الشهادة ليسوع المسيح
5: 6- 12
ترتبط هذه القطعة ارتباطًا وثيقًا بالتي سبقتها: ذُكر ابن الله في آ 5 وبدأت آ 6- 12 في توسّع كرستولوجي طويل. هنا نقول إن العبور من آ 5 إلى آ 6 يميّز كرستولوجيا تجذّر "كيان" يسوع (هو الابن) في واقع مجيئة التاريخيّ: صار انتصار الايمان على العالم ممكنًا، لأن هذا الابن جاء في التاريخ. وارتباط هذا الكيان بالتاريخ ورد مثلاً في 4: 10: هذا هو الحبّ... أحبّنا. وبما أن هذه الكرستولوجيا ارتبطت بالتاريخ، صارت متضامنة مع شهادة. لسنا على مستوى التنظير كما فعل المسحاء الدجّالون، ولا على مستوى الاختبار، لأننا لسنا أمام توضيح لخبرتنا عن المسيح. إن شهادة الله في الانسان حول ابنه الحبيب ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالشهادة التي أدّاها الله، في الماضي، لابنه. وأخيرًا هذه الكرستولوجيا (قولنا عن يسوع المسيح) هي في خدمة السوتيريولوجيا (قول عن الخلاص) فالجدال في شأن ابن الله يعني مباشرة حياة المؤمن.
1- دراسة كتابية
نستطيع أن نجعل آ 6- 12 في ثلاث محطات: إعلان حول ذاك الذي جاء. اعلان حول شهادة أدّيت لهذا المجيء. تطبيق عملي: من ليس له الابن ليس له حياة. يتوزّع مدلول الشهادة في العهد الجديد كله. ولكنه مهمّ جدًا في الأدب اليوحناويّ (40 نصًا). وفي 1 يو يُطبّق على الكاتب ورفاقه (1: 2: نشهد؛ 4: 14: رأينا ونشهد)، على الشهادة المثّلثة المؤدّاة للابن (5: 6- 9)، على شهادة الله لابنه (5: 10)
أ- هذا الذي جاء (5: 6)
في بداية ف 5، قدّم لنا يوحنا السمات الثلاث التي تميّز المولود من الله: الايمان بيسوع أنه المسيح. حبّ الله وحبّ للاخوة، الطاعة لوصايا الله. وهو الآن يحدّد طبيعة الايمان الصحيح الذي وحده يمنحنا الغلبة على العالم وعلى تجاربه ومقاومته للبشارة. يسوع هو ذاك الذي جاء بالماء والدم، وهذا ما يشهد له الروح. وهكذا نكون أمام ثلاثة شهود للتعرّف إلى يسوع. وفي شهادتهم، الموحّدة يقدمّون لنا كلام الله الحقّ حول الابن. فإن آمن أحد بيسوع، وجدت هذه الشهادة مكانها في قلبه وأدخلته في خبرة الحياة الأبدية. أما من يرفض أن يؤمن بشهادة الله يجعل الله كاذبًا وينقطع من الحياة الأبديّة.
شكّلت آ 5 وصلة بين كلام يوحنا عن قوّة الايمان وقوله عن مضمون الايمان الحقيقيّ وما يثبته. تساءل على المستوى البلاغيّ: هل يستطيع أحد أن يغلب (نيكاوو) العالم إن لم يؤمن أن يسوع هو ابن الله. حصل تبديل بسيط حول الالفاظ في آ 1. كان مضمون الايمان الحقيقي يسوع على أنه المسيح. وهنا يُعترف بيسوع على أنه ابن الله. هذا يعني في نظر يوحنا، أن اللقبين يترادفان. رج 2: 22- 23. ولكن يبقى أن لقب "ابن الله" يوافق الكلام هنا، لأن يوحنا يفكّر في قوّة الله التي تجلّت في ابنه يسوع. وحده ذاك الذي يعترف أن يسوع هو ابن الله، يقدر أن يؤمن أن يسوع ينال قوّة من الله ليقلب العالم. إن الله هو المخلّص، ولكنه كذلك لأنه يشارك الله في قدرته التي هي أعظم من قدرة إبليس. فمن آمن بما هو أقلّ من يسوع، آمن بمن لا يستطيع أن يخلّصنا من قوّة العالم الرافض لله.
مع آ 6، نقرأ تحديدًا دقيقًا عن يسوع، جاء بماء ودم. نجد "دم" (هايماتوس) في الفاتيكاني ومخطوطات أخرى، في الشبيبّة اللاتينيّة، في السريانيّة البسيطة ونجد "روح" (بنفماتوس) في عدد من المخطوطات الجرّارة (241- 945..) ونقرأ "دم وروح" في السينائي والاسكندراني وعدد من المخطوطات الجرارة والسريانية الحرقلية والقبطيّة الصعيديّة والبحيريّة. ونقرأ "روح ودم" في عدد من المخطوطات الجرارة والأرمنيّة والحبشية. ونقرأ "دم وروح قدس" في ثلاثة مخطوطات جرارة. هو حديث عن يسوع المسيح مع شهادة مقنعة (آ 7- 8) حول شخص يسوع. نقرأ فعل "جاء" (التون) في 4: 2؛ 2يو 7: يورد الكلام على مجيء المسيح إلى العالم كابن الله المتجسّد (رج يو 1: 9؛ 3: 19، 31: 8؛ 14). لا يتوقّف يوحنا عند الوقت الذي فيه صار التجسّد واقعًا في ميلاد يسوع. بل إلى مجيئه إلى العالم ككلّ. هذا ما يتيح لنا أن نفهم ما يعني بعبارة جاء "بماء ودم". هو ماء عماد يسوع ودم موته.
يعلن يوحنا هنا أن يسوع عمِّد حقًا في الاردن، ومات حقًا على الصليب. لماذا يُبرز الكاتب هذين الحدثين في حياة يسوع؟ نجد الجواب في الشكل الثاني من الآية حيث يشدّد على أن يسوع لم يأتِ بالماء وحده بل بالماء والدم (لا يذكر يوحنا العماد في الانجيل، ولكن رج 1: 33. لقد أراد يشدّد على أن يسوع نال الروح). إذا قرأنا بين السطور، وجدنا أن مقاومي يوحنا يقولون فقط إن يسوع جاء بالماء وحده، لا بالماء والدم. من هم هؤلاء المعارضون (رج 2: 22؛ 2 يو 7)؟ أولئك الذين يقولون إن المسيح نزل على يسوع في عماده، وارتحل عنه قبل موته، بحيث مات يسوع الأرضي، لا المسيح السماويّ. لهذا قال يوحنا: يسوع المسيح (لا يسوع بما أنه بشر فقط) الذي اختبر العماد والصلب.
وهكذا فهم يوحنا العماد بطريقة تختلف عن طريقة معارضيه. العماد في نظرهم ثمّ حين نال يسوع المسيح السماوي. فأعلن يوحنا أن يسوع كان المسيح قبل العماد، وأن المسيح لم ينزل عليه في لحظة العماد. فما نزل عليه هو الروح القدس، كما يقول الانجيل (يو 1: 32- 34). من أجل هذا، تكلّم يوحنا هنا عن ماء عماد يسوع، لا عن الروح الذي حلّ عليه. أعلن أن الشخص الذي نزل في الاردن وصبّ عليه المعمدان ماء العماد، كان يسوع المسيح، لا يسوع كانسان فقط. ولم يذكر الروحَ لئلا يُسيء الخصوم فهم كلامه. إن النظرة التي يحاربها يوحنا هي نظرة قرنتيس التي ردّ عليها اغناطيوس أسقف أنطاكية وايريناوس أسقف ليون (في فرنسا).
ما اعتبره بعض الشرّاح جدالاً لاهوتيًا، هو نظرة يوحناويّة تعلن أن موت يسوع هو أعظم أعمال الله من أجل خلاصنا. اعتبر خصوم يسوع أن يسوع الانسان فقط مات. أما قوّة أقوال يوحنا بأن الله أظهر محبته لنا حين أرسل ابنه ليموت، فتزول إذا كان الذي مات عنا لم يكن المسيح، ابن الله. وكل تعليم يوحنا بأن يسوع المسيح قُدّم ذبيحة عن خطايانا، وهو الآن يفعل كالمدافع في السماء، يخسر مدلوله وقوّته. وبقدر ما نحصر كلامنا عن موت يسوع على أنه فقط موت انسان، نخسر نقطة أساسيّة في تعليم العهد الجديد حول التكفير، وهي بأن الله صالح العالم مع نفسه في المسيح. وفي النهاية، أن التعليم عن الكفارّة يعني أن الله نفسه حمل خطايانا ودلّ على أن الواقع الأخير في الكون هو حبّ يرفع الخطايا، يغفرها. ولكن، ان لم يكن يسوع ابن الله، فموته لا يحمل هذا المدلول. هنا نتذكّر لاهوتًا يجعل سرّ التجسّد سطرة من السطر والحكايات. مثل هذا اللاهوت يجتذب الانسان المعاصر، ولكن يبعد ثقتنا عن إله محبّ يغفر خطايانا.
قدّم يوحنا أقوالاً عن مجيء يسوع. ولكن كيف نعرف أنها صحيحة؟ فخصومه لا ينكرون أن رجلاً اسمه يسوع اعتُمد وصُلب. ولكن المدلول الذي يعطونه لعماده وصلبه يختلف عن المدلول اليوحناويّ. ما الذي يؤكّد لنا صحّة تفسير يوحنا؟ هنا نقرأ الشقّ الثالث من الآية: "والروح هو الذي يشهد، لأن الروح هو الحقّ" (يستطيع أن يشهد الشهادة الحقّة، لأنه الروح). نحن نثق بما يقوله الروح، لأنه يعلن حقيقة الله. ولكن ماذا يريد يوحنا أن يقول بهذا الكلام؟ بما أنه يعود إلى نشاط الروح في صيغة الحاضر، لهذا يعني أن الروح يشهد الآن لنا، يشهد في أعماق قلوبنا، أو عبر الكرازة بالكلمة، أن عماد يسوع وموته يرتبطان بكونه المسيح وابن الله. تتوافق هذه النظرة مع ما قيل في يو عن عمل روح الحقّ: هو يشهد ليسوع (يو 15: 26). وشدّد بعض الشرّاح على دور الروح في الكنيسة عبر المناداة بالكلمة وممارسة الأسرار كوسائل شهادة لعمل يسوع الخلاصي. وأشار آخرون إلى الطريقة التي بها يقنع المؤمنين في قلوبهم بحقيقة الانجيل. هاتان الوجهتان لا تنفصلان الواحدة عن الأخرى: فالروح يتكلّم عبر الكلمة بحيث تصبح مقنعة في قلوب الأفراد.
ونتساءل: هل هذا كل ما أراد أن يقوله يوحنا؟ نستطيع أن نفكّر في نشاط الروح في حياة يسوع. ففي عماده نزل الروح عليه، وهذا ما أقنع يوحنا المعمدان بأن يسوع هو ابن الله (يو 1: 32- 34). في الأناجيل الإزائية، وافق عمادَ يسوع صوتٌ من السماء أعلن أن هذا هو ابن الله (مر 1: 11). لم يظن الانجيليّ يومًا أن يسوع صار ابن الله في ذلك الوقت (تبنّاه الله كما يتبنّى كل واحد منا!). نحن أمام علامة تدلّ على أن ذاك الذي اعتمد كان قبل ذلك الوقت ابن الله. وهل يُعتبر الروح وسيلة توصل موت الله إلى الابن؟ إن كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن الروح أكّد في الواقع مدلول عدد يسوع. وليس هذا فقط. بل إن الروح يُعتبر ملهم وللعهد القديم الذين تنبّأوا عن مجيء المسيح كابن الله. وهكذا نستطيع القول إن الروح بدأ يشهد يسوع منذ حياته على الأرض، بل قبل ذلك. اذن، فكرّت 1 يو في نشاط الروح الذي شهد في الماضي ليسوع كابن الله، وما زال يحمل هذه الشهادة فيثبّت المؤمنين في ما سبق له وقاله.
ب- الشهود الثلاثة (5: 7- 8)
بعد تلميح إلى عماد يسوع وموته (آ 6) من خلال الماء والدم. برزت شهادة الروح القدس. أما الآن، فنحن أمام شهادة مثلّثة: الروح والماء والدم. وهكذا نكون أمام العماد والافخارستيا.
إن آ 7- 8 تؤسّسان وتثبتان ما قيل في آ 6: إذا كان الروح هو الحقّ، فهذا يعني (هوتي) أنه لا يشهد وحده لبشريّة المسيح الحقيقيّة. فمعه يشهد عماد ويسوع (الماء) وموته على الصليب (الدم). وهكذا نكون أمام شهود ثلاثة كما يقول الكتاب (تث 17: 6 مت 18: 16؛ يو 8: 17). يشير الله هنا إلى الصليب كما إلى الافخارستيا التي هي تأوين لذبيحة الصليب.
الشهادة هي شهادة لبشريّة يسوع المسيح كما عاشها في التاريخ. ظنّ بعضهم أن آ 7- 8 أضيفتا على النصّ. ولكن هذا غير معقول. فإن 1 يو تحارب روحانيّة تعزل نفسها عن الشهادة الرسولية (رج 2: 22- 27). فالروح ليس أبدًا وحده في آ 6، دلّ الماء والدمّ على بداية رسالة يسوع ونهايتها اللتين شهد لهما الروح القدس. في آ 7- 8، صار الماء والدم شاهدين، فجعلانا أمام سرّي العماد والافخارستيا. إن الروح يشهد مع الماء والدم، ولولاه لخسرا قيمتها كشاهدين. هذان السرّان يمنحان الجماعة الخلاص بيسوع المسيح. ولكن يبقى أن أحداث يسوع التي تركّزت في عماده وموته والتعليم اليوحناويّ الأصيل، والروح، كل هذا يعمل في شهادته لواقع يسوع التاريخيّ.
في آ 6، تحدّث يوحنا عن شاهد واحد هو الروح. وها هو يتحدّث عن ثلاثة شهود: الروح، الماء، الدم. الشاهد الأول هو في السماء. والشاهدان الآخران هما على الأرض. جسّد يوحنا الماء والدم فصارا شاهدين بمحاذاة الروح القدس. وشدّد على أنهم واحد في شهادتهم. فهو يقومون معًا. فلا نستطيع أن تقبل شهادة الروح وفي الوقت عينه نرفض شهادة الماء والدم بالنسبة إلى يسوع. يأخذ الروح المقام الأول بين الشهود الثلاثة. بل هو الذي يشهد أيضًا عبر الماء والدم.
ولكن ما معنى الماء والدم في هذا السياق؟ هناك من قال: كما في آ 6 حيث يدل الماء على معمودية يسوع والدم على موته. ولكن عددًا من الشرّاح اعتبر أن المعنى تبدّل لأن يوحنا يتكلّم عن شهادة تتمّ اليوم، ساعة يشير الدم والماء إلى أحداث من الماضي. غير أنه من الصعب أن نرى لماذا لا تستطيع الأحداث الماضية أن تواصل شهادتها. ولكن على مثال العهد القديم الذي يشهد ليسوع، مثلاً في شخص هابيل الذي ما زال يتكلّم مع أنه مات. وهكذا نعود إلى المعنى الذي نجده في آ 6.
ج- شهادة الله (5: 9- 12)
أولاً: شهادة الناس وشهادة الله (آ 9)
شهادة الروح في شهادة الله. لأن الروح يتكلّم باسم الله. فإن كنا نثق بشهادة البشر، فكيف لا نثق بشهادة الله. وفي هذه الشهادة التي تمرّ عبر كلماتنا. نحي قبل كل شيء أمام شخص ابن الله، لا أمام تعليم لاهوتيّ نتعلّق به لكي ننال الخلاص. المسيح هو شخص حيّ نستطيع أن نراه ونسمعه ونلمسه. وبعد ذلك يأتي التعليم عن المسيح مع ما في هذا التعليم من دفاع عن تفسير هذا الواقع. هذا التمييز بين الشخص والتعليم ليس بالأمر الاعتباطيّ، لأنه يوضح، رغم الظواهر المعاكسة، أن الجوهر ليس التعليم، بل عمل الله في المسيح. فالتعليم لا يتماهى مع الشهادة عن الله. عمل الله هو الشهادة لله.
من هم هؤلاء الناس الذين نقبل منهم الشهادة (يو 3: 11، 32- 33؛ 5: 34)؟ هناك المعنى العالم إذا نثق بالناس، فلماذا لا نثق بالله الذي شهادته أعظم وأهم. الذي شهادته حاسمة؟ غير أن هذا البرهان الذي ينطلق من البشر إلى الله، يبدو غريبًا في الأدب اليوحناويّ، الذي يقابل بالاحرى شهادة البشر بشهادة الله. أما إذا كان هؤلاء الناس شهودًا يقفون مع يوحنا، فشهادة الله هي أعظم وأهمّ. ولكن هذه الطريقة في فهم النصّ تعارض ما قلناه سابقًا، حيث كان مقال شهود الحقيقة اليوحناويّة مقياس كل خبرة روحيّة. فماذا تضيف شهادة الله على شهادة الابن الذي جاء في الجسد وكيف تكون "أعظم"؟ وأخيرًا إذا كان هؤلاء الناس هم أنبياء كذبة (من الفنوصيين)، يُصبح المعنى كما يلي: إذا (لاسمح الله) قبلنا شهادة الذين ينكرون بشريّة المسيح وموته على الصليب، فشهادة الله أعظم، وهي التي سمعتموها في الجماعة المؤمنة في الماضي وفي الحاضر. أما فضّل اليهود شهادة البشر على شهادة الله؟
من أجل هذا نأخذ بالخيار الأخير (وإن بدا الخيار لأول معقولاً) للاسباب التالية. (1) عرفت الحلقة اليوحناويّة معارضة بين شهادة (الجاهلين الضالين) وشهادة الله (يو 5: 34، 41). (2) استعمل النص "أعظم" (ما يزون) رج 1 يو 3: 2؛ 4: 4 هذه الشهادة تتغلّب على شهادة الهراطقة. (3) ما سيُقال فيما بعد يقابل شهادة أدّاها الله لابنه مع شهادة لا يمكن أن تقبلها. (4) في آ 10، يطلب الكاتب الايمان بالابن حسب الشهادة التي أدها الله له.
شهادة الله أعظم، لأن الله نفسه هو الذي شهد لابنه 1 (يو 5: 37، وأنتم تفضلون شهادة البشر المضلّين!). وعبارة "شهادة الله" تعني الشهادة التي يؤديّها الروح (رح آ 6). أو "شهادة التعليم اليوحناويّ الاصيل (2: 22- 27، وهذا هو المعقول). في الحالتين، إن هذه الشهادة تعود إلى شهادة تاريخيّة ما زالت حاضرة (صيغة الكامل: ما مارتبريكان). نحن هنا في الواقع أمام صدى للتفكير اليوحناويّ حول الشهادة 1 يو 5: 31- 47 مع تفاصيل جديدة: إن الشهادة التي أدّاها الله للابن قد حُفظت الآن في تعليم تقليديّ نجده في 1 يو. وهذه الشهادة لا تعارض الايمان اليهود (كما في يو) بل كذب الأنبياء الكذبة (كما في 1 يو).
أجل شهادة الروح هي شهادة الله يسوع. عادة نقبل شهادة البشر. ولكن شهادة الله أعظم من شهادة البشر. فهذا يعني أن علينا أن نقبل شهادة الله. وطبيعة شهادة الله أنها تحمل شهادة لابنه. وبعبارة أخرى، قال يوحنا إن علينا أن نقبل شهادة الله، لأنها شهادة الله، ولأنها تعني ابنه، بما أن الله شهد ليسوع وأعلن ابنه، فقبول يسوع كابن الله هو أساسيّ وذات أهميّة حاسمة.
ولكن ما هي هذه الشهادة، التي يؤديّها الله؟ هناك ثلاثة احتمالات. الأول، عاد يوحنا بشكل آخر إلى الشهور الثلاثة الذين أشار إليهم في آ 7- 8. ولكن يصعب قبول هذا الموقف لأن صيغة الفعل في آ 6- 8 هي الحاضر، وفي آ 9 هي الكامل. ولكننا نتخطّى الصعوبة حين ترى أن الفكرة في آ 6 تشير إلى أحداث تاريخيّة تشهد ليسوع كابن الله خلال حياته على الأرض. عبر هذا، نستطيع القول إن الله شهد لابنه. غير أن هناك مشكلة أخرى. في يو 5: 31- 40، عاد ليسوع إلى عدد من الشهود شهادته هو. شهادة يوحنا المعمدان. شهادة أعماله. شهادة الكتب المقدّسة. أما شهادة الله فبدت مميَّزة عن الشهادات الأخرى، وإن كان الله وراء سائر الشهادات. وهكذا يمكن أن نقول: إن شهادة الله هي غير الشهادة المثلّثة، شهادة الروح والماء والدم. ومع ذلك فالروح هو الشهادة الأساسيّة التي تشهد عبر الماء والدم. وبما أن الروح هو وسيلة وحي الله، يبدو من العقول التكلّم فقط عن شهادة الروح في تعبير مختلف.
وهناك تفسير ثان لعبارة "شهادة الله". ما قال لنا يوحنا مضمون الشهادة. بل اكتقى بأن يذكر الواقع لهذا، ارتبطت بأعمال يسوع وأقواله كما وردت في يو. هذا القول يعني أن شهادة الله تتماهى مع حدث الايمان نفسه. وهناك احتمال ثالث: تحدّث يوحنا عن "شهادة داخليّة" للروح في قلوب المؤمنين لحقيقة ما سمعوا في إعلان الكلمة. غير أن هذا الفهم يتعرّض لصعوبة: فيوحنا يتكلّم هنا عن عمل الله في الماضي. بعد ذلك، يعود يوحنا فيشير إلى شهادة الروح. وهكذا نعود إلى الخيار الأول.
ثانيًا: شهادة الحياة الابدية (آ 10- 12)
موضوع الايمان ليس الايمان قبل كل شيء، بل يسوع كابن الله. من آمن به نال كلمة الله، وشهادة الله ولجته وحلّت فيه كإيمان دون أن تتخلّى عن أن تكون شهادة الله. وكما أن المسيح كان حضور الله في العالم. كذلك الايمان هو حضور الله في الانسان، وهو مشاركة في حقيقة الله، وعلامة مؤكّد أن الله يقيم في ذاك الذي وهبه من روحه (3: 24؛ 4: 13). من آمن بابن الله، صدّق الله الذي شهد له. فالايمان بالله يمرّ عبر الايمان في شهادته. غير أن هذا الايمان ليس قبولاً عقليًا وحسب. هو ثقة تقتنع أن حقيقة الله تجلّت حين جاء يسوع إلى العالم.
واستعاد يوحنا موضوع الحياة الابديّة (آ 11). فيسوع حملُ الحياة الأبديّة إلى هذا العالم الذي يزول. هو ما جعل العالم أبديًا، بل إن أبدية الله انغرست به في الزمن فأتاحت للانسان أن يعيش بحسب ظروف الله كما تجلّت في ابنه. مع أن الله أعطى الحياة لكل انسان، فكل انسان لا يشارك بالضرورة في الحياة الابدية التي بالمسيح ولجت عالم الخطيئة والموت، إنه هو الحياة الابديّة التي تبدأ بالنسبة إلى الذي يحيا الإيمان والمحبّة معه. إما الذي لا يؤمن فلا حياة الله، بل الموت.
إذا كان الله يشهد لابنه، فهذا يعني أن من يؤمن بابن الله يقبل شهادة الله. إن المؤمن يقبل في قلبه شهادة الروح. ويبقى التعارض واضحًا بين قبول كلام الله ورفضه. لهذا يبدو أن يوحنا قال إن الايمان بابن الله هو قبول شهادة الله وحفظها. ويقابل هذا، ذاك الذي لا يؤمن بالله ويرفض شهادته في ابنه. هكذا يجعله كاذبًا فيستحقّ الدينونة والحكم. ما معنى أن نعلن إيماننا بالله (كما يقول خصوم يوحنا) ونرفض أن نؤمن بما يقوله الله. فالايمان بالله والايمان بابنه يسوع المسيح أمران لا ينفصلان ويُطرح السؤال: هل نقبل شهادة الله أم لا؟ حينئذ يرتبط بجوابنا سؤال: هل نشارك في الحياة الأبديّة أم لا؟ لهذا، إن شهادة الله تعني أنه أعطانا الحياة الابديّة ولكن هذه الحياة لا تُعطى لنا إلاّ في الابن.
ينتج عن هذا أن الذي يقبل الابن ينال الحياة الابديّة. ولكن إن رفض الابنَ لن تكون له الحياة. والنتيجة: الحياة الابديّة مستحيلة بمعزل عن إيمان حقيقيّ بيسوع كابن الله. فالذين ينكرون أن يسوع هو ابن الله، يجعلون نفوسهم خارج حياة الله، وإن قالوا إنهم يمتلكونها. فالحياة التي يمنحها الله تُعطى فقط عبر ابنه، الذي هو وحده الطريق والحق والحياة. فلا أحد يأتي إلى الآب إلاّ به (يو 14: 16). لا تتضمّن هذه الشهادة مضموناً عاماً. بل هي تعني الابن. وتستخلص آ 10 النتيجة المنطقيّة: من آمن بالابن في خطّ هذه الشهادة، امتلكها. نجد هنا فعل امتلك (اخاين) امتلك المسحة (2: 20) امتلك (كان له) الآب (2: 23). رج 5: 12؛ 2 يو 9. هناك معنيان: إن الذي يؤمن يمتلك (له) هذه الشهادة كتثبيت لإيمانه. أو من دلّ على أنه يمتلك هذه الشهادة. ونلاحظ أيضًا أن الروح يكتفي بأن يشهد. هو لا ينفح الايمان ولا يرفضه كما لا يمنح المسحة (2: 22- 27) ولا التعليم الذي حمله كاتب 1 يو (1: 1- 4). ثم إن الروح يحرّك الايمان. فليس من حديث عن المواهب ولا عن الثمار. هذا الابن هو الابن يسوع (آ 5)، الذي جاء في الجسد، في الماء والدم، وشهادة الله التي رفضها اللامؤمنون والهراطقة، قد تسجّلت في التاريخ، وصيغة الكامل (لا يؤمن، بابيستوكن) تصيب اللامؤمنين بشكل عام والهراطقة بشكل خاص. ظنّوا أنه يؤمنون، وفي الواقع تعلّقوا بالاصنام (آ 21). وفي أي حال نحن أمام شهادة للايمان لا نتحقّق منها إلاّ في الايمان،
وبعد آ 10، تقدّم آ 11- 12 خاتمة تميّز التعليم اليوحناوي ككلّ (يو؛ 1، 2، 3، يو) إذا كان الكاتب اهتمّ بمحاربة الهرطقة، فلأن الحياة الأبديّة مهدّدة. ولك تُطرح أسئلة. (1) الشهادة المذكورة في آ 11، هل هي شهادة الله (رج آ 10ج)، أو شهادة الروح، أو شهادة التعليم؟ ما قرأناه في آ 8- 10 يتيح لنا أن نقول نحن أمام ثلاث شهادات مجتمعة، تؤلّف في العمق شهادة واحدة (آ 8). (2) هذه الشهادات المتعدّدة والمتماسكة تعود إلى أن الله أعطى... إن الله يشهد الآن لعطيّته هذه بتعليم يوحناوي تسجّل في الماضي (1: 1- 4). (3) إن آ 11 تماهي بين عطيّة الحياة وعطيّة الابن. فالحياة الأبديّة هي في الابن. هذا التعبير يذكرنا بما في 3: 26 ويزيد هجوميّة. نحن لا نؤمن بابن فقط، بل بالآب يسوع (آ 5). ولكن كيف تكون الحياة في الابن؟ نجد الجواب في آ 12: هذه الحياة ليست عطيّة منفصلة عن الابن. ولكنها في الوقت عينه لا تتماهى مع شخص الابن. فالذي له هذا الابن له الحياة (إخاين، إمتلك ، رج 1: 3، 6؛ 2: 1، 20. 23؛ 3: 15؛ 4: 16) هذه الحياة هي حياة نعيشها الجماعة اليوحناويّة اليوم (3: 14)، بعد أن تجلت في يسوع المسيح (1: 2). (4) ما قيل هنا يلتقي مع 1: 1- 2، وهكذا نكون في تضمين يعطي مجمل الرسالة تماسكًا عميقًا على مستوى اللاهوت وعلى مستوى الدفاع المسيحيّ.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
من آمن بالابن تعرّف إلى الخلاص وقبله. عن هذا الخلاص قيل: هو الذي جاء بماء ودم. تحدّث يوحنا عن المسيح الذي جاء، وصوّر هذا المجيء مرتين: بماء ودم. ثم في الماء والدم. نقرأ مرة واحدة "جاء" ولكن في الحالتين نحن أمام مجيء واحد. ثم نلاحظ تكرار اسم يسوع المسيح. أراد الكاتب أن يشدّد: ذاك الذي أتكلّم عنه، ذاك الذي جاء بماء ودم، هو المسيح، ابن الله، وقد ظهر لنا في شخص يسوع فرأيناه وسمعناه ولمسناه في وقت محدّد من التاريخ.
ما جاء في الماء فقط. يحارب يوحنا ضلالاً مبينًا. لهذا يقول: بل بالماء والدم. هناك عنصران، ونحن لا نستطيع أن نتخلّى عن عنصر دون أن نضلّ في شأن يسوع المسيح الذي تجلّى للبشر وقاسمهم حياتهم. يدلّ الماء على العماد الذي يقول به الهراطقة. ولكنهم لا يروحون أبعد من العماد فيتناسون موت المسيح الخلاصيّ. توقّفوا في منتصف الطريق. لعماد يسوع قيمة في ذاته. ولكنه يهيّئ عمادًا من نوع آخر تحدّث عنه يسوع (مر 10: 38؛ لو 12: 5)، هو غطس في آلام الصليب. إن المسيح مثَّل البشر ساعة موته الفدائي، فتضامن معهم في عماده (ولما اعتمد الشعب كله، اعتمد يسوع أيضًا، لو 3: 21). وهكذا جاءت 1 يو 5: 6 فجمعت العماد إلى الصليب، والماء إلى الدم. فعماد الاردن يجعل يسوع في طريق الآلام التي تنتهي في الصليب.
ومع الماء والدم، يأتي الروح يشهد. فكأننا أمام شهود ثلاثة وكل شاهد يمارس نشاطه بقوة إقناع خاصّة به. فالماء والدم لا يدلاّن بعد على أحداث من الماضي جعلها الروح حاضرة: بل نحن أمام العماد والافخارستيا اللذين يدلاّن على واقع الله.