الفصل التاسع: دعوة جدعون

الفصل التاسع
دعوة جدعون
قض 6: 11- 24

ليس من السهل أن نروي لقاء مع الله، مع الله الحي، الذي لا تستطيع صورة أن ترسمه. ولقد اعتقد شعب الله أن الانسان لا يستطيع أن يرى الله، بل أن يسمعه، ويبقى حيًا بعد هذه الصدمة. هذا ما قاله الشعب لموسى بعد خبرة سيناء: "كلّمنا أنت فنسمع، ولا يكلّمنا الله لئلا نموت" (خر 20: 19). ولقد سمع موسى الرب نفسه يقول له: "أما وجهي فلا تقدر أن تراه، لأن الذي يراني لا يعيش" (خر 33: 20).
رأى جدعون الرب الذي ناداه وسلّمه مهمّة خلاصيّة: "إذهب وخلّص شعبك". إن دعوة جدعون تشبه دعوة موسى (خر 3) وإرميا (إر 1) وأشعيا (أش 6). وقد ظهر له الرب، كما ظهر لابراهيم ويعقوب وغيرهما.
في هذه الظهورات نرى ملاك الرب الذي سيصبح فيما بعد الرب نفسه. وتتمُّ الرؤية في مكان منعزل، وفي ساعة لا ننتظرها، ومرارًا في الليل. إطار سري، والانسان الذي يتوجّه الله إليه يكون وحيدًا لا يرافقه أحد. في البداية لا يشعر الانسان أنه أمام ظهور إلهي. ولكن المحادثة، مع الاله المجهول، ومعنى الكلمات التي يتلفّظ بها، وإشارات أخرى مذهلة، تكشف له عن حضور الله. حينئذ يعي وضعه، فيحسُّ برهبة مقدّسة. والوضع الذي يتجلّى الله يُعتبر "مقدّسًا". ويعجّل ذاك الذي "شاهد" الرؤية وسمع "كلمة" الله ببناء مذبح، وبالتعبير عن إيمانه وورعه وعرفانه للجميل بتقدمة ذبيحة لله. هذا ما فعل جدعون: "أخذ جديًا من المعز، وقفّة عجين فطير وجعلهما أمام (الله)".

1- حضور الرب (6: 11- 13)
هنا يبدأ الخبر الأول لدعوة جدعون والذي ينتهي في آ 24. أما الخبر الثاني فلن نتوقّف عنده (6: 25- 32) بل نشير إليه في نهاية هذا التأمّل. ظهر ملاك الرب لجدعون وأمره بأن يخلّص شعبه من بني مديان. أعلن جدعون أن المهمّة تتعدّى قواه. فجاء تأكيد بأن الرب سيسانده. حينئذ حمل جدعون طعامًا ووضعه أمام "الغريب"، فلمس هذا الغريب الطعام بطرف العصا فاحترق الخبز واللحم. وعرف جدعون أنه أمام ملاك الرب. وخاف على حياته. فجاءه تأكيد آخر. حينئذ بنى مذبحًا ودعاه "يهوه شلوم" أي الرب هو سلام. التقى جدعون بالرب ولم يُصَب بأذى، بل ظل سالمًا.
هذا الخبر يبدو بشكل حوار بين جدعون وملاك الرب، وهو بسيط جدًا مع طابعه العجيب. أما الاطار فهو قرية في سهل يزرعيل، في منتصف الطريق بين جبل تابور وبيت شان. جدعون هو في ساحة أمام مزرعة مع شجرة تعتبر مقدّسة. وهناك أيضًا معصرة زيت محفورة في الصخرة. اختبأ جدعون هنا وأخذ يدرس السنابل بيده. جاءه غريب عابر من هنا. اقترب منه وحيّاه.
يقول لنا الراوي إن هذا الغريب هو ملاك الرب. ظهر بشكل بشريّ، وأخذ يتكلّم بحرية وبساطة. هكذا كلّم هاجرَ، جارية سارة، وأمرها بأن ترجع إلى البيت ووعدها بنسل كبير (تك؛ 15: 7- 11). وهكذا كلّم ابراهيم ومنعه من أن يذبح ابنه اسحاق (تك 22: 11- 18). لسنا هنا في تقليد مخافة الله حيث يظهر الله في الحلم أو من السماء أو في "عليقة ملتهبة". الله هو قريب من الانسان. يقول النص عن الملاك إنه جلس كعابر سبيل. أراد أن يرتاح من حرّ الشمس فجاء تحت هذه الشجرة. جاء إلى جدعون حيث يعمل (يدوس سنابل الحنطة) وساعة يعمل. جاء إليه في مخبأه.
تراءى الملاك. صار منظورًا وحيّى جدعون: الرب معك. لسنا هنا فقط أمام تمنّ، بل أمام حقيقة وواقع. ولكن بدت هذه التحيّة لجدعون بشكل هزء وسخرية. فالضيق الحاضر هو برهان كاف يدلّ على أن الله ليس مع شعبه. أين معجزات الرب السابقة؟ أين ما فعله مع موسى ومع يشوع؟ لقد أخبرنا آباؤنا، كما يقول مز 44: 1: "بآذاننا سمعنا يا الله، آباؤنا هم الذين أخبرونا بجميع الأعمال التي عملتها في أيامهم". ولكن تبدّل الوضعُ الآن. لقد خذلنا الله الآن. هذا هو صراخ كل انسان في الضيق. ولكن الرب لا يريدنا أن نبقى في الضيق، بل هو يدعونا إلى أن نقوم. تحدث إرميا (12: 7) عن وضع شعبه فجعلنا نسمع الرب يقول: "تركت بيتي وهجرت أرضي وسلّمت محبوبتي إلى أيدي أعدائها".

2- الرب يرسل جدعون (6: 14- 18)
تحدّث النص فيما مضى عن الملاك، عن حامل كلام الله الذي ظهر بشكل بشري. وهنا كما في آ 16 وآ 23، يتحدّث عن الرب نفسه. فملاك الرب هو الرب نفسه. إنه يدلّ على حضور الرب. ففي الظهورات، يتراءى أولاً ملاك الرب، ثم يتحدّث النص عن الله نفسه. هذا ما نكتشفه في خبر هاجر. "نادت الرب الذي خاطبها" (تك 16: 13). كما نكتشفه في لقاء يعقوب مع الله (تك 31: 11- 13). نشير هنا إلى أن النص اليوناني حافظ على الصيغة الاولى فظلّ منطقيًا مع نفسه. قال: "فالتفت إليه ملاك الرب".
"أنا الذي أرسلك". حين يدعو الله انسانًا من الناس فلكي يرسله في مهمّة. ذا دعا موسى وأشعيا وإرميا. هو يدعو الانسان بما عنده من صفات. كان قد قال له: أيها الجبار (آ 12). وها هو يدعوه إلى استعمال قوّته لكي يخلّص شعبه من الضيق. جدعون هو قويّ. وسينال أيضًا قوّة من الله، قوّة من نوع آخر. لقد فهم جدعون أنه أمام رجل الله.
وكان جواب جدعون: "بماذا أخلّص"؟ ما هي الوسائل التي بين يدي؟ إعترض مبيّنًا ضعف قبيلته وبيت أبيه. هكذا اعترض شاول أيضًا (1 صم 9: 21). ولكن لا شاول هو أضعف انسان في القبيلة، وهو الذي يزيد جميع الشعب "من كتفه فما فوق" (1 صم 20: 23)، ولا جدعون هو من عائلة حقيرة. فمركز أبيه معروف في القبيلة، وهو سيقف بوجه القبيلة كلها ليدافع عن ابنه الذي هدم مذبح البعل (قض: 28- 32).
هنا نتذكّر لقاء آخر بين الرب وصفيّة، ونسمع كلامًا مماثلاً قاله موسى حين أرسله الرب (خر 3: 11- 15: من أنا حتى أذهب إلى فرعون؟). المهمّة هي هي: إذهب وخلّص شعبي. ويعي المختار أن لا تناسُبَ بين المهمّة الموكولة إليه والوسائل الضعيفة التي بين يديه. وقال الرب لجدعون كما قال لموسى: "أنا معك". هذه عبارة بيبليّة متحفّظة وعظيمة، وهي تدلّ على أن لا شكّ في مساعدة الله: إنه يعطي قوة لا تُقهر للانسان الذي يضع كل قواه في خدمة مشروع الله. قد يأتي الآخرون بالعجلات والخيل، أما نحن فنذكر اسم الرب. فإن كان الله معنا، فمن يقدر علينا. هذا ما قاله القديس بولس الذي لم يخف الشدّة والضيق والاضطهاد، لم يخف الموت والرئاسات ولا أية خليقة (روم 8: 35- 39).
وأعطى الرب موسى علامة، كما أعطى لجدعون ولمريم العذراء. فالعلامة تُعطى لرجل الايمان لئلا يعيش في الوهم، لئلا يخدع نفسه. فالرب هو الذي تراءى له حقًا، وهو يرسله في مهمّة جليلة.
هنا نتذكّر أيضًا حوار إرميا حين دعاه الرب ليكون نبيّة (إر 1: 4- 10): نداء الرب، مهمّة يسلمها إلى هذا الانسان، عهد خاص بين الله ونبيّة، نعمة ستكون معه ولا تتخلّى عنه خاصّة في أصعب الاوقات. ويذكّرنا جواب جدعون في آ 13 بكلام وجّهه إلى الله نبيٌّ عاصر إرميا، هو حبقوق: "إلى متى يا رب أستغيث ولا تسمع؟ إلى متى أصرخ إليك من الجور ولا تخلّص" (حب 1: 2)؟ كل هذه الشرور التي تنصبّ على شعب الله! مسألة مقلقة تحمل على اليأس كل الذين يرون (في الظاهر) إهمال الله لشعبه: هو لا يخلّصه، هو لا يسهر على مصير البشر وسعادتهم! فإيمان جدعون هو إيمان الشعب وإيمان حبقوق (البار بإيمانه يحيا، 2: 4): عودة إلى الخلاص من العبودية في مصر.
وطلب جدعون من هذا "الغريب" أن ينتظره بعض الوقت ليحمل إليه طعامًا. هو لا يعرف إن كان أمام الله أو أمام انسان. والكلمة العبرية المستعملة (منحه) تعني هدية لانسان من الناس، أو ذبيحة تقدّم لله.
وانتظر "الضيفُ" الالهي عودة جدعون.

3- تقدمة جدعون (6: 19- 24)
مشهد سريّ. قد نظن أن جدعون قد هيّأ لضيفه طعامًا، كما فعل ابراهيم عند سنديانة ممرا (تك 18: 3- 8). ولكن هذا الضيف أمر بأن يُوضع الطعام على الصخرة. ولمسه بطرف عصاه، فتحوّلت التقدمة إلى محرقة. وهكذا بيَّنت "المعجزة" لجدعون أنه التقى الله نفسه. وأحس بالرهبة، وهذا أمر طبيعي. فكل مرّة يحسّ الانسان أنه أمام الله يشعر بضعفه أمام من هو القدير، وبخطيئته أمام من هو القدوس... هذا ما أحسّ به أشعيا النبي فهتف: "ويل لي! هلكت لأني رجل دنس الشفتين... والذي رأته عيناي هو الملك رب الاكوان" (أش 6: 5). ولكن الرب هدّأ من روع جدعون، فجعله بين الرجال العظام الذين عاشوا اختبارًا دينيًا غمرته كلمة الله. خاف يعقوب حين عرف أنه رأى الله وجهًا لوجه (تك 32: 31). وخاف والد شمشون ووالدته "لأنهما رأيا الله". وخاف جدعون أيضًا.
كيف احترقت التقدمة؟ قد نكون أمام عامل طبيعي استعمله الله. على كل حال، لا ننسى أن النار تدلّ على حضور الله. وبهذه الصورة، دلّ الله جدعون على أنه ليس أمام شخص بشري. وهكذا دعاه إلى أن يرتفع إلى مستوى السر المحجوب. فالله لا يقع تحت الحواس، وهو لا يشبه أية صورة في السماء وفي الأرض وتحت الأرض (خر 20: 4).
هنا نقابل بين ما حدث لجدعون في عفرة (أرض منسى)، وما حدث لايليا على جبل الكرمل. هيّأ إيليا الذبيحة ودعا الرب، فنزلت نار الرب فجأة على الذبيحة "فالتهمت المحرقة والحطب والحجارة والتراب وحتى الماء الذي في الخندق" (1 مل 18: 38). فلما رأى الشعب هذا سجدوا إلى الأرض وأعلنوا أن الرب الاله هو الذي فعل مثل هذه المعجزة. هذه النار هي نار البرق والعاصفة. والمعجزة الكبرى لم تكن فقط اشعال النار في المحرقة بل اشعال نار الايمان في قلب جدعون والغيرة في قلب إيليا.
وهكذا قطع الله عهدًا مع جدعون، كما سبق له وفعل مع ابراهيم. هيّأ ابراهيم الحيوإنات وشطرها شطرين. فمرّ الرب بين الاشطار من خلال "تنور خان ومشعل نار" (تك 15: 17). كان ابراهيم أمينًا لله، وسيكون جدعون أمينًا لله فيحمل الخلاص إلى شعبه. فالرب هو إله السلام، وإليه يرفع الشعب صلاته ليهب له السلام والخلاص. هذا ما يرمز إليه المذبح الذي بناه جدعون وسماه "يهوه شلوم".

خاتمة
وكان نداء آخر أو شكل آخر لنداء الله لجدعون (قض 6: 25- 32) لكي يدمّر هيكل بعل، ويبني مكانه هيكلاً ليهوه، ويقدّم عليه ثوره محرقة. هل نستطيع أن نسمّي عمل جدعون بما فيه من تحفظ (فعل ذلك ليلاً، آ 27)، أول تحرّر له ولشعبه من الاصنام وما فيها من سراب وخلاص وهمي؟
سمع جدعون نداء الرب وبكّر كما بكر ابراهيم (تك 22: 3) في الطاعة لأوامر الله: جمع القوم الذين معه... (قض 7: 1) وانطلق ليخلّص شعبه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM