الفصل الرابع
الوجهات التعليميّة في حكمة ابن سيراخ
بما أنّ الدراسات تتواصل حول ابن سيراخ، لا نستَطيع أن نكتشف توسّع الفكر عنده، لهذا نكتفي بمعالجة المواضيع الرئيسيّة التي توقّف عندها هذا الحكيم الذي أراد أن يُعيد قراءةَ سفر الأمثال من أجل أبناء عصره، أبناء القرن الثاني ق.م.
أمّا المواضيع فهي كما يلي: الحكمة والحكيم. مخافة الربّ. الشريعة. العبادة والصلاة. التاريخ المقدّس. الخلق والمخلوقات. الحياة الاجتماعيّة. النظرة إلى المستقبل والإسكاتولوجيّا. ونحن نجعلها في ثلاثة: من الحكمة إلى الشريعة. بين الصلاة وعمل الله في الكون. الله الخالق وجواب الإنسان على نداء الله في حياته الشخصيّة والاجتماعيّة.
1 - من الحكمة إلى الشريعة
خمسة كتب حكميّة في العهد القديم. الثلاثة الأولى في البيبليا العبريّة بين الكتب الباقية. واثنان وصلا إلينا في اللغة اليونانيّة. أمّا ابن سيراخ فعاد إلينا في العبريّة، ليقدّم لنا النظرة الأخيرة حول الحكمة في التعليم التقليديّ لدى الشعب اليهوديّ، وربط هذه الحكمة بالشريعة عبر كلام عن مخافة ا؟.
أ - الحكمة والحكيم
خصّص ابن سيراخ أكثر من مقطع للكلام عن الحكمة. وجاءت هذا المقاطع في مكان يدلّ على أهميتها. منذ البداية نتعرّف إلى الحكمة. هي من ا؟. وهي مع ا؟ منذ الأزل. ليست في متناول الإنسان، إن لم يكشف عنها ا؟ ويفيضها مثل الروح على كلّ جسد، على الذين يخافونه، على الذين يحبّونه.
كلّ حكمة هي من الربّ،
وتبقى معه إلى الأبد (1:1).
لمن انكشف أصلُ الحكمة،
ومن تبيّن صواب أمرها؟
واحد هو الحكيم المهيب،
الربّ الجالس على عرشه،
أوجدها، تأمّلها، وقدّرها
على كلّ أعماله،
وعلى البشر أفاضها،
وبكثرة على الذين يحبّونه (آ 6 - 10).
هنا نتذكّر يوء 3:1 حيث يقول في الروح:
أفيض روحي على كلّ بشر،
فيتنّبأ بنوكم وبناتُكم.
ويواصل ابن سيراخ كلامه في ف 1 فيبيّن الرباط بين الحكمة ومخافة ا؟.
تاج الحكمة مخافة الربّ،
وبها السلام والشفاء التامّ (1:18).
وتظهر الحكمة من جديد في 4:11 - 19، وكأنّها شخص حيّ كما اعتدنا أن نقرأ في سفر الأمثال (9:1ي). هي أمّ تربّي أولادها، ولكنّ تربيتها قاسية، كما قال تث 8:2: »أذكر جميع الطرقات التي سيرَّك فيها الربّ إلهك... ليقهرك ويمتحنك حتّى يعرف ما في قلبك«. وهي لا تكشف عن نفسها كشفًا تامٌّا إلاّ للمؤمنين الذين مرّوا في الحكمة.
الحكمة تعظّم أبناءها،
وتهتمّ بالذين يطلبونها.
من أحبّها أحبّ الحياة،
ومن أمَّها باكرًا امتلأ سعادة (4:11 - 12).
أمّا السريانيّ والعبريّ فجعلا من آ 15 - 19 خطبة في فم الحكمة:
من سمع لي يقضي بالحقّ
ومن يُصغي إليَّ يقيم بجانبي.
إن آمن بي ورثني،
وتقبّل كلَّ أجيال الأبد.
مقابل هذا أسير معه، وأمامي أمتحنه،
وعليه أرمي المخافة والرعدة.
وأختبره بمِحَني إلى أنّ يمتلئ قلبُه بي
أعود أتقن معه وأكشفُ له كلَّ خفاياي.
أمّا إن تراجع من ورائي فأرميه،
وأسلّمه إلى يد الخاطفين.
في 6:18 - 37، علّمنا ابن سيراخ العناد والطواعيّة الناشطة لاقتناء الحكمة. في 6:18 - 22 قابل هذا الطلب مع صبر الفلاّح:
كالحارث والزارع أقبلْ إليها،
وانتظرْ ثمارها الصالحَة.
في حراثتها قليلاً تتعب،
وتأكل سريعًا من غلاّتها (آ 19).
في آ 23 - 31، عاد إلى طواعيّة الأسير وإلى جلَد الصيّاد:
قيِّد رجليك بالحكمة،
وفي طوقها اجعل عنقك (آ 24).
في آ 32 - 37، دعا ابن سيراخ تلميذه إلى مرافقة الحكماء:
أحضُر مجالسَ الشيوخ، يا ابني،
وإن وجدتَ حكيمًا فلازمْه (آ 34).
في 6:27 - 58، بدت الحكمة تلك الحبيبة التي يطلبها التلميذ، يلاحقها، يريد أن يمتلكها، يمتلك قلبها: »لاحقْها واطلُبْها، وإذا وجدتَها فلا تتركها... فعندها تجد الراحة والسعادة«. ويعود هذا الموضوع في 14:20 - 15:10. الحكمة هي الحبيبة، هي العروسة، هي الأمّ. ولكنّ الكلام لن يكون عنها، بل عن الإنسان الساعي إلى طلبها.
هنيئًا لمن يهتّم بالحكمة،
وبعقله يفكّر فيها.
هنيئًا لمن يراعي طرقها،
ويكشفُ أسرارها.
يسعى وراءها كالصيّاد،
وبانتظارها يكمن في الطريق (14:20 - 22).
أمّا في ف 24، الذي هو قلب الكتاب، فالحكمة هي الشخص البارز. ولن يظهر الحكيم إلاّ في الآيات الأخيرة (24:30 - 34).
قلتُ: »أسقي حديقتي،
وأروي تراب أزهاري...
فإذا بساقيتي صارت نهرًا،
وبنهري صار بحرًا (آ 31).
والحكمة يقول عنها ابن سيراخ، متكلّمًا بلسانها:
شمختُ كأرزةٍ في لبنان،
أو كسروة في جبل حرمون.
كنخلةٍ في عين جدي كان نموّي،
وكشجرة الورد في أريحا.
كزيتونة قويّة في السهل،
وكالدالية على مجاري المياه (24:13 - 14).
خلال الليتورجيّا، تحدّثت الحكمة عن أصلها وعن تاريخها، وجدّدتْ دعوتَها إلى أحبّائها. في 22 آية، قدّمت الوحي البيبليّ منذ الخلق. غير أنّ هذا الوحي يُقَرأ من وجهة الحكمة، وعيش خيانات الشعب التي لا تقدر أن تُوقف عملَ ا؟ حين يهَبُ حكمته.
أصل الحكمة في ا؟ (آ 3 - 8): »من فم العليّ خرجتُ... في السماء جعلتُ مسكني«. هي تُشبه كلمة ا؟، وسلطانُها يشمل الكون. تبدو كأنّها حاضرة وفاعلة منذ مسيرة الخروج (آ 4 - 6): سرتُ في أعماق الغمر، دخلت إلى أرض إسرائيل بأمر من الخالق (عهد سيناء)، فتوسّعتُ مثل شجرة الحياة انطلاقًا من الهيكل. وهكذا غطّت الأرضَ كلّها، ووهبت البشريّة من ثمارها. هذا الإطار يتجاوز إطار البنتاتوكس (الأسفار الخمسة) الذي تمّ قبل الدخول إلى أرض كنعان. لهذا ما نقرأ في 24:23 (الحكمة كلّها في كتاب العهد) يتطلّع إلى الوحي البيبليّ كلّه الذي هو تاريخ، قبل أن يكون مجموعة شرائع. ففي خطبة الحكمة هذه، لا نجد تلميحًا إلى الفرائض والرسوم. وتتواصل الصورُ عن فصل الصيف، فتبدو الأرضُ فردوسًا (خر 47:1 - 12). حينئذٍ يقدّم ابن سيراخ نفسه (24:30 - 34). على أنّه خادم الحكمة: امتلأ منها، ولهذا أملَ أن يتجاوز كتابُه حدود الأرض التي يقيم فيها، فيصل إلى الأنبياء. وإذ فعل ما فعل، أراد أنّ يبيِّن قيمةَ الإرث الدينيّ في إسرائيل، تجاه الحضارة اليونانيّة.
في 37:16 - 26، استند ابن سيراخ إلى التمييز الضروريّ في اختيار زوجة أو صديق أو مشير، فبيَّن أنّ على الحكيم أن يمارس التعليم الذي يعطيه. ووصفُ الكاتب في 39:1 - 11 يرينا إيّاه رجلاً متعلّقًا بالكتاب المقدّس، رجلَ صلاة، وهذا ما يجعل خدمته ناجحة لدى العظماء وفي قلب الجماعة. والنصّ الأخير (51:13 - 30) يبيّن أنّ طلب الحكمة بمحبّة، يتحرّك في الإنسان منذ صباه:
في أيّام شبابي، قبل أن أباشر أسفاري،
طلبتُ الحكمة عاليٌّا في صلواتي.
أمام الهيكل تضرّعتُ لأجلها،
وإلى آخر أيّامي التمستُها.
حتّى أزهرتْ، كباكورة العنب، ففرح بها قلبي،
ومنذ شبابي وأنا أسير في طريقها باستقامة (آ 13 - 15).
وحين يقتني الحكيم الحكمة، يفتح مدرسة ويدعو الشبّان إلى أنّ يتعلّموا.
تعالوا إليَّ، أيّها المحتاجون إلى التأديب،
ولازموا مدرستي (آ 23).
ب - مخافة الربّ
إعتبر بعضُ الشرّاح أنّ مخافة الربّ هي الموضوع الأساسيّ في حكمة ابن سيراخ، فما وَجد من سار في خطّه، لأنّ النصوص حول الحكمة لها وزنها. غير أنّ المقاطع التي كرّسها سي لمخافة الربّ تدلّ على مكانتها. فمخافةُ الربّ هي الموقف الأوّل لمن يرغب في الحكمة.
مخافة الربّ شرف ومجد،
فرحٌ وإكليل ابتهاج.
مخافة الربّ تُسرّ القلب،
تُطيل العمر، تُفرحه وتُسعده.
من يخاف الربّ تطيب آخرته،
وفي يوم موته ينال البركة.
رأسُ الحكمة مخافة الربّ،
نشأتْ مع المؤمنين في الرحم (آ 11 - 14).
حاول بعضهم أن يرى في هذا المقطع قصيدة أبجديّة. ولكنّ غياب النصّ العبريّ لا يسمح لنا باتّخاذ موقف. ولكن تبقى أهمّيّته حاضرة. مخافةُ الربّ مهمّة للحكيم: فهي مبدأ الحكمة وأصلُها وكمالها.
أصل الحكمة مخافة الربّ،
وفروعُها حياة طويلة (آ 20).
كمالُ الحكمة مخافة الربّ،
بثمارها تُشبعُ بني البشر (آ 16).
بدون مخافة الربّ، لا حكمة ممكنة، ومن خاف الربّ، كانت له الحكمة تاجًا، وملأتْه بكلّ البركات.
الحكمة تسكب المعرفة والفهم،
وتُعلي مجد الذين يمتلكونها (آ 19).
غير أنّ هذه المخافة لن تكون مراءاة وممالقة، لن تكون غشٌّا وكذبًا.
لا تتوقّف عن مخافة الربّ،
وبكلّ قلبك تقرَّبْ إليه.
لا تكنْ مرائيًا مع الناس،
وانتبه لكلام شفتيك (آ 28 - 29).
ونحن ندلُّ على صدقنا حين نمارس فرائض ا؟.
إن شئتَ الحكمة، فاحفظ الوصايا،
وبها يجود الربّ عليك.
مخافةُ الربّ حكمة وتأديب،
والإيمان والوداعة يُرضيانه (آ 26 - 27).
من الواضح أنّ مخافة الربّ قيمة دينيّة، وفضيلة إلهيّة. يضيف ف 2 أنّ هذه المخافة تتضمّن، لمن يكون في المحنة، ثقة با؟، رجاء ومحبّة.
يا من تخاف الربّ، انتظرْ رحمته،
وحين تسقطُ، لا تمِلْ عنه.
يا من يخاف الربّ آمنْ به،
وأجرُك لن يضيع.
يا من تخاف الربّ، انتظر خيرًا،
وسرورًا أبديٌّا ورحمة.
تأمّلوا القدماء:
هل توكّلوا على الربّ فخابوا؟
أو ثبتوا على مخافته فخُذلوا؟
أو دعَوْهُ فأهمل دعاءهم؟ (آ 7 - 10).
ونقرأ في آ 15 - 17 ما يلي:
الذين يخافون الربّ لا يعصون أوامره،
والذين يحبّونه يسلكون طرقه.
الذين يخافون الربّ يطلبون رضاه،
والذين يحبّونه ينعمون بشريعته.
الذين يخافون الربّ يهيّئون قلوبهم،
وفي حضرته يتّضعون.
يتحدّث ابن سيراخ عن المجد الحقيقيّ. من يستحقّه؟ البشر الذين يخافون ا؟. قد يستحقّ العظماء التكريمَ والمجد، ولكن من يخاف ا؟ يتجاوزهم (10:19 - 11:6). أجل، المجد الحقيقيّ ملكٌ خائف ا؟ وإن كان فقيرًا.
مخافة الربّ عزَّة للغنيّ،
والرفيع والفقير على السواء (10:22).
جاء 25:7 - 11، في مثَل عدديّ فطوّب الإنسان العائش في وفاق مع أخصّائه، مع أصدقائه وزملائه. وما الذي منحه هذه النعمة؟ حكمته، بل مخافة الربّ في قلبه.
من الناس تسعة سعداء،
وأكثر سعادة هو العاشر.
من يفرح بأولاده،
من يعيش ليرى سقوط أعدائه.
من يتزوّج امرأة فهيمة،
من لا يخطأ بلسانه،
من لا يخدم من كانوا دونه.
من اكتسب فهمًا،
من وجد صديقًا يُصغي لكلامه.
وأعظمهم سعادة من تعمّق في الحكمة.
لكن لا أحد يفوق من يخاف الربّ.
فمخافةُ الربّ أعلى من كلّ شيء،
ومن يعرفها لا يساويه أحد.
وعدّد 40:18 - 27 سعادات الحياة البشريّة. وفوقها كلّها مخافة الربّ. فهي »جنّة مباركة، ومجدُها فوق كلّ مجد« (40:27). وترد نصوص متفرّقة فتعلن أنّ مخافة الربّ تُثبِّت الصداقة (6:16 - 17) والحبّ الزواجيّ (26:13). هي فخر الشيوخ (25:6)، وتعارض الكفر واحتقار الشريعة (16:1 - 2). المخافة تعني الأمانة في تتميم الشريعة (19:20). وبما أنّها مليئة بالثقة والرجاء والحبّ، فهي تنفي كلّ خوف (34:14 - 15). وما يحرّك مخافةَ الربّ هذه، التأمّلُ في عظمة الكون.
ج - الشريعة
رفض أحدُ الشرّاح الكبار، وكان على حقّ، أولئك الذين يعتبرون أنّ التيّار الحكميّ عند ابن سيراخ، تنكّر لنفسه وخضع لمتطلّبات الشريعة. فابن سيراخ يقف في تقليد بني إسرائيل، ونادرًا ما نجد عنده كلامًا يوضح فريضة من فرائض الناموس. إن هو نشر فريضةً تفرض إكرام الوالدين، فهو لا يذكر الدكالوغ، أو الوصايا العشر (3:1 - 6). ولكنّه يعود إلى الوصايا أو إلى الشريعة، ليدعو المؤمنين ليعطوا الكاهن حصّته (7:31)، ليتخلّوا عن الحقد (28:7)، ليُعينوا المحتاج (29:9)، لئلاّ يأتوا إلى الربّ بيدين فارغتين (35:6 - 7). كما أنّه يشير إلى المرأة الزانية منطلقًا من الشريعة (23:23). هذا ليس بالشيء الكثير في كتاب واسع مثل سي.
فإذا أردنا أن نُدرك موقف ابن سيراخ تجاه الشريعة، يجب أن نميِّز سياقين. الأوّل يشمل عودة إجماليّة إلى الفرائض. بما أنّ المخافة هي انفتاح صادق من قِبَل الإنسان على ا؟، وخضوع لشرائعه، فما من مخافة حقيقيّة للربّ من دون تتميم وصايا الشريعة (2:15 - 16؛ 10:19؛ 19:24؛ 23:27): أجل، لا شيء خير من مخافة الربّ، ولا شيء أحلى من حفظ وصاياه.
فمن تاق إلى الحكمة وجب عليه أنّ يُتمّ فرائضَ الشريعة (1:26؛ 6:37؛ 13:20؛ 21:11؛ 33:2؛ 34:8). فمن وثق بالشريعة وثق با؟ (32:24):
من يؤمن بالشريعة يسمع للوصايا،
ومن يتّقي الربّ لا يخسر.
أمّا حفظ الوصايا فهو في متناول الإنسان (15:15). ومراعاة الفرائض ذبيحةٌ عباديّة حقّة (35:1 - 2). وهكذا نكتشف علاقة حميمة بين الحكمة من جهة، ومخافة الربّ وحفظ الوصايا من جهة أخرى.
والسياق الثاني لا يعود إلى الفرائض، بل بشكل مباشر، إلى الشريعة في مجملها. من هذا القبيل يكون النصّ الأساسيّ 24:23 - 25:
الحكمة كلّها في كتاب العهد،
الذي قطعه ا؟ العليّ معنا،
وفيه شريعة موسى،
وميراثُ بني يعقوب.
الشريعة تفيض بالحكمة...
أمّا الشريعة (أو: ت و ر ا) هنا فتعني الوحيَ الذي تشهد له البيبليا: هي التعبير المميَّز لعمل ا؟ في الخلق والتاريخ. في هذا المعنى هي حكمة تُقدَّم لنا على الدوام. لهذا يتأمّل الحكيم في الشريعة (38:34): إنّ الأحداث الكبرى التي تروي عمل ا؟ في التاريخ البشريّ، تغذّي فكرنا لأنّها فلسفة التاريخ (16:7 - 10؛ 16:26- 17:14؛ 44:1). هذا يعني أنّ سي لم يكن ذاك »المريض« بالشريعة. لا شكّ في أنّه يعرف الشريعة، ولكنّه ينظر إليها بعيني حكيم يُقرّ لها بحكمة استثنائيّة. فالتقليد السابق أقرَّ له بذلك (تث 4:6 - 8؛ عز 7:14، 25)، وهو يتواصل في التيّار اليهوديّ.
2 - الصلاة وعمل ا؟ في الكون
حين نتحدّث عن الصلاة، نذكر معها الصلاة الجماعيّة في شعائر العبادة. وحين نتطلّع إلى عمل ا؟ في الكون، نشير إلى التاريخ المقدّس، تاريخ ا؟ مع البشر.
أ - شعائر العبادة والصلاة
أوّلاً - شعائر العبادة
في زمن ابن سيراخ، كان الكهنوت الصادوقيّ يسوس الأمّة. من أجل هذا، اتّخذ مديحُ هارون وفنحاس بل الكاهن الأعظم سمعان (50:1 - 21)، وجهًا سياسيٌّا نجده بشكل خاصّ في 45:26 و50:24 كما في النصّ العبريّ:
ووجب لكم حكمة القلب
وللقضاء معه بصدق
لئلاّ ينسى سعادتكم
وجبروتكم إلى أجيال الأبد (45:26).
يدوم لطفه مع سمعان،
ويقدَّم له عهدُ فنحاس
الذي لا ينقضي له ولزرعه كأيّام السماء (50:24).
وفي أيّام المترجم، حوالي سنة 120، صارت رئاسة الكهنوت تُشرى وتُعطى لمن يدفع أكثر من سواه. أمّا اهتمام ابن سيراخ بشعائر العبادة، فنجده من خلال الكلام الموسَّع عن هارون (45:6 - 22) وعن سمعان (50:1 - 21). لا شكّ في أنّ الكتاب يشدّد على الجمال في الاحتفالات الليتورجيّة، ولكن لا بدّ من ملاحظة التقابلات بين صورة سمعان وصورة الحكمة. نقرأ عن سمعان في 50:8 - 12: كم كان رائعًا عند خروجه من وراء حجاب الهيكل (آ 5).
كان كالورد المزهر أيّام الربيع،
أو الزنبق على جداول المياه،
أو نبات لبنان في فصل الصيف...
بل كان كالزيتون المثمر،
أو السرو الشامخ إلى السحب.
ونتذكّر ما قرأناه عن الحكمة في 24:13 - 15: كشجرة الورد، كزيتونة. بدا سمعان وكأنّه يحقّق فعلاً ليتورجيٌّا تقوم به الحكمةُ نفسُها. وإن فُهمتْ على أنّها معنى العالم والتاريخ، والنظام الذي أراده ا؟ وما زال يقدّمه، فالعمل الليتورجيّ لدى سمعان الكاهن يتّخذ أبعادًا كونيّة: هنا وهناك يتمّ العملُ الليتورجيّ على جبل صهيون، حيث يسكن حضور ا؟ في العالم.
ونال هارون أيضًا وظيفة نقل فرائض الشريعة إلى الشعب (45:17؛ تث 33:10). فإنّ تضمّنت الحكمة الحقيقيّة ممارسة الفرائض، فشعائرُ العبادة تفرض هي أيضًا عملاً خلقيٌّا متناسقًا مع العمل الليتورجيّ. وقد بيّن 34:21 - 35:26 أنّ ابن سيراخ ما اهتمّ بالفرائض الطقسيّة بقدر ما أهتمّ بالعمل الخلقيّ الذي يوافق الفعل العباديّ. وهكذا يدخل في خطّ الأنبياء فيتحدّث عن »سخريّة« من ا؟ حين تذبح نتيجة سرقة (34:21). ويقول في 35:14: لا تحاول أن ترشي الربّ بتقدماتِك.
من حفظ الشريعة كان كمن يُكثر من تقديم القرابين،
ومن راعى الوصايا كان كمن يقدّم ذبيحة السلامة.
لإبداء الشكر تُقرّب تقدمة الدقيق،
وللتعرّف تقدّم ذبيحة الحمد.
في الرجوع عن الشرّ مرضاة ا؟،
وفي الرجوع عن الظلم تكفير الذنوب (35:1 - 5).
وبمختصر الكلام: من خدم الحكمة أدّى للقدّوس أفضل عبادة (4:14).
ثانيًا - الصلاة
تفوّق ابن سيراخ على معلّمي الحكمة حين تحدّث عن الصلاة. بل تضمّن كتابه ثلاث صلوات، الأولى (22:27 - 23:6) تبدأ:
ليت لي حارسًا على فمي،
وخاتم حكمة على شفتي،
ليجنّباني الوقوع في الخطيئة،
ويمنعا لساني عن إهلاكي.
وبعد هذا الإطار يقول:
أيّها الربّ الآب، يا سيّد حياتي.
لا تتركني لنزواتي،
ولا تدعْني أسقط بسببها (23:1).
وتنتهي الصلاة:
لا تدَعِ الشراهة والغريزة تمتلكاني،
وإلى الأفكار المخجلة لا تسلِّمني (آ 6).
والصلاة الثانية (36:1 - 23):
ارحمنا يا ربّ. يا إله الجميع،
واجعل جميع الأمم يخافونك (آ 1).
دعهم يعرفون كما عرفنا نحن،
أنّ لا إله إلاّ أنت يا ربّ (آ 5).
أمّا موضوع الصلاة فالنجاة لأورشليم:
ترأّف بمدينتك المقدّسة،
ومقامك المقدّس أورشليم (آ 13).
وتكون الصلاة الثالثة شكرًا بعد العبور في المحنة (51:1 - 12):
أحمدك أيّها الربّ الملك،
وأسبّحك يا أ؟ مخلّصي.
أرفع لاسمك المجد،
لأنّك أعنتني ونصرتني،
وحفظتني من الموت (آ 1 - 2).
غير أنّ تعليم ابن سيراخ عن الصلاة يتوزّع في الكتاب كلّه، وأكثر ما يرد بشكل نصائح. أمّا في مديح الآباء، فلنا شهود عن الذين رفعوا الصلاة فاستجابهم ا؟. ينصح التلميذ: تضرّع إلى ا؟، لكي تنال الغفران والمسامحة عن الذنوب.
إن خطئتَ يا ابني فلا تَزِدْ،
وعن الخطايا الماضية اطلب المغفرة (31:1).
وفي 39:5 يقدّم نصحًا في إطار مجموعة من النصائح:
يوجِّه قلبَه مُبكّرًا إلى ا؟ العليّ،
ومنه يطلب الغفران.
ويصلّي المؤمن حين البحث عن صديق. »وفي كلّ هذا تضرّعْ إلى العليّ، ليهديك إلى الطريق المستقيم« (37:15). وفي وقت المرض:
إذا مرضتَ يا ابني فلا تتهاون،
بل صلِّ إلى الربّ فهو يشفيك (38:9).
مع الربّ الشفاء الحقيقيّ (آ 13 - 14). وهو يعلّم الصنّاع أكثر من أيّ معلّم، حين يتأمّلون في شريعة العليّ (38:34). ويقدّم خبرة شخصيّة: صلّى لكي ينال الحكمة، تضرّع، وإلى آخر أيّامه التمسها (51:13 - 14).
فالربّ يسمع صلاة المساكين، وما أسرع ما يستجيب لها (21:5). ويذكر ابن سيراخ صلاة يشوع بن نون (46:5) وصموئيل (آ 16) وحزقيا الملك (48:20). مثلُ هذه الصلاة هي شكر ؟ ومديح. وحده الحكيم أهلٌ بأن يرفع مثل هذه الصلاة (15:9 - 10)، وأن يعلّم الآخرين المديح.
فانشروا عطركم كالبخور،
وأزهروا كزنابق الحقل.
عاليًا غنّوا وانشروا عطركم،
واحمدوا الربّ على أعماله.
مجّدوا اسمه، مجّدوه
بالترانيم وآلات الغناء.
هكذا غنّوا مرنّمين:
»أعمال الربّ كلّها حسنة،
وفي أوقاتها أوامرُه تتمّ« (36:14 - 16).
لا كلام في سي عن الصلاة الليتورجيّة. وصلاة كصلاة الأنبياء، ترد مرّة واحدة (36:1 - 17):
كافئ الذين يرجونك يا ربّ،
وأظهر صدقَ أنبيائك.
إستجبْ يا ربّ لصلاة عبدك،
بحسب نعمتك على شعبك،
فيعلم جميعُ سكّان الأرض،
أنّك أنت الربّ إله الدهور (آ 16 - 17).
المديح يكون في قلب الجماعة. والصلاة الفرديّة ترافق الإنسان في حياته. في الصباح يصلّي (39:5) رافعًا يديه إلى العلاء (48:20؛ 51:19). لا يكون مهذارًا يُكرّر الصلاة ولا يفهم ما يقول، كما يعرف أن يصبر إلى أن تأتي ساعةُ ا؟ (7:10، 14). ومن صلّى وجب عليه أن يحفظ الوصايا لكي تستجابَ صلاته (3:5). فلا توافقَ بينَ الصلاة والخطيئة، ولا بين الخطيئة والمديح. والصلاة تكون واثقة ولا سيّما في قلب المحنة. ما توكّلَ أحد على الربّ فخاب (2:10).
ب - عمل ا؟ في الكون
في ف 44 - 50، يتأمّل ابن سيراخ في عمل ا؟. في ما يُسمّى التاريخ المقدّس، لأنّ ا؟ يملأه بحضوره. تتألّف هذه المجموعة من قسمين تسبقهما مقدّمة (44:1 - 15): والآن دعونا نمدح المشاهير من آبائنا الذين سبقونا. في القسم الأوّل (44:16 - 45:25)، ندخل في خطّ العهود المتعاقبة. سبع مرّات يرد لفظ »ب ر ي ت« (عهد) مع قمّة في العهد الكهنوتيّ: »لذلك عاهدَه الربّ أنّ يتولّى دون سواه أمر المكان المقدّس«. والقسم الثاني (46:1 - 50:24) ينتهي بذكر سمعان الكاهن. في كلّ هذا، حاول ابن سراخ أنّ يبيّن كيف أنّ هؤلاء الآباء حاولوا أن يعيشوا الحكمة.
فيشوع كان الجنديّ الشجاع، وهو الأمين ساعة حاول الجميع أنّ يخونوا. ولازمته قوّةٌ وهبها الربّ له »ليعلّم بني إسرائيل كم هو حسن أن يطيع الإنسانُ الربّ« (46:10). وإذ تحدّث سي عن صموئيل قال: »وكان صموئيل محبوبًا من الربّ. وكنبيِّ الربّ أسَّس المُلك وأقام حكّامًا للشعب. أجرى القضاء بحسب شريعة الربّ« (آ 13 - 14). وعن داود قال سي مشدّدًا على دور هذا الملك في تنظيم شعائر العبادة: »أحبّ خالقَه القدّوس العليّ، وحمَدَه في كلّ أعماله، ومجّده في أقواله، وسبّحه بكلّ قلبه. أقام المغنّين أمام المذبح ليُنشدوا بأصواتهم ألحانًا عذبة. جعل للأعياد رونقًا...« (47:8 - 10). وهتف لابن داود: »ما أعظم حكمتك يا سليمان في شبابك! طفح علمُك كنهر في فيضانه، وانتشرت معرفتُك في الأرض كلّها، بعد أن ملأتَها من الأمثال العميقة« (آ 14 - 15).
3 - ا؟ الخالق وجواب الإنسان
أ - ا؟ الخالق
إعتاد الحكماء في كلامهم عن ا؟، أن يقدّموا براهينهم، لا انطلاقًا من التاريخ البيبليّ، بل من الكون الذي يُقيم الإنسان في قلبه. أما هكذا فعل سفر الحكمة حين تكلّم عن الجهال؟ »لم يقدروا أن يعرفوا الكائن من الروائع المنظورة التي صنعها« (حك 13:1). ويُنهي برهانه: »إن كانوا من العلم على قدرٍ كافٍ لمعرفة طبيعة الكون، فكيف قصَّروا عن معرفة ربّ الكون ذاته«! (آ 9).
ومثلَه فعل سي. »تأمّل في الكون الذي هو خليقة الربّ« والذي به يعرّف ا؟ نفسه في التاريخ. يبدأ النصّ فيتكلّم عن الخلق والعالم المخلوق. ليصل إلى تذكّر التاريخ المقدّس. هذا ما نكتشفه مثلاً في 1:1 - 10:
من يعدّ رمل البحار
من يعدّ قطرات المطر
من يقيس ارتفاع السماء
واتّساع الأرض وعمق البحار (آ 2 - 3)؟
وبعد ذلك عاد إلى الحكمة التي أفيضت على البشر (آ 10)، وإلى المخافة التي توجّه سلوكهم. وفي 16:26، تحدّث ابن سيراخ عن الربّ الذي خلق الكائنات. ثمّ »خلق البشر من التراب« (17:1). وبعد ذلك، تحدّث عن عهد أبديّ وتحذير من عمل الشرّ وتوصية بالمحبّة الأخويّة (14).
فرأت عيونُهم جلال مجده،
وسمعت آذانُهم صوتَه المجيد (آ 13).
وفي 42:15 - 43:33، نقرأ نشيدًا يسبق مديح الآباء:
والآن أَذكرُ أعمالَ الربّ،
وأُخبرُ بكلّ ما رأيتُ منها.
بكلمة من الربّ خُلقت أعمالُه،
وكلّها تخضع لمشيئته.
الشمس المنيرة تُبصر كلَّ أعماله،
وكلُّ أعماله مملوءة من مجده.
يَفحص البحر وأعماق القلب،
ويحيط بكلّ أسرارهما (42:15 - 18).
ونقرأ في 43:1:1 - 22:
ما أروع السماء وما أصفاها،
وما أعظم مرآها.
الشمس عند طلوعها تُعلن
أنّها شيء عجيب صنعه العليّ.
كذلك صنع القمر (آ 6).
أنظر إلى قوس قزح وبارك الذي صنعها.
فهي بالغة الروعة (آ 11).
بأمره يسقط الثلج،
وبقضائه تلمع البروق.
تنفتح خزائنُ السماء
وتطير الغيومُ كأنّ لها أجنحة (آ 13).
هذا العالم المخلوق ينادي الإنسان. وإن نسيَ، يذكّره أنّه خُلق حرٌّا، ومسؤولاً عن أعماله. فالكون منظَّم، والكواكب تسير معًا وتخضع كلّ الخضوع لمشيئة ا؟. فلماذا لا يقتدي بها البشر؟
حين خلق الربُّ الكائنات،
حدّد لكلّ منها مكانًا...
لا يضايق واحدُها الآخر،
ولا تخالف أمره مدى الدهر (16:26،28).
غير أنّ الكون يحمل لبسًا. لا شكّ في أنّ جميع أعماله حسنة (39:33). ولكن لا خليقة تسير وحدها. بل تسير وتسيرُ معها رفيقتها.
فتأمَّلْ تجدْ جميعَ أعمال العليّ
اثنين اثنين، الواحد نقيض الآخر (33:15).
خلق الأشياء أزواجًا متعاكسة،
وما من خلل فيها.
الواحد يكمِّل الآخر.
فمن يشبع من التأمّل في هذه العظمة! (42:24 - 25).
هذا لا يعني أنّنا أمام ثنائيّة، يقف فيها الشرُّ تجاه الخير، ويقابل العنصرُ العنصر الآخر، وكأن لا دخل ؟ فيهما. ولكن هدف هذا غير هدف ذاك. الواحد يحمل الخلاص لهذا والعقاب لذاك. هذا ما عرفناه في سفر الحكمة حيث المياه حملت الدمار إلى المصريّين، والخلاص إلى العبرانيّين. فالإنسان في النهاية، هو المسؤول عن عمله، سواء كان خيِّرًا أو شرّيرًا (حك 11:1 - 6). ونقرأ مثل هذا في سي 39:12- 35:
لا تسألوا: »ما ولماذا«؟
فلكلّ شيء غاية.
بركة الربّ تفيض كنهر،
وتغمر الأرض اليباس كطوفان (آ 21 - 23).
ويُدعى الإنسانُ ليمدحَ الخالق، الذي مجدُه يملأ الكون (42:16). فيعدّد سي الخلائق ويقدّم المدلول اللاهوتيّ الذي فيها، والتعليم الذي نَجعله أمامنا. إنّ تحدّث عن السماء قال: »ما أروع السماء بنجومها المتألّقة؛ فأيّة زينة هي، في أعالي الربّ؟ فهي بأمر من القدّوس تنتظم، وفي سهرها أبدًا لا تتعب« (43:9 - 10). أما يستطيع الإنسان أنّ يتعلّم منها العمل الدؤوب والعمل المنظّم؟ وإن هو تكلّم عن الخلائق التي في البحر، قال: »كلّها با؟ تبلغ غايتها، وبكلمته يتماسك كلُّ شيء بانتظام« (43:36).
ب - جواب الإنسان الحرّ
تحدّث ابن سيراخ عن قدرة ا؟ التي لا تجاريها قدرة، كما لا يقف شيء ولا إنسان في وجهها. فماذا يبقى للإنسان؟ أما هو مسيَّر؟ وأيّة مكانة لحرّيّته؟
هناك من اعتبر أنّ لا توافق بين قدرة ا؟ وحرّيّة الإنسان. فالواحدة تقف بجانب الأخرى. تحاذيها، ولا تتعامل معها. وقال آخر: لا ميل إلى الشرّ عند الإنسان في ابن سيراخ كما لدى المعلِّمين اليهود. إنطلق سي 33:7 - 15 من موضوع الطريقين (تث 30:15) والفصل بين النقائض، فلاحظ أنّ الثنائيّة الخلقيّة بين البشر وفي قلب كلّ إنسان، ترتبط بالوحدة التي فيه.
الربّ بحكمته ميَّز بين البشر،
ونوَّع أحوالهم.
فمنهم من باركه وأعلى شأنه،
ومنهم من قدّسه وقرّبه إليه.
وآخرون لعنهم وأذلَّهم،
وأنزلهم من رفيع مقامهم (33:11 - 12).
يرى ابن سيراخ أنّ في الإنسان غرسًا واحدًا هو غرس الحكمة (1:9 - 10). يستطيع أن يتركه ينمو. كما يستطيع أنّ يخنق نموّه، والمثال الذي يقدّمه، هو البساطة والثبات، ونحن نحقّقه إذا شئنا.
الربّ خلق الإنسان في البدء،
وتركه حرٌّا في اختياره.
إنّ شئتَ حفظتَ وصاياه،
واخترتَ العمل بها في أمانة.
وضع النارَ أمامك والماء،
فإلى ما تَختار تمدّ يدك.
الحياة أمام الإنسان والموت،
وأيّهما يختار يُعطى له (15:14 - 17).
وهذه الإرادة توازي الحكمة التي يمنحها ا؟ للإنسان.
كُنْ حذرًا ممّن ينصحك،
واستخبر أوّلاً عن غايته.
فما دام يفكّر أوّلاً بغايته،
فهو يقدّم لك نصيحة سيّئة.
ويقول: »هذا يناسبك«!
ويقف جانبًا ليرى ما يصيبك.
لا تستشرْ من لا يثقُ بك،
واكتم نصيحتك عمّن يحسدك...
لا تستشر التاجر في التجارة،
ولا المشتري في ما يخصّ البيع.
لا تستشر اللئيم في عرفان الجميل،
ولا الرجل القاسي في حسن المعاملة.
لا تستشر الكسلان في الشغل،
ولا الأجير في إنجاز عمل يطول (37:8 - 11).
الإنسان يميّز ويختار. بل يستشير من يخاف ا؟. وفي النهاية، يأخذ نصيحة قلبه (آ 13) مع صلاة إلى ا؟ ليهديه بحسب إرادته. ويبقى التوافق بين الحرّيّة وقدرة ا؟.
قدّم ابن سيراخ الحلّ عائدًا إلى ناموس أُعطيَ ساعة الخلق. فالخليقة تكشف عن نفسها كمركب متناسق بين أمور تسير اثنين اثنين. كلّ عنصر يقوده مبدأٌ وظيفيّ. فيكون له توجيهٌ مختلف، بحيث يتحوّل إلى وسيلة عقاب.
وكذلك الحنطة والعسلُ واللبن
وعصيرُ العنب والزيت واللباس.
كلّ هذه خيرات للأتقياء،
وتستحيل شرورًا للخاطئين (39:26 - 27).
أعمالُ الربّ صالحة كلّها،
وتلبّي كلَّ حاجة في أوانها.
لا تقل: »هذا شر$ من ذاك«.
كلّ شيء قيمته في وقته (آ 33 - 34).
هذا يعني على المستوى الأنتروبولوجيّ أنّ الإنسان حرّ، في جوهره. وإن نال عقابًا، فلأنّه أساء استعمال حرّيّته. وفي عودة إلى المعنى الأصليّ للخلق، كلّ قدريّة مرفوضة.
لا تقلْ من الربّ خطيئتي،
فالربّ لا يعمل ما يُبغضه.
ولا تقلْ هو الذي أضلّني،
لأنّ الربّ لا يُعوزه الخاطئ (15:11 - 12).
الربّ يُبغض الرذيلة. فإن كنا من محبّي ا؟ وخائفيه، لا نرضى بالرذيلة. الربّ خلق الإنسان، خلقه حرٌّا، وأعطاه حرّيّة الاختيار. إنّ شاء حفظ الوصايا. وإنّ شاء رفض الوصايا. إن شاء اختار النار واحترق فيها. وإن شاء اختار الماء وما تحمل من حياة.
لم يأمر أحدًا بفعل الشرّ،
ولا أذِنَ لأحد أن يخطأ (آ 20).
هذا الإله خلق البشر، ووهبهم قوّة من قوّته. »منحهم لسانًا وعينين وأذنين، وعقلاً يفكّر« (17:4). ثمّ »ملأهم معرفة وحكمة، وأراهم الخير والشرّ« (آ 7). فهل رأوا الاثنين؟ وماذا ينتظرون لكي يفعلوا؟ »حذّرهم من عمل الشرّ« (آ 14) كما كان الأمر منذ البدء. أتراهم يحذرونه؟
غير أنّ الإنسان يميل إلى الشرّ منذ حبلت به أمّه. فإن أراد أن يحافظ على برارته، عليه أن يحارب التجربة، ويتضرّع إلى ا؟ لكي يُنجّيَه منها، ليجنّبه الوقوع في الخطيئة (22:27). وأضاف سي 23:2: »من يربّي أفكاري بالسياط، وبالحكمة يؤدّب قلبي...«. وكيف تتمّ هذه المساعدة؟ بحكمة من لدن ا؟. فالبارّ يعرف أنّه خاطئ، وكلّ ما يرجوه هو أن تعوّض أعمالُه الصالحة عن شروره في نظر الربّ الرحيم.
ج - حياة الإنسان في المجتمع
كان ابن سيراخ معلّم حكمة، فوجب عليه أن يربّي الشباب على العيش في مجتمع أورشليم. ونحن نجد في كتابه عددًا من النصائح العمليّة، ومواضيع تفكير حول العلاقات بين البشر.
شدّدَ سي على أهمّيّة تصرّفٍ مليء بالحكمة، في سيادة على النفس، تجاه الأهواء. ولا سيّما ما يتعلّق باللسان.
لا تنقلْ إلى الآخرين ما تسمعه،
فبذلك يصيبك ضرر.
لا تثرثر على أحد، صديقًا كان أمّ عدوٌّا،
ما لم يكن في الكتمان خطيئة (19:7 - 8).
كم من ساكتٍ يُعدّ حكيمًا،
ومن ثرثار مكروه لثرثرته.
بعضهم يسكت لأنّه لا يعرف جوابًا،
وبعضهم لأنّه ينتظر مناسبة للجواب.
الكثير الكلام يمقته الناس،
والذي يحتكر حقَّ الكلام يُبغَض (20:5 - 8).
وعلاقات الحكيم مع القريب تتّصف باللياقة والتواضع. من هنا احترام الفقير، وممارسة السخاء حين تدعو الحاجة. نُقرض ولو تأخّر الدفع. ونكفل ولو كان مالنا في خطر (29:1 - 7، 14 - 20). وكلام ابن سيراخ عن الصداقة يستحقّ أن نورده.
الكلام الحلوُ يُكثر الأصدقاء،
واللسان اللطيف يزيد استحسانهم.
أكثرْ من الذين يسالمونك،
لكنّ استشر فقط واحدًا من ألف.
إتّخذ صديقًا بعد خبرة،
وفي الثقة به لا تتسرّع (6:5 - 7).
ويُبرز ابن سيراخ وجه الصديق الحقيقيّ، الذي لا يبتعد عن صديقه بسهولة.
ترمي الطيور بحَجَر فتخيفها،
وتعيّر صديقك فتُنهي الصداقة.
إنّ جرّدتَ السيف على صديقك،
فلا تيأسْ من رجوعه إليك.
إنّ قسوتَ على صديقك بالكلام،
فلا تخف من أنّه لا يصالحك (22:20 - 22).
وفي معرض الحديث عن الصديق وصاحب النصيحة، يقول سي 37:1ي.
كم واحد يقدر أن يقول:
»أنا أيضًا صديقك«.
لكن كم من واحد هو صديق بالاسم!
كم من صديق ينعم بخيرات صديقه،
وفي وقت الضيق ينقلب عليه.
هناك من يشارك صديقه المصاعب،
وفي الحرب يمتشق السلاح دفاعًا عنه.
إيّاك أن تنسى صديقًا لك،
خصوصًا إذا حسنَتْ حالك.
وهناك كلام حول الأسرة مع سلطة الأب المطلقة، وعلاقته بزوجته، وقساوته في تربية أولاده. في هذا المجال، ابن سيراخ هو ابن عصره.
خاتمة
أطلنا الكلام عن الوجهة التعليميّة في حكمة ابن سيراخ. وأوردنا عددًا من النصوص اللافتة. بهذا حاولنا أن ندخل في عمق الكتاب ونردّد كلماته. مواضيع عديدة أشرنا إليها. وهناك مواضيع أخرى قد نعود إليها. إنّما جاء توسّعُنا في إطار الحكمة والشريعة، في عالم الصلاة وشعائر العبادة، في نظرة إلى الخالق، وإلى الإنسان الذي تكون حياتُه جوابًا على نداء ا؟. غنى كبير في هذا الكتاب الذي هو خبرة معلّم سافر كثيرًا ودرس كثيرًا واختبر الظروف، خيرها وشرّها، فجاءت حكمته نتيجة كلّ هذا. هو تعليم يبدو في بعض وجهاته متأثّرًا بما سبقه. غير أنّه لم يطرح أسئلة طرحها مثلاً أيّوب أو سفر الجامعة. فابن سيراخ رجل هادئ. ولا يطلب إثارة المواضيع الحسّاسة، بل يبحث عن التوازن في الحياة اليوميّة. لا يقدّم لتلاميذه طريق البطولة، لأنّه يعرف أنّ الفضيلة تقيم بين طرفين، وأنّ خير الأمور وسطها. نصائح عديدة فيها الكثير من الليونة. من أجل ذلك، أخذت الكنيسة الأولى هذا الكتاب وقدّمته للموعوظين، الذين يستعدّون لاقتبال العماد. ينطلقون منه من أجل عيشٍ في الفضيلة بانتظار الدخول في منطق الإنجيل الذي لا يَرضى ببرٍّ يُشبه برَّ الكتبة والفرّيسيّين، بل يدعو كلّ واحد منّا: »كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ كامل هو«.