الفصل الثاني والعشرون:المعجزات التي تمّت يوم العنصرة

 

الفصل الثاني والعشرون
المعجزات التي تمّت يوم العنصرة في التقليد السرياني

تحدّثنا في مقال سابق عن اختلاف جذري حول حضور الروح في العالم. مع العهد القديم، كان حضور بواسطة عمله. أما في العهد الجديد، فحضور الروح حضور شخصيّ. وهذا الحضور يجعلنا في بداية جديدة مع معجزات ومدهشات عديدة. ونحن سنصوّر في هذا الفصل مختلف المعجزات التي أجراها البارقليط المرسَل من الآب بواسطة الابن، لكي نكتشف بداية هذا العهد الجديد وتكوين هذا الشعب الجديد الذي يلتزم بإعلان حدث الفصح على المستوى الشخصيّ كما على المستوى الجماعيّ.
ويتوزّع مقالنا في نقطتين: إلغاء الحكم، بابل الجديدة

1- إلغاء الحكم
في بداية العهد القديم وعلى أثر الخطيئة التي هي رفض لصداقة الله وحياته، قرّر الله أن لا يُقيم روحه بعد في الانسان (تك 3:6). ومنذ ذلك الوقت، ما زالت البشريّة تختبر على المستوى الفرديّ والجماعيّ العبوديّة والضيق والبغض والشرّ والموت. ولكن مع مجيء الروح وُلدت عاطفة جديدة، خبرة تختلف كل الاختلاف عن سابقتها. وهذه الخبرة هي خبرة حياة سعيدة وحرّة، خبرة حياة إلهيّة في يسوع المسيح، خبرة الشركة الاخويّة والكنسيّة بفضل الروح الذي يضمّ البشر إلى القائم من الموت، ويجمعهم بعضهم إلى بعض.
نقرأ في صلاة السلام التي تحتفل بها الكنيسة السريانية في صباح الفصح ما يلي: "امنحنا أيها المسيح في هذا اليوم المقدس والعظيم، يوم قيامتك وقد دفعتنا حرارة روحك القدوس، أن نعطي بعضنا بعضًا قبلة مقدسة، وأن نرتبط في الروح بك وبعضنا ببعض في وحدة روحيّة ولا جسديّة". هي بشريّة جديدة جاءت إلى الوجود. لها قلب واحد ونفس واحدة (أع 4: 32). وهي تعي أن الحكم الذي أصدره الله في الماضي فكان ثقيلاً على العالم، قد ألغي الآن وصار باطلاً. إن الكنيسة تنشد في ليلة الفصح: "اليوم ألغي وبطُل الحكم الذي تلفّظ به الآب حين قال: لن يقيم روحي في الانسان".
ونستطيع أن نسمع أيضًا هذا الكلام الذي يعلنه الشماس بعد قراءة الانجيل في خدمة "السجدة": "أيها الاله القدوس والبارقليط، أنت يا من في هذا اليوم، يوم العنصرة، أي في يوم مجيئك، دمّرت الحكم الذي كان ثقيلاً علينا بسبب خطايانا (تك 6: 3): لن يقيم روحي في الانسان، وأتممت وعد الابن، وأنرت الرسل وعلّمتهم، امنحنا نحن أيضًا بفضل صلاة السجدة هذه التي تقدّم للآب والابن معًا بك يا روح الحق، أن نقطع رباطات الخادع وحيله...".
ما قاله هذا النصان الليتورجيان حول الروح الذي عاقب البشريّة فتخلّى عنها، ثمّ عاد ليقيم فيها أيضًا بعد تمجيد المسيح الذي صالح أباه مع الخليقة، نجده عند افرام السرياني (306- 372) في نشيد يرد في صباح الأحد الأول بعد العنصرة: "الروح الذي ترك البشريّة في الماضي، قد عاد الآن بفضل قيامة المسيح ليسكن فينا ويقيمنا من موتنا". وهذا ما نستشفّه عند غريغوريوس النيصي حين يقول: "اليوم بعد أن تمّت العنصرة حسب الدورة السنويّة، وفي هذه الساعة بالذات أي في الساعة الثالثة، نزلت النعمة التي لا يعبّر عنها: اتّحد الروح من جديد مع البشر". وسيقدّم موسى بركيفا فيما بعد هذا التفسيرفيقول إن إلغاء الحكم السابق بالروح هو سبب أول يدفع المسيحيين إلى اكرام يوم العنصرة والاحتفال به. والسبب الثاني هو الشريعة الجديدة التي أعطيت للمسيحيين في هذا العيد.
هذه النظرة التي نستخلصها من وعي لاهوتيّ متطوّر، تتجذّر وتفسَّر في طرح وطرح مناقض داخل تاريخ الخلاص. نحن نعرف أن نتيجة هذا الحكم الالهي كانت الطوفان الذي دمّر كل حياة وجعل الكون خاويًا خاليًا، وأفقده كل شكل وكل لون كما في زمن البدايات (تك 6: 5- 8: 14؛ رج 1: 2). ولكن بعد إلغاء هذا الحكم وعودة البارقليط الشخصيّة أعيد بناء العالم الذي اهتزّ وتدمّر فأقام فيه الانسان. هذا ما نقرأه في صباح العنصرة: "اليوم ألغي وبطل الحكم الذي أصدره الآب: لن يقيم روحي في الانسان. اليوم زُرعت الكنيسة موضع الكرمة التي أعطت حصرمًا بريًا. اليوم أعيد العالم الذي دمّر وتثبّت باثني عشر عمودًا خرجت إليه من العليّة".
ويمكن أن يقابَل خروج الرسل من العلية مع خروج نوح من السفينة. أمر الله نوحًا فخرج من السفينة ليكون مع عائلته البشريّة الجديدة التي ستقيم أيضًا في الكون الذي دمّره الطوفان (تك 8: 13- 19: 2) فتجعله مأهولاً. وأمر الروح، فخرج الرسل من العليّة ليعيدوا بناء عالم جديد. هاجموا الشرير وأدخلوا الوثنيين وشعب الله القديم في العهد الجديد. قيل: خرج الرسل من العليّة إلى العالم كالمنادين بالروح واقتلعوا جذور الضلال وأسّسوا الكنائس.
وهكذا ظهر الجديد الذي حمله الروح وهو من يعمل عمل الله ويتصرّف تصرّف الله. "نزل الروح القدس في هذا اليوم المقدس ليمتزج بالجنس البشري، فيصبح البشر به أبناء الملكوت". يدعونا التقليد السرياني إلى اعتبار حدث العنصرة بمثابة خلق عالم جديد: يصبح البشر أبناء الملكوت ويعودون إلى حالتهم الأولى، إلى الحريّة التي خسروها، إلى صداقتهم وشركتهم مع الله. وهذا ما خسروه بكبريائهم. والروح الذي يعيد كل شيء ينزل في اليوم العنصرة لكي يعطي الكون الذي أتلفه الشرّ شكلاً جديدًا، ويُسكن فيه بشريّة متجلاّة: بشريّة أبناء الملكوت التي وُلدت في شخص رئيسها في أحد القيامة.

2- بابل الجديدة والوحدة المستعادة
غير أن هذه البشريّة الجديدة التي تكوّن الملكوت، لا تستطيع أن توجد حقًا إلاّ بفضل وحدة قويّة وحميمة تربطها بالمسيح رئيسها وقائدها. فحدث بابل كان من أكبر الشقاءات التي أصابت الجنس البشري بعد العقاب الذي أعلنه الله. فعلى أثر خطيئة كبرياء جماعيّة تشبه خطيئة أبوينا الأولين، حطّم الله وحدة سكّان الأرض وقوّتهم، وبلبل ألسنتهم، وشتّتهم على كل وجه الأرض. ومنذ ذلك الوقت، ما زال الانقسام ينخر الانسان ويدمّر المجتمع. وقد حاول البشر في كل وقت وزمان أن يستعيدوا هذه الوحدة التي هي أساس الديمومة والازدهار، ولكن عبثًا. غير أن الروح، الاله القويّ الذي حطّم في الماضي وحدة البشر، هو الذي يعيد هذه الوحدة بنزوله في العالم. "القويّ الذي بلبل الألسن في برج بابل، وقسّم القبائل التي تشتّتت في أربعة أقطار الأرض، قد صنع الآن عملاً مدهشًا: علّم الرسل الذين انطلقوا إلى القبائل، فعادت القبائل إلى عبادة الثالوث".
إذ أرادت الكنيسة السريانيّة أن تبرز عودة الوحدة التي هي صنع الروح، عادت إلى برج بابل. انطلقت ممّا قاله لوقا بشكل ضمنيّ، ولكن حقيقيّ في سفر الأعمال، فتوسعت فيه رابطة بين واقعين متعارضين.
* العليّة هي بابل جديدة. في الأولى تقسّمت الالسن وتبلبلت عقابًا للبشريّة. وُضع حدّ لقوّة البشر وتشتّتوا في كل أنحاء الأرض. أما الآن فالعكس هو الذي حدث: "اليوم، بمجيء الروح البارقليط، صارت العليّة بابلاً ثانية، ولكن الالسنة لم تنقسم عقابًا كما في الماضي، بل بقوّة الروح القدس، استضاءت العليّة بنور النعمة لكي يتعلّم الرسل من أجل كرازة الحقّ".
* تكثير الالسن وتقسيمها من أجل كرازة الحقّ، لم يكونا من أجل البلبلة كما في الماضي. بل من أجل تسهيل الحوار الذي هو نقطة انطلاق نحو الوحدة.
فبعطيّة الروح انتهى اختلاف الالسن الذي يرمز إلى انقسام البشر وتمزّقهم، وحلّت محلّه لغة جديدة مشتركة هي لغة الروح. فبفضل الروح، استطاع الرسل وسامعوهم أن يتفاهموا، وإن اختلفوا شعوبًا وأعراقًا. لهذا تنشد الكنيسة في صباح العنصرة: "سُمع شيء جديد يعارض الناموس الطبيعيّ: ساعة سُمع صوت الرسول الوحيد، فبنعمة الروح فهمت جميعُ الأمم والقبائل والالسن في لغتها الخاصة ما قيل. استضاؤوا بهذا الصوت فأعلنوا الثالوث الذي يجب أن تعبده جميع الشعوب".
وتكثير الالسنة هذه من أجل الرسالة، لا يتوخّى فقط تسهيل الحوار، بل تحقيق وحدة الكون. تقسّمت الالسن بسبب تعاملها مع البشر. واليوم توحّدت وتصالحت بالروح في تناسق إلهي من الايمان والاتحاد بحياة الله وقداسته. لهذا استطاع الناس من كل حدب وصوب أن يمدحوا الرب بحسب نبوءة يوئيل.
هنا نقرأ مقدمة صباح الأحد الأول بعد العنصرة، التي تصوّر لنا الوحدة التي تمتّ بفعل الروح. "أيها الروح القدس، المساوي للآب والابن في الجوهر، يا مقدّس الذين يحبّون القداسة. أنت يا من نزلت وحللت على الرسل القديسين بشكل ألسنة من نار، ووحّدت مختلف اللغات حين ضممتها بعضها إلى بعض وكوّنتها لتجدّد إيمان البشر. أنت أيها الرب، ضمّنا الآن إلى قداسة مواهبك. أحرق فينا شوك الخطيئة وعوسجها لكي نمدحك ونفرح بك أنت أيها الروح البارقليط والابن الذي منه تنبثق والابن الذي منه تناله، في هذا الوقت وإلى دهر الداهرين. آمين". أجل، اجتمع البشر واستعادوا تناسقهم لإنشاد عظائم الله. هنا نلتقي مع ايريناوس في كتابه عن الهراطقة (3: 17- 2)، وغريغوريوس النازينزي في عظته الحادية والاربعين (المقطع 16، الباترولوجيا اليونانية 36: 449ج)، ويوحنا الذهبيّ الفم في عظته عن العنصرة المقدّسة (الآباء اليونان 50: 467).
وأخيرًا، إن هذه المصالحة بين البشر ووحدتهم تتمّان في يسوع المسيح الذي هو موضع المصالحة الشاملة وهيكلها. فإذا كان الروح قد جمع الأمم، فما توخّى أن يعيد بناء برج بابل الذي هو رمز الفوضى، بل أن يُدخل البشر في جسد المسيح القائم من الموت ويوحّدهم مع المسيح في هذا الجسد. في العنصرة، جاء الروح يعيد بناء برج بابل الذي لا يتزعزع بالحجارة الحيّة. بعد الآن، تجذّر أساس هذا البرج في العالم وكانت ذروته معبد الثالوث الذي هو الكنيسة: "لا نرى اليوم برج بابل الذي تدمّر وخلق البلبلة، بل برجًا روحيًا، برج الكنيسة المقدسة التي بُنيت وتثبّتت بنزول الروح البارقليط وقدرته".
ينتج عن هذه اللوحة التي رسمها التقليد السرياني أن الروح، بعطيّة الألسن، قد أجرى معجزة بناء الوحدة البشريّة. "أنار الذين في الداخل (أي الرسل) وعلّمهم، وجمع الذين في الخارج (أي الأمم) في حظيرة واحدة، هي حظيرة المسيح". كوّن وبنى معهم جميعًا جماعة المسيح الجديدة، وأفاض على رأس هذه الجماعة زيتًا مقدسًا ليوحّد الرأس بالاعضاء في قوّة وحياة إلهيّة واحدة. وبمختصر الكلام تركت بابلُ، التي هي رمز الكفر والفوضى والانقسام، التي لا تنفصل عن عالم الشرّ، المكان لوحدة متناسقة في ملكوت يبنيه فيض الروح.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM