المولود من الله يغلب العالم

المولود من الله يغلب العالم
5: 1- 5
تتحدّث هذه الآيات عن الولادة من الله. كل مؤمن مولود من الله. وبالتالي يحبّ الله. وبالتالي يحبّ كل مولود من الله. أي إخوته (آ1). ولكن تجاه هذا، لا يستطيع المؤمن أن يحبّ أولاد الله دون أن يحبّ الله ذاته ويمارس وصاياه (آ2) التي ليست بثقيلة (آ3). فإن لم تكن هذه الوصايا ثقيلة، فلأنها دخلت في حياة مؤمنين غلبوا العالم بإيمانهم بيسوع إبن الله (4: 5). إذن الموضوع هو أيضًا موضوع الحبّ الاخويّ (4: 20- 21)، كما تسنده فكرة الولادة من الله (آ1- 2) ثم الطاعة التي تمنح الغلبة (آ3- 5). حتّى الآن أكّد الكاتب أن المحبّة الحقيقيّة لله تُعرف من حبّنا لإخوتنا (2: 3- 6، 29: 3: 10، 18- 19؛ 4: 7- 8). وهو الآن يقول عكس ذلك: نتعرّف إلى حبّ الاخوة في حبّنا لله ولوصاياه. قد يكون الكاتب أراد أن يبعد فكرة غنوصيّة: هناك محبّة للاخوة تُبني على التفاهم والعاطفة المتبادلة، لا على الطاعة للآب. فالمحبة للاخوة لا تنبع من حبّنا لله. بل تتحقّق فيها كما تحقّقت محبّتنا لله في المحبّة الأخويّة.
1- دراسة كتابيّة
أ- الولادة الجديدة (5: 1)
تعرض آ 1- 3 موضوع الحبّ البشريّ في طرق مختلفة. وتعلن آ 1 الموضوع فتقول إن ذاك الذي يؤمن ويحبّ هو مولود من الله. جاء موضوع الولادة فيما سبق (2: 29؛ 3: 9؛ 4: 7)، ولكنه أشار دومًا إلى الوجهة الخلقيّة في الانسان. أما الآن، فهو يرتبط بالايمان الحقّ. وهذا يدلّ على أن الايمان والمحبّة يعتبران علامتين تدلاّن على أن الانسان مولود من الله. وهنا يُطرح السؤال كما طُرح سابقًا، عن دور المعموديّة. لا شكّ في أن موضوع الولادة ارتبط في البداية بالمعموديّة. وهناك سمات في الرسالة ترفعنا نحو هذا الاتجاه: لفظة المسحة (2: 20، 27). تلميحات إلى ما سمعه للقرّاء وتقبّلوه منذ البدء (2: 7، 24؛ 3: 11؛ رج 2: 18؛ 4: 3؛ يو 5- 6). أما لفظة "بدء" فتحيلنا إلى لقاء القرّاء الأول بالانجيل، وإلى نقل مضمون ولادة الايمان الذس ارتبط بالفقاهة العماديّة وبالعماد ولكن يمكن أن يكون الكاتب توسّع في موضوع الولادة بمعزل عن العماد. كما أن الولادة من الله ليست حال تدوم إلى الأبد، لأن الحياة الجديدة التي تولد في العماد يجب أن تتغذى دومًا من الايمان الذي يعترف بيسوع المسيح وبتأمل في أعمال حبّ الله من أجلنا.
ما يدعو إليه يوحنا هنا هو محبّة الاخوة، لا محبّة القريب بشكل عام. اذن في هذا المجال، يفكّر الكاتب دومًا في الاخوة المسيحيين. هنا يختلف يوحنا في الانجيل وفي الرسائل عن أقوال يسوع في مت 5: 44 ولو 6: 35 حول محبّة الأعداء. إن مدرسة يوحنا لا تهتمّ بالذين هم خارج الجماعة اليوحناويّة. فمشاكلها كبيرة داخلة الجماعة، لهذا عالجت تصرّف المسيحيين في الداخل، ولم تخرج إلى العالم الوثني ولا إلى عالم الهراطقة.
إن آ 1 ربطت ربطًا وثيقًا (مثل 3: 23) بين المتطلّبتين الاساسيتين: نؤمن بالمسيح يسوع، ونحبّ الاخوة. وتبدأ كل من (باس، رج 2: 23، 29؛ 3: 3، 4) مع اسم الفاعل (ستاوون) الذي يسبقه أل التعريف: يكفي أن نؤمن لنكون أولاد الله. وليس أي إيمان، بل إيمان الجماعة اليوحناوية. لا نتحدّث هنا (كما في آ 5) عن الايمان بيسوع المسيح، بل نؤمن أن يسوع هو المسيح، نحن هنا في منظور عقائديّ ودفاعيّ (يو 8: 24؛ 11: 27، 42).
عبارة يسوع هو المسيح، تذكّرنا بما في 4: 5 (يسوع هو ابن الله) التي تعود إلى 5: 5. حسب 2: 2)، أنكر الهراطقة أن يسوع هو المسيح (2: 22). ولكن هذه التعابير تستضيء بما في 4: 2- 3، 15: 2يو 7، فتشدّد على هويّة المسيح ويسوع في الجسد (4: 3- 4)، أكثر ممّا تشدّد على بنوّة يسوع الإلهيّة. هذا لا يعني أن النصّ ينكر هذه البنوّة، ولكنه ينكر بنوّة "روحانيّة" ليست بنوّة يسوع الناصريّ.
أكدت 1يو ببساطة أن كل من يؤمن بالابن يسوع مولود من الله. في موضع آخر، ترتبط هذه الولادة بمن يمارس البّر (2: 29) أو يحبّ الاخوة (4: 7) نستطيع أن نفهم هذه العبارة في معنيين: من يؤمن يدلّ على أنه مولود منذ الآن من الله: حينئذ يكون الايمان نتيجة الولادة من الله وعلامتها (رج 2: 29: 4: 7). والمعنى الثاني: الايمان هو الذي يكوّن الولادة من الله ويجعلها ممكنة. نحن هنا في ردّ على تعاليم ترتبط بأسرار التدرّج. عندئذ يتماهى الايمان (الانسان المؤمن) مع الولادة الآتية من الله. نشير هنا إلى أن هذا التوسّع لا يعالج بشكل رئيسي الولادة من الله بل المحبّة الآخوية: وحده من يحبّ هو مولود من الله. وحرف العطف (كاي) يشير إلى النتيجة: من نال حياة الله يحبّ (أغابا، أو عليه أن يحب) ذاك الذي نال أيضًا الحياة من الله يحبّ أخاه في الجماعة اليوحناويّة.
من يعترف اعتراف الايمان بيسوع مولود من الله. فالايمان هو علامة الولادة، كما أن الحبّ والبرّ يدلاّن على ولادتنا من الله. وفي الوقت عينه، الايمان هو شرط الولادة الجديدة. "فالذين قبلوه وآمنوا باسمه اعطاهم سلطانًا به يصيرون أبناء الله" (يو 1: 12). غير أن يوحنا لا يحاول أن يبيّن كيف يختبر الانسان الولادة الجديدة. فهو يرمي بالأحرى إلى تقديم البرهان بأن الانسان يرتبط بالله ارتباط الابن بأبيه والبرهان: إيمانه الحقيقيّ بيسوع. غير أن هذا القول يهيّئ آ 2: من يحبّ الوالد يحبّ المولود. من يحبّ الله يحبّ إخوته. وإلاّ كان في خط معارض لطبيعة الامور.
ب- المحبّة والوصايا (5: 2- 3)
العلامة التي بها نعرف أننا نحبّ الله هي أننا نحبّ الله ونعمل بوصاياه. ووصاياه تدعونا إلى ممارسة المحبّة الاخويّة. فالذي يحبّ الله يعمل مشيئته. وارتبطت محبتنا لله بمحبتنا لإخوتنا. وتعود آ 3 إلى الكلام عن الوصايا. فالطريق إلى الله يمرّ في ممارسة هذه الوصايا. هذه الوصايا توافق امكانيّات الانسان. وليست بمستحيلة. كما أنها لا تعارض تطلّعات الانسان، بل تساعده على الانفتاح على الله وعلى الآخرين. ونفتح أمامه أبعادًا جديدة.
أكّدت آ 1 ب مرة أخرى على أهميّة المحبّة الاخويّة. وأعلنت آ 2 مقياس المحبة الاخويّة الصحيحة: هي (أو يجب أن تكون) في الوقت عينه محبّة لله. هذا الانقلاب في مقياس اعتدنا عليه. جعل الشرّاح يتساءلون. ولكن، إذا كان لأخي أب هو أبي، فأنا لا أستطيع أن أحبّه دون أن أحبّ الذي أعطاه هو أيضاً الحياة. ونجد هنا عبارة اعتدنا عليها في 1 يو: بهذا نعرف أن (2: 3، 5؛ 3: 19، 24...). كيف نفهم اليوم هذه المعرفة؛ في ثلاثة أنواع رئيسية. (1) معرفة ووعي. (2) معرفة مؤسّسة على مقياس موضوعي (كل واحد يفهم). (3) معرفة مؤسّسة على مقياس يقدّم التعليم اليوحناوي في إطار هجوميّ، في هذا النوع الأخير، نفهم كلام يوحنا مع "إذا": نحن لا نحبّ إخوتنا إلا حين (أو إذا) نحبّ الله وبالتالي نحفظ وصاياه.
وتؤسّس آ 3 الكلمات الأخيرة في آ 2: إذا كانت ممارسة الوصايا لا تتفعل عن حبّنا لله، فهذا يعني أن محبّة الله هذه تكمن في أننا نحفظ وصاياه. هذه الفكرة تشرف على 1 يو، وتجد لها هنا تعبيرًا خاصًا. نحن لا نضيف الطاعة على محبتنا لله: فالحبّ والطاعة يرتبطان إرتباطًا وثيقًا. فما هي هذه المحبّة التي لا تطيع وصايا الله، لا تعمل بمشيئة الله؟! وهذه الوصايا ليست بثقيلة (باروس، هنا فقط في الأدب اليوحناويّ). رج تث 20: 11ي؛ مت 11: 30 وز، 23: 4، 23؛ يو 11: 46.
ج- قوّة والايمان (5: 4- 5)
إذا كانت هذه الوصايا غير ثقيلة، فهذا لا يرتبط بمضمونها، بل بالذين توجّهت إليهم كل مولود من الله. الجماعة اليوحناويّة. المؤمنون الحقيقيوّن. عاد الكاتب إلى الولادة من الله. ولكنه لم يقل إن المولود من الله يتمتّع بقوّة خارقة، بل يغلب العالم. فالعالم يعارض طاعة المؤمن فيجعلها صعبة (2: 15- 17؛ 3: 1- 13). غير أن الايمان (بستيس) تغلّبَ في الماضي على هذه المقاومة. والغلبة لا تقوم بالانفلات من العالم والعيش في "الدوائر" العليا، بل بمجابهة العالم في الطاعة لوصايا محدّدة ترأس يسوع لتلاميذه. وتؤكد 1 يو أن هذه الغلبة تمّت يوم آمن قرّاء الرسالة بابن الله يسوع المسيح. في يو 16: 33، تحدّث الرسول عن انتصار المسيح على العالم. وهنا تحدّث عن انتصار المؤمنين (في جماعة يوحنا) على العالم وعلى التعاليم الضالّة.
وتتابع آ 5 ما قالته آ 4 في إطار هجوميّ: هي تستبعد أن تكون غلبة حقيقيّة على العالم سوى غلبة الايمان بيسوع كابن الله. هذا التعبير الايماني يذكّرنا بما في 2: 22 فحسب 1 يو، أن يكون يسوع هو المسيح أو إبن الله فسيّان. لهذا تستعمل الرسالة عددًا من الألقاب الكرستولوجيّة. إن 2: 22 يلمّح إلى انكار مثل هذا الاعتراف. وكذا نقول عن 4: 15. فإن قرّبنا هذه النصوص من 4: 2، 2 يو 7، نفهمها حربًا على الذين ينكرون أن الابن هو يسوع الناصري. هذا تؤكّده القطعة التالية (5: 6- 12). هناك يقرّب هذه الغلبة من غلبة المسيح في يو 16: 33، وغلبة المؤمنين في رؤ 2: 7، 11، 17، 26؛ 3: 5، 12، 21. لسنا هنا أمام انتصار القائم من الموت، ولا انتصار الشهداء، بل انتصار على الهرطقة والضلال. فهناك شراكه بين العالم والهراطقة. فمن غلب العالم غلب الهرطقة والعكس بالعكس (4: 4- 5) ونجد في هذه المقطع تحريضًا يدعو المؤمنين إلى الانتصار على الهرطقة بالاعتراف بالمسيح يسوع.
طُرح السؤال: كيف يستطيع المؤمنون أن يحفظوا الوصايا؟ وكان الجواب: أعطاهم الله قوّة على التجارب التي تهدّد طاعتهم. فكل مولود (نجد هنا صيغة الحياد، عكس 5: 1) قد تغلّب على العالم. فالقوّة التي جعلت المؤمنين ينتصرون على الأنبياء الكذبة (4: 4)، تفعل أيضًا في وجه العالم مع تجاربه. وما هي هذه القوة؟ ما هي الوسيلة التي تؤمّن النصر؟ الايمان. إيماننا. فالايمان الذي ينبع من أعماق قلوبنا هو الوسيلة التي بها تفعل فينا قوّة العالم الجديد وتؤهّلنا للانتصار على العالم. ما يلفت النظر هو أن يوحنا يقول: نحن غلبنا العالم. هو يفكّر في انتصار يسوع (يو 16: 33) الذي يتكرّر في حياة المسيحيّ. أو نستطيع القول: تلك هي وسيلة النصر، حين نؤمن أن يسوع سبق له وانتصر على العالم. وحين نؤمن بأن يسوع انتصر فنال القوّة التي تخولّنا أن نربح المعركة، لأننا نعرف أن عدوّنا قد قُهر فما عادت له قوّة. وهكذا نحتاج إلى الايمان.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
كان يوحنا قد أشار أكثر من مرّة إلى مقاييس خارجيّة تتيح لنا أن نبرز واقعًا مخفيًا فينا. فحفظ الوصايا يبرهن أننا عرفنا الله، وأننا نعرفه الآن (2: 3). والعيش في البرّ يدلّ على أننا وُلدنا ولادة جديدة (2: 29). ومحبّتنا للاخوة تُثبت أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة (3: 14). واعتراف ايمان صحيح، هو العلامة بأن روح الله فينا (4: 2). وإن دُعي هذا الروح مسحة فتذكيرًا لنا بعمادنا الذي دلّ بفعلة منظورة أن الروح أعطي لنا. (2: 20). فيوحنا حاول، على مدّ عرضه، بأن ينتزع قرّاءه من نظرة ذاتيّة تقدّم لهم السهولة وتسيء إليهم كل الاساءة: بما أن الابن جاء في الجسد (رأيناه وسمعناه)، فإيماننا يتجسّد في أقوال وأعمال تدلّ وحدها على جدّية التجسّد. وما قاله يوحنا عن معرفة الله، ها هو يقوله عن عواطّف المحبّة تجاهه. من السهل أن نقول إننا نحبّ الله. ولكننا نخدع أنفسنا إن كنا لا نحبّ اخوتنا. فحبّنا الله نعبّر عنه في محبّة أخويّة تدلّ على أننا نتعامل مع الله بجدّية، لا بخفّة.
ويقول لنا يوحنا: "نحن نعرف أننا نحبّ ابناء الله إذا كنا نحب الله ونعمل بوصاياه" (آ 2). لقد صار حبّنا لله مقياس حبّنا لاخوتنا. ما هو لا منظور، يتيح لنا أن نثبت ما يراه الجميع. لم نعد أمام علامة تدلّ على عاطفة أو يقين داخليّ. بل إن الموقف الداخلي هو الذي يقررّ قيمة التصرّف الخارجيّ. كيف نفهم هذا الاتقلاب اللامتوقّع؟
هناك ثلاثة حلول ممكنة. الأول، القولان صحيحان: الحبّ الأخوي هو العلامة بأننا نحبّ الله. وحبّنا لله هو البرهان بأننا نحبّ إخوتنا. لهذا ننتقل من حبّ إلى آخر. الثاني، بما أن المحبّة الأخوية أمر ملموس، ساعة يكون حبّنا لله غير منظور، نفهم أن الله أبونا ونكتشف أخوّة في أشخاص يؤمنون إيماننا. الثالث، لا يكتفي يوحنا بأن يذكر حبّنا لله. فما أن قال هذه الكلمات حتى كمَّلها بكلمات أخرى. نحن نتعرّف إلى قيمة حبّنا الأخويّ حين نحبّ الله ونمارس وصاياه. نحن هنا أمام تفصيل يُعطى حول حبّنا لله، لأن آ 3 تعطي حالاً عن هذا الحبّ تحديدًا يستعيد ما قيل في الوصيّة. محبّة الله أن نعمل بوصاياه. هكذا يكون الحبّ مقياسًا. وهو ليس بعاطفة وحسب، هو حبّ الطاعة، حبّ العمل، حبّ الالتزام، حبّ لا يقف على مستوى الباطنيّ بل يبرز في الحياة اليوميّة. أجل، الحبّ الاخويّ يبدو صادقًا حين أحب اخوتي وفي الوقت عينه أخضع حياتي كلها لإرادة الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM