الفصل السابع والعشرون: نسيان الله وتجاهله عند القديس لوقا

الفصل السابع والعشرون
نسيان الله وتجاهله عند القديس لوقا

حاولنا التعرّف إلى وجه الله على خطى القديس لوقا. وتوقّفنا عند شخص يسوع. وردة الفعل عند الناس أمام حضوره وأعماله. يبقى علينا أن نعيش رضى الله ومحبته وعطفه، مع أن الناس نسوه وتجاهلوه.

1- الإله المعروف
إذن، لا بدّ من إظهار يسوع لكي نتذكّر من هو الله. ولكن لو لم تكن القلوب قاسية (حسب لوقا)، لكنّا اكتفينا بقراءة الاسفار المقدسة لنبقى على اتصال حيّ مع الرب (رج لو 16: 27- 31؛ 24: 25- 45؛ أع 7: 51- 53). ولكن الشعب لم يعد يفهم الكتاب، وهو ينسى أنه يتضمّن المواعيد. والله الحي يُعبَد وكأنه إله جامد، مغروز في الأرض، مغروز في الماضي.
بدأ لوقا في حواره مع العالم اليهودي، بأن يذكّر قرّاءه بالإله المعروف (لو 1- 2). فحضور يسوع يذكّرنا أننا إن نسينا الطابع الحي لله، سنجهل الله كليًا. أما الكتاب المقدس فجعل وعدًا فوق وعد، جعل وعدَ العهد الجديد فوق وعد العهد القديم.
ورأى لوقا أن الوقائع تجعل المسيحيين على حق: إذا كان من جديد في التاريخ، فلأن إله الآباء (هذا الاله المعروف في الظاهر) (إله ابراهيم واسحاق ويعقوب) قد بيّن للمرة الاخيرة أي نوع من الاله هو. حين تكلّم لوقا عن الله عاد إلى عبارات مأخوذة من التوراة أو موافقة للاهوت اليهودي: الرب الاله (لو 1: 16، 32، 68؛ 4: 8، 12؛ 10: 27؛ أع 2: 39؛ 3: 22)، إله ابراهيم واسحاق ويعقوب مع بعض اختلافات (لو 20: 37؛ أع 3: 13؛ 7: 32)، إله آبائنا (أع 3: 13؛ 5: 30؛ 22: 14؛ رج 7: 32؛ 13: 17؛ 24: 14)؛ أرسلت كلمة الله (لو 3: 2)، كان الله معه (أع 7: 9؛ 10: 38؛ 14: 27؛ 15: 4). وحين شدّد لوقا أن اله يسوع المسيح هو إله العهد القديم، لم يعلن فقط وحدة الخالق والفادي، بل تحدّث عن صفة جوهرية مجهولة لدى الاله المعروف: مسرّة الله (أودوكيا: إرادته الفاعلة. مشروعه، رضاه ومحبته، رج لو 2: 14؛ 3: 22؛ 10: 21؛ 12: 32). فالاله الصالح تابع طريقه ووفى بوعده فأكمل عمل المصالحة.
يتحدّث لوقا بعض المرّات عن مشيئة الله (بولي، لو 7: 30؛ أع 2: 23؛ 4: 28؛ 5: 38- 39؛ 13: 36؛ 20: 27). ويقابل هذه المسرة وهذه المشيئة بالنعمة (خاريس، لو 2: 40؛ أع 11: 23؛ 13: 43؛ 14: 26؛ 20: 24- 32؛ رج 14: 3؛ 15: 40) والمحبة (أغابي، لو 11: 42) والسلام (ايريني، لو 1: 79؛ 2: 14؛ 10: 5؛ 19: 38؛ 24: 36؛ أع 10: 36). ويتجرَّأ لوقا ويقول عن الله إنه "أويكترمون" أي يبقى مع الذين يبكون (لو 6: 36). نجد هذه الصفة في السبعينية (قرب ايليمون أي رحوم). تنشد مريم (لو 1: 46- 55) وزكريا (لو 1: 67- 79) هذا الاله. ونزول الروح على مريم (لو 1: 34- 35) وسلسلة نسب يسوع، كل هذا يدلّ على تحرّك الله نحو شعبه. كل هذا يوجّه الانظار إلى مسرّة الله ورضاه.
إختار لوقا يسوع كشاهد لله. إختار هذا الرجل الضعيف وألبسه ثوب المسيح الملك مع نظرة إلى النبي المتألم. الله هو وراء أحداث حياة يسوع. ولكنه وراء مهمّة مصلوب لا انتصارات قائد حربي (كما في كتاب المكابيين). هناك من يسمّي لوقا لاهوتي المجد، ولكنه ينسى أيضًا الوجه الآخر للاهوته.
هناك طرق عديدة بها يقدّم لوقا الله، ونحن سنتخذ ثلاثة أمثلة: صورة الباب، مسألة المال، مفتاح المعرفة.

2- الباب أو صورة الدخول إلى الملكوت
يبدو ملكوت الله كمكان واسع، ونحن مدعوون للدخول إليه (لو 13: 23- 24؛ 14: 15- 24). إنه فسحة قريبة ومفتوحة، وهو يتضمّن مواضع نقيم فيها. لندقّ الباب (لو 11: 9- 10) ونتجاوز العتبة. إنه الوقت المؤاتي (كايروس، لو 12: 56؛ 19: 44). الباب مفتوح اليوم، فلا تتأخّر إلى غد (لو 12: 25). لقد جعل مجيء يسوع الملكوت قريبًا.
والمدعوون الاولون (كما يقول المثل، لو 14: 21- 24) إعتذروا وظنّوا أن أشغالهم أهمّ من الملكوت. فجاء دور الهامشيين أي المسيحيين المتهوّدين ثم المسيحيين الهلينيين: دُعوا وأدخلوا إلى الوليمة يدفعهم الحبّ لا الاكراه. وهناك تزاحم أمام باب الملكوت كما يقوله لو 16: 16: "بقيت الشريعة وتعاليم الانبياء إلى أن جاء يوحنا، ثم بدأت البشارة بملكوت الله، فأخذ كل إنسان يجاهد ليدخله" (بالقوّة، نقرأ في لو 11: 52؛ رج 23: 14: "ما دخلتم ومنعتم الذين يريدون الدخول"؛ رج أع 14: 27: "فتح الله باب الايمان للوثنيين").
بعض الناس يرفضون الدعوة. هنا نجد الموقفَين اللذين يمكن أن يتّخذهما سامعو يسوع.
هذه الثنائية ترتبط بوجود باب آخر هو بابنا. يريد يسوع أن يتجاوز عتبة بيت زكا ليتمّ في هذا اليوم عينه الخلاص لهذا البيت (لو 19: 10). ويقول أع 19: 10 إن الله فتح قلب ليدية لتتعلّق بأقوال بولس (أع 16: 14). فالمؤمنون مدعوّون لأن ينتظروا جماعيًا وصول المسيح الذي يدق على الباب (لو 12: 36: ينتظرون رجوع سيّرهم من العرس).
إن استعارة الباب وصورة المدخل تعبّران عن إرادتين: إرادة الله الذي يريد أن يجمع شعبه في بيته. وإرادة الشعب (لاوس) الذي يقبل الدعوة ويتقبّل الرب. تدعونا صورة الباب لنتحدّث عن الرب على مستوى العلاقات: علاقة محبّة متبادلة إن نحن قبلنا أن نفتح الباب. علاقة لا مبالاة وبغض إن نحن أبقينا الباب مغلقًا.
ونزيد بعض الكلمات على الباب الذي يغلق. نقول أولاً إن الله يخاطر ويُبقي الباب مفتوحًا، حتى الساعة الحادية عشرة (أي: الخامسة مساء، أي: قبل نهاية النهار بساعة واحدة. محاولات يسوع لرد المعاندين. محاولة بولس في آخر قطعة من أع). ومن جهة ثانية هناك خطر الخروج من فسحة الملكوت: قد نسقط مرة ثانية، قد نضجر ولا نثابر (رج التفسير الرمزي لمثل الزارع، لو 8: 11- 15).
وسيأتي يوم يُغلق الباب ويُقفل، فلن يفيدنا أن نقرعه (لو 13: 23- 30). وحين تأتي ساعة القرار، يتعلّم الغني البائس الحالة التي وصل إليها حين يشاهد لعازر في حضن ابراهيم (لو 16: 27- 31؛ رج لو 12: 4- 5؛ 46: 19: 27؛ 20: 47).

3- الحياة أو المال
لاشكّ في أن لوقا التقى في جماعته بمؤمنين أغنياء. وهو سينطلق من المال ليتعرّف إلى صدق الايمان: "حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك" (لو 12: 34). "لا يستطيع عبد أن يخدم سيِّدين"... "لا تستطيعون أن تخدموا الله ومامون" (أو المال، لو 16: 13). لسنا هنا أمام أوامر أخلاقية، بل أمام تأكيدات ترتبط بالايمان.
هناك موقفان ممكنان تجاه المال: أن يكون الانسان غنيًا من أجل نفسه، أن يكون غنيًا من أجل الله أو لله (لو 12: 21). يفرض لوقا وحده التخلي عن الخيرات الشخصية في إنجيله، ويشير في أع إلى التشارك في الخيرات (لو 12: 33؛ 14: 33؛ أع 2: 44- 45؛ 4: 32- 35). إشارات بسيطة ولكنها سامية. فوضعُ خيراتنا الخاصّة بتصرّف الآخرين ينتج عن عدم اهتمام بنفوسنا. أن نقول "لا" لعلاقة خاصّة بالمال، يعني أن نقول نعم بطريقة نتبع بها المسيح ونحمل صليبنا، أن نقول نعم لصورة صحيحة عن الله. ليست الاخلاقيات هدفًا في حدّ ذاتها عند لوقا، وهي لا تُستعمل لتحافظ على نظام اجتماعي. فهدفها لاهوتي، وهي تقابل بين ما صنعه الله لنا، وما يدعونا لنصنعه للآخرين. يستعمل لوقا الكلمات عينها، ليدلّ على المنتفعين من حبّ الله في مثل الوليمة (لو 14: 21)، وعلى الذين يصل إليهم عملنا الاخلاقي (لو 14: 3: الفقراء والمشوهين والعرج والعميان).
ومن جهة أخرى، هناك سحر المال: فالمال يُثقل القلب (لو 21: 34)، ويخنق الايمان المزروع فينا (لو 8: 14). فالرأسمالي في مثل الغنيّ الغبيّ (12: 16- 21) يجمع من أجل نفسه. والنتيجة: أخذ منه الله في ليلة واحدة أثمن ما له. إختار المال فخسر الحياة. وأخيرًا، إذ أراد لوقا أن يسند قضيته، جعل خصوم يسوع والرسل أناسًا نفعيين وألصق بهم علامة حب المال (لو 16: 14). وقدم لنا يهوذا الذي قبل المال من رؤساء الكهنة والكتبة (لو 22: 5- 6) واشترى حقلاً "بثمن الجريمة" (أع 1: 18؛ رج يو 12: 6 الذي يتحدّث عنه كمختلس). ثم سمعان الساحر الذي ظنّ أن موهبة الله تُقتنى بالمال (أع 8: 8). ويتحدّث لوقا أيضًا عن عليما الساحر الذي اشتهر بالغش والاختلاس (أع 13: 10 والكلمة اليونانية راديورجيا) وعن سادة الجارية التي كانت تجني من عرافتها مالاً كثيرًا (أع 16: 16)، وعن صاغة أفسس الذين كانوا يكسبون مالاً كثيرًا (أع 19: 24). إذا كانت "بورنيا" أو فساد الاخلاق قد صارت عند اليهود مرادفة للشرك وعبادة الاوثان، فالطمع عند لوقا يرافق التصلّب الروحي والجحود والسحر والعودة إلى الوثنية.

4- مفتاح المعرفة
هناك استعمال صحيح للمال واستعمال خاطئ. وكذلك هناك استعمال صحيح للمعرفة واستعمال خاطئ. تحدّثت الدراسات التأويلية السابقة عن التوبة والايمان عند القديس لوقا. وها نحن نتبعها بما يتعلّق بالمعرفة (غنوسيس). لاشكّ في أن لوقا لا يتوسّع في موضوع معرفة الله ولا يوضح معنى الانخطاف والنبوءة. ولكننا نجد نظرة تعليمية في خلفيّة خبره. أورد مثلاً (لو 10: 21) أن الله في مسرّته كشف عن قصده للصغار، وأخفاه عن الذين يعتبرون نفوسهم ممثّلي الحكمة الرسميّين.
نلاحظ أولاً أن لوقا لا يترك "المعرفة" ليتوجّه إلى إيمان "يتعدّى العقل لأنه لا يُفهم". بل هو يدعونا إلى التمييز (فكّر قبل أن تقرّر وتعمل، لو 14: 28- 32). يطلب أن تكون لنا أذنان سامعتان (لو 14: 35). ويشير في 11: 52 إلى مفتاح المعرفة.
ما هي هذه المعرفة؟ هي معرفة القلب ومعرفة الفكر، وهي تتعلّق بإرادة الله. وتتضمّن هذه المعرفة وعيًا يصل بنا إلى السؤال: ماذا يجب عليّ أن أعمل (لو 3: 10- 14؛ أع 2: 37، لا كيف أعرف وبم أؤمن؟)، ويدعونا إلى التوبة (ميتانويا). تشمل هذه المعرفة سماع الكلمة (الكرازة الكرستولوجية)، وقراءة الاسفار المقدسة على ضوء واقع القيامة، والتحليل النبوي للواقع ولعلامات الزمن.
"بل طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها" (لو 11: 28). ولكن "الويل لكم يا معلّمي الشريعة الذين استوليتم على مفتاح المعرفة" (لو 11: 52). هذه المصادرة تحوّل المعرفة إلى جهل. ولنا عبرة تعليمية في مثل الدنانير الذهبية التي وزّعها الملك على عبيده (لو 19: 11- 27). نحن ندهش حين نرى السيد لا يهتم بأن يصحّح الصورة الخاطئة التي رسمها عنه العبد الخائف: أخفى العبد ديناره خوفًا من معلّم يظن أنه يعرفه، فحكم على نفسه بأن يتحمّل عقاب سيّد صالح للذين لتصلون به، وقاس للذين يرفضون الحوار، عقاب سيد سيأخذ ما لم يودع، ويحصد ما لم يزرع. ليس الله بوجهين، ولكننا نتعرّف إليه حسب العلاقة التي نقيمها معه: حوار، قبول أو رفض. فيكون له العدل أو المحبة (لو 11: 42؛ مت 23: 23: يتكلّم عن الرحمة): أو أننا نتكل على رحمته، أو نقع تحت حكم عدله.
الجهل (أغنويا) المذكور في أع 3: 17 ليس عدم معرفة. إنه خطأ ينتج عن عمل سيِّئ وكأني به احتقار لله. لم يستقبل سكّان أورشليم يسوع المسيح الذي به افتقدهم الله لخلاصهم. ويتلاعب لوقا على الالتباس في لفظة أبسكوبي في لو 19: 44. الزيارة الالهية (أو الافتقاد) تبعث على الفرح، ولكنها تصبح قاطعة كالسيف الذي يمزّق الخائنين. ستجيء أيام الفرح، فتوبوا وارجعوا تُغفر لكم خطاياكم (أع 3: 19- 21؛ رج لو 13: 6- 9 والفرصة الاخيرة المعطاة للتينة). يقول لو 13: 1- 5 بأن ليس من طريق ثالثة: أو التوبة أو الموت. لم يفهم التلاميذ يسوع (لو 18: 34). ولم يفهم شعبُ اسرائيل موسى وبالتالي يسوع (أع 7: 25)
ولنقلها ببساطة: من يحبّ الله يعرف الله. إن المرأة الزانية (لو 7: 36- 50) قد دلّت على حبّ كبير وعرفت ضيف سمعان (أي: يسوع). أما الفريسيون وعلماء الشريعة، فرفضوا قصد الله تجاههم (لو 7: 3: رفضوا ما أراده الله لهم، فما تعمّدوا على يد يوحنا المعمدان) في دعوة يوحنا وفي شخص يسوع. على عالم الشريعة الذي يطلب الحياة الابدية، أن يحبّ الله، لا أن يؤمن أنه موجود (لو 10: 25- 28). ولقد وصل تلميذا عماوس إلى المعرفة أي إلى الاتّحاد بيسوع، حين تخلّوا عن أمل خاطئ بإنقاذ سياسي يقوم به الغيورون في أرض اسرائيل (لو 24: 21، 25- 27، 30- 32). وقد عمي الابن الاكبر بسبب محبّة أبيه لأخيه، فنسي أن كل ما لأبيه هو له (لو 15: 25- 32). والصلاة (وهي عزيزة على قلب لوقا) هي التعبير التعليمي الصحيح عن هذا الايمان وهذه المعرفة.
الملائكة يسبّحون الله (لو 2: 13) الذي يعمل لهداية شعبه (لو 1: 16). ويسوع يمجّد الآب ربَّ السماء والأرض (لو 10: 21). وإليه تتوجّه الكنيسة الاولى: "يا رب، أنت الذي خلقت السماء والأرض والبحر وكل ما فيها" (أع 4: 24). الله هو الذي يعرف القلوب (أع 1: 24؛ 15: 8). وهو سيّد الحصاد (لو 10: 2). إنه القدوس والمخلّص. إنه الاله العلي (لو 8: 28) الذي يكلّمنا (أع 7: 6) ويعرف حاجاتنا (لو 12: 30). ونحن حين نصلّي إليه، لا نكتفي بأن نتلفّظ باسمه، بل نطلب أن يتقدّس اسم الله وتتمّ مشيئته في الأرض كما في السماء (لو 11: 2).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM