الفصل الثالث والعشرون :العنصرة والعهد الجديد في التقليد السرياني

 

 

الفصل الثالث والعشرون
العنصرة والعهد الجديد في التقليد السرياني

اكتشفنا في فصل سابق كيف أعاد الروح الوحدة بمعجزة الألسن. ولكن لا بدّ من التشديد على أن هذه الوحدة لا تتحقّق إلاّ بمشاركة الأقانيم الالهيّة الثلاثة. فالوحدة التي حملها الروح ليست فقط اندماجًا بسيطًا بالكنيسة، جسد المسيح، بل لقاء شخصيًا بين المؤمن ويسوع المسيح في تنوّع المخلّصين المختومين بختم الروح. فهذا الروح "يسكرنا بشراب نعمته... ويُزيّنّا بغنى مواهبه" كما يمكّنّا بتقديس شخصيّ بأن نكون في جسد المسيح ونلتقي به. ولكن يبقى أن الانسان يستطيع دومًا أن يرفض هذه الحياة الجديدة التي يقدّمها الروح له وبالتالي أن يتمنّع عن كل لقاء مع المسيح وانفتاح على سرّه الفصحيّ. وهنا تكمن دراما سرّ رفض المسيح لدى شعبه، ورفض هذا الشعب للروح. وهنا يكمن أيضًا موضوع اختيار شعب جديد، هو الكنيسة التي هي جماعة أشخاص "يطلبون ملئهم في الروح" (أف 5: 18).

1- رذل الشعب
إن رذل الله للشعب الذي عارض الروح القدس دومًا، كما قال اسطفانس (أع 17: 51) هو عقاب رفضه للمسيح. ففي نص ليتورجيّة يوم الجمعة العظيمة، نرى الروح يترك أورشليم ويسير في الطريق الذي سار فيه المسيح، دلالة على احتجاجه ضدّ العمل الشيطاني الذي تمّ في المدينة المقدّس. "في الصباح، خرج المسيح من أورشليم الحمقاء وهو يحمل صليبه. وخرج الروح أيضًا منها، وترك الهيكل قائلاً: الويل لك يا أورشليم، لأن أبوابك أقفلت وأعيادك أبطلت". ونقرأ أيضًا نصًا آخر يبيّن لنا الروح ممزّقًا ستار الهيكل كدليل على خروجه النهائي من البيت النجّس. "ترك الروح القدس البيت (= الهيكل) الذي نجّسه النجسون. وشهد على ذلك ستار الباب الذي لم يشقّه أحد سوى الروح. تعالوا جميعًا نسجد ونركع له".
قبل أن نتوقّف عند المدلول اللاهوتي لهذين النصين، نعرف أن الموضوع الذي عرضاه هو قديم جدًا. فخروج الروح من الهيكل الذي يذكّرنا بمجد الله الذي يترك الهيكل (حز 10: 18- 19؛ 11: 22- 23)، قد يجد جذوره في العالم اليهودي المتأخّر الذي تحدّث عن ملاك حرسَ الهيكل وتركَه ساعة دماره على يد تيطس الروماني سنة 70 ب م. واستعادت المسيحيّة الأولى هذا التقليد وربطته بتمزّق ستار الهيكل ساعة موت يسوع. وحين مات المخلّص، يقول التقليد المسيحيّ إن الملاك (أو الملائكة) ترك الهيكل. فهناك مؤلّف يعود إلى القرن الأول وإلى محيط سرياني هوّ "وصيّات الآباء الاثني عشر" قد أعطى نسخة عن هذا التقليد فجعل الروح يحلّ محلّ الملاك. إليك هذا النصّ كما نقرأه في وصيّة بنيامين (9: 4): "سوف يتمزّق حجاب الهيكل وينزل الروح على الأمم كنار مفاضة".
هذا المقطع يجعلنا نستشفّ حدث العنصرة: لقد ترك الروح الهيكل ليهب نفسه للمؤمنين. وهذه الفكرة تعبّر عنها بوضوح "ديدسكليّة (تعليم) الرسل". فنحن نقرأ في ف 12 الذي وُلد في محيط سريانيّ وامتلأ بتمثّلات يهوديّة، ما يلي: "بما أنه ترك الشعب اليهوديّ، لم يترك لهم سوى هيكل مدمَّر. مزّق حجاب الهيكل وأخذ منه الروح القدس وأرسله إلى الأمم التي آمنت كما قيل في يوئيل: أفيض كل روحي القدس على كل البشر. إذن، أخذ الروح من هذا الشعب قدرة الكلمة وكل خدمة، وجعلها في الكنيسة".
نلاحظ الإشارة الواضحة إلى الشعب في هذا المقطع من حدث العنصرة حيث يؤخذ الروح من شعب لم يؤمن وأعطي للأمم التي آمنت. كما نلاحظ القرابة مع النصين اللذين ذكرنا سابقًا. نحن هنا في الحقيقة أمام موضوع هامّ جدًا في الجماعات المسيحيّة الأولى التي وُلدت في العالم اليهودي. فهو يعكس حقيقة وجوديّة في حياة الكنيسة، في حياة الجماعات الساميّة. فقد كان هاجسها أن تبرّر على ضوء الخبرة الجديدة للروح الذي أفيض في القلوب، طريقة حياتها الجديدة. وعت أنها شعب الله الجديد، شعب العهد الجديد، حيث تحقّقت جميع مواعيد العهد القديم وآماله، فبرهنت ذلك لليهود مستندة إلى ما هو أساسيّ لديهم، عنيت به الهيكل.
وإذا أردنا أن نفهم المعنى اللاهوتي لهذا البرهان ومرماه الفكري، نتذكّر ما كان الهيكل بالنسبة إلى التقوى اليهوديّة، ونفهم الطابع الدراماتيكي الذي شكّله للشعب العبراني خروج "الروح من أورشليم" ومن الهيكل بعد أن "مزّق الستار وألغى الأعياد". هناك عقيدتان تميّزان العالم اليهوديّ. وحدة الله، واختياره لشعب خاص به. وقد كانت أورشليم بهيكلها الموضع الذي تجتمعان فيه: فهناك يلتقي الله القدوس بشعبه في شكل مميّز. وحين خرج الروح، وضع حدًا للعهد القديم، طلّق الزوجة الخائنة، وألغى وعد سيناء.
كان الشعب اليهوديّ مملكة كهنة وأمّة مقدسة (خر 19: 6). وحين ترك الروح أورشليم انتزع منها الخدمة الكهنوتيّة. نشير هنا إلى أن هذا الوعد قد وجد تحقيقه الكامل في شعب الله الجديد، في الكنيسة، حيث يُدعى المسيحيّون "جيل مختار، كهنوت ملوكيّ، أمّة مقدسة، وشعب مقتنى" (1 بط 2: 9). ونقرأ في النصوص الليتورجيّة: "حين خرج الروح من هيكل تلك (أورشليم) التي صلبت المسيح، وشقّ حجاب الباب، دلّ على أن كهنوتهم (= اليهود) قد انشقّ".

2- اختيار الشعوب والعهد الجديد
ولكن إذا كان الروح قد ترك شعبًا رفض أن يتقبّل البشارة وفضّل الظلمة على النور (يو 3: 19)، فلكي يقيم في المذابح والكنائس التي أسّسها الرسل. هذه الفكرة التي قرأناها في "ديدسلكيّة الرسل" نجدها أيضًا في النصوص الليتورجيّة التي تشدّد على الروح الذي يترك الشعب العبراني ليهب ذاته لجماعة المعمّدين الجديدة. "مال الروح عن مذبح (= هيكل) هذا الشعب الذي صلب الابن، وجاء يقيم في مذابح وكنائس أسّسها الرسل". في هذا المجال نقرأ حوارًا بين هيكل أورشليم والكنيسة، وهو يبدأ بهذه الكلمات: "أجاب الهيكل وقال: الروح تركني".
وبعد ذلك تذكر الليتورجيا السبب الذي دفع الروح إلى مثل هذا التصرّف الجديد: إذا كان البارقليط يقيم في كنيسة الأمم، فلأن الكنيسة اختيرت لتحلّ محلّ القديم الذي ألغي الآن. "لنشكر الروح الذي دعا الأمم ورذل الشعب. وها هي تنشد مديحه بأصوات هوشعنا" (الاربعاء السادس من الصوم، منسوب إلى يعقوب).
وهذا الاختيار للأمم التي تنفتح على المسيح وتتّحد به، كان قد أقرّه الآب في الأصل وأنبأ به بواسطة أشعيا النبيّ. "هذا ما أعلنه أشعيا النبيّ للكنيسة المقدّسة قائلاً: ها هي الأمم تجتمع من كل الأقطار وتأتي إليك. تحمل لك بنيك وبناتك الذين تشتّتوا في عبادة الأصنام. واسم الربّ إلهك يملك في السماء وعلى الأرض. الروح القدس يغسلك من نجاستك ويسكن في هيكلك المقدّس، والثالوث الاقدس يكون مخدومًا فيك" (صباح الاسبوع 12 بعد العنصرة، رج أش 60: 1- 4). في هذا المجال نتذكّر أفراهاط في مقالته السادسة عشرة التي فيها يعرض أن الأمم اختيرت محلّ الشعب العبراني وهذا أمر أنبأ به الأنبياء.
ونقرأ أيضًا في صباح الاربعاء السادس من الصوم ما قاله يعقوب السروجي: "المجد للآب الذي اختار الكنيسة، والسجود للابن الذي ترك الجماعة التي لم تقبله. والشكر للروح الذي دعا الأمم ورذل الشعب". كما نقرأ عند ساويروس الانطاكي العظة 117 حول المرأة الخاطئة (لو 7: 36- 50): ماهى بين سمعان الفريسي والمجمع (أي العالم اليهودي)، وبين الخاطئة والكنيسة. رذل المجمعُ الكلمةَ الذي صار بشرًا، وآمنت الكنيسة به إيمانًا حرًا في شخص تلك المرأة. "ساعة كانوا لا يصنعون شيئًا حول المائدة، ويرقدون على سرير الطعام، ولا يأكلون كما يليق بأولئك الذين يرغبون بالالهيّات، ذاقوا وحالاً شبعوا وجدّفوا. فيعقوب أكل وشبع والحبيب لبط (تث 32: 15). ودخلت إليه المرأة التي خطئت، دخلت إلى البيت. والكنيسة جاءت بنفسها، وهي التي اجتمعت من الشعوب الذين في المسكونة، وآمنت طوعًا بالمسيح الذي اتكأ إلى المائدة مع الظالمين وناكري الجميل".
وهكذا نكون الآن كما كان الامر في سيناء في الماضي: خُتم بعهد اختيارُ الشعب الجديد بالروح. قال البابا سيريقيوس: "كما أن الحمل هو صورة الفصح، كذلك عطيّة الشريعة هي صورة الكرازة الانجيليّة. ففي يوم واحد، يوم العنصرة، أعطيت الشريعة ونزل الروح القدس على التلاميذ فقوّاهم لكي يعرفوا كيف يكرزون بالشريعة الانجيليّة".
ولكن هذا التقارب يُخفي اختلافات كبيرة. العليّة سمّيت جبل صهيون. غير أنه في سيناء استحوذت الرعدة على الشعب الذي أحسَّ أنه مائت إن هو لمس أسفل الجبل. أما هنا، فجميع المؤمنين يقتربون ويقفون على الجبل الذي لا يُدنى منه، بلا خوف ولا رعدة، بل كأبناء الله الذين ينعشهم روح الحريّة ويقودهم فلا ينقادون للشريعة (روم 8: 14؛ 5: 18). لهذا يُنشد المؤمنون في صباح العنصرة: "لا نخف من عنف النار التي تحرق هذا الجبل الذي لا يقرب منه، بل لنتقدّم ونقف على جبل صهيون، في مدينة الملك العظيم، ومع الرسل الذين ارتدوا المجد ونهتف ونقول: يا جميع أعمال الربّ، سبّحوا الرب الاله واشكروه وامدحوه وباركوه إلى الأبد".
من جهة، تسلّم موسى من الربّ شريعة على حجر تعني شعبه الذي يترأس عليه. أما في العنصرة، فتسلّم سمعان بطرس شريعة من نار، تلك النار التي جاء المسيح يرميها على الأرض وهي لا تزال تحرق الناس الذين ينتمون إلى جميع الشعوب بقيادة بطرس. "حين صعد موسى على الجبل ليحمل لوحي الشريعة، كانت سيناء كلها مدخنة وتدوّي فيها أصوات عنيفة (خر 19: 16- 20). وحين تسلّم سمعان بن يونا شريعة النار، ظهر الروح القدس وتوزّع بشكل ألسنة من نار. قاد موسى شعبًا واحدًا، أما سمعان بطرس فقاد جميع الشعوب". وقال موسى بركيفا: "يعيّد المسيحيّون العنصرة لأنه في ذلك اليوم أعطيت لهم الشريعة الجديدة".
ومن جهة ثانية، دلّت شريعة موسى أنها لا تقدر أن تبرّر اسرائيل وتحييه. أما شريعة الروح التي تدعو الانسان من الموت إلى الحياة، فقد أعطيت كدواء لعجز الأولى التي كانت ينبوع لعنات للذين انتموا إليها. ثم هي أعطيت لتبرّر وتحيي. لا أمّة واحدة وحسب، بل جميع الأمم أيضًا. هذا ما يقوله موسى بركيفا.
دُمّر العهد القديم، ولكن خُتم الجديد بالروح فدام إلى الأبد. فالايمان بالثالوث الذي هو أساسه الذي لا يتزعزع، لن يحطّم ولن يُلغى بفضل الحضور الشخصيّ للبارقليط في قلب المجاعة المسيحيّة. "حين خرج الروح القدس من هيكل تلك التي صلبته، وشقّ ستار الباب، بيّن أن كهنوتهم إنشقّ. وحين دخل العليّة دون أن يشقّ الابواب (والابواب مقفلة) أعلن لهم فعرفوا أن الايمان بالثالوث لن يحطّم أبدًا". هذا ما نقرأ في صباح العنصرة. ونقرأ في مقطع آخر أن الروح يحمي الكنيسة من الانشقاقات. وأن الروح هو مع الكنيسة حتى نهاية العالم. وفي صلاة الاسبوع الرابع بعد العنصرة: وديعة الايمان يحفظها الروح من كل خطر. ويقول ساويروس الانطاكي في العظة 112: تأسّست الكنيسة على إيمان آباء مجمع نيقية أي على الثالوث الذي دافع عنه هؤلاء الآباء بوجه الهرطقات.
ونقرأ في صلاة الساعة الثالثة للأحد الأول بعد العنصرة: "نسجد لك أيها الرب الاله، يا روح القدس البارقليط، يا من تعزّينا وتصلّي فينا... أنت الذي ختمت عهد الكنيسة، عروس الكلمة وابن الله، ووضعت فيها مواهب نعمك وفضائلك. أنت الذي علّمت العالم سرّ الثالوث الأقدس المعبود، وكنت قائدًا لنا من أجل عبادته بالروح والحقّ".
بما أن العهد القديم بطُل ومعه جميع الفرائض والاعياد، بسبب العهد الجديد الذي يدوم إلى الأبد، فهذا يعني أنه كان صورة للعهد جديدًا واعلانًا له. فقد سبق للأنبياء وبيّنوا طابعه العابر وحاربوا فيه الوجهة القانونية الماديّة والعباديّة، وأعلنوا عهدًا جديدًا روحيًا وشخصيًا، يتأسّس في الأزمنة الأخيرة، على اتحاد الرب مع هذه البقيَّة وأمانته. وفي حدث العنصرة التي تُدشّن الأزمنة الاخيرة، أعلن الأنبياء أن هذا العهد الجديد قد وجد ملء تحقيقه. فالروح بمجيئه قد ختم عهد أعراس المسيح مع كنيسته: "يا لفرحة يوم الأحد! أي أسرار سامية تُخفى فيه! فيه القيامة التي بها انتصر العريس السماوي على أعدائه وأبطل كل آمالهم. وفي يوم الأحد أيضًا انتصرت عروسه الكنيسة المقدّسة وارتقت إلى الأعالي. فعهد أعراسها قد تمّ بمجيء الروح القدس البارقليط فيها، وبامتداد في كل الأقطار والبلدان بفضل القهارمة الاثني عشر" (الذين يعملون بقوّة الروح) (مساء الأحد السادس بعد العنصرة).
وهكذا يزول العهد القديم الذي هو "عقد" قانونيّ بين الله وشعبه، بين اللامنظور الذي يفرض نفسه من الخارج على الانسان الذي يستمع إليه في الظلمة والرعدة، ويحلّ محلّه العهد الجديد الذي هو وحدة حياة تتحقّق في لقاء حريّة وحبّ بين شخصين، بين عروسين هما المسيح والكنيسة. وهذا العهد يختمه الروح.
لهذا، صارت الكنيسة اسرائيل الجديد الذي فيه تجد جميع المواعيد الماضية كمال تفتّحها. هي "الشعب المقتنى والكهنوت الملكيّ وجماعة الأحرار الذين نقّاهم المسيح بالماء وقدّسهم بالروح. فصارت الكنيسة منذ ذلك الوقت الكرمة الحقيقيّة التي غرست على سواقي الروح الكهنوتيّة". نقرأ في القومة الأولى من ليل الاثنين المقدّس: "المجد للآب الذي غرس كرمة اسرائيل. والسجود للابن الذي اقتلعها وشتّتها وسط الأمم. والشكر للروح الذي بنى الكنيسة مكانها فأنشدت مديحه في كل آن".
والكنيسة هي العروس التي زيّنها الروح وجمّلها بزينة مواهبه المتنوّعة والمختلفة، فينشد المؤمنون في مساء ثلاثاء الفصح: "اليوم نالت العروس الشريعة، نالت الكنيسة المقدّسة أجمل زينة بفضل مواهب الروح القدس المتنوّعة. لقد امتلأت من بهجة القيامة المحيية ومن نورها".

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM