الفصل الثالث: إله العهد

الفصل الثالث
إله العهد

عُرف إله ابراهيم الشخصي وإله أبنائه على أنه "إله الأب". إنه الشاهد الساهر في المواثيق بين هذه القبيلة (أو تلك) وجيرانها. وسنرى حضوره، لا كشاهد بل كرفيق في تقاليد سفر الخروج المتشعَّبة. إنه لا يزال يحمي شعبه. وهو يتعهّد تجاه الشعب، بواسطة موسى، كما يطلب من هذا الشعب أن يتعهّد تجاهه. لن يكون فقط إله المواعيد، بل إله الوصايا. إن يهوه اله الأب، إله أبينا، قد صار إله الآباء (خر 3: 13، 19؛ 4: 5). فبعد رؤية العليقة الملتهبة في حوريب، جبل الله، ستتجمَّع القبائل المختلفة تحت راية هذا الاسم الالهي: "وبنى موسى مذبحًا وسمّاه: يهوه (الرب) رايتي" (خر 17: 15).

1- إله العبرانيين
يبدو اسم "إله اسرائيل" نادرًا في هذه النصوص (خر 5: 1: "قال الرب إله اسرائيل: أطلق شعبي"). ولكن اللقب المتواتر هو "إله العبرانيين". "تقولون لفرعون: وافانا إله العبرانيين" (خر 3: 18؛ رج 5: 3؛ 7: 16؛ 9: 13؛ 10: 6). كان لهذه العبارة طعم الشرك في نصوص أسيوية كان الآلهة فيها كافلين للمعاهدات. أما بالنسبة إلى المصريين، فقد كانت تسمية غامضة بالنسبة إلى آلهة الشعوب الاسيوية التي كانت العائلات المصرية تؤلِّف فيها عنصرًا من العناصر. وهذا اللقب يحدد أن "يو" إله ابراهيم وأم موسى، الذي يماثل يهوه المعروف في البرية (نذهب مسيرة ثلاثة أيام في البريّة ونذبح للرب، يهوه، إلهنا، خر 5: 3)، ليس له أيّة صفة مشتركة مع آلهة مصر. إنه يستطيع أن يسيطر عليهم في وظائفهم المختلفة: "من هو مثلك بين الآلهة، يا رب؟ من هو مثلك، جليل في قداسته، مهيب في أعماله، قدير في معجزاته" (خر 15: 11)؟ هذا ما أعلنه نشيد بدأت به النبيّة مريم، أخت موسى، بهذه الكلمات: "سبِّحوا الرب لأنه التحف بالمجد. الفرس وراكبه طرحهما في البحر" (خر 15: 21).
اتَّصل العبرانيون بالثقافة المصرية الباهرة كأسرى حرب، أو كمهاجرين، أو كقبائل تبعت الحكم المصري خلال تسلّط مصر على كنعان من سنة 1580 إلى سنة 1150 ق. م. كانوا يقطعون الحجارة في المقالع أو يهتمّون بالكروم. أو كانوا حرّاسًا على أبواب المعابد. وكان آخرون منهم رعاة يحرسون القطعان (تك 46: 34: كل راعي غنم هو ممقوت عند المصريين). وقد احتاج المصريون أيضًا إلى هؤلاء العبرانيين من أجل الاعمال الادارية في البلاد الساميَّة، أو من أجل الحملات العسكرية ضد الأسيويين. وقد احتل بعضهم وظائف كبيرة مثل موسى الذي يتحدّث عنه التقليد. اسمه اسم مصري، وقد تبنَّته الاميرة (خر 2: 10) وربَّته وعلّمته حكمة المصريين كلها (أع 7: 21). كانت هذه الحكمة على مستوى الاخلاق وعلى مستوى السياسة، يتعلّمها موظّفو فرعون الكبار في "بيوت الحياة" القريبة من الهياكل. مصر هي "منزل العبيد"، وموسى هو "عبد" فرعون قبل أن يصير عبد الرب (يهوه). أما الموضوع الاساسي لسفر الخروج فسيكون عبور هؤلاء العبرانيين من عبودية فرعون المؤلّه وآلهته، إلى عبادة الرب، اله الآباء (3: 12: قال الرب لموسى: "إذا أخرجت الشعب من مصر، فاعبدوا الله على هذا الجبل"). الاول (فرعون) يضايقهم ويسخّرهم، ويفرض عليهم أعمالاً إضافية (خر 5: 8). أما الثاني (الربّ) فيعدهم بأرض غنية بعد أن يتحرَّروا من ملك مصر.

2- العهود والعهد
كان يهوه الاله الشخصي، وقد أتمّ الآن أحد مواعيده: كثّر شعبه فقلق المصريون منهم. قالوا: "تعالوا نحتال عليهم لئلا يكثروا. فإذا وقعت حرب، ينضمّون إلى أعدائنا ويحاربوننا" (خر 1: 10). ولكن الوعد بالأرض ظلَّ مغلقًا، رغم أن إله الآباء تعهَّد لهم بذلك كشاهد لمواثيق سياسية. وهم سيعترفون الآن به كإله يرتبط بشعب من الشعوب عبر ميثاق (عهد) لاهوتيّ تدلّ عليه أفعال عبادة. نحن أمام نصوص جدّ غنيّة تمثّل تقاليد تنوّعت وتطوّرت مرارًا. وهي قد جاءت من قبائل عاشت الواحدة مستقلة عن الاخرى. ولهذا يبدو من الصعب أن نحدّد المراحل التاريخيّة لهذا التطوّر الديني. هل كانت مواثيق دينية كان الرب شاهدًا لها، ففسّرتها الشميلات اللاهوتية اللاحقة (التقليد اليهوهي والالوهيمي والكهنوتي) على أنها عهد تظاهر الله وكأنه دخل فيه. ونستطيع أن نطرح السؤال حول عهد "إيل قانو" مع موسى في سيناء: "لا تسجد لاله آخر، لأن يهوه (الرب) اسمه الغيور (قانو)". إنه "إيل قانو" (إله غيور) (خر 34: 14). إن عبارة "إيل قانو" تشبه عبارة "إيل عولام" "إيل شداي"... أتكون عبارة "إيل قانو" تكيّفًا لعبارة النصوص الفينيقية "إيل قونه" (إرص: أي الاله المالك الأرض) ولما نقرأه في تك 14: 19: الله العلي، مالك السماوات والأرض؟ الامر ممكن. ونستطيع أيضًا أن نطرح السؤال نفسه بالنسبة إلى عهد مع ابراهيم: "في ذلك اليوم، بتَّ الرب مع ابرام عهدًا، قال: لنسلك أعطي هذه الأرض" (تك 15: 18). أما سائر مواثيق ابراهيم ونسله فهي، حسب التقليد اليهوهي، من النمط السياسي. مثلاً: هل بتَّ عهدًا مع أليعازر الدمشقي (تك 15: 2)، كما فعل يعقوب مع لابان الارامي؟ لا تزال القضية موضوع جدال. ولكن يبقى علينا الآن أن نحدِّد السمات التي يتميَّز بها إله الآباء حين يقطع عهدًا مع الشعب الذي كوّنه في سيناء أو في حوريب.
فهو كإله للآباء يكشف عن حضوره بصور متنوِّعة في حياة القبائل. يكشف عن نفسه لموسى في مكان مقدّس، "على جبل الله". ويوكله بمهمّة تقوم بتخليص "بني اسرائيل" من عبودية المصريين. ويُعتبر بنو اسرائيل هؤلاء كشعب (خر 3: 12؛ 5: 4- 5) لا يدعوه الرب "قبائلي" بل "شعبي" (خر 3: 7: نظرت إلى مذلّة شعبي وسمعت صراخهم). هذا الشعب سوف يعبد الرب على هذا الجبل (خر 3: 12).
لا يعبد هذا الشعب إلهه وكأنه إله يعبد في المدينة. فلسنا أمام أمون، اله مصر، ولا أمام إيل، اله كنعان. إنه يقيم "وراء البريّة" (خر 3: 1) واسمه هو يهوه بالنسبة إلى التقاليد الالوهيمية كما كان للتقاليد اليهوهية. ويرتبط هذا الاسم بوضوح بالجذر الذي يعني الوجود الحاضر والفاعل: "أكون معك" (31: 12). "أنا هو الذي هو" (خر 3: 14). "الذي هو أرسلني إليكم" (خر 3: 14). كان إله ابراهيم واسحاق ويعقوب قد رفض أن يعطي اسمه ليعقوب (تك 32: 30). وها هو يعطيه لموسى كعربون لحضوره مع بني اسرائيل وشيوخهم. وكما كان الرئيس يقدّم نفسه لتابعه في المواثيق السياسية، هكذا يقدّم إله إسرائيل نشمه. "أنا هو الذي أخرجك من أرض مصر"، كما تقول النصوص الاشتراعية (خر 3: 10).

3- الله سيّد الطبيعة
وإله الصحراء (أو البريّة) هذا يتسلّط على عالم الزراعة وعلى كل كائن حيّ. فما كان مباركة من قبل إله اسحاق الشخصي (تك 26: 12: باركه الرب) ويعقوب (تك 27: 27- 28)، هو اليوم تعبير عن سلطانه على الطبيعة. إنه الذي يسكن في العلّيقة (تث 33: 16، سينه ترتبط بسيناء). فالرب هو "إله سيناء" (قض 5: 5؛ مز 68: 9). يستطيع أن يُنبت في وسط البرّية بعض الشجر (سيه في تك 21: 5) لتلقي هاجر تحته ابنها الذي يموت عطشًا، أو يُنبت رتمة (1 مل 19: 4) جلس تحتها إيليا والتمس لنفسه الموت. يبدو الله في رمز ناري على مثال ما حدث في العهد مع ابراهيم. "فلما غابت الشمس وخيّم الظلام، إذا تنور مدخِّن ومشعل نار يسيران بين الحيوانات التي شطرها ابراهيم" (تك 15: 17). أجل، النار تدلّ على حضور الرب. وهذا ما حدث في مشهد العلّيقة الملتهبة: تتوقّد العلّيقة ولا تحترق، وإن احترقت فهي لا تصير رمادًا (خر 3: 2- 3).
وإن الكاتب الملهم يعبِّر عن سيادة اله اسرائيل على الطبيعة في رسمات ضربات مصر، ولاسيّما في الضربات السبع التي يوردها التقليد اليهوهي. نقرأ في الربة الاولى: "ها أنا ضارب بالعصا التي بيدي ماء النهر فينقلب دمًا". والسمك الذي في النهر يموت. فينتن النهر بحيث لا يستطيع المصريون أن يشربوا من مياه النيل" (خر 7: 17- 18). أجل، هذا ما صنعته يدُ موسى فنفَّذت إرادة الله. وفي الضربة الثانية نتعرّف إلى قدرة الله التي تجعل النهر يفيض ضفادع تصعد وتنتشر في البيوت وفي المخادع وعلى الاسرَّة، بل تجعل القنوات والبرك تفيض ضفادع على كل أرض مصر (خر 7: 28- 8: 1). بقدرة الله ستموت المواشي (خر 9: 1- 7)، وبقدرة الله سينزل البرَد فيعرف فرعون أن ليس إله مثل يهوه في جميع الأرض (خر 9: 14).
نحن هنا في جوّ لعنات المواثيق تجاه الخائنين: هناك تهديد يُرسل على الغلال، على المواشي، على أهل البيت. هذا ما سيفعله يهوه بواسطة الوباء والبرَد والجراد. وأخيرًا يموت الابكار في مصر. لقد أراد الرب أن يحرّر بني اسرائيل من قبضة فرعون ليربطهم به عبر ميثاق سيناء.

4- ظهورات البريّة
أولاً: العليقة الملتهبة
نقرأ أولاً ظهور الرب على موسى في العلّيقة المتّقدة: "كان موسى يرعى غنم حميِّه يترو، كاهن مديان. فساق الغنم إلى ما وراء البرية، ووصل إلى جبل الله، إلى حوريب (إلى سيناء). فتجلّى له ملاك الرب في شكل شعلة نار تخرج من وسط العلّيقة. نظر موسى، فإذا العليقة تتوقّد ولا تحترق. فقال موسى في نفسه: أميل وانظر هذا المشهد العظيم وأرى لماذا لا تحترق العليقة. ورآه الرب يتقدّم لينظر، فناداه الله من وسط العليقة: موسى، موسى! فأجاب: هاءنذا. حينئذ قال له: لا تدنُ إلى هنا. إخلع نعليك من رجليك، فإن الموضع الذي أنت قائم فيه أرض مقدسة" (خر 3: 1- 5).
نحن هنا أمام أول خبر لدعوة موسى (خر 3- 4)، وهو يجمع عناصر يهوهية والوهيمية: الظهور (أو التيوفانيا)، ورسالة موسى، ثم إعلان اسم الله. يتحدّث النص عن "ملاك الرب". هذه هي الطريقة التي بها يحضر الله على البشر (رج تك 16: 7؛ 22: 11؛ قض 2: 1). ويبدو الله ذاك المتسامي جدًا، بحيث لا تقدر الخليقة أن تراه وتبقى على قيد الحياة. أجل، خاف موسى أن ينظر إلى الله، ولهذا ستر وجهه (خر 3: 6). نلاحظ هنا وجود النار. أجل، لا نستطيع أن نقترب من الله لأنه نار آكلة.
ثانيًا: على جبل سيناء
خلال الاحتفال بالعهد، يظهر يهوه كإله الطبيعة وسيّدها فيتّخذ سمات إله العاصفة كما يتصوَّره الساميّون. وإن التيوفانيا التي حصلت على جبل سيناء هي موضوع ثلاث صور مختلفة تقابل ثلاثة تقاليد تتباعد ثم تلتقي.
التقليد الاول: في خر 18: 16أ: "وفي اليوم الثالث كانت رعود وبروق وغمام كثيف". هذه هي الظواهر التي ينسبها الساميّون وسائر شعوب آسية الغربية إلى بعل الذي ينتظرون منه عودة المطر المخصب. لسنا هنا أمام المطر، بل أمام صوت بوق عظيم (شوفر) وهو أداة حربيّة تلعب دورها في الاحتفالات الملكيّة. نحن نقرأ مثلاً في حفلة تنصيب سليمان قول الملك داود: اهتفوا أمامه بالبوق وقولوا: ليحي الملك سليمان (1 مل 1: 34؛ رج 1: 38).
كان الشعب عند أسفل الجبل، وكان قد استعدَّ استعدادًا طقسيًا: تقدّس فغسل ثيابه، وابتعد كل رجل عن امرأته، لأن العلاقات الجنسية تمنع الانسان من كل عمل مقدَّس (خر 19: 10- 15؛ رج 1 صم 21: 5). كان الشعب يرتجف أمام هذه القدرة الالهية. فظلَّ بعيدًا عن الجبل، بل تحاشى أن يقترب منه أو يلمسه (خر 19: 20). وصعد موسى وحده على الجبل وتحدّث مع الله وتسلّم بنود العهد التي هي بأكثرها فرائض ليتورجية (رج خر 34).
التقليد الثاني: وتختلف الصورة بعض الشيء في خر 20: 18: "كان جميع العب يشاهدون الرعود والمشاعل وصوت البوق والجبل المدخِّن. فلما رأى الشعب ذلك، ارتاعوا ووقفوا على بعد". لقد حلّت المشاعل (أو السري) محل الرعود. والمشاعل هي أداة حربية (قض 7: 16. استعملها جدعون ليهاجم المديانيين) لا سماوية. كان الجبل يدخِّن. وقنع الشعب على بعد وطلب من موسى أن يكون وسيطًا بينه وبين الرب. قالوا: "كلّمنا أنت فنسمع. ولا يكلّمنا الله لئلا نموت" (خر 20: 19). ونقل موسى كلمات الله إلى الشعب. وعند أسفل الجبل تعهّد الشعب بالنسبة إلى هذه الكلمات. قالوا: "جميع ما تكلّم به الرب (الفرائض) نعمل به" (خر 24: 3). حينئذ أخذ موسى الدم ورشَّه على الشعب وقال: "هذا هو دم العهد الذي عاهدكم الرب به على جميع هذه الاقوال" (أو بنود الشريعة) (خر 24: 8).
التقليد الثالث: وسنجد الجبل المدخِّن في صورة ثالثة أكثر إيجازًا (خر 19: 18). لقد نزل الرب في النار على الجبل. لم يرتجف الشعب، بل ارتجفت الأرض. في رسالة وجَّهها أمير كنعاني (القرن 14 ق م) إلى فرعون، أشار إلى صوت بعل الذي يُرجف الأرض. وقد يرتبط بهذا التقليد الثالث الوليمة التي شارك فيها على الجبل موسى وهارون وسبعون شيخًا (خر 24: 9- 11). عبروا الدخان المخيف ورأوا إله اسرائيل: "تحت رجليه مثل بلاط سمنجوني أنقى من السماء". إقتربوا من الله، فلم يقتلهم الله. وبعد أن شاهدوه شاركوا في وليمة العهد. الرب هو ملك على جبله المقدس، كما كان بعل أوغاريت ملكًا، وقد دعا الشيوخ ليشاركوه الطعام. ويمكننا أن نتساءل: هل نحن أمام عهد وميثاق، أم أمام نظرة عطف من العزَّة الالهية التي دعت شيوخ الشعب إلى معبدها؟
إن التقليد اليهوهي (خر 19: 18) والكهنوتي (خر 24: 15- 17) والاشتراعي (تث 4: 11- 12؛ 23- 24؛ 9: 5) تصوّر التيوفانيا على جبل سيناء في إطار هيجان بركان. أما التقليد الالوهيمي (خر 19: 16) فيصوِّرها كأنها عاصفة. كل هذه التقاليد تعود إلى الطبيعة. من أين جاءت صورة البركان إلى بني اسرائيل؟ لا شكّ من عرابية الشمالية. لا ننسى أسفارهم في زمن سليمان إلى أوفير لجلب الذهب. أما العاصفة فهي متواترة في الجليل أو على جبل حرمون. الصورة اليهوهية الآتية من الجنوب تدلّ بالأحرى على مجد الرب (2: 16). والصورة الالوهيمية الآتية من الشمال تدلّ على تساميه وعلى الخوف الذي يثيره حضوره (قض 5: 4- 5؛ مز 29؛ 68: 8؛ 77: 18- 19؛ 97: 3- 5؛ حب 3: 3- 15).

5- بنود العهد
وقد استعاد التقليد الالوهيمي في إطار العهد هذا التقليد القديم لجبل البريّة. أما البنود التي فرضها إله حوريب على شعبه، فتدلّنا على إله لا يكتفي بأن يحمي تقيّه، ويطعم شعبه، ويعطيه قواعد ليتورجية تبيِّن له كيف يأتي إليه. فاتحاد فرد أو قبيلة أو شعب (عم) مع إلهه، كان يصوَّر بشكل رباط عائلي، بشكل علاقة بين ابن والله أبيه، ابن يحيا من حياة أبيه ومن دمه. قد تستطيع قبيلة عربيّة أن تنضمّ إلى أخرى فيصبح الناس أبناء العمّ، أبناء جدٍّ واحد وسلف واحد. والعهد عند سفح سيناء يحتفظ بشيء من هذه الرمزية. فدم الذبيحة الواحد الذي رشّه على المذبح اثنا عشر شابًا أخذ كل واحد من قبيلة، هو الدم الذي سيرشّ به الشعب: "هذا هو دم العهد الذي بتَّه يهوه معكم" (خر 24: 8). ويزيد الكاتب البيبلي: "على جميع هذه الاقوال".
لم تعد هذه الاقوالُ المواعيدَ التي أعطاها الله للآباء، إنها بنود يفرضها الملك العظيم على تابعه فيتعهّد بالعمل بها. ففي معاهدات الشرق القديم، كانت توضع هذه البنود بعد النص الذي يذكر ألقاب الملك العظيم ويشير إلى حسناته. وكانت تسبق تعداد الآلهة الشاهدين والالتزام بالقسم وذبيحة السلامة ووضْع النص في تمثال الاله. أما هنا فالله هو فريق، لا شاهد. ولن يكون هناك تمثال إله. أما الاقوال التي يتعهّد الشعب بأن يسمعها ويحفظها فهي الاقوال العشرة أو الكلمات العشر التي ستُوضع في تابوت العهد في هيكل سليمان كما يقول 1 مل 8: 9 (لم يكن في التابوت إلاّ لوحا الحجر أو لوحا الوصايا اللذان وضعهما فيه موسى في حوريب، حيث عاهد الرب بني اسرائيل). يتحدّث تث 4: 13 عن الكلمات العشر التي كتبها الرب على لوحين من حجر وأمر موسى بأن يعلّم الشعب أحكامه ورسومه (رج تث 10: 4). ويحدِّثنا خر 34: 28 عن موسى الذي أقام هناك (على الجبل) أربعين يومًا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماء. هناك كتب على اللوحين كلام العهد، الكلمات العشر.
نحن نملك نسختين لهذه الكلمات العشر والوصايا العشر. الاولى في خر 20: 2 ي تبدأ: "أنا الرب الهك الذي أخرجك من أرض مصر". والثانية في تث 5: 6 ي تبدأ بالكلمات عينها. يبدو أنه كان هناك نصّ أول، وزيدت عليه أمور عديدة على مرّ الزمن. ولكن يختلف الشرّاح على مضمون ما دوِّن على لوحَي الحجارة هذين. لا شكّ في أن الاسلوب كان في صيغة النهي: لا تفعل هذا. هذا هو أسلوب يتوجّه به مباشرة ملك عظيم إلى تابعه في المعاهدات. تشدّد هذه المعاهدات خاصّة على الامانة واحترام الحدود وتسليم الفارين. وكانت فرائض لحماية بنات الملك اللواتي تزوَّجهن التابع. هذا ما طلبه لابان من يعقوب (تك 31: 50).
إن الاقوال العشرة التي أعطيت على حوريب والتي هي شرط العهد عند أسفل الجبل، تبدو بشكل آخر. إنها محرَّمات كتلك التي تؤمّن حماية الاله في معبد مصري. ونحن نعرف هذه المحرَّمات من خلال بعض المدوَّنات، ونعرفها خاصة هن خلال ما يقوله الميت أمام منبر أوزيريس ليعلن براءته. فوسط مجموعة من المحرَّمات العباديّة، نجد مقاطع أخلاقيّة رفيعة. ويمكننا القول إن الكلمات العشر هي جوهر التفكير الاخلاقي لدى حكماء الشرق. هذا لن يدهشنا عند شخص مثل موسى عرف اصلاح حورمحب بعد الهجمة المستيكية الروحية التي أطلقها أمينوفيس الرابع (أو اخناتون). كانت اللوائح البابليّة والمصريّة تحرّم السرقة والاتهامات الباطلة ضد القريب، واستعمال العنف لأخذ بيت القريب أو امرأته، وشهادة الزور. وعرفت هذه اللوائح أيام نحس يُمنع فيها الانسان من العمل. ويحدِّد الدكالوغ (الوصايا العشر) الاسرائيلي أهمّية اليوم السابع، فيجعلنا في جو ساميّ لا في جو مصريّ. أما أصالة الدكالوغ فتقوم بتحريم التماثيل المنحوتة والآلهة الذين يقفون بين الاله والانسان والذين قد يعبدهم المؤمن ويخدمهم. إن الله يبقى الاله الشخصي لابراهيم ولنسله.
إله الدكالوغ هو إله شخصي، وهو اله العهد، لأن الكلمات التي أعطاها لموسى على الجبل ليست أقوالاً تعلن براءة ميت (في صيغة المتكلّم: ما قتلتُ) أو تدعو إلى إبعاد شر (كما في بابلونية. في صيغة المخاطب). إنها أوامر تتوجّه في صيغة المخاطب: "لا تصنع". وقال التقليد الالوهيمي الذي نبت في مملكة الشمال إن الشعب ظلَّ بعيدًا. بقي موسى وحده على الجبل، فدوَّن الكلمات الالهية على لويحات. ثم جاء كالرسول الامين يقرأها على الشعب المجتمع عند سفح الجبل.
"فجاء موسى وأخبر الشعب بكل أوامر الله وأحكامه. فأجابه جميع الشعب بصوت واحد: جميع ما تكلّم به الرب نعمل به" (خر 24: 3). ألزم الشعب نفسه بالعهد، ولكنه لبث خارج المعبد الموجود خارج المخيّم. ودخل موسى وحده في الغمامة وتحدّث مع الله وجهًا لوجه، كما يحدّث الانسان صاحبه (خر 33: 7- 11). غير أن تلميذه يشوع الذي رافقه إلى الجبل (خر 24: 13) ظلّ في خيمة الاجتماع، كما سيكون صموئيل في معبد شيلو أيام الكاهن عالي (1 صم 3: 1- 9).
في هذا التقليد ينحصر دور يشوع في عالم العبادة. ولكن تقليدًا آخر يدلّنا على أنه كان رجل حرب يدخل الشعب إلى أرض كنعان.
ورافق الرب شعبه، كما قال التقليد اليهوهي (خر 33: 15- 17). أما التقليد الالوهيمي فقال بلسان الرب: "أنا لا أصعد معكم، لأنكم شعب قساة الرقاب. فإن سرت معكم أفنيتكم في الطريق" (خر 33: 3). سمع الشعب هذا الكلام القاسي من الرب، فأخذوا يبكون وتخلّوا عن زينتهم. حينئذ تنازل الرب وترك ملاكه يرافقهم. وأمرهم بأن يطيعوا هذا الملاك لأنه رسوله وهو ينقل أوامره. ونقرأ أخيرًا في خر 23: 22- 26 بعض آيات يستعيد فيها إله العهد مباركات المعاهدة: "تعبدون الرب إلهكم فيبارك خبزكم وماءكم، ويبعد الامراض عنكم. لن يسقط لامرأة جنين قبل أوانه. ولن تكون عاقر في أرضكم".

6- الإله الشافي
إن هذا النص القصير الذي أوردناه هو خاتمة "دستور العهد" (خر 20: 24- 23: 14). فالشعب يقرّ بإله العهد أنه سيّد الطبيعة بشكل آخر: إنه الاله الشافي (الذي يشفي) أو المعافي (الذي يعطي العافية والصحة). والكلمة العبرانية عينها (رفأ) تعني الشفاء والصحة. وإن الشرق القديم عرف بين آلهته العديدين آلهة المرض وشياطينه، آلهة وشياطين تشفي من الامراض. هناك أشمون عند الفينيقيين، اسكلابيوس الذي عبدته الجيوش الرومانية حتى في أورشليم، وسرافيس الاله المصري على أيام البطالسة. وفي تك 20: 17، نسب إلى تشفّع ابراهيم شفاء النساء العقم في أرض أبيمالك الذي سيعقد معه عهدًا. ولكن التقليد البيبلي سيرى في يهوه قدرة الاله الشافي في البرية. ضرب البرص مريم أخت موسى وهارون، فشفاها الرب (عد 12: 13- 15). ولدغت الحيات بني اسرائيل في أرض أدوم، فتضرَّع موسى لأجل الشعب فقال له الرب: "إصنع لك حيّة وارفعها على سارية. فمن لُدغ ونظر إلى الحيّة لا يموت" (عد 21: 8) "ولكن لا نتحدّث عن الآلهة الشافين، بل عن الاله الشافي. ففي اسطورة كارت الاوغاريتية، إيل هو الاله الوحيد الذي يستطيع أن يشفي الملك المريض.
وهناك نصّ متشعّب ومؤلَّف من تقاليد متنوعة: يجعل الرب المياه المرّة في بئر مارة، حلوة. صرخ موسى إلى الرب، فأشار له الرب إلى شجرة فألقى منها في الماء، فصار عذبًا. وفي الوقت عينه فرض الرب عليه بعض الوصايا وقال له: إن أطعت أمر الرب الهك وفعلت ما هو مستقيم في عينيه، إن أصغيت إلى وصاياه وحفظت شرائعه، لا أضربك بالامراض التي ضربت بها المصريين، لأني أنا الرب الذي يعطيك العافية والصحّة (خر 15: 26).
تحدثنا عن نصّ يشفي فيه الرب مريم، أخت هارون في حصروت. يتألّف هذا النص من عدّة تقاليد. فمريم التي يكرَمون قبرها في قادش (عد 20: 1) هي مصابة بالبرص. ونقرأ تشفّعين من أجلها: يشير تشفّع هارون إلى سقط خرج من بطن أمه وهو نصف مهترئ (عد 12: 12). أما تشفّع موسى فهو طلب الشفاء. قال للرب: "اللهمّ اشفها" (عد 12: 13). البرص هو حالة نجاسة. فلا بد من التحقّق من الشفاء. وهذا يفرض عليها أن تُحجز سبعة أيام خارج المخيم (لا 13: 21، 34؛ عد 19: 19). ونجد هنا تلميحًا غريبًا: يبصق الوالد في وجه ابنته ليدلّ على احتقاره لها (تث 25: 9: تبصق امرأة الاخ على أخي زوجها لأنه يرفض أن يبني بيت أخيه). ولكن لا ننسى أن الانبياء الشعبيّين استعملوا البصاق كوسيلة للشفاء. يحدثنا 2 مل 4: 34 عن أليشاع الذي جعل فمه على فم الصبي قبل أن يقيمه (رج مر 8: 23؛ يو 9: 6 وما عمله يسوع مع الاعمى). يبدو أن المؤرخ الاشتراعي استعاد تقاليد عباديّة حول مريم النبيّة (خر 15: 20) وقدَّمها في إطار تاريخ الخلاص.
وجمع المؤرِّخ أيضًا تقليدين آخرين. اشتهرت البرّية الواقعة جنوبي يهوذا وشرقيّها بالحيّات ذات اللدغة المحرقة. يقول أسرحدون الاشوري إن جيشه وجد الكثير منها حين كان ذاهبًا من اليهوديّة إلى مصر. وكانت أيضًا حيّات في المعابد في تمنة على حدود أدوم، كما كانت صلوات ضد الحيات. فأخذت عبادة يهوه على عاتقها هذه الوظيفة: راية تمثّل إحدى هذه الحيّات المسماة سرافيم أو حارقات. وُضعت هذه الراية أولاً على سارية وأخيرًا جُعلت في الهيكل قرب تابوت العهد. لكنها صارت فيما بعد علامة سحريّة. فدمرها الملك حزقيا في القرن 8 ق م (2 مل 18: 4). ولا ننسى أن حزقيا نعم بالشفاء بفضل كلمة النبي أشعيا (2 مل 20: 7)
من الصعب أن نحدّد بالتدقيق المواقع التي فيها أظهر إله العهد نشاطه الشفائي. قرب مريم في قادش أو في حصروت؟ غير أن الحيّة النحاسيّة المسمّاة "نحشتان" قد جُعلت قرب مناجم العربة (قرب البحر الميت) وعلى حدود أدوم حيث دُفن هارون (عد 20: 23). ويمكننا أن نفترض أن هذه الراية انتقلت إلى الهيكل بواسطة أحد بيوت هارون. وجاء الكاتب الالوهيمي (أو الاشتراعي) فأدخل هذا التذكار العبادي في خبر تذمّرات البرية التي رافقها العقاب والغفران. إن إله العهد هو سيّد الطبيعة، ولهذا فهو يشفي البشر ويغفر لهم خطاياهم بفضل أعمال توبة عبادية مثل التخلي عن كل زينة: هذا ما فعله العبرانيون في حوريب (خر 33: 4- 6).
أجل، ليس إله العهد إله المواعيد فقط. فإله المواعيد يسلّم المؤمن الذي لا يسمع له إلى قوى أخرى. وفعلُ الانسان يصبح فعلاً أخطأ مرماه. هذا هو المعنى الاولاني لكلمة "حطو" الاكادية و ح ط أ ت العبرية (في العربية: خطأ، خطيئة). فخطيئة الانسان تجاه إله العهد تصبح تمرّدًا على بنود هذا العهد. كان الله قائد شعب، فاعتُبر الاله الذي يعاقب التجاوزات، ولاسيّما تلك التي يخطئ بها الانسان ضدَّ قريبه. ولكن الخطيئة تُغفر بنعمة القائد، وبواسطة تعويض.
عرف الانسان في هذا الشرق القديم أن أعماله (أو رفضه أن يعمل) لا تقوده دومًا إلى السعادة. ولكننا نرى أيضًا أن تعليمات الآلهة لم تكن دومًا واضحة حتى حين يغضبون على أعمال سوء اقتُرفت. أما بنود العهد فتعرِّف الشعب بوضوح إلى إرادة يهوه. وسيتّخذ مدلول الخطيئة مكانة هامّة في الوحي التوراتي بحيث يُخفي على البعض وجه الله الذي هو إله المواعيد وإله الرحمة. فالكتاب لا يخبر عن الخطيئة إلاّ بالنظر إلى الغفران. وإله التوراة، ذاك المربي العظيم، حين صار إله أمّة تتواجه فيها مصالح البشر، قبل أن يعاقب، ليدخل الانسان من جديد في إطار الحياة التي قدّم. لاشكّ في أن إله التوراة هو زخم يعطي الكيان والحياة. لهذا، فمغفرته ليست نسيانا بسيطًا لخطأ تمّ. إنها عطيّة حياة جديدة في مجتمع تشكّل فيه خطيئة الانسان بلبلة للمجتمع. لقد صرنا هنا على حدود ما يسمّيه اللاهوت "الخطيئة الاصلية" التي سيحدّثنا عنها القديس بولس في رسالته إلى رومة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM