القرّاء، أن يعرفوا (آ 13، آيديتي) أن لهم الحياة، والكاتب والقرّاء يشاركون في هذه الثقة، هذه الدالة (باريسيا). ويعرفون أن الله استجاب لهم (آ 15). وأن المولود من الله لا يخطأ (آ 18). وأنهم من الله (آ 9). وأن الابن جاء (آ 20) فأعطانا الفهم والادراك (آ 20). الكنيسة تعرف وهي تفتخر بهذه المعرفة. ولكن هذه المعرفة مهدّدة بالهرطقة والكذب (آ 20) والأوثان (آ 21).
للوهلة الأولى تبدو آ 13- 21 مؤلّفة من مقاطع صغيرة: القرّاء يمتلكون (لهم) الحياة (آ 13) يستطيعون أن يصلّوا يثقة (آ 14- 15). ولكن هناك خطأة لا نصلّي من أجلهم (آ 16- 17) المولود من الله لا يخطأ (آ 18). نحن من الله ونعرف الحقّ (آ 19- 20) إحذروا الأوثان (آ 21).
1- دراسة كتابيّة
أ- أكتب إليكم (5: 13)
وصل يوحنا إلى نهاية ما يريد أن يقوله. بيّن بوضوح ما يميّز المؤمن الصادق عن المؤمن الكاذب. وها هو يُنهي كلامه باستعادة هدفه: أن يثبّت قرّاءة في إيمانهم بأن يسوع هو ابن الله، وأنهم يمتلكون الحياة الابديّة. مثل هؤلاء الناس متأكّدون أن صلواتهم استُجيبت، وهذا ما يدفع الكاتب إلى الكلام عن الصلاة من أجل الذين سقطوا في الخطيئة. وفي النهاية يجمل الحقائق الكبرى التي عالجها في رسالته: قدرة الله التي تحفظنا. البنوّة الالهية. الشركة مع الله. وتبقى اللهجة التحريضية حتّى النهاية. وتنتهي الرسامة بنداء إلى القرّاء ليحذروا الديانة الكاذبة. إن آ 13 القريبة من يو 20: 31 تلفت النظر: هي توجز هدف الكاتب ولا تضيف جديدًا. لهذا اعتبر عدد من الشرّاح أن 1 يو كانت تنتهي هنا ثم أضيفت إليها آ 14- 21.
إن يوحنا أعطانا في إنجيله قولاً حول هدفه من الكتابة (يو 20: 31: لتؤمنوا) وها هو يلخِّص هدفه في 1 يو. كتب إلى كنيسة عرفت تعليمًا مختلفًا حول طبيعة الايمان المسيحيّ. مثلُ هذا الوضع يجعل القرّاء يتساءلون إن كانوا يمتلكون الحياة الأبديّة. وبعض الذين آمنوا بأن يسوع هو ابن الله، تساءلوا عن صحّة إيمانهم وعن خبرتهم للحياة الأبديّة، بعد أن بيّن يوحنا لقرّائه أنهم لا يجدون الحياة الابديّة إلا في يسوع المسيح ابن الله (آ 11- 12). أعلن أن ما كتبه يعطي ثقة للمؤمنين بأنهم يمتلكون الحياة (زوئين) الابديّة (أيونيون). ما كتب يوحنا أولاً لكي يُقنع اللامؤمنين بحقيقة الايمان المسيحيّ، بل ليقوّي المؤمنين المسيحين الذين قد يشكّون في مواقع تجربتهم المسيحيّة وفي إيمانهم بيسوع فالذين يؤمنون باسم يسوع (3: 3؛ رج يو 1: 12؛ 2: 23)، ليتأكّدوا أنهم يمتلكون منذ الآن الحياة الأبدية.
نقرأ في بداية آ 13 "توتا" هذا. هل تعود إلى الرسالة ككلّ، أم إلى القطعة السابقة (آ5- 12)؟ يسند الخيار الثاني الطريقة التي بها استعادت آ 13 ما في آ 11- 12 وطبّقته على القرّاء. وما يسند الخيار الاول هو الموازاة مع يو 20: 31 الذي يقدّم مرمى الانجيل كله. ورأى بعض الشرّاح في آ 13 خاتمة الرسالة. أما آ 13- 21، فقد أضيفت فيها بعد. ولكن يبدو أن آ 13 تلعب دور الوصل بين القطعة السابقة (آ 5- 12) والقطعة اللاحقة (آ 14- 21) فتكوّن لها مقدّمة.
قدّم يوحنا هدفه فأخذ حذره (1: 4؛ 2: 1) ليدلّ على أنه لا يقدّم بدعة جديدة (2: 20- 21). ويرد فعل عرف 14 مرة في 1، 2، 3 يو (2: 11، 20، 21؛ 3: 2...). لسنا أمام معرفة موضوع من المواضيع أو خبرة من الخبرات. فالقرّاء يعرفون لأنهم تعلّموا. وها هو يوحنا يذكّرهم بما تعلّموه (1: 1- 4؛ 2: 18- 27). هي معرفة الايمان التي وصلت إليهم عبر التلمذة والفقاهة. ولفظة "لتعرفوا" لا تعني: لتعرفوا ما كنتم تجهلون. بل: لتعرفوا أفضل معرفة لتقتنعوا أن لكم الحياة منذ الآن، رغم الشكوك التي تحيط لكم (2: 20؛ 3: 14). لسنا أمام وعي لحالة باطنيّة (كما في التيّار الغنوصي). فإذا أرادوا أن يكتشفوا هذه الحياة، وجب عليهم أن ينظروا إلى يسوع، لا إلى ذواتهم.
لا شكّ في أننا نفرح في إطار هذه المعرفة. كما نجد أن الثقة التي لنا في الآب قد تحقّقت في الصلاة. غير أن الصلاة ليست الطريق إلى هذه الثقة، بل ثمرة هذه الثقة الآتية من الايمان بالابن. وتُذكر الحياة الأبديّة (1: 2؛ 2: 25؛ 3: 14). هي تُعطى للمؤمنين. لا يشدّد النصّ على الايمان. بل على الايمان باسم الابن. رج 3: 23 والايمان بيسوع؛ 5: 1، 5 والتشديد على شخص الابن الذي هو يسوع: 4: 2؛ 2 يو 7 والكلام عن المسيح الذي جاء بالجسد، جاء "بماء ودم" (5: 6). نجد عبارة "آمن باسم الابن" في انجيل يوحنا. أما هنا فالتشديد على اسم يسوع.
ب- إذا طلبنا استجاب (5: 14- 15)
تهتمّ آ 14- 17 ببعض وجهات الصلاة. أما آ 18- 21 فتستعيد وضع المسيحيّ وتشدّد على نتائج مجيء ابن الله من أجل حياتنا في العالم. ويعود هنا فعل عرف خمس مرات. كما يرد موضوع الثقة للمرّة الرابعة (2: 28؛ 3: 21؛ 4: 17) هنا في ارتباط مع الصلاة. في 3: 21، كان حديث عن الصلاة التي توجّهها إلى الله. أما هنا، فالكاتب يوجّه صلاته إلى المسيح ينبوع هذه الثقة. وهذه الثقة تفترض أيضًا أن تتوافق صلاتُنا مع مشيئة الله (رج 3: 22 حيث ترتبط الاستجابة بحفظ وصايا الله). إذن لا تُعتبر الصلاة وسيلة بها يفرض الانسان إرادته على إرادة الله. فإن وصلت صلاتنا إلى الله، فجواب الله لا يمكن أن يعارض إرادته. أترى إن طلبنا حجرًا أعطانا حجرًا أم خبزًا؟ وإن طلبنا حيّة هل يعطينا حيّة أم سمكة؟ هو يعرف أن يعطينا العطايا الصالحة. بل يعطينا قبل أن نطلب.
هناك نتيجة مهمّة بها يتأكّد المؤمن أنه نال الحياة الأبديّة: ثقة ودالة في علاقة بالله، ولا سيّما في الصلاة. سبق يوحنا وتكلّم عن هذه الثقة. وها هو يكرّر كلامه. فالرب يسمع لنا في كل ما نطلب منه. وفعل "سمع" (أكوو) يعني وافق واستجاب (يو 9: 31؛ 11: 41- 42). ولكن هناك شرطًا: مثل هذه الصلاة يقدّمها الذين يثبتون في يسوع، ويجعلون كلمته تثبت فيهم (يو 15: 7). وهي تقدّم باسم يسوع (يو 14: 13- 14؛ 15: 16؛ 16: 23- 26). غير أننا نعرف من خبرتنا أن هذه الصلاة لا تستجاب دومًا. فيسوع نفسه طلب أن تُعبد عنه هذه الكأس. ولكنه قال: لا مشيئتي بل مشيئتك (مر 14: 36). وهكذا يجب علينا أن نفعل دومًا. فنحن لا نعرف ما هي إرادة لنا بالنسبة إلينا أو بالنسبة إلى الذين نصلّي من أجلهم ولكننا واثقون ثقة الفرح بأن الله سيصنع لنا بحسب مشيئته. وهكذا، حين نصلّي نجعل نفوسنا أداة في يد الله كي يفعل بنا مشيئته. عند ذاك تصبح صلاتنا استلامًا وتعبيرًا عن محبّة.
وتأتي النتيجة في آ 15: إذا عرفنا أن الله يسمع صلواتنا فمهما طلبنا ننل، إن لم يكن الآن، ففيما بعد. الربّ وحده يعرف ما يجب أن يعطينا، ومتى يجب أن يعطينا إياه. هناك عطايا ماديّة. وهناك بشكل خاص عطايا روحيّة. وفي هذا يقول لو 11: 13: الآب السماوي يهب الروح القدس للذين يسألونه.
ليست المرة الأولى التي فيها تبرز 1 يو الرباط بين الايمان الصحيح والثقة (2: 28) والصلاة. وتشدّد آ 14 على صلاة الطلب التي تكون بحسب إرادة الله. وإذا كانت 1 يو تجذّر الايمان دومًا في حياة يسوع التاريخيّة، فهي تشدّد أيضًا على الوجهة الآنيّة التي تصبح ملموسة في الثقة والصلاة. فالكاتب لا يكتفي بأن يصوّر حياة الايمان الصحيح. بل يقدّمها (ضدّ الهراطقة) كحاضرة في وجه الجماعة المؤمنة.
لماذا قال الكاتب ما قال في الصلاة الواثقة؟ أو أنه أراد أن يبيّن أن الايمان بيسوع التاريخ (الذي لمسناه بأيدينا) يغذّي صلاتنا وما فيها من ثقة بالله. أو أنه أراد أن يقابل هذه الصلاة الواثقة بما عند الغنوصييّن من خوف وقلق (4: 17- 19).
ج- خطايا تؤدّي إلى الموت (5: 16- 17)
بعد أن صوّر يوحنا ثمرة من أهم ثمار الثقة المسيحية، هي الصلاة المستجابة، قدّم مثلاً عن هذه الصلاة بالنسبة إلى خطيئة لا تقود إلى الموت، وإلى خطيئة تقود إلى الموت. بالنسبة إلى الحالة الأولى، عاد الكاتب إلى تث 22: 26، وشدّد على أن صلاة الأخ تمنح الخاطئ الحياة. هذا يعني أننا لسنا أمام الموت بحسب الجسد، بل أمام الموت الذي يعارض الحياة الابدية، الموت الذي هو استعباد تام ونهائي من الشركة مع الله. لا شكّ في أن من يقترف خطيئة يحطّم هذه الشركة. إلاّ أن جميع الخطايا ليست متشابهة، وبعضها لا تزيل كل إمكانيات العودة إلى الله. لا يشرح النصّ ماهيّة هذه الخطايا بل يكتفي بالقول أن الصلاة تجعل الضال يجد الحياة. لا شيء واضحًا. ومع ذلك، فمن الواضح أن الله يستجيب الصلاة فيرحم الخاطئ شرط أن لا تكون الخطيئة خطيرة بحيث لن تغفر.
هناك نوعان من الخطايا يذكرها يوحنا. افترض أن الجماعة تفهم، فما أوضح بين خطيئة لا تقود إلى موت وخطيئة تقود إلى الموت. هنا نتذكّر خطايا قادت إلى موت الجسد. عد 18: 22 (يتحملون عاقبة خطيئتهم ويموتون)؛ تث 22: 26 (لا خطيئة توجب الموت)؛ أش 22: 14 (لن أغفر لهم حتى يموتوا)؛ أع 5: 1- 11 (حنانيا وسفيرة)؛ 1 كور 5: 3- 5 (الزاني)؛ 11: 30. ولكن لا نظنّ أن يوحنا فكّر بموت في هذا المعنى. بل نلاحظ أن العهد القديم عرف خطايا لا وعي فيها ولا إرادة، وكانت تُقدّم عنها ذبيحة سنوية فتُغفر، وذلك في يوم الغفران (يوم كيبور يوم التكفير). كما عرف خطايا إرادية لا تْغفر في الذبائح الطقسية، بل في موت الخاطئ فقط. هذا التمييز بين خطايا تُغفر وخطايا تقود الخاطئ إلى الموت (يُرجم...) في مفتاح هذه المسألة.
ولكن أي نوع من الخطايا يقع في هاتين الفئتين؟ هنا نعود إلى 1 يو. يتطلّع الكاتب إلى خطايا لا تتوافق مع كوننا أبناء الله، وهي تخّص في أن تنكر أن يسوع هو ابن الله، في أن نرفض الطاعة لوصايا الله، في أن نحبّ العالم، في أن نبغض اخوتنا. مثل هذه الخطايا تميّز ذاك الذي ينتمي إلى عالم الظلمة، لا إلى عالم النور. هذا ما يقودنا إلى نتيجة تقول إن يوحنا يعني بالخطيئة التي تقود إلى الموت، خطايا تعارض كوننا أبناء الله (عمليًا، نصبح خارج الجماعة. نصبح محرومين، مائتين. نصبح كالوثني والعشار، رج مت 18: 17).
فالذي يخطأ بوعي تام ويختار بملء حريته ما يقود إلى الموت، يموت موتًا. فالخطيئة التي تقود إلى الموت، هي رفض إرادي بأن نؤمن بيسوع المسيح، بأن نتبع وصايا الله، بأن نحبّ اخوتنا. هي تقود إلى الموت لأنها تتضمن رفض الايمان بالذي وحده يستطيع أن يهبنا الحياة، يسوع المسيح ابن الله. تجاه هذا، فالخطايا التي لا تقود إلى الموت، هي التي نقترفها بغير إرادتنا ووعينا، فلا تتضمّن رفض الله ومشروعه الخلاصيّ: تغلّبت التجربّة على الخاطئ وهو لا يريد. ما زال يريد أيضًا أن يحبّ الله ويحبّ القريب ما زال يؤمن بالمسيح ما زال يتوق إلى التحرّر من الخطيئة.
وتبقى نقاط لا بدّ من توضيحها، الاولى، لماذا يتشفّع المسيحي بالخاطئ إن كانت خطيئته لا تقود إلى الموت؟ بما أن هذه الخطيئة لم تقده إلى الموت، فلماذا يحتاج الصلاة لكي يحيا؟ لا يقدّم يوحنا جوابًا على هذا السؤال. لهذا، سيكون جوابنا نظريًا. هنا نعود إلى آ 17 حيث يذكّر يوحنا قرّاءة أن كل عمل سيّئ هو خطيئة، وأن هناك خطايا لا تقود إلى الموت. فالخطيئة تبقى الخطيئة. والخطيئة خطرة لأنها تميّز حياة تنعزل عن الله. والخطيئة تبقى شرًا في حياة أبناء الله. الثانية، لا نستطيع أن نعزل نوعًا من الخطايا يقع في هذه الفئة أو تلك. فخطايا المؤمن تتضمّن عدم ايمان بيسوع المسيح، ورفضًا لحفظ وصايا الله، وغياب المحبّة الاخويّة. فلا خطايا إلاّ هذه والخط الفاصل بين خطايا واعية وخطايا لا واعية يصعب تحديده. فإن لم يكن من غفران لخطايا إراديّة، فهذا يعني أن الجميع صاروا تحت الحكم. أترانا لم نخطأ بارادتنا بعد اهتدائنا وولادتنا الجديدة؟ فهناك خطر نعيشه. لهذا كان من الضروريّ أن نصلّي لئلا تصل بنا خطايانا إلى رفض طريق الحياة. وتبقى التوبة مهمّة لنا ولاخوتنا. نصلّي لكي نعود إلى التوبة. ونثق أن الرب يسمع صلاتنا. ولنا مثال يسوع الذي صلّى لئلاّ تصل بنا خطايانا إلى رفض طريق الحياة. وتبقى التوبة مهمّة لنا ولاخوتنا. نصلي لكي نعود إلى التوبة ونثق أن الرب يسمع صلاتنا. ولنا مثال يسوع الذي صلّى من أجل بطرس (لو 22: 32) لئلا يفقد إيمانه.
ولكن حين يرفض الخاطئ التوبة والايمان، فهو في طريق الموت. في هذا الحال، لا يطلب يوحنا الصلاة من أجله، ولكن مثل هذا "الحرم" لا يعني أننا لا نعود نصلّي لأجله. فقد يندم في النهاية كما يقول بولس في 1 كور 5: 5؛ 1 تم 2: 20. ويُطرح سؤال آخر: هل يقترف خطيئة تقتود إلى الموت من كان ابنًا حقيقيًا لله؟ لا شكّ في ذلك. فحين كتب يوحنا في هذا الموضوع، فكّر أولاً بالذين تركوا الكنيسة فرفضوا أن يؤمنوا بيسوع ويحبّوا الاخوة. عندئذ يصبحون "لا مؤمنين"، فيقودهم لا إيمانهم إلى الموت. أما المؤمن المؤمن، فهو وإن خطئ، فخطيئة لا تقود إلى الموت. ولكن بولس يقول لنا: من هو واقف، ليخف من السقوط. والمؤمن يمكن أن يجحد إيمانه ويترك الكنيسة. لهذا، نحتاج جميعنا إلى الصلاة.
ارتبطت آ 16- 17 بما سيق: فكما في 3: 20- 22 (رج يو 14- 16)، نتيجة الايمان بالابن هي صلاة واثقة. ولفظة "باريسيا" (ثقة مؤكدة) تعني ثقة في الصلاة لا في يوم الدينونة (2: 28؛ 3: 21)، ولا تجاه قلبنا الذي يبكينا (4: 17). ولكن الصلاة في 1 يو، شأنها شأن الحبّ، هي صلاة من الاخوة، ولا سيّما الأخ الخاطئ (حرفيًا: هو الآن يقترف خطيئة). وفي الواقع التاريخيّ الذي يعيشه كاتب الرسالة، هناك أخوة يقترفون خطيئة (حرفيًا: يخطأون خطيئة، هامارتانونتا هامارتيان) تقود إلى الموت (بروس تاناتون) أو تستحق الموت (يو 11: 4). لا يقول الكاتب إن هؤلاء هلكوا ولا دواء لهم. بل لا فائدة من الصلاة لأجلهم. فهؤلاء الهراطقة حرموا نفوسهم من الجماعة وتركوها (2: 19)، كما استغنوا عن صلاتها. وهكذا تطبّق 1 يو على الهراطقة والأنبياء الكذبة طريقة عب 6: 4- 6؛ 10: 26- 27؛ 2 بط 2: 1ي. فسبب هذه القساوة يرتبط بالابتعاد عن الجماعة. انقطعوا عن الكرمة فصاروا أغصانًا يابسة لا نفع منها. لهذا، فهي تُلقى في النار.
د- من وُلد من الله لا يخطأ (5: 18)
وتنتهي 1 يو بثلاثة أقوال احتفاليّة تنتهي بلفظة: نعرف (رج 2: 20- 22). نعرف أن كل من وُلد من الله (آ 18). نعرف أننا من الله (آ 19). نعرف أن ابن الله جاء (آ 20) صيغة المتكلّم الجمع تدله على الكاتب والقرّاء، مع تحريض واضح في آ 21: نحن الذين نكتب لكم نعرف. اذن، أنتم الذين تقرأون، يجب أن تعرفوا بعد أن تعلّمتم (2: 26- 29) إذن، لا تتأثّروا بهجمات المسماء الدجّالين.
وهكذا استعادت آ 18 فكرة عبّر عنها 3: 9 حول الولادة من الله (رج 2: 29؛ 4: 7؛ 5: 1). من وُلد من الله. أي المؤمن. والمولود من الله هو يسوع المسيح. فنحن أبناء مع الابن. هناك من يعتبر المولود المؤمن. وهو يصون نفسه من كل شرّ، فالكلام عن ولادة المسيح في الأدب اليوحناويّ لا نقرأه إلا في يو 1: 13 حسب نصوص الآباء: هو الذي ولد لا من دم ولا من رغبة جسد، ولا من رغبة رجل، بل من الله (الصيغة المعروفة هي الجمع: هم الذين وُلدوا). مهما يكن من أمر، فالفكر الاساسيّة نجدها في نهاية الآية: لا يقدر الشرّير شيئًا ضدّ المؤمن.
كل من (باس) يتوسّع الكاتب في كلامه دون أن يَنسى "هجومه" على خصوم يعتبرون أن عدم الخطأ محصور في نخبة صغيرة، في شيعة منغلقة على ذاتها. كل من وُلد، كل عضو في الجماعة اليوحناويّة (5: 1) لا يخطأ. نلاحظ فكر يوحنا (1: 8- 10؛ 2: 1- 2). أكّد أن المؤمن يبقى خاطئًا. هو يعترف بخطيئة ويلجأ إلى من يدافع عنه، إلى يسوع المسيح عليه. أن لا يخطأ. وفي الواقع هو لا يخطأ. وتحدّد آ 18 أساس هذا القول الأخير: فالمولود (يسوع المسيح) يحفظنا فلا يعود الشرير يقدر علينا، نقرأ هنا فعل "تيرابن"، حفظ، صان. يسوع (الفاعل) هو الذي يحفظ المؤمن (صار المفعول به). أما الرسالة، فتتحدّث عن المؤمنين الذين "يحفظون" الوصايا. إن المسيح يحفظ المؤمن من الشرّير. لا يقول النص كيف يحفظه المسيح (رج يو 17: 12). أما واو العطف (كاي) فيدلّ على النتيجة: بما أنه يحفظه لا يمسّه الشرير.
الشرير (بونيروس، 2: 13- 14؛ 3: 12؛ 5: 19) هو إبليس، ورئيس العالم (آ 19) والهراطقة. لا شكّ في أن العالم هو خليقة الله. ولكن هناك علاقة بين إبليس والعالم والخطيئة والهراطقة، نقرأ فعل "هبتو" (اشعل) الذي يدلّ على ملامسة قوى الخير أو الشرّ. ويعني: وضع يده على شخص وكأنه يريد أن يمتلكه. هذا ما يحاول أن يفعله الشرّير. لا نجد هذا الفعل في العهد الجديد إلاّ هنا (ولكن رج يو 20: 17)، مع امكانيتين بسيطتين: لا يستطيع الشرّير أن يضع يده عليه لكي يسيء إليه ويقوده في طرق الضلال. أو لا يستطيع أن يصل إليه. الخيار الثاني يعني أن الانسان هو فوق الشرّ. وهذا مستحيل، وإلاّ لماذا نصلّي نجّنا من الشرير. أما الخيار الاول فيعتبر أن الشرير يهاجمنا ولكنه لا يقدر علينا (رج يو 17: 15).
هـ نحن نعرف (5: 19- 20)
كان إعلان أول (نعرف) عن المؤمن الذي لا يخطأ. لأن يسوع المولود من الله يصونه من الشرّير. وها هو إعلان ثان يذكّرنا بأن العامل مقسوم قسمين: أولئك الذين ينتمون إلى الله. وأولئك الذين يخضعون لسلطان الشرّير. في آ 18، قال يوحنا : كل من (باس) فما استثنى أحدًا. أما هنا فهو يتوقّف عند جماعته: نحن نعرف أننا (نحن) أولاد الله، أننا نحن من الله (3: 9- 10؛ 4: 7). ولنا مواعيد المولودين من الله، أما العالم فهو في قبضة الشرّير.
إذا كان العالم مقسومًا إلى "حزبين" فكيف نجد الطريق إلى هذا الحزب أو ذاك؟ وكيف تسير الكنيسة مسيرتها في عام يخضع (كايماي) لسلطان الشيطان؟ هنا يأتي الاعلان الثالث فيقدّم الجواب: ابن الله (الذي هو يسوع) جاء إلى العالم (1 كو، رج يو 8: 42، جاء يسوع من السماء) أفهمنا (أعطانا الفهم، ديانويا) الحقّ، فعرفنا الحقّ الذي هو الله. من المهم أن نعرف أن مهمّة يسوع توخّت أن تحمل إلينا معرفة نحتاجها لكي نخلص. مثل هذه النظرة إلى عمل يسوع، قد تُفهم فهمًا خاطئًا في الإطار الغنوصيّ الذي يرى الخلاص آتيًا عبر معرفة حقائق يحملها "الموحي" أما المعرفة التي يتحدّث عنها يوحنا، فهي تختلف عن التي تقدمّها الغنوصيّة. فقد شدّد في رسالته على حقيقة تجسّد ابن الله (قال الغنوصيون: بدا ابن الله وكأنه اتحد بيسوع). ثم إن يوحنا شدّد على موت يسوع في ذبيحة تكفيريّة من أجل خطايانا (فهم الغنوصيون حاجة الانسان إلى الخلاص من الجهل، لا من الخطيئة، وبالتالي ما رأوا حاجة إلى الكفّارة). وفي النهاية، شدّد يوحنا على ضرورة الايمان بيسوع، ساعة حلّت المعرفة محلّ الايمان في الفكر الغنوصيّ. ومع هذه الاختلافات عن الغنوصيّة، يبقى أن المسيحيّة ديانة مبنيّة على الوحي ذاك هو العنصر المهمّ المذكور هنا. فالانسان لا يستطيع بقواه أن يجد الطريق إلى الله وإلى الحياة الأبديّة: فهو يحتاج إلى وحي يأتيه من الله نفسه. لهذا أرسل الله ابنه ليكشف الحقّ، والذين يقبلون الوحي يأتون إلى معرفة الله الحقّ.
بالإضافة إلى ذلك نقول إننا "في" الحقّ (2: 5، 24). لأننا في ابن الله، يسوع المسيح. فحين نكون في الآب نكون في الابن. سبق يوحنا فقال: لا يكون لنا الآب إن لم يكن لنا الابن (2: 23). بما أن الآب والابن متحدان اتحادًا وثيقًا، فالآب لا يُعرف من دون الابن، ولا الابن من دون الآب. وبما أن الابن صار الوحي (حامل الوحي)، فقد صار الطريقَ الوحيدة إلى الاله الحقيقيّ والايمان بالابن. ونقول أيضًا إن الذي يؤمن بالابن، تكون له بلا شك شركة مع الآب. وهناك أناس (ما زالوا الآن) يتوقفون عند يسوع ويتركون الله الآب. مثل هذا الأمر يقع حين يُنكر يسوع على أنه ابن الله. ذاك كان الضلال الذي حاربه يوحنا في رسالته، وما زال يحاربه حتى آخر آية فيها. فهو (أي يسوع) الاله الحقيقيّ والحياة الأبديّة. ويوحنا يعلن هنا كما في انجيله (يو 1: 1؛ 20: 28) أن يسوع هو الاله الحقيقيّ، وهو يفعل بحيث يتماهى الآب مع الابن في الألوهة، وبحيث نعرف أننا حين نلتقي بالمسيح نلتقي بالله، فيسوع عند يوحنا هو الذي يقول: "من رأني رأى الآب" (يو 14: 6). من هنا انطلق الكاتب ليقدّم هذا المقطع.
بدأت آ 19 مع "نحن" (اسمن) التي تُفهم مع ما سبق وما يلي: نحن هكذا، لا بقوانا الشخصيّة، ولكن لأن الله أعطانا الحياة، ولأننا آمنا باسم ابن الله (آ 13). نحن هكذا، لأنه أعطانا الوسيلة. وهي الفهم لكي نعرفه (آ 20). وتنتهي هذه الآية بقول صاعق: "العالم كله تحت سلطان الشرير". ليس بشرّير في حدّ ذاته، ولكن تسيطر عليه الشهوة (2: 17). يعني هذا أن ما في العالم يسيطر على لفظة "كل" (هولوس). العالم كله في قبضة الشرير. وفي 3: 2 أكّدت الرسالة على عمل الله كله في يسوع المسيح أجل، الكل يقابل الكل: ليس في العالم شيء إلاّ ويرتبط بسلطة الشرّ أو بعمل الله.
وتستعيد آ 20 مرة أخرى، مضمون الرسالة بشكل أصيل. تقرأ آخر مرة "نعرف" (أويدامن)، ما نعرف عن الصلاة (آ 15) وعن الولادة من الله (آ 18) يرتبط بما نعرف عن ابن الله (آ 20). ففي 1 يو، الأساسيّ يأتي في المرتبة الأخيرة كي يُسند ما سبق. جاء يسوع (رج يو 2: 4؛ 4: 47). لا كتلك الآلهة التي قيل عنها أنها "تظهر" للبشر. هي تظهر مرّة واحدة (فاناروو). لا، بل جاء الابن. هو لنا نحن "نمتلكه" بعد أن أعطاناه الله. لهذا جاء فعل "أعطى" في صيغة الكامل) (دادوكن) فأشار إلى عطيّة من الماضي مازلنا ننعم بها الآن (رج آ 11 وصيغة الاحتمال). مجيء الله متواصل في قلب المؤمنين وفي قلب الكنيسة. متى كانت هذه العطيّة للبشر، لمؤمني كنيسة يوحنا الذين ظلّوا أمناء للتعليم؟ إما في مجيء يسوع التاريخيّ مع الوحي الذي حمله. وإما إلى الوقت الذي فيه وصلت البشارة إلى شهود يعيشون في جماعة يوحنا (1: 1- 4). الخيار الثاني يوافق لهجة الرسالة (نلاحظ) لفظة حقّ اليتينوس التي تتكررّ ثلاث مرات في هذه الآية). لنا، نحن الذين نكتب إليكم، سُلّم فهم مجيء الابن الذي هو يسوع.
لا ترد لفظة "ديانويا" فكر، فهم، عقل، إدراك، إلاّ هنا في 1 يو. ولكننا نجدها في الأناجيل (مت 12: 30 وز) والعهد القديم (ولا سيّما في السبعينية) مع الإشارة إلى القلب (تث 6: 5، الوصيّة). وتأتي "هينا" (لكي ندرك) في معنيين. الغاية: لكي تعرفوا. التفسير: يقوم هذا الفهم بأن تعرفوا: لنا أعطي فهم (الاله) الحق، وحين تكونون في شركة معنا تمتلكون ذاك الفهم وتحفظونه (1: 3).
و- تجنّبوا الأوثان (5: 21)
إذا كان ما قاله يوحنا صحيحًا، يجب على قرّائه أن يتجنّبوا كل ما يبعدهم عن الاله الذي كشف عن نفسه في يسوع. لهذا، وللمرّة الأخيرة، يوجّه الرسول كلامه إلى قرّائه ويحذّرهم: يجنّبوا الأوثان. حتى الآن، لم يتكلّم يوحنا عن عبادة الآلهة الكذبة التي انتشرت في محيط قرّاء 1 يو، لا شكّ في أن الخطر وُجد في الكنيسة الاول، فحذّر منه المسؤولون (أع 17: 29؛ روم 1: 23 : 1 كور 8: 5- 6؛ 10: 14؛ 1 تس 1: 9؛ رؤ 13: 15) ولكن ندهش أن يكون يوحنا أدخل هذا الموضوع بشكل مفاجئ وفي نهاية الرسالة. هناك امكانيتان. الأولى، عاد يوحنا إلى نظرة خاطئة. إلى الله. فشدّد على أن يسوع هو الاله الحقيقيّ. ولهذا نبّه من عبادات خارجة عن عبادة الاله الواحد. فكأنه الثانية، يبدو يوحنا وكأنه يقول لهم: تجنّبوا الخطيئة. ولا سيّما خطيئة الجحود، الخياران مقبولان فالتعلّق بالآلهة الكاذبة هو الخطيئة الكبرى. ويوحنا يلحُّ على قرّائه بقطع كل علاقة مع عبادات ملأت العالم الروماني، الذي عبد في النهاية مدينة رومة، وجعل تمثال الامبراطور في ساحة كل مدينة، فكان الناس يأتون ويسجدون أمامه ويقدّمون البخور. ولكن المسيحيّ يرفض مثل هذه العبادة، ويعرف أن يسوع المسيح هو الاله الحقيقيّ وهو الطريق الوحيد إلى الحياة الأبديّة.
أنهى يوحنا رسالته بنداء أخير: يا أبنائي الصغار. نبّههم (فيلاسو، لا يرد إلاّ هنا. نجده في يو 12: 25، 47؛ 17: 12 بمعنى حفظ شخصًا أو شيئًا، ومع "أبو"، يدل على رفض واع للخطر 2 تس 3: 3) من الأصنام التي يمكن أن تكون أيضًا الهرطقات (2: 18- 27؛ 4: 1- 6؛ 5: 1- 12). عندئذ نستطيع القول إن الهرطقات "المسيحيّة" هي دخول التأثير الوثنيّ إلى الايمان الحقيقيّ.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
أكتب إليكم بهذا (آ 13). ولكن هذه الآية ليست الكلمة الاخيرة في الرسالة، مع ما فيها من فعل إيمان بمن يعطينا الحياة الأبديّة، على غرار ما نقرأ في نهاية الانجيل الرابع (يو 20: 31). فالرسول زاد "ملحقًا" صغيرًا فيه يستعيد أفكار الرسالة. فكأني به يقول لكل واحد منا بأن يعود إلى قراءة الرسالة والربّ هو الذي يرافقنا كما رافق تلاميذه في حياته، وكما رافق الجماعة اليوحناويّة التي تتعرّض لهجمة شرسة من قبل المضلّلين.
كان كلام عن الصلاة التي تستجاب. وكلام من الخاطئ الذي نصلّي من أجله، في خط من 18 الذي يعلّمنا كيف نساعد الخاطئ قبل أن نتركه ونحسبه كالوثنيّ والعشّار: كما أن هناك كلامًا عن خطيئة وخطيئة. فالأخ الذي اقترف خطيئة لا تقود إلى الموت، تعيدُ الصلاة إليه الحياة. هذا يعني أن الخطيئة "العرضية" نفسها يمكن أن تكون خطيرة، وإلاّ لماذا الصلاة. وذكر الخطيئة والمحبّة بقرب الخطيئة لا يسمح لنا بأن ننسى أهميّة التشفّع في كل وقت. وإذ يميّز يوحنا بين خطيئة، لا يقول إن المحبة تجعل الانسان هالكًا لا محالة. فلا شيء يتيح لنا أن نعلن خاطئًا بأنه استحقّ الهلاك الابدي، فخطيئته جعلته خارج العالم الذي يشرف عليه التضامن. فالحياة الآتية من المسيح، الكرمة الحقيقيّة، تصل إلى جميع الأغصان. فمن قطع نفسه، انتفت الحياة ومنه وسار إلى الموت. أما المؤمن الذي وُلد من الله، فهو يعرف أنه لا يخطأ. أي أن الخطيئة لا تسيطر عليه. وإن حصل فسقط، فهو يتذكّر أن لنا شفيعًا عند الآب، وهو كفّارة عن خطايانا. أجل، المؤمن يعرف أنه لم تعد تحت سلطان الشرير. فهو من الله، وقد أعطي أن يدرك الحق، وأن يعرف الايمان الحقيقيّ، كما يعرف أن الإله الحقيقيّ يقوده إلى الحياة الابديّة التي بدأ يحياها منذ الآن. فلا يبقى له سوى الثقة بذاك الذي جاء في الجسد فرأيناه وسمعناه ولمسناه. إنه كلمة الله الحاضرة دومًا فينا. إنه حياة الله التي تجلّت، والنور الذي يمنع الضلال، فماذا تخاف بعدُ كنيسة يوحنا، وماذا يمكن أن تخاف منه كنيستنا؟