الفصل الخامس والعشرون: إله يسوع المسيح إله يطلب كل شيء

الفصل الخامس والعشرون
إله يسوع المسيح
إله يطلب كل شيء

ليس "إله الخطأة" هذا إله التسويات الذي يقنع بأنصاف عطايانا. فمتطلّباته جذريّة. وهو لا يرضى أن يقاسمه أحد مكانه في حياتنا. ليس إلهًا يرضى بعدد من الممارسات. إنه يطلب قلب الانسان. هذا ما نتوسّع فيه في نظرتنا الثانية إلى إله يسوع المسيح.
تبدأ الصلاة التي يتلوها اليهودي التقيّ صباح مساء بكلمات تث 6: 4- 5: "إسمع يا اسرائيل: الربّ الهنا ربّ واحد. فأحبّ الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك". هل من متطلّبة أكثر جذريّة من هذه المتطلّبة. يبقى علينا أن نجعلها واقعًا ملموسًا في حياتنا. هذا ما يعمله يسوع فيقف بوجه الباحثين عن طمأنينة في تجميع ممارسات "تكفي" الله. فكأنهم يريدون أن يفلتوا من واجب العطاء الكامل "بكل القلب والنفس والقدرة".
برزت لنا صورة أولى لوجه إله لا "يستولي" عليه الاتقياء ويحتكرونه. ففرضت النتيجة نفسها علينا: لا نستطيع أن نحبّ حقًا هذا الاله، دون أن نجعل سلوكنا مع "الآخرين" (الذين يختلفون عنا) يطابق سلوكه. وهنا يسير يسوع في طريقه إلى الغاية. إذا أردنا أن نتشبّه بالله نحبّ أعداءنا. وتبدو متطلّبات يسوع واضحة حين يحدّثنا عن ثقة تامّة تنبع من محبّة الله لنا، وعن اهتمام بأن لا نطلب إلاّ رضاه وحده. ويسوع لم يكتف بأن يعلّم. فقد سلّم نفسه بكليّتها إلى الله الآب وخاصّة في ساعات الفشل. قال من أعلى صليبه: "يا أبت، في يديك أستودع روحي" (لو 23: 46).

1- إلهنا إله نقتدي به
حين نطالع متّى ولوقا، يبدو النداء بأن نقتدي بالله في أساس وصيّة يعطيها يسوع: "أحبوا أعداءكم" (مت 5: 44- 45؛ لو 6: 35). يقول مت: "أحبّوا أعداءكم، وصلّوا لأجل مضطهديكم" (5: 44). وكرّر لوقا "أحبّوا أعداءكم" (6: 27، 35). وزاد: "أحسنوا إلى مبغضيكم، وباركوا لاعنيكم، وصلّوا لأجل المسيئين لكم... أحسنوا واقرضوا غير راجين شيئًا".
فالسلوك الذي يطلبه يسوع من سامعيه، يميّزهم من العشّارين والوثنيين، حسب متى (5: 46، 47)، ومن الخطأة، حسب لوقا (6: 32، 33، 34). نحن هنا أمام نتيجة سلبية بالنسبة إلى هدف إيجابي وهو: "لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات. لأنه يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل غيثه على الأبرار والفجّار" (مت 5: 45). أو كما قال لوقا: "فتكونون أبناء العلي. لأنه صالح لناكري الجميل والأشرار" (6: 35) وينهي لوقا دعوته إلى الاقتداء بالمسيح: "كونوا رحماء كما أن الله أباكم رحيم" (لو 6: 36).
"أحبوا أعداءكم" تترجم رفضًا بأن نضع حدودًا في واجب محبّتنا للقريب. وهكذا نقتدي بالله الذي يُظهر رحمته حين يمنح عطاياه لجميع البشر. يعطيهم الشمس والمطر. وهذا الاقتداء بالله لا يجد مكافأته فقط في لقب "ابن الله" الذي يُعطى لنا في الدينونة الاخيرة (مت 5: 9). بل يدلّ على بنوّة يعيشها الآن أولئك الذين يتشبّهون في سلوكهم بإله يدعونه أباهم. فالزمن الحاضر هو زمن الكشف عن لطف الله تجاه الذين لا "نحسبهم أهلاً". وهذا اللطف هو ما يميّز تصرّف الابناء الحقيقيين.
ويبدو واجب الاقتداء بالله بشكل مصوّر في مثل العبد القاسي (مت 18: 23- 34). فالمحطات الثلاث الكبرى في الخبر تبرز في استعمال الاسلوب المباشر. أولاً: صلاة العبد الذي يطلب مهلة لكي يفي دينًا تتجاوز قيمته المعقول: "أمهلني يا سيدي فأوفيك كل ما لك عليّ" (آ 26). ثانيًا: طلب العبد من رفيقه (والدين معقول ويمكن إيفاؤه): "أمهلني فأوفيك" (آ 29) ثالثًا: وتشدّد الموازاة بين الطلبين على التعارض بين سخاء سيّد لا حدود له، وبخْل عبد نعمَ بهذا السخاء. "أما كان يجب عليك أن ترحم صاحبك مثلما رحمتك" (آ 33)؟
إن الغفران العظيم الذي حصلنا عليه من لدن الله يوجب علينا أن نجعل سلوكنا يوافق سلوك الله. فنترك للآخرين ديونًا بسيطة جدًا.
وهكذا يحدّثنا الانجيل عن واجب الاقتداء بالله، فيبرز وجه إله مليء باللطف والرحمة تجاه أناس قد يستحقّون قساوة من قبله.

2- إله نسلّم إليه ذواتنا بكليتها
ونعود إلى خطبة الجبل فنجد سلسلتين من التوجيهات تتعلّق بمحبة الله. الأولى تتحدّث عن الصلاة: لا يكن تلاميذ يسوع مثل الوثنيين بحيث يظنّون أنه بكثرة صلاتهم يُستجاب لهم. ويعلن يسوع: "لأن أباكم عالم بما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" (مت 6: 8). وفي معرض الحديث عن المأكل واللباس الضروريّين من أجلنا، لا نهتمّ كما يهتم الوثنيون. "فأبوكم السماوي يعرف أنكم تحتاجون إليهما" (مت 6: 32؛ لو 12: 30). ففي كلا الحالين، يتميّز المؤمن من الوثني ويستلهم في موقفه الصورة التي يتصوّرها عن الله.
ثم يأتي في مت 6 تعليم عن خطر التعلّق بالخيور المادية على حساب التعلّق المقصور على الله. هناك تحذير من الاهتمام باللبس والمأكل. وهو ينتهي بتوجيه إيجابي: "اطلبوا ملكوته" أي ملكوت الآب (مت 6: 33؛ لو 12: 31). وفي كل مراحل هذه التحريض يدور الحديث على الله.
دعا يسوع سامعيه لينظروا إلى الغربان التي لا ينقصها شيء من أجل الطعام. "وأبوكم السماوي يرزقها". وإلى زنابق الحقل التي تلبس حلَّة لم يلبس سليمان مثلها في كل مجده. ويتحدّث يسوع كالحكماء فيرى في هذين المثلين البرهان على اهتمام الله بأصغر خلائقه. أتراه لا يعتني بأولاده (مت 6: 26- 30)؟
مثل هذه الاهتمامات تليق بالوثنيين الذين لا يعرفون الله. ولا تليق بمؤمنين لا يجهلون أن الله يعرف ما يحتاج إليه أبناؤه (مت 6: 32).
هناك نداء: أطلبوا ملكوته. ويتبعه وعد: "وهذا كله تزادونه" (لو 12: 31). إن صيغة المجهول تدلّ على الله الذي يتدخّل من أجل أبنائه. هنا نصل إلى ذروة حديث يسوع. فالاعتبارات المرتكزة على العناية التي بها يحيط الله مخلوقاته وعلى التذكير بمعرفة الله، يتبعها وعد واضح ولكنه يرتبط بمتطلّبة جذرية هي: أن نطلب فقط (لا أولاً) ملكوت البرّ والمحبّة الذي يريد الله أن يقيمه على الأرض. فالذي يلزم نفسه إلزامًا كليًا في مشروع الله للبشر، عليه أن يثق به ثقة تامة فيما يخصّ الأمور الاخرى (من طعام ولباس).
والنداء إلى طلب ملكوت الله طلبًا ينفي أي همّ آخر، يبدأ بقول مأثور: يستحيل على عبد (أو: خادم) أن يخدم (يتعبّد) سيّدين. "إما أن يبغض الواحد ويحبّ الآخر. وإما أن يتعلّق بالواحد ويحتقر الآخر". ويأتي التطبيق حالاً: "لا تقدرون أن تعبدوا (تخدموا) الله والمال" (أو: مامون. يعني ما نؤمن ونثق به). لقد صار المال شخصًا حيًا، صار وثنًا شيطانيًا نتعبّد له ونفضّله على الله. حين يتعلّق قلبنا بالمال، يجتاحه المال اجتياحًا تامًا. إذن، لابدّ من الخيار. ويستحيل أن نقسم قلبنا. إذا كان المال متطلبًا، فكم يكون متطلبًا الاله الذي يعلن يسوع ملكوته؟ إنه يريد كل شيء.
والامانة التامة في تتميم متطلّبات الله، لا تعطينا حقًا على الله. قال يسوع: "إذا عملتم كل ما أمرتم به فقولوا: نحن خدم (عبيد) بطّالون (أو: عاديّون). وما فعلنا إلاّ ما كان يجب علينا أن نفعل" (لو 17: 10). فحين يقبل تلميذ يسوع بصورة لإله لا يقبل أي شرك (نشرك معه "صنمًا") أو مقاسمة، يكون موقفه موقف الثقة المتواضعة. موقف الطفل الذي يستسلم كليًا إلى حنان أبيه.

3- في وقت الفشل
بعد أن نقرأ أربعة أمثال انجيلية، نتوقّف عند صلاة يسوع في الجسمانية.
يسترعي انتباهنا مثلُ الزارع (مر 4: 3- 8) من أجل الخبرة التي يعكس وردّة الفعل لدى يسوع. نجد فيه للوهلة الأولى أربع لوحات: تبّ سقط على جانب الطريق. حبّ سقط على أرض حجرة. حب سقط في الشوك. حب سقط في الأرض الطيبة. وما كانت النتائج؟ لا نتيجة مباشرة أبدًا. نتيجة تبشّر بالخير ولكنها لا تدوم. نموّ النبتة ثم موتها. بعد هذا، ثلاثون. ستون، مئة حبة لقاء كل حبة. كل هذا يدلّ على نظرة متفائلة.
في هذا المثل الذي أراد فيه يسوع أن يبدّل نظرة سامعيه إلى الأمور، نجد وجهين متعارضين. يرى السامعون أننا أمام فشل تام. أما يسوع فيرى النجاح في النهاية. لا ينكر المثلُ الفشل، ولكنه يُتبعه بخبر النجاح الباهر. ونتساءل: من أين جاء يسوع بهذا اليقين بالنجاح النهائي؟ لأنه متأكّد أن الله يعمل معه في رسالته. إن يقين يسوع يستند كله إلى الله.
ويقدّم مثل الزرع الذي ينمي وحده (مر 4: 26- 29) موضوعًا مماثلاً. كان يسوع قد تحدّث عن رسالته على أنها الوقت الذي فيه بدأ الله مبادرة ستصل إلى مجيء الملكوت على الأرض. ولكن شيئًا لم يتبع هذه البداية. فكأن الله لا يبالي بما يحدث، كأنه غائب. هذا ما فكّر به سامعو يسوع. أما هو فأجاب أن سلوكه يشبه سلوك فلاّح يزرع ولا يعود يهتمّ بحقله إلى وقت الحصاد. ويسوع متيّقن من تدخّل الله. وخيبات الأمل والشكّ عند سامعيه لا تؤثّر على هذا اليقين.
ولا تختلف خلفيّة مثل حبة الخردل (مر 4: 30- 32؛ مت 13: 31- 32؛ لو 13: 18- 19) ومثل الخمير في العجين (مت 13: 33 لو 13: 20- 21) عن خلفية المثلين السابقين. فحبة الخردل هي أصغر الحبوب وهي تعطي شجرة كبيرة جدًا. وقليل من الخمير يحوّل ثلاثة أكيال، وهذه كمية تتجاوز حاجات الحياة اليومية تجاوزًا كبيرًا. كل هذا يقابل الحدث الذي تشكّله رسالة يسوع وتعليمه عن مجيء ملكوت الله. يقول يسوع: لا مناسبة بين الاثنين. ولكن من هذه البداية الحقيرة سيخرج ملكوت الله في كل مجده. نحن هنا أيضًا أمام اليقين عينه: الله يعمل. هو الذي بدأ وهو الذي يكمّل.
إن أنواع الفشل التي تتوزّع حياة يسوع التبشيرية تقود إلى الفشل النهائي، فشل موته على الصليب. ولقد تعرّف التقليد المسيحي القديم إلى عواطف يسوع حين عاش هذه المأساة. هتف: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني" (مر 15: 34؛ مت 27: 46؛ رج مز 22: 1)؟ فحين اختبر تخلّي الله عنه، تعلّق بالله وتشبَّث. ظلّ واثقًا بالله وان بدا غائبًا.
ولكن يسوع سيواجه هذا المخرج القاسي في صلاة الجسمانية. هذه الصلاة تفسّر مسبقًا ولْيَ الأحداث وتلقي على علاقات يسوع بأبيه ضوءًا نودّ أن ننهي به هذا الفصل (مر 14: 32- 42).
يورد الخبر إيرادًا واسعًا تعاليمَ أعطاها يسوع لتلاميذه. ولكنه يبقى مع ذلك مركزًا على صلاة يوجّهها يسوع إلى أبيه. نلاحظ أنه يتكلّم خمس مرّات. مرتين يتوجّه إلى تلاميذه. قال لتلاميذه: "اقعدوا هنا بينما أصلّي". وقال لهم: "نفسي حزينة حتى الموت". مرّة يتوجّه إلى الآب: "أبّا، أيها الآب! أنت قادر على كل شيء". ثم يوجّه كلامه مرتين إلى التلاميذ. قال لبطرس: "أنائم أنت، يا سمعان"؟ وفي النهاية قال لهم (= التلاميذ): "ناموا الآن واستريحوا (أي: عافاكم. أو: لم تعد حاجة إلى السهر).
تورد آ 32 و39 صلاة يسوع ولا تحدّدان موضوعها. وتتحدّث آ 35 عن صلاته لكي ينجو من "الساعة". وآ 38 عن صلاة التلاميذ لينجو من التجربة. وفي وسط كل هذا، تورد آ 36 صلاة يسوع لكي يتجنّب "الكأس" التي يجب عليه أن يشربها.
نقابل هنا بين مشهد التجلّي ومشهد الجسمانية. في التجلّي "تحوّل" يسوع على الجبل (9: 2). أما في بستان الزيتون فحلّت به الرهبة والكآبة (14: 33). هتف الآب على جبل التجلي: "هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا" (9: 7). وكانت صلاة يسوع في الجسمانية: "أبّا، أيها الآب. أنت قادر على كل شيء. فأبعد عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أريد. بل كما أنت تريد" (14: 36). إن البنوّة لا تمنح يسوع فقط سلطة تفوق البشر، بل تفرض عليه خضوعًا لإرادة الله التي تحاول الطبيعة البشرية أن تثور عليها.
بدأت صلاة يسوع بنداء يتوجّه إلى الله. "أبّا، أيها الآب". أبّا هي كلمة يوجّهها الولد إلى والده داخل العائلة والبيت. وفسّر مرقس الكلمة أبّا أيها الآب. هذه الكلمة ستلهم صلاة المسيحيين على خطى المسيح فيهتفون: "أبّا، أيها الآب" (غل 4: 6؛ روم 8: 15).
وردت هذه الكلمة على شفتي يسوع ساعة اصطدمت إرادة يسوع البشرية بإرادة الله. حينئذ صارت هذه الثقةُ التامة التي يدلّ عليها هذا النداء، طاعةً تامة. "لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت". فالساعة التي قضاها يسوع في بستان الزيتون تبقى مغلّفة بالسر. ولكن الطريقة التي بها رفع الانجيلي زاوية من هذا السر، تجعلنا نستشفّ بعض العمق في عاطفة يسوع الذي سلّم ذاته بكليتها في تلك الساعة بين يدي أبيه.

خاتمة
إن لقب "إله يسوع المسيح" كان يمكن أن يكون عنوان حديث يدلّ على أمانة يسوع لديانة شعبه. ولكننا شدّدنا بالأحرى على ما يميّز إله يسوع ممّا يتمثّله أهل التقوى في عصره. نستطيع القول إن يسوع يرفض وجه إله يحصر دوره في ممارسة شريعة وفي توزيع مجازاة لأعمال نقوم بها.
قلنا في فصل أول إن إله يسوع لا تستأثر به نخبة دينيّة تعتبر أن أمانتها لله تجعلها تفرض نفسها على الله. ولكن إله يسوع هو إله المرذولين والمحتقرين والذين يرفضهم مجتمع يحسب نفسه فوق الآخرين.
ونقول في هذا الفصل إن إله يسوع هو إله يحمل على محمل الجدّ المتطلّبات المطلقة والجذرية التي عبّرت عنها أسفار الشريعة والانبياء. فمن اعتبر أنه يستطيع أن يرضي الله ببعض الممارسات، كان كمن يهزأ منه. ما يطلبه الله هو قلب الانسان. هو كيان الانسان كله ولا يرضى معه شريكًا يقاسمه هذا "الامتلاك". على هذا المستوى نشبهه في سلوكنا تجاه كل الذين يحبّهم بدءًا بالذين هم بعيدون عنه أو بعيدون عنّا. على هذا المستوى، يطلب منا أيضًا ثقة تامة في الأوضاع الحرجة التي نعرفها في حياتنا. إذا كنا نعطي حياتنا كلها لله، إذا كنّا لا نتعبّد لسواه، فهل نشكّ لحظة أنه لن يكون لنا ذاك الأب الذي ناداه يسوع "أبا" (كالطفل مع أبيه) في ساعة نزاعه، والذي يناديه المسيحيون أبا، أيها الآب، فيحسّون حقًا أنهم أبناء الله؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM