الفصل السادس والعشرون: وجه الله عند لوقا

الفصل السادس والعشرون
وجه الله عند لوقا

سنتعرّف في هذا المقال إلى وجه الله في إنجيل لوقا وفي سفر الاعمال. إنطلق لوقا من اللغة الدينية المعاصرة، من الخبرة المسيحية، ومن تدخّل يسوع في التاريخ، ففتح أمامنا الباب لنصل إلى إله هو قريب منا، إله فيه نحيا ونتحرّك ونُوجَد.

1- هجمة العالم الالهي
أ- اللغة الدينية
إذ أراد لوقا أن يلفت انتباهنا إلى الله، استعمل اللغة الدينية في عصره. فكما يليق بإله السماء، نحن أمام وسطاء ينقلون التعليم. نزل الملاك واتصل بأناس مهيّأين، بأبرار مثل زكريا (لو 1: 6، 11) أو كورنيليوس (أع 10: 1- 6). وإن الروح ينتمي إلى العالم الالهي، فيتنقّل بصورة سامية دون أن يضع أحدٌ حدًا لسلطانه: يحلّ على البعض (أع 10: 44: نزل عليهم الروح القدس فأخذوا يتكلمون). وتدخل الصدفة في خدمة إرادة الله" ألقيت القرعة، فدلّت على الرسول الجديد (أع 1: 26). وهناك رؤى مضاعفة (أي رؤيتان في رؤية واحدة) تقرّب بين أشخاص لم يلتقوا مرّة في حياتهم (أع 9: 15- 12: بولس وحنانيا؛ 10: 1- 2: بطرس وكورنيليوس). والويل للجهّال الذين يعارضون الله: حذّر غملائيل زملاءه من المقاومة "لئلا يصيروا أعداء الله" (أع 5: 39). واختبر هيرودس قدرة الله: تكبّر وتشامخ، فظن الشعب وهو يسمعه، كأنه يسع صوت إله. ولكنه سقط فجأة. "ضربه ملاك الرب في الحال لأنه ما مجّد الله، فأكله الدود ومات" (أع 12: 23). أما أعداء الرسل فلا يقدرون أن يحتفظوا بضحايا سجنوها: إنحلّت السلاسل، وانفتحت مزاليج الابواب بطريقة آلية (أع 5: 17- 21؛ 12: 6- 17؛ 16: 25- 34). لا شيء يقف بوجه مرسلي الله الذين حصلوا على قوة الله: يشفون المرضى، يقيمون الموتى، ينجون من الامواج، يتلاعبون بالحيّات (أع 3: 1- 10؛ 9: 32- 43؛ 20: 7- 12؛ 27: 1 ي؛ 28: 1- 6). لهم هالة من القدرة بحيث إن ظلّهم يكفي للشفاء (أع 5: 15). والنسيج الذي لمس أجسادهم يمتلك قوّة الإبراء (أع 19: 11- 12). هم يعرفون معرفة سابقة أو علويّة مسيرة الامور وأعماق القلوب (أع 5: 3؛ 21: 10- 11). ينتقلون من مكان إلى مكان بلمحة بصر، إذا قرّر الروح ذلك (أع 8: 39: خطف روح الرب فيلبس). هم يرون رؤى ويُخطفون.
ولكن ضغط الالوهة هذا يظهر خاصّة وبطريقة كدت أقول مادية على يسوع نفسه. فولادته هي مناسبة لعدّة تدخّلات عجائبية (لو 1- 2). وفي بداية حياته العلنية، إنفتحت السماوات، وحلّ الروح القدس عليه، وناداه صوت من السماء قائلاً: "أنت ابني الحبيب" (لو 3: 21- 22). تهيّأ، فاستعدّ لمقاومة الخصم الجهنمي (أع 4: 1- 13)، ثم دلّ على حكمة إلهية وقدرة عجائبية: شفى المرضى، أخرج الشياطين، أقام الكسحان، هدَّأ الامواج، شفى البرص وأقام الموتى. وانتماؤه إلى العالم الالهي حقيقي جدًا، وقد ظهر يومًا خلال لحظة (واللحظة علامة من علامات الله): تجلّى جسده لثلاثة تلاميذ مميّزين (لو 9: 28- 26). وفي نهاية حياته، أو بالأحرى في نهاية موته، وصل إلى الزمن الازلي ودخل في مجده (لو 24: 26) محتجبًا عن الأبصار (لو 24: 31). إن بياض الملائكة يثير الرعب الديني: القبر فارغ والميت حي (لو 24: 4- 6). هو يقترب في جسده، ولكنه يختفي حالاً (لو 24: 36- 53). يختلف لوقا عن مرقس، فيشدّد على الطابع الالهي في بداية الانجيل كما في نهايته: وقت العماد، حلّ الروح القدس "في صورة جسم" (لو 3: 22). ووقت الصعود، رُفع. يسوع بجسمه، انتُزع من محبة أخصّائه ونظرهم (لو 24: 50- 53؛ أع 1: 9- 11).

ب- ظهورات الالوهة
ينوّع لوقا ظهورات الالوهة هذه وسط البشر، مرّة على الطريقة اليهودية وكما تظهر السبعينية (مثلاً، ظهور الملاك). ومرّة على طريقة اليونانيين والرومان (مثلاً، الظهورات الليلية). أما أخبار الصعود فمعروفة لدى اليهود (أخنوخ وإيليا) واليونانيين (هرقليس)، والرومان (رومولوس). ثم إن لوقا ليس أول من يطبع التعليم المسيحي بهذه الصور: فقد سبقه في هذه الطريق بولس ومرقس. ولكننا لن نتوقّف عند أصل هذه الصور.
ما يهمّنا هو وجه وبُعد هذه التدخّلات العجائبية: هي تأتي في خبر يُعتبر تاريخيًا، فتشير إلى ترائي الاله ونشاطه. بل هي تطلب أكثر من ذلك: إنها تعتبر اللاهوت في متناول يد المسيح والمسيحيين. وهذا ما تشهد له عدّة علامات وُضعت في أماكن حسَّاسة: أعلن يسوع بوضوح: "روح الرب عليّ" (لو 4: 18، 21). كان ذلك خلال كرازة الناصرة التي فيها حصل أوّل تدخّل علني للمسيح. وفي وقت العنصرة، الذي هو أول ظهور علني للكنيسة، لم يتردّد بطرس الرسول في أن يقول: "لا، هؤلاء الناس ليسوا بسكارى". إنها نبوءة يوئيل تتحقّق الآن هنا (أع 2: 15- 16). وفي النهاية، يؤكّد بولس هذا القول: "إليكم أرسل الله كلمة الخلاص" (أع 13: 26).
وإن هذا الالتجاء إلى المعجزة يبدو لنا غريبًا: فلوقا ينتمي إلى عصر ليس بعصرنا. لهذا نحاول أن نفهم أن هذا اللجوء إلى عالم العجائب، يتجاوب وحاجة عميقة: إنه يخلق مناخًا. إنه يجتذب القارئ، ويدفعه إلى اكتشاف يسوع، وإلى معرفة الله بواسطة يسوع.

2- يسوع علامة الله
لا يغامر لوقا في الدخول إلى حقول النظريات الميتافيزيقية. إنه يختلف مثلاً عن فيلون الاسكندراني أو شيشرون الخطيب الروماني، فلا يقوم بالأبحاث الطويلة عن الله. إنه يستند إلى يقين مسيحي ورثه من تقليد كنيسته: إذا أردنا أن نتعرّف إلى الله ننظر إلى يسوع المسيح. إذا أردنا أن نكتشف الآب، نضع أمامنا الابن (من رآني رآى الآب، رج يو 14: 9).

أ- يسوع المسيح
إذًا، يجعل لوقا يسوع أمامنا (على المسرح)، ليقول لنا من هو الله.
يقدّم يسوع نفسه للناس على أنه المرسَل. يقول مرات عديدة: جئت. "جئت لأدعو الخاطئين" (لو 5: 23). "جئت لألقي نارًا على الأرض" (12: 49، 51؛ رج 7: 34؛ 19: 10؛ 19: 55- 56 مع الاختلافة: "قال لهما: لا تعلمان من أي روح أنتما، لأن ابن الانسان ما جاء ليهلك نفوس البشر بل ليخلصها"). ترك يسوع كل خطبة حول شخصه، ففضّل أن يتكلّم عن أعماله وأن يُتمَّ المهمّة الموكولة إليه.
هذه المهمّة هي عملية خلاص. فإذا قرأنا لو وأع، نلاحظ أن لوقا ينظر إلى العالم نظرة متشائمة: "تخلّصوا من هذا الجيل الفاسد" (أع 2: 40). الشيطان يملك، والناس يخضعون له (4: 5- 8: الممالك هي لي وأنا أعطيها لمن أشاء؛ أع 10: 28: جميع الذين استولى عليهم ابليس). أما يسوع فيبدأ بمقاومته (4: 31)، ثم يُسرع إلى نجدة كلّ إنسان (لو 4: 31 ي). إنه في الوقت عينه، الطبيب والمعلّم والمخلّص. أدوار متعدّدة يشير إليها لوقا.
ثمّ إن يسوع يلعب دورًا يُدهش اليهود المتعلّقين بمسيح ملك: هو يرفض العنف. حين يتوجّه إلى الناس، فهو يلجأ إلى الاقناع لا إلى الاكراه. فخبر التجارب (لو 4: 1- 13) والكرازة في الناصرة (لو 4: 16- 30) وفي كفرناحوم (لو 4: 31- 34)، كل هذا يدلّ على سموّ الكلمة على المعجزات. ثم إن هدف المعجزات ليس الحرب والهجوم، بل دعوة الانسان إلى التوبة. وأحاديث يسوع ليست مقالات عن الله. إنها كلمة. وحين انتظرنا أن يقدّم لنا تحديدًا عن ملكوت الله، جعل أمامنا مثلين ملغزين: حبّة الخردل والخمير (لو 13: 18- 21).
وهذا ما نقول عن الآيات: يشير لوقا باعتناء إلى رفض يسوع أن يجترح معجزات مسيحانية يتقبّلها موقف ليس بموقف إيماني (رج أع 3: 10: فامتلأوا حيرة وعجبًا). المعجزات تحيّر الشاهدين وتطرح عليهم سؤالاً. هذا ما نقوله أيضًا عن معجزات يسوع (لو 5: 26؛ 7: 16). والايمان وحده يفهم البُعد الحقيقي للمعجزات. بدون الايمان تبقى المعجزات سؤالاً من دون جواب: فالشيطان لا يقدر أن يضع يسوع على خط "مسيح" يصنع عجائب "مثيرة". وهيرودس انتيباس الذي "طلب أن يراه" لم يجد اذنًا صاغية (لو 23: 6- 12). كل آيات يسوع ليست ممكنة، ليست فاعلة، إلاّ إذا وُجد إيمان عند المستفيد منها، أو أقلَّه قبول يرحّب بعطيّة الله. وهذا الرباط بين الآية والتمجيد ظاهر جدًا ومهمّ. فنحن نتأكد من قوّة الآية حين نسمع المديح الذي يتصاعد إلى الله. رج لو 1: 64؛ 2: 20؛ 5: 25- 26. قال مر 2: 12: "تعجبّوا كلهم ومجّدوا الله". أما لوقا فتحدّث عن الكسيح الذي ذهب إلى بيته وهو يمجّد الله، وعن الجموع الذين مجّدوا الله. أجل، استعمل لوقا كلمة مجّد مرتين رج 7: 16؛ 13: 13؛ 17: 15، 18؛ 18: 43؛ 19: 37؛ أع 3: 8- 9؛ 4: 21.
ونستطيع أن نقول أيضًا إن يسوع هو الآية التي يقدّمها الله للبشر. هذا ما قاله سمعان الشيخ، ولكنه زاد حالاً أن يسوع آية يختلف الناس في الحكم عليه: يكون سبب سقوط (بتوسيس) للبعض، وسبب قيام (أناستاسيس) للبعض الآخر (لو 2: 34).

ب- الناس أمام حضور يسوع وعمله
إن حضور يسوع وعمله يقسمان الناس: "أتظنون أني جئت لألقي السلام على الأرض؟ أقول لكم: لا، بل الخلاف" (لو 12: 51). وبعد هذا، قدّم لوقا مشاهد يثير فيها يسوع انقسامًا بين سامعيه: فقول يسوع وعمله يخلقان تعارضًا بين المؤمنين الذين ربحهم إلى قضيته، وبين الخصوم الذين ما زالوا على عدائهم له. من جهة، هناك الذين لبّوا الدعوة: البسطاء (الصغار) الذين أعطي الوحي لهم (لو 10: 21). وهناك المتواضعون الذين ينشدون على مثال مريم ما صنع الله لهممن عجائب (لو 1: 46- 49). هناك الآخرون الذين يصيرون أولين (لو 13: 30). وهناك "العبيد البطّالون" (الذين لا ينفعون) (لو 17: 10). هناك الابرص السامري الذي عاد ليشكر المسيح (لو 17: 11- 19). هناك الشعب الذي يستمع إلى يسوع ساعة الرؤساء يتآمرون عليه (لو 19: 47- 20: 1). وبكلمة واحدة، نجد من جهة أبناء النور (لو 16: 8)، أبناء الله وأبناء القيامة (لو 20: 36)، ومن جهة ثانية الكتبة والفريسيين الذين سينضمّ اليهم في وقت الآلام الصادوقيون والرؤساء، أبناء هذه الدنيا (لو 20: 34).
وها نحن نقدّم أربعة أمثلة تدلّ على هذا التباين: 1- العشار أو جابي الضرائب والفريسي (هناك صلاة وصلاة، لو 18: 9- 14). 2- تطهير الهيكل الذي كان بيت صلاة فصار مغارة لصوص (لو 19: 46). 3- اللصان على الصليب. واحد يقف في خط ابليس فيطلب آية تعيده إلى حياته السابقة. وآخر يقف في خط الله. يلتقي يسوع، يحاوره حوار الصراحة. وإذ يخسر حياته، يجدها في اليوم عينه في الفردوس (لو 23: 39- 49). 4- التعارض بين أبناء هذا العالم وبين أبناء النور (لو 16: 8؛ 20: 34).
ويدّل لوقا على هذين الموقفين المتعارضين بالطريقة التي بها ينظر الناس إلى يسوع ويجادلونه: من جهة، نظرة متحرٍّ وحديث يحاول أن يوقع يسوع: لم يبدأ الحوار حقًا، بل هو ينتهي في نار من البغض. هذا هو فشل الاتصال بين يسوع والذين يشهّرون به. ومن جهة ثانية، نظرة تقبّل وسماع (يمتدح يسوع السماع، لو 11: 28- 31؛ يدعو إلى السماع، لو 14: 35؛ 16: 29). نجاح الاتصال المحرّر (لو 12: 1، 20: 45، 21: 37- 38). وعكس ذلك، فشل الحوار وصعود البغض (لو 11: 47- 53). الحوار المستحيل (لو 20: 1- 8) وصمت الخصوم (لو 14: 6، 20: 26) والنظرة المتحدّية والشريرة (لو 14: 1؛ 20: 20). وأخيرًا تعارض المواقف (لو 14: 6 و14: 7). إن لوقا يشاهد من جهة قلوبًا تنفتح على الآخر، وبالتالي على الحب، ومن جهة ثانية قلوبًا تنغلق (ينزل الستار) فتبقى في البغض.

ج- علاقات الاشخاص بيسوع
إن العلاقات بين هؤلاء الاشخاص ويسوع في الانجيل، تدلّ على علاقات الناس في العالم. لا موقف حياديًا بالنسبة إلى يسوع. ونحن لا نستطيع أن نراقب الله عن بعد، أو نتوقّف عند صورة جامدة عن العلي. لم ينسَ لوقا البعد الفاعل للاية، البعد الحقيقي والاسراري. ففي يسوع، إقترب حبّ الله وسلطانه من البشر. فحين يطرد يسوع الشياطين، فهو يفعل بإصبع الله (لو 11: 20). وأشفيته وأمثاله تجعل ملكوت الله نفسه قريبًا بل حاضرًا بصورة سرّية. والأمثال عن رحمة الله (لو 15: 3- 32) تجيب على اتهام وُجِّه إلى يسوع نفسه (لو 15: 1- 2: "يرحِّب بالخاطئين ويأكل معهم"). ولقد قالت: "من سمع إليكم سمع إليّ. ومن رفضكم رفضني. ومن رفضني رفض الذي أرسلني" (لو 10: 16).
إذا كانت النظرة المرسومة هنا صحيحة، فكيف نفسّر خبر الآلام والخطبتين الجليانيتين؟ إن موت يسوع هو في نظر لوقا ساعة الحضور وسلطان الظلام (22: 53). ذُكر اسم الله أكثر من مئة مرة في لو 1- 21، ولم يُذكر إلاّ عشر مرات في ف 22- 24، فكان توافق بين الاسلوب والموضوع. الخصم حاضر هنا، وهو يعود إلى المسرح (لو 22: 3: دخل الشيطان في يهوذا). هو لا يستطيع أن يجرّب يسوع كما فعل في بداية حياته (4: 1- 13)، ولكنه يقدر أن يمتحنه. الذين لا يدخلون في حوار الحب، يعاندون وقد قوي سلطانهم، لأن يسوع رفض اجتراح المعجزات. جاء يطلب في الضعف ما قد فُقد، فذهب إلى النهاية، وجعل من موته علامة حبّه. يشير لوقا بطريقة كتومة إلى أن هذا الخيار يوافق خيار الله نفسه. الله حاضر سريًا وراء المتآمرين وهو ينتظر (رج لو 22: 23؛ أع 2: 23).
أما الخطبتان الجليانيّتان (لو 17: 20- 37؛ 21: 7- 36) فتدلاّن على أن العلاقة بالمسيح، وبالتالي بالله، لم تكن كاملة: كل شيء لا يتم في ميتانويا (ارتداد) مفاجئ لا قيمة له. تبقى العلاقة تجاه المسيح، وهي لا تشبه سعادة إنسان وصل إلى كل مبتغاه. نحن أمام الله في موقف الايمان والانتظار والصلاة والسهر والمثابرة. نحن بين زمنين: زمن الدعوة إلى الوليمة، والوليمة نفسها (لو 14: 15- 24). سنرفع رؤوسنا فيما بعد، وحينئذ يكون خلاصنا قريبًا (لو 21: 28).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM