الفصل الأول: مدخل إلى الرسائل اليوحناويّة

الفصل الأول
مدخل إلى الرسائل اليوحناويّة
1- الكاتب
هناك أسباب ثابة تدعونا إلى نسبة الرسائل الثلاث، المسمّاة الرسائل اليوحناويّة. إلى كاتب واحد. فالأزمة الروحيّة واللاهوتيّة التي كانت في أساس 1يو و2يو، هي التي نستشّفها في خلقيّة 3يو. ورغم اختلافات بسيطة على مستوى اللغة والاسلوب، نستطيع القول إن هذه الرسائل الثلاث طرحت من يد واحدة.
من هو كاتب هذه الرسائل؟ في 2يو 1 و3يو 1، يُسمّي نفسه "الشيخ". هذه التسمية تدلّ بلا شكّ على انتمائه إلى مجموعة تحدّث عنها بابياس، وايريناوس، واكلمنضوس الاسكندراني، فتألّفت من "تلاميذ الرب"، وشهود التقليد الرسوليّ. هذا ما يبرّر لهجة السلطة التي إليها يستند ليواجه كلامه إلى الكنائس، والطريقة التي بها يعود إلى شهادة شاهد عيان ومباشر حول شخص يسوع وعمله (1يو 1: 1- 3؛ 4: 1- 6).
ثم إن نسبة 1يو إلى كاتب يو، منذ القرن الثاني، تتأسّس على تشابهات أدبيّة لافتة: على مستوى الألفاظ والعبارات المميّزة، على مستوى المفاهيم والتعاليم اللاهوتيّة، نحسّ بقرابة بين الانجيل الرابع والرسائل، تتغلّب على الاختلافات. نحن لا ننكر هذه الاختلافات التي دفعت عددًا من الشرّاح المعاصرين إلى القول بأننا أمام أكثر من كاتب. غير أنها لا تتجاوز بعددها وطبيعتها اختلافات تُنسب إلى كاتب في مختلف مراحل حياته. ونحن نفهمها بالنظر إلى تنوّع الظروف والأهداف. يضاف إلى كل ذلك، بالنسبة إلى يو، ما قيل عن تأليف عرف أكثر من كاتب (خصوصًا ف 21).
إن الأصل اليوحناوي لرسالة يوحنا الأولى، أمر تشهد له الكنيسة، منذ القرن الثاني وهكذا نعود إلى صحّة الكتب اليونانيّة التي ترتبط بما يطرح حول الانجيل. فالشرّاح يعتبرون أن يو يو نتيجة صياغة طويلة ومتشعّبة، وشميلة أخير، لعناصر تعود إلى أكثر من حقبة ووضع تاريخيّ.
2- أزمة روحيّة في كنائس آسية
حين نحلّل رسائل يوحنا، ولا سيّما 1يو، نكتشف وجود أزمة أثّرت تأثيرًا بالغًا في الكنائس التي توجّهت إليها. فهناك عدد من المسيحيّين انفصلوا عن الجماعة (2: 19، خرجوا منّا وما كانوا منّا). قالوا إن الروح يحرّكهم (4: 1- 6) فنشروا تعليمًا يكتشف عن الايمان المسيحي في نقاط جوهريّة.
سمّاهم الكاتب أنبياء كذبة (4: 1)، كذّابين (2: 22)، مضلّلين (2يو 7)، يدفعهم روح الضلال (4: 6)، مسحاء دجّالين (انتيكرست، 2: 18- 22؛ 4: 3؛ 2يو 7). هم من العالم، لا من الله (4: 5- 6). ويتنافر تعليمهم مع تعليم المسيح (2يو 9) بحيث رأى فيه كاتب 1يو مجيء "الساعة الأخيرة" (2: 18).
المشكلة المطروحة هنا هي مشكلة أساسيّة: تشير إلى شركة الانسان بالله. فالمعلّمون الكذبة يعتبرون أنهم يستطيعون أن يبلغوا هذه الشركة بواسطة الغنوصيّة (هي معرفة باطنيّة لا تحتاج إلى التقليد المسيحي، كما لا تعتبر أي اعتبار للصليب كسبب الخلاص. المعرفة هي التي تعطي الخلاص). كيف تبدو الخطوط الكبرى لهذا التعليم؟
هناك ضلال أول على مستوى الكرستولوجيا، على مستوى التعليم عن يسوع المسيح. يرفضون مسيحانيّته. يُنكرون أن يسوع هو المسيح (2: 22- 23). يُنكرون بنوّته الالهيّة (4: 14- 15؛ 5: 5: آمن أن يسوع هو ابن الله). وهكذا يرفضون واقع التجسّد، الذي به اتخذ الله جسدًا، صار بشرًا من لحم ودم بحيث استطاع الناس أن يروه ويسمعوه ويلمسوه. فمجيء ابن الله في الجسد (في البشريّة، في لحم ودم)، والقيمة الغذائيّة لموته، وقوّة دمه الذي يطهّر البشريّة ويكفّر عن خطيئتها، كل هذا ليس بشيء بالنسبة إليهم. يقولون إنهم يعرفون الله (2: 4؛ 4: 8)، يحبّونه (4: 20)، ويعيشون في شركة معه (1: 6؛ 2: 6، 9)، دون الحاجة إلى مثل هذا الوسيط، يسوع المسيح.
وينضمّ إلى هذا الضلال تعليم ناقض على المستوى الأخلاقيّ. فإن 1يو لا تندّد بفلتانهم، ولكنها تورد مقالهم: يعتبرون نفوسهم بلا خطيئة (1: 8، 10)، لأنهم يتصلون اتصالاً رفيعًا بالروح (4: 1- 3). ويبدو أنهم أعلنوا على المستوى الاخلاقيّ نوعًا من اللامبالاة والاحتقار تجاه الوصايا (2: 4؛ 5: 2- 3)، ولا سيّما المحبّة الأخويّة (2: 9، 11؛ 3: 10، 14- 16؛ 4: 8، 20؛ 5: 2).
3- تعليم 1يو
أ- تعليم تسلمناه
أراد كاتب 1يو أن يعطي المؤمنين ثقة بالتعليم الذي تسلّموه منذ بدء حياتهم المسيحيّة وذكّرهم، ردًا على الدعاوة الضالة، أنهم يعيشون حقًا، منذ الآن، شركة مع الله، أنهم يعرفونه، يقيمون (يثبتون) فيه، أنهم يمتلكون الحياة الأبديّة، وذلك بإيمانهم بيسوع المسيح، ابن الله الوحيد، الذي سفك دمه لغفران خطايا العالم. ويعبّر الكاتب عن هدفه. بشكل واضح: "كتبت إليكم بهذا لتعرفوا أن لكم الحياة الأبديّة، أنتم الذين آمنتم إسم ابن الله" (5: 13). ثم إن لفظ "نعرف" الذي يتكرّر ثلاث مرات بعد ذلك. يسمعنا صوت النصر، نصر الايمان في يسوع المسيح. "نحن نعرف أن كل من وُلد من الله لا يخطأ... نحن نعرف أننا من الله... نحن نعرف أن ابن الله أعطانا الفهم لنعرف الحقّ (= الله). ونحن في الحق، في ابنه يسوع المسيح" (5: 18- 20).
ردّ يوحنا على أقوال كاذبة صدرت عن الذين تركوا الايمان، فسعى إلى تشجيع المسيحيين المؤمنيبن، وإلى توعيتهم لغنى روحيّ يتضمّنه الايمانُ الذي تسلّموه. في هذا المعنى نفسّر 2: 12- 14. لا نقول: "أكتب إليكم لأن الله غفر خطاياكم....". بل "أكتب إليكم، يا أبنائي الصغار، فخطاياكم غُفرت بفضل اسمه".
ب- التمييز الروحيّ
وتوخّى يوحنا أيضًا أن يعلّم المسيحيين المقياس الصادق للشركة مع الله، أو لمعرفة الله الحقة. وهكذا تبدو 1يو ممارسة التمييز الروحيّ.
فعبارات التمييز عديدة ولها معناها. "إن قلنا إننا في شركة مع الله ونحن نسلك في الظلام، نكون كاذبين" (1: 6؛ رج 1: 8، 10). "من قال: أنا أعرفه، ولا يحفظ وصاياه، فهو كاذب" (2: 4؛ رج آ 6، 9، 11). "من هو الكذّاب إلاّ الذي ينكر أن يسوع هو ابن الله" (5: 5)؟ تلك هي عبارة استفهام. وهناك عبارة تأكيد: "من أنكر الابن ليس له الآب" (2: 23؛ رج آ 29؛ 3: 6، 9، 15). وتتواتر العبارة التالية: "بهذا نعرف... تعرفون" (3: 2، 5، 14؛ 4: 2، 6). أخيرًا، هناك دعوة مباشرة لامتحان الأرواح "لتروا هل هي من الله" (4: 1- 6).
ويقدّم موضوعُ التمييز في أشكال متنوّعة. "شركة مع الله" (1: 6). "معرفة الله" (2: 3- 4، 14؛ 3: 6؛ 4: 7- 8). "نقيم (أو نثبت فيه) أي في الله" (2: 6؛ 4: 13). وهناك أيضًا: "نرى الله" (3: 6؛ 4: 12؛ 3 يو 11). "نكون في النور" (2: 9). "نُولد من الله" (2: 29؛ 3: 9- 10؛ 5: 1- 18). "نكون من الله" (5: 18؛ رج 4: 2- 3). ونمتلك (يكون لنا) الآب" (2: 23). "تحبّ الله (4: 20- 21؛ 5: 2). "نكون في الحقّ" أي في الله (5: 20). "نكون لنا الحياة" (5: 13). هذه التعابير المختلفة تشير إلى واقع واحد: المشاركة في حياة الله.
ج- مقاييس التمييز
يشكّل عرض المقاييس بنية الرسالة. من مقاييس على مستوى أخلاقيّ. يُقرّ الانسان أنه خاطئ. يعترف بخطيئته (1: 8- 10). يجعل ثقته في تشفّع المسيح الذي هو ذبيحة كفّارة من أجل خطايانا (2: 1- 2). يتجنّب الخطيئة (3: 6- 8). لا يتوافق مع العالم، لا يحبّه (2: 15). يحفظ الوصايا (2: 3- 5؛ 3: 24؛ 5: 2) يمارس البرّ (2: 29؛ 3: 10). إلى مقاييس على مستوى تعليمي. يثبت المؤمن في تعليم "سمعه منذ البدء" (2: 24)، أي منذ بدء حياته المسيحيّة (3: 11؛ رج 2يو 6). يسمع المنادين الحقيقيّين بالانجيل (4: 6) يؤمن ويعترف بأن يسوع هو المسيح ابن الله "الذي جاء في الجسد" (2: 23؛ 4: 2؛ 5: 1، 10).
إن تعداد هذه المقاييس لا يخضع لنظام دقيق. ولكننا نلاحظ أنها تظهر دومًا في الترتيب عينه: الخطيئة (5: 2؛ 2: 29 = 3: 10). الوصيّة (المحبّة الأخويّة (2: 3- 11؛ 3: 11- 24؛ 4: 7- 26). الايمان (2: 12- 28؛ 4: 1- 6؛ 5: 1- 12). إن كلاّ من هذه السلسلات التوازية (في الثالثة، لا نذكر الخطيئة كمقياس)، ترتبط بموضوع يطبع بطابعه جميع الأعضاء: الله نور (1: 5 = 2: 28). الله بار (2: 29 =4: 6). الله محبّة (4: 7؛ 5: 12). وهكذا تعود هذه المقاييس الأخلاقيّة والتعليميّة على التوالي، إلى هذه المقاييس الثلاثة، الله نور، الله بار، الله محبّة.
لا تسير الرسالة في شكل خط متواصل واستنتاجيّ، بل بشكل لولب صاعد يستعيد يوحنا عرضه ثلاث مرات، وفي كلّ مرّة على ضوء مبدأ جديد يرتفع في كل دفعة إلى مستوى أعلى يدرك قمّة يستحيل صعود جديد إلى ما وراءها: الله محبّة (4: 8- 16). وهكذا نسير المسيرة كلها: حياة في شركة مع الله، نعرفها بالنور الالهيّ الذي ولجها، بختم البرّ الإلهي الذي ختمها، بالمحبّة الالهيّة التي تُلهم أعمالها وتكوّنها.
هناك منطق أساسيّ يوجّه الفكرة. وهكذا يستحيل على المؤمن بشكل مباشر أن يعرف أنه يشارك (أو: لا يشارك) الله. فهذا الواقع هو في ذاته غير منظور. ونكتشف بشكل غير مباشر يتوافق (أو لا توافق) مع وحي الله عن نفسه في مبادرة عمله الخلاصيّ. عند هذا المستوى الرفيع ، يجعل يوحنا مبادئ التمييز الروحي. ونحن نعرف الشركة مع الله بسمات تميّز إله الوحي.
ووضع يوحنا هنا مبدأ جوهريًا: حين كشف الله عن نفسه، وهب الانسان مقاييس الخبرة الروحيّة الصحيحة. فالطريق تمرّ عبر يسوع "الذي جاء في الجسد" (4: 2). الذي جاء "بماء ودم" (5: 6). وتمرّ بطريق الوصايا الوضيع (5: 2- 4)، وممارسة المحبّة الأخويّة. أما ضلال المعلّمين الكذبة فيعود إلى صوفيّة كاذبة تجهل هذا المبدأ الأساسي.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا نعرف الوحي إلا بشهادة الذين نعموا به بشكل مباشر، واستُودعوه استيداعًا مسؤولاً فنثبت معهم. فتمييز تعليم حول الله وخبرة الشركة معه، يمرّان إذن في مشاركة مع شهود "كلمة الحياة" (1: 1). لهذا تبدأ الرسالة بداية احتفاليّة فتقول: "هذا الذي رأيناه وسمعناه نبشّركم به، لتشاركوا أنتم أيضًا معنا. وشركتنا هي شركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح" (1: 3). والخضوع "للتعليم" (البلاغ) الرسولي (انغاليا، 1: 5؛ رج 3: 11) هو مقياس يدلّ على صدق الشركة مع الله. هذا ما يقوله يوحنا بشكل قاطع: "نحن من الله. فمن يعرف الله يسمع لنا. ومن ليس من الله لا يسمع لنا. بهذا نعرف روح الحقّ وروح الضلال" (4: 6).
سمِّيت 1يو "عودة إلى المعمودية". فيها يدعو يوحنا المؤمنين إلى أن يقتنعوا بمتانة التعليم الذين تقبّلوه في بداية تنشئتهم الروحيّة. وان هو كرّر "التعليم" فهذا لا يعني أنهم يجهلونه (2: 21). ولكنه توخّى أن يُبرز سماته الجوهريّة ويبيّن عمقه وشرعيّته. لقد أراد يوحنا أن يكشف (1: 5) للمسيحيين الكنز الذي تسلموه. ويريدهم أن يكشتفوه في الفقاهة الرسوليّة رغم الاعتبارات الكاذبة والساخرة التي يقدّمها المعلّمون الكذبة، أن يكتشفوا المعرفة الحقّة (2: 12- 14).
غير أن ما نلاحظ في رسالة تشدّد على الأمانة للتعليم الرسولي، هو أن الكاتب لا يحاذر الحسّ الباطنيّ (ما يعتقد الانسان في أعماقه). فعبارات يوحنا واضحة في هذا المجال. "لكم مسحة نلتموها من القدوس، وجميعكم تعرفون" (2: 20). "المسحة التي نلتموها منه تثبت فيكم، فلا تحتاجون إلى من يعلمكم" (2: 27). "نحن نعرف أن ابن الله جاء، فأعطانا العهد لنعرف (الاله) الحقّ" (5: 20). "المسحة التي نلتموها من القدوس" تدلّ على كلمة الله التي نالوها من المسيح. وإذا شُبهت بزيت المسحة، فتلميحًا إلى عمل الروح الذي يجعلها تلج قلب المؤمنين كمبدأ نور وحياة. فالتعليم الذي أعطته الكنيسة، وتسلّمه المؤمنون "من البدء"«، يبقى أساس كل شيء، ولا يعتبر على الاطلاق بدون فائدة. غير أن الرسالة تشدّد على العمل الذي تقوم به هذه الكلمة في قلب كل مؤمن، بفضل الروح. "فالبلاغ" (التعليم) الذي عليه تتأسّس الخبرة الروحيّة، ليس واقعًا ميتًا ومتحجرًا. بل هو يحيا في كل مسيحيّ، ويجعله شخصيًا في شركة مع الله.
ذاك هو المعنى الذي نعطيه لعبارات ذكرناها: "تعرفون كلكم" (2: 20). "تعرفون الحقّ" (2: 21). "ابن الله... أعطانا العهد" (5: 20). تدلّ هذه العبارة الأخيرة، على ملكة تُمنح للمسيحي فيعرف بها الله. هي تقابل: "القلب الجديد" "القلب من لحم"، (حز 11: 19؛ 36: 26)، "الضمير والقلب" (إر 31: 33). فالمسيحيون المؤمنون لا يتطلّعون بعين الحسد إلى الغنوصيين. ففيهم تتحقّق نبوءة العهد الجديد التي تعلن في الداخل معرفة الله لجميع أعضاء الشعب المختار "من صغيرهم إلى كبيرهم" (رج 2: 13- 14: الآباء، الشبّان).
4- نظرة مسيحيّة شاملة
تمثّل 1يو من وجهة الحياة المسيحيّة، مجهودًا للتركيز على الجوهر دون التعلّق بالامور الثانويّة. هذا ما يدلّ على أننا في وضع متأزّم لا يستطيع فيه المسيحيون أن يعيدوا التعبير عن التعليم الرسوليّ داخل عناصره الأساسيّة. هذا ما حاول يوحنا أن يقوم به، فقدّم نظرة مسيحيّة شاملة إلى كنائس آسية، وبالتالي إلى جميع الكنائس في كل زمان ومكان. قطع الطريق على كل معرفة سرابيّة (غنوصيّة)، فقدّم التعليم المسيحيّ في وحدة صارمة وفي بساطة ما بعدها بساطة. وترجع عناصر هذه الشميلة إلى ثلاثة أمور: لا توافق بين وضع المسيحيّ والخطيئة. المحافظة على وصيّة المحبّة الأخويّة. الايمان بالمسيح ابن الله المتجسّد، وهذا الايمان هو أساس كل شيء.
أ- المسيحيّ والخطيئة
إن التعليم المسيحيّ يبدو للوهلة الأولى متناقضًا. من جهة، نقرأ عددًا من العبارات تعلن أن من قال إنه بلا خطيئة (كما يقول الغنوصيون)، يجعل نفسه خارج طريق الحقّ (1: 8، 10). وإذ توجّه يوحنا مباشر إلى المسيحيين، أعلن: "أكتب إليكم لئلا تخطأوا. وإن خطئ أحد، قلنا شفيع أمام الآب، يسوع المسيح الذي هو بارّ" (2: 1). ومن جهة ثانية، كتب يوحنا عن المسيحيّ الذي هو "ابن الله" (3: 1): "كل من وُلد من الله لا يعمل الخطيئة... لا يستطيع أن يخطأ، لأنه مولود من الله" (3: 9). وهكذا أكّد يوحنا أن المسيحيّ لا يكمن أن يخطأ.
هناك تناقض، ولكنه تناقض ظاهر. ففي النصين الأولين، لا خطر يوحنا الضعف البشري. وفي النصّ الثالث، صوّر وضع ذاك الذي يستسلم له: مثل هذا الوضع يستبعد الخطيئة. بما أن المسيحيّ "ابن الله" فهو يحمل في داخله مبدأ مقاومة جذريّة للخطيئة. بعد هو انتصر عليها بفضل المسيح. وزرع الله (أي كلمته وتعليم الحقّ الذي ولده) يثبت (يقيم) فيه كمبدأ باطنيّ ناشط للتقديس. في هذا الوضع، لا يعود يخطأ. مثل هذه الكلمة هي تحديد لكائن المسيحيّ في كل صدقه.
ب- حفظ الوصايا والمحبّة الأخويّة
يُشرف على الرسالة مبدأ يقف في وجه اللامبالاة الخلقية: هو الرباط بين الشركة مع الله وحفظ الوصايا. وحده يعرف الله، يقيم فيه، يحبّه، ذاك الذي "يعمل بوصاياه" (2: 3- 4؛ 3: 22- 24؛ 5: 3)، يعمل بكلمته (2: 5). وبالنسبة إلى المسيحيين، ليست الوصايا قاعدة خارجيّة وُضعت في قوانين وشرائع: فالقاعدة الحيّة هي المسيح. من هنا كان القول الأساسيّ: "من يعتبر أنه يقيم فيه (في الله). عليك أن يسلك كما سلك هو (أي: كما سلك المسيح)" (2: 6). بهذا الاعلان أدخل يوحنا وصيّة المحبّة الأخويّة التي توجز سائر الوصايا، والتي فيها يعبّر حبّ الله عن نفسه (3: 23؛ يو 5- 6). وقدّم يوحنا ثلاث محطات في هذه المحبّة (اغابي) الاخوية.
أولاً: وصيّة المحبّة نور (2: 7- 11)
قُدِّمت وصيّة المحبّة على أنها "وصيّة قديمة"، لأنها تقابل "تجديدات" الهراطقة، فتعود إلى الاعلان الأول للانجيل، كما تعود، بالنسبة إلى المؤمنين، إلى بداية حياتهم المسيحيّة (2: 7؛ 3: 11). ومع ذلك، هي وصيّة "جديدة"، لأنها مؤسَّسة على موت المسيح (رج 3: 16؛ يو 13: 1). وهي ختم حقبة جديدة في التاريخ الخلاص. هي امتداد للشريعة القديمة وتجاوز لها، هي وصيّة المحبّة في يسوع المسيح، التي أثبتتها الجماعة المسيحيّة. هي "النور الحقيقي" (2: 8) الذي يجعل واقع العالم الاسكاتولوجيّ الآني، حاضرًا منذ الآن وسط البشر. أما البغض (والكره) فظلمة (2: 9، 11).
ثانيًا: المحبّة الأخويّة "تعليم" حياة (3: 11، 24)
هذه المحبّة هي العلامة التي تميّز "أبناء الله" (3: 1- 2، 10). هنا يعبّر النصّ عن الفريضة في ألفاظ استعملها يسوع في خطبة الوداع في انجيل يوحنا: "علينا أن نحبّ بعضنا بعضًا" (3: 23). فالمحبّة المسيحيّة هي تبادل وتقابل. إنها تخلق الجماعة، وتعارض البغض الذي يحمل الدمار. "كل من يبغض أخاه هو قاتل" (3: 15). أما المحبّة الأخويّة "فتنقلنا من الموت إلى الحياة" (3: 14). يرتبط الحبّ بالحياة كما يرتبط بالنور.
هنا نلاحظ واقعيّة يوحنا. إذا كان الحبّ صادقًا، يجب أن يترجم "في العمل". لا يكتفي بأن يكون على مستوى "الكلام والللسان" (3: 18). فعلى المسيحي أن يقتدي بيسوع "فيعطي حياته من أجل إخوته" (3: 16). وكل يوم يحمل إلى المحبّة الأخويّة مناسبة للتعبير عن الذات، في التشارك في الخبرات، في رحمة تصبح فاعلة. وفي مساعدة متبادلة (3: 17): "من كانت له خيرات العالم ورأى أخاه محتاجًا فأغلق قلبه عنه، فكيف تثبت محبّة الله فيه".
ثالثًا: المحبّة واقع إلهيّ (4: 7- 21)
"المحبّة من الله، وكل محبّ هو مولود من الله ويعرف الله" (4: 7). هذا الكلام يؤسّس التحريض الأخير على المحبّة: "الله محبّة" (4: 8، 16). لا نستطيع أن نعرف الله ونكون في شركة معه من دون محبّة.
هذه العبارة الشهيرة ليست تحديدًا مجرّدًا للجوهر الالهيّ، بل هي تتركّز على وحي كشف فيه الله عن نفسه في يسوع. كشف عن نفسه في فعل محبّة يعبّر عمّا هو: إنه إله يحبّ، وحياته وكيانه هما الحبّ. وحين أرسل ابنه "ذبيحة كفّارة عن خطايانا" (4: 10)، دلّ على هذه المحبّة فجعلها حاضرة بيننا (4: 26) بحيث نحيا منها. وأبرز يوحنا مجانيّة هذا الحبّ وسموّه. ما اكتفى بأن يعلن أولويّته بالنسبة إلى حبّ آخر، بل أكدّ على أولويّته المطلقة. ما من حبّ يسبقه. ونحن لن نستطيع أن نحبّ أبدًا إلاّ بقوّة هذا الحبّ الأول، الحاضر فينا والفاعل. ووجود المحبّة في الانسان، علامة على أنه "وُلد من الله"، على أنه "ابن الله". الله يقيم فيه ويعمل فيه. بل نستطيع أن نقول: إنه مولود حقًا لله بفضل هذا الحبّ. أدخل في حياة الله الحميمة. عاش في سرّ الله، في شركة حيّة معه. اكتشف الله وعرفه (4: 8).
من هذا العرض نستخلص فكرة هامّة. ردّ يوحنا على ضلالة تقول إنه المحبّة (لله وللأخوة) هي في حدّ ذاتها، في متناول الانسان. هي "عاطفة طبيعيّة" تنبع طوعًا من عمق الانسان. ثم أبرز الأصل الإلهي، وطابع هذه المحبّة، وعجزْ الانسان عن إدراكها بقواه الخاصّة. ووجب على الله أن يأتي إلى عونه: هو ما اكتفى بأن يكشف له الحبّ، بل فجّر ينبوع الحبّ في قلبه. "فالمحبّة هي من الله" (4: 7).
ج- الايمان بالمسيح ابن الله الذي جاء في الجسد
الضلالة التي يحاربها يوحنا هي قبل كل شيء ضلالة تعليميّة. فالتلميحات التي تجدها في الرسالة تدلّ على أن المعلّمين الكذّابين رفضوا أن ينسبوا إلى يسوع أي دور في الرسالة مع الله. فصلوا المسيح الذي هو كائن سماويّ ومجيد عن يسوع الانسان الذي عاش ومات من أجلنا. وهذا يعني، على المستوى العمليّ، انكار التجسّد (اتخذ يسوع جسداً) على المستوى التعليميّ وتجاهل مدلوله على المستوى الروحيّ. ردّ يوحنا على هذا الضلال، فاعترف بقوّة الايمان بهذا الانسان الذي هو يسوع، ابن الله المتجسّد، الذي مات كذبيحة كفّارة عن خطيئة العالم، الذي هو شفيعنا لدى الآب (2: 1- 2)، الذي فيه تجلّت الحياة (1: 2)، وتجلّى حبّ الله من أجلنا. هذا الايمان هو العمود الذي يحمل البناء المسيحيّ كله. فإن مسسناه، سقط كل شيء ودمّر. فتصبح "معرفة الله" سرابًا، وتنحلّ الجماعة الأخوية، جماعة "أبناء الله". هذا الايمان هو المبدأ الأساسيّ والمقياس لتمييز الأرواح. "بهذا تعرفون روح الله: كل روح يعترف بيسوع المسيح الذي جاء في الجسد، هو من الله. وكل روح يقسم يسوع ليس من الله" (4: 2- 3). إن أقوال يوحنا جاءت قاطعة: "أعطانا الله الحياة الأبديّة، وهذه الحياة هي في ابنه. من له الابن له الحياة. ومن ليس له ابن ليست له الحياة" (5: 11- 12).
وشدّد يوحنا بقوّة أيضًا على بشريّة يسوع التاريخيّة في واقعها الملموس، كما أعطي للشهود الأولين أن يروها ويسمعوها ويلمسوها (1: 1). وقدّم نفسه كفيلاً لملء الحياة الالهيّة التي مُنحت للبشر بواسطة بشريّة يسوع. كما أعلن انتصار الايمان بيسوع ابن الله الذي جاء "بالدم والماء، بيسوع المسيح". وشدّد: "ما جاء بالماء فقط، بل بالماء والدم" (5: 6). يرتبط الماء بالمعمودية. والدم بواقع ذبيحة المسيح الدموميّة على الصليب. وليقل المعلّمون الكذبة ما يريدون: إن الروح يشهد للمدلول الالهي لهذا الموت ولبعده الخلاصيّ، فيحرّك الايمان في قلب المسيحيين.
ويطبّق يوحنا، في الآيات اللاحقة، الصورة عينها على شهادة متواصلة للأسرار والروح، في الكنيسة: "والذين يشهدون هم ثلاثة. الروح والماء والدم" (5: 7، 8) فالحياة الالهية التي أعطاها للبشر الانسانُ يسوع بوجوده التاريخيّ وموته، ما زالت تُعطى بواسطة هذين الشاهدين الوضيعين للتجسّد، الماء والدم، المعمودية والافخارستيا، وينضمّ إليها الروح القدس.
خاتمة
إن تعليم 1يو يلتقي في جوهره مع تعليم الانجيل. وهناك آية تجمله أكمل إجمال: "نحن نعرف محبّة الله لنا ونؤمن بها. الله محبّة" (4: 16). فبفضل هذا الايمان الذي هو عمل الروح، عرف المسيحيّون الحبّ الذي هو ينبوع كل حبّ، الذي تجلّى في يسوع المسيح إبن الله المتجسّد والمرسل من لدن الآب. هم يؤمنون ويعرفون أن الحب هو بداية ونهاية كل شيء، لأن الله "محبّة". فلا نبحث عن طريق خلاص أخرى إلاّ هذا الايمان بالحبّ: "من أقام في المحبّة أقام في الله وأقام الله فيه". ونحن لا نثبت في الحبّ، إلاّ إذا عشناه عملاً يوميًا في المحبّة الأخويّة، "فنسير كما سار يسوع" (2: 6).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM