الفصل الثامن: موسى وعبور الله

الفصل الثامن
موسى وعبور الله
خر 33: 18- 23

حين نقرأ خر 33: 18- 22 نجد خبرة يعيشها موسى مع الله. لاشكّ في أن هناك نص العليقة الملتهبة (خر 3: 1- 5) حيث يسيطر العنصر النظري وحيث يُخفي موسى وجهه لكي لا يرى الله (خر 3: 6). وقد يقابل الشرّاح بين خر 33 و1 مل 19. في 1 مل قضى إيليا ليله في المغارة (19: 19) فأخبر أن "الرب عابر" (19: 11). وفي خر يُوضع موسى في "نقرة الصخر" (33: 22) ويقال له أن مجد الرب عابر (33: 22). أي ارتباط بين هذه النصوص الثلاثة؟ هذا ما لم يتفق عليه الشرّاح. أما نحن فسنقرأ خر 33: 18- 23 فنرافق "موسى" في هذا اللقاء بالرب.

1- بنية النص
يبدأ خر 33: 18 بطلب يرفعه موسى إلى الله: "أرني مجدك". طلب غريب، لأن موسى يظهر في حواراته مع الرب كالمتشفِّع لشعبه (خر 5: 22- 23؛ 32: 11- 13: تضرع موسى إلى الرب وقال: لمَ يضطرم غضبك) أو الباكي على مصيره (خر 17: 4؛ عد 11: 11- 15: قال موسى: لم ابتليت عبدك). هو لم يطلب يومًا شيئًا لنفسه. إذن، لا بدّ من تفسير لهذا السؤال.
طلب موسى، فجاءه جواب مثلّث حسب العبارة المثلّثة في المقدّمة. "وقال" (آ 19). "وقال" (آ 20). "وقال الرب" (آ 21). في هذه المرحلة من القراءة، نلاحظ أن آ 21 وحدها تدلّ على مُحاور موسى. وإذا زدنا أن كلمة "مجد" حاضرة في طلب موسى (آ 18) وفي جواب الرب (آ 22)، إعتبرنا آ 21- 23 جواب الله الأصلي. ولكن يُطرح هنا وضع أجوبة الله الأخرى (آ 19- 20).
لا نجد في هذه الآيات أي عنصر سردي. فالنصّ يبدو بشكل حوار. وجواب الله في آ 21- 23 يعلن عبورًا (مرورًا). ولكن هذا العبور لم يُروَ، وهذا أمر له معناه.
لا يحدّد لنا النص أين تمّ اللقاء والحوار. فموسى ليس على جبل الله. ونصّ خر 33: 1- 17 يبعدنا عن هذا الجبل لاسيّما في آ 6: "خلع بنو اسرائيل ثياب العيد وابتعدوا عن جبل حوريب". وفي 34: 2: تلقّى موسى أمرًا بأن يصعد إلى جبل سيناء. هذا يعني أنه لم يكن هناك.
هناك فعل يهيمن "عبر". نقرأه في آ 19 و22. لهذا قابل الشرَّاح بين 33: 8 أي و34: 6 حيث نجد أيضًا فعل "عبر". وهكذا اعتبروا خر 34 السياقَ الحقيقي للنص الذي ندرس. ولكن دون هذا الحلّ اعتراضات. أقواها: ما يقوله الله في جواب 21- 27 لا يتمّ في خر 34. وهكذا يكون النصّان مستقلّين الواحد عن الآخر. ثم إذا كان خر 34 هو إطار لجواب الله، فكيف نفسّر أن يكون هناك عدة أجوبة لله. إذن، نقول: أعلن الله لموسى عبوره، ولكن النص لم يروِ هذا العبور.
والفعل الثاني المهم في النص هو فعل "رأى". نجده في طلب موسى (آ 18) ثم في جوابَيْ الله (آ 20، 23). هناك سؤال يتجاوز موسى: هل يستطيع الانسان أن يرى الله؟ فيجيب النص مذكّرًا بالحد الذي جُعل أمام موسى تجاه الحضور الالهي. وتكمن أهمية النص في الجواب أو الاجوبة على هذا السؤال.

2- سياق النص
إذا كان خر 34 ليس التتمّة الدقيقة لوعد الله في خر 33: 21- 23، فلا بدَّ من محاولة فهم الحوار بين موسى والله في سياق ف 32- 34.
في خر 32، يروي حدثُ العجل الذهبي خطيئة الشعب التي تمثّل الله بهذا الشكل. وهذه الخطيئة هدّدت حضور الله في شعبه، وبالتالي متابعة مشروع الله. وجاء تشفّعُ موسى (32: 11- 14)، ففتح ثلمة في هذا الصراع بين الله وشعبه. ونال موسى غفران الخطيئة مع أمر يتضمّن تقييدًا لشكل الحضور الالهي: "إمض، وقُد الشعب إلى حيث قلت لك. فملاكي هو الذي يسير أمامك" (خر 32: 34؟).
ويعود خر 33 في قراءة إجمالية (سنكرونية) إلى مسألة حضور الله وكأن الجواب الذي أنهى خر 32 لم يكن كافيًا. نحن أمام نص متشعّب، ومع ذلك نستطيع أن نميّز فيه أربعة أقسام مع خط رئيسي أو فكرة رئيسية. في آ 1- 6، تشدّد خطبة الله على متابعة المسيرة في البريّة نحو أرض الموعد، وعلى خطيئة الشعب التي هي من الفظاعة بحيث لا يستطيع الله من بعد أن يكون حاضرًا مع شعبه حضورًا شخصيًا. "أرسل أمامك ملاكًا (أجعله يسير أمامك). إصعد إلى أرض تدر لبنًا وعسلاً. أما أنا فلا أستطيع أن أصعد معكم لأنكم شعب قساة الرقاب" (آ 3- 5). في آ 7- 11 يدور العنصر الثاني حول "خيمة اللقاء" (خباء الحضر)، حول شكل من الحضور الالهي ينعم به موسى وحده. "وكان الرب يكلّم موسى وجهًا إلى وجه، كما يكلّم الإنسان صاحبه" (آ 11). كان الشعب يرى عمود الغمام (آ 10)، أما موسى فكان يسمع، يعيش خبرة السماع.
ويبدأ بين آ 12 وآ 17 حوار بين موسى والله. وقد تهيّأ هذا المدى من الحوار في ما سبق. هناك كلمة "وجه" في آ 11 وآ 14- 15، وهي تربط هذا المقطع بالحدث السابق. تساءل الله: "هل يسير وجهي (هل سأقوم شخصيًا) وأعطيك الراحة" (آ 14)؟ فردّ موسى: "إن كان وجهك لا يسير (إن كنت لا تسير) معنا، فلا تصعدنا من ههنا" (آ 15) (أي: نفضّل أن نبقى هنا). إذن، يريد موسى من الله أن يرافق شعبه بشخصه لا بملاكه. وينتهي الحوار بوعد الله لموسى: "أفعل لك (كما) قلت، أو ما طلبت. قد رضيت عنك وعرفتك باسمك" (إذن معرفة حميمة) (آ 17).
للوهلة الأولى، يبدو القسم الأخير (آ 18- 23) بعيدًا بعض البعد عن الاهتمامات السابقة المركَّزة إما على خطيئة الشعب، وإما على شكل الحضور الالهي خلال المسيرة في البرية. فما يحدث هو أن موسى يطلب طلبًا شخصيًا من النمط الصوفي: "أرني مجدك" (آ 18). وينكشف منطق النص إذا طرحنا على نفوسنا السؤال التالي: هل من حدود لحضور الله بالنسبة إلى موسى؟ أما يتضمّن "التكلّم وجهًا إلى وجه" (آ 11) رؤية الله؟ ونجد هنا أيضًا مسألة العلاقة بين المسموع والمرئي، وهذه المسألة حاضرة في النصوص البيبلية التي تتحدّث عن اختبار الانسان لله.
وتبدو آ 18- 23 كنقطة اتصال بين خر 33: 1- 17 وخر 34، فترتبط بمسألة حضور الله الذي يُشرف على الفصل كله (ف 33). كما ترتبط بنص خر 34، بوعد عبور الله الذي سيتحقق. فإن قمنا بدراسة تفصيلية (دياكرونية) اكتشفنا أن كل قسم من أقسام ف 33 يستقلّ عن الآخر.

3- التحليل الادبي
أ- طلب موسى (آ 18)
يدهشنا طلب موسى، وهذا ما قلناه. ففي عبارة "أرني مجدك"، لا تدلّ فقط لفظة "المجد" على تأثير الحضور الالهي، بل على الله نفسه. فهذا ما يفرضه منطق النص، لأن الله لا يمنع موسى من أن يرى آثار (مظاهر) حضوره. وللفظة "مجد" في طلب موسى بُعدٌ لم نعتد عليه. فمجد الله في الكتاب المقدس يبدو كنتيجة لحضور الله وقدرته. فالسرافيم يقولون عن الله القدوس ثلاث مرات إن "مجده يملأ الأرض كلها" (أش 6: 2). وإن السياق الليتورجي للمشهد كما تأمل فيه النبي أشعيا، يشير بوضوح إلى آثار حضور الله.
يرتبط مجد الله في النصوص الكهنوتية بالغمام (خر 16: 10). وهو يظهر إما بعمل (خر 16: 7) وإما بكلمة فاعلة (خر 16: 10- 12). هذا المجد الذي يظلِّل جبل سيناء، يبدو للعبرانيين بشكل نار آكلة (خر 24: 16- 17)، ثم يملأ المسكن (خر 40: 34، أو المعبد). وإذا عدنا إلى عد 14: 15؛ 16: 19؛ 17: 7، رأينا أن المجد يرتبط بخيمة اللقاء أو الخيمة التي يحضر فيها الله (خباء المحضر).
إن سياق خر 33: 18 يدلّ على أننا لسنا أمام حضور عابر من قبل الله. لهذا يمكننا أن نتساءل: أما نحن أمام كتابة ثانية لطلب عبّر عنه موسى بشكل غريب: "أرني مجدك"؟ فلفظة "وجه" موجودة في خر 33: 11 وفي خر 33: 14- 15. ونحن نقرأها مع لفظة "مجد".
إذا أردنا أن نفهم طلبة موسى، يجب أن نبحث عن معناها في التقليد. فالتقليد البيبلي يشدّد على العلاقة الحميمة بين موسى والله. غير أن هذه المودَّة تظهر عادة بشكل خبرة سمعيّة لا خبرة نظريّة. فنص خر 33: 11 الذي أوردناه يعطينا أفضل مثال على ذلك: "وكان الرب يكلّم موسى وجهًا إلى وجه، كما يكلّم الانسان صاحبه". ويقول خر 34: 29 الشيء عينه: "لما نزل موسى من جبل سيناء لم يعلم أن أديم (جلد) وجهه قد صار مشعًا من مخاطبة الرب له" (أي: حين كان الرب يخاطبه). وإن إشعاع وجه موسى يدلّ دلالة قويّة على الخبرة الفريدة التي عاشها مع الله (رج 2 كور 3: 7- 18). ويجمل تث 34: 10 هذا التقليد فيمتدح موسى على الشكل التالي: "لم يقم من بعد نبيّ اسرائيل كموسى الذي عرفه الرب وجهًا إلى وجه". ما استعمل النص هنا فعل "كلّم" بل فعل "عرف"، فشدّد على الصداقة الحميمة التي تربط موسى بالله.
لا بدّ من إيراد نصّ أخير نقرأه في عد 12: 6- 8: نحن أمام خطبة يلقيها الله تجاه انتقادات هارون ومريم ضد موسى: "إذن، إسمعا كلامي: إن يكن فيكم نبي، فبالرؤيا أتعرف إليه، أنا الرب، وفي حلم أخاطبه. وأما عبدي موسى فليس هكذا. بل هو أمين (حاز على ثقتي) في جميع بيتي. فما إلى فم (بصوت واضح) أخاطبه، وعيانًا لا بألغاز. هو يعاين شبه (شكل) الرب. فكيف لم تخافا (تهابا) من التكلّم (انتقاد) في عبدي موسى"؟
يترجم هذا النصُّ بقوّة ما بعدها قوّة خبرةَ موسى على أنها خبرة نظريّة ويعارضها بالخبرة النبوية التي هي خبرة سمعيّة. من جهة، يكلّم الله النبيّ دي الحلم، ومن جهة ثانية يكلّم موسى فما إلى فم (بصورة مباشرة). من جهة، يعرّف الله بنفسه إلى النبي برؤية. ومن جهة أخرى، ينظر موسى شكل الرب. تجاه ذلك، خاف موسى أن ينظر إلى الله في حدث العليقة الملتهبة (خر 3: 6). أما هنا فردّة الفعل مختلفة. ولكن ماذا رأى موسى؟ كلمة شبه (أو شكل) تقابل في العبرية "تمونه". ما معناها وهي لا ترد مرارًا في التوراة؟ ففي تث 4: 12 يعلن موسى للشعب عائدًا إلى ظهور الرب على جبل حوريب: "كلّمكم الرب من وسط النار: كلّمكم صوت فسمعتموه، ولكنكم لم تبصروا أي شبه (أو: شكل). لم يكن هناك إلاّ صوت". البرهان في هذه الخطبة واضح جدًا. لم يرَ الشعب في حوريب شكلاً. فعلى أي أساس سيصنع شكلاً أو تمثالاً. ويشدّد تث 4: 16، 23، 25 على هذه النقطة كما تشدّد عليها الوصايا العشر (خر 20: 4؛ تث 5: 8). يشدّد النص على الوجهة السلبية، على النفي. بالنسبة إلى الله، كل شكل يكون ناقصًا، ضعيفًا، كاذبًا (رج في العربية، المين أي الكذب، المئنة أي العلامة).
ونستطيع أن نقرّب أي 4: 16 من عد 12: 8. ففي نص أيوب، يردّ اليفاز التيماني على أيوب، فيشير إلى ظهور إلهي حصل في الليل: "وقف ولم أعرف مرآه (وجهه). كان شكلاً (تمونه) أمام عيني. كان سكوت ثم سمعت صوتًا: أيكون الانسان أبرّ من الله"؟ نجد هنا العنصر السمعي (ماذا سمع؟) والعنصر البصري (ماذا رأى؟): يدرك الانسان حضور شخص يستشفّه ولا يراه. ونقول الشيء عينه حين نسمع المرتّل (مز 17: 15) يهتف: "أمّا أنا فأرى وجهك، وهذا حق، وحين استيقظ أشبع من شكلك" (صورتك). نلاحظ هنا موازاة بين "وجه" و"شكل". ونجد تعبيرًا عن رغبة يحقّقها الله متى يشاء في حريّته السامية.
حين نتكلّم عن "شكل الرب" فهذا لا يعني أننا ندرك كيان الله بالذات. وإذا عدنا إلى قراءة إجمالية (سنكرونية) للكتاب المقدس، نربط عد 12: 8 مع خر 33: 18- 19. إذا كان موسى قد استطاع أن "يعاين شبه الرب"، فالحدود بين الله والانسان باقية. طلب موسى أن يرى مجد الله، ولكن طلبه لم يُستجب كليًا. لاشكّ في أن عد 12: 1- 6 يبرز عنصر الرؤية، وهذا ما يطرح علينا سؤالاً: أما تتضمَّن خبرة رؤية الله حدودًا ضروريّة حتى بالنسبة إلى موسى؟ هنا يأتي خر 33: 18- 23 فيصحّح ما في عد 12: 8 من نقص، ويقدّم جوابًا واضحًا.
ليس كلام موسى طلبًا شخصيًا وحسب. إنه أسلوب أدبي يهدف إلى إعطائنا جوابًا أو أجوبة على السؤال المطروح. فالجواب أهمّ من السؤال. ولا بدّ من الملاحظة أن التعبير عن الجواب يُوضع في فم الله. وإن برز بصيغة النفي، فهذا يعني أن لخبرة الله حدودها في هذا العالم. ينتج عن هذا أنه إن عرف موسى حدودًا، فالمؤمن لا يستطيع أن يتمثّل الله ويصنع عنه صورة. في هذه النظرة، يتدّون خر 33: 18- 23 في سياق خر 32- 34. إن خبرة موسى تعارض معارضة مطلقة صنع العجل الذهبي كما أراده الشعب.

ب- أجوبة الله (آ 19- 23)
رفع موسى طلبه فجاءته ثلاثة أجوبة نقدّمها حسب وردوها في النص.
* الأول: "أنا أجيز جميع جودتي" (كل طيب، كل خير) (آ 19).
يتقدّم الجواب الأول بشكل وعد إلهي: "أجيز كل خيري عليك" (حرفيًا: على وجهك). أو: وأعلن اسم "الرب" أمامك. لا نجد في الكتاب المقدس القسم الأول من الآية. أما الجود والخير المرتبطان بالله المعطي، فنجدهما في بعض النصوص. في قولة تتوجّه إلى المستقبل يعلن هوشع (3: 5): "يعود بنو اسرائيل وهم مرتعدون إلى الرب وإلى خيراته (جودته) في الأيام المقبلة". وفي إر 31: 12 تدلّ اللفظة على المحاصيل الزراعية (وقد يكون هذا معنى النص في هو 3: 5). وفي مز 27: 3 تبدو هذه الوجهة الملموسة لخيرات الرب واضحة جدًا: "أنا واثق (مؤمن) أن أعاين خيرات (جودة) الرب في أرض الأحياء" (أي في هذه الدنيا). وهناك معنى أوسع في مز 65: 5: "سنشبع من خيور بيتك، من الأشياء المقدسة في هيكلك". خيرات الرب ملموسة وهي تشهد لأمانته نحو شعبه، وهي نتيجة بركته.
ويتحقّق عبور الله بالنسبة إلى موسى في خر 34: 6. ويرافقه (كما في هذا النص) اعلان اسم "الربّ" في خر 34: 5. جرت العادة، أن يدعو الانسان باسم الرب (تك 4: 26؛ 12: 8؛ 2 مل 5: 11). أما هنا، فالله يستبق رغبة الانسان، ويتّخذ مبادرة اللقاء مع موسى.
ويتوالى جواب الله فيؤكّد: "أتحنّن على من أتحنّن (أو: أميل، أرضى)، وأرحم من أرحم". هذه العبارة تفسّر خر 3: 14 تفسيرًا حقيقيًا وتعبّر عن حرية الله السامية.
إذن، جواب الله الأول على طلب موسى هو جواب إيجابي وسلبي معًا. هو إيجابيّ، لأنّه يؤكد عبور (مرور) الله عبر أعماله من أجل شعبه. وهو سلبيّ، لأنه يرسم حدًا للانسان الذي يرغب أن يرى الله في هذه الدنيا. ويجد هذا الجوابُ تماسكه في تحقيق يرويه خر 34: 5- 8.
* الثاني: "لا تستطيع أن ترى وجهي" (آ 20).
ويذكّر جواب الله الثاني بطريقته، بالحدود التي لا يستطيع الانسان أن يتجاوزها: "لا تستطيع أن ترى وجهي، لأن الانسان لا يقدر أن يراني ويبقى على قيد الحياة". يرتبط الجواب بطلب موسى عبر فعل "رأى" (آ 19). جواب سلبيّ كالجواب الأول، ولكنه جواب تقليديّ في أصله، لأنّ رؤية الله تتضمّن الموت. هذا هو اعتقاد جدعون الذي لم يرَ الرب، بل "ملاك الرب وجهًا إلى وجه" (قض 6: 22- 23). هذا هو اعتقاد منوح، والد شمشون (قض 13: 22- 23: إنّا سنموت لأنّا عاينا الله)، وأشعيا النبي (أش 6: 5: ويلٌ لي سأموت لأني رجل دنس الشفتين). ونستشف هذه الفكرة عند يعقوب (تك 32: 31: رأيت الله وجهًا إلى وجه وما زلتُ حيًا، نجت نفسي من الموت) وعند موسى (خر 3: 6: ستر موسى وجهه إذ خاف من أن ينظر إلى الله). وهذا الرباط القائم بين رؤية الله والموت، سيمتدّ إلى سماع صوت الله. قال العبرانيون لموسى: "كلّمنا أنت فنسمع، ولا يكلّمنا الله لئلا نموت" (خر 20: 19). وقال موسى للشعب: "هل سمعت أمة صوت الله يتكلّم من وسط النار كما سمعت وبقيت حيّة" (تث 4: 33؛ رج 5: 24- 26؛ 18: 16). ففي كلِّ حالة، تدفع الخبرة التيوفانية الانسان إلى التعبير عن دهشته، لأنه لم يَمُت حين رأى الله أو سمعه، بل ظلَّ على قيد الحياة.
* الثالث: "ترى ظهري أو قفاي" (آ 21- 23).
ترتبط آ 21- 23 عبر آ 19- 20 بالطلبة التي عبّر عنها موسى. توجّه إليه الله مباشرة وأعطاه أمرًا لينفّذه: "ها هوذا مكان بقربي. قف على الصخرة" (آ 21). ثم أعلن الرب عبوره: "حين يمرّ مجدي، أجعلك في نقرة الصخرة، وأظلّلك بيدي حتى اجتاز (أمرّ) ثم أزيح يدي فتنظر قفاي (تراني من خلف، من وراء)، وأما وجهي فلا يرى".
تستعيد الكلمات الاخيرة جواب آ 20 بشكل عام. ثم يصوّر الربُّ بشكل ملموس الخبرة التي سيعيشها موسى. ترد الافعال في المضارع فتدلّ على المستقبل: نحن أمام وعد بعبور الله، ولكن لا يُروى تحقيق هذا العبور. نحن هنا أمام تحذير من كل تمثّل (أو: تصوّر) لله. ومع ذلك، نلاحظ الامور التشبيهية (الانتروبومورفية. أي: يشبه الله بالانسان): اله يغطّي (يظلّل) موسى بكفّ يده (آ 22). لا يرى المستفيد من هذه الخبرة إلاّ مؤخّرة الله (آ 23). هناك حدود قائمة، ولاشيء يلغي المسافة بين الله والانسان. فعبور الله مهيب ومخيف، ومن الضروري أن يؤمِّن الله نفسُه الحماية لموسى.
هل رأى موسى الله في ذاته؟ الجواب هو لا. غير أن النص يؤكّد في الوقت عينه على حضور الهي قد يرتدي أشكالاً مختلفة. هذا ما نجده في الكتاب المقدس وفي شهادة المتصوِّفين.

خاتمة
ونعود في النهاية إلى اللاهوت اليهودي واللاهوت المسيحي. قال الترجوم: أحميك بكلمتي، وهذه طريقة نتكلّم فيها باحترام عن العلي الذي لا يحتاج إلى أن يحميه حقًا بيده. إستند المعلّم راشي إلى الترجوم فشدّد على تسامي الله. كما شدّد أيضًا على خلاص يمنحه الله للانسان.
وفسَّر غويغوريوس النيصي هو أيضًا في كتابه "حياة موسى" طلبة موسى، فرأى فيها رغبة قوية في الله. "شعّ موسى مجدًا. وحين ارتفع إلى تلك القمم، إشتعل أيضًا رغبة، وكان لا يهدأ بأن يمتلك أكثر. وما زال عطشًا بما شبع منه حتى الامتلاء. وطلب أيضًا أن يناله وكأنه لم ينعم به بعد، فتوسّل إلى الله أن يظهر له، لا بقدر ما يقدر أن يشارك. بل كما هو في ذاته". ويتابع غريغوريوس: "حين نتبع الله إلى حيث يقودنا، هناك نرى الله".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM