الفصل الثالث
ابن سيراخ في دراسة أدبيّة
نعالج في هذا الفصل ثلاثة مواضيع من أجل الإحاطة بابن سيراخ في مختلف جوانبه الأدبيّة. الأوّل، قانونيّة النصّ وبالتالي مسألة الإلهام فيه. الثاني، المحيط التاريخيّ والحضاريّ. الثالث، هدف الكتاب وقرّاؤه.
1 - قانونيّة النصّ وصفة الإلهام فيه
هنا يُطرح السؤال: هل يدخل سي في قانون، في لائحة الأسفار المقدّسة، التي تقرأها الكنيسة لتستخرج إيمانها وتستشفّ سلوكها؟ هنا نعود إلى تسمية تعود إلى سكستوس السيانيّ (1520 - 1569) الذي قسم الأسفار المقدّسة التي تعترف بها الكنيسة اعترافًا رسميٌّا إلى فئتين. القانونيّة الأولى، هي تلك التي ما كان جدال جدّيّ ولا شكّ حول قانونيّتها. والقانونيّة الثانية التي رُفضت قانونيّتها لدى البعض، بحيث لم تثبت إلاّ في حقبة متأخّرة. أمّا سي فانتمى إلى الفئة الثانية. فلا بدّ إذن من دراسة تاريخ إدراج هذا النصّ في لائحة الأسفار الملهمة.
أ - التقليد اليهوديّ
قدّم ابن سيراخ نفسه على أنّه نبيّ. وأنّه ملهَم. هو الحكيم الذي منحه ا؟ ما يماثل النبوءة (24:33). فامتلأ بالأفكار وطلب من أبنائه المخلصين أنّ يسمعوه (39:12 - 13). كما امتلأ بالمعرفة ونجح فيها (51:16). وشهد المترجم في المقدّمة أنّ كتاب جدّه عُرف في فلسطين. وأنّ ترجمته اليونانيّة تتوجّه إلى يهود الشتات. ويُثبت هذه المعلومات استعمالٌ كثير لابن سيراخ في كتاب أخنوخ (1 أخن 30:15؛ 42:11؛ 43:2 - 3؛ 47:5؛ 51:1 - 3؛ 52:5، 8، 12؛ 61:2، 4؛ 65:2 - 11) ومزامير سليمان (مز سل 2:19؛ 3:7، 12؛ 5:14 - 17؛ 9:16 - 18؛ 13:2، 3؛14: 3؛ 16:2، 7، 8؛ 17:6).
وهناك براهين تدلّ على أنّ سي استُعمل في الليتورجيّا اليهوديّة، في المباركات الثماني عشرة، وفي النشيد من أجل نهاية السبت. وخصوصًا في التلمود، في المدراشيم ومؤلّفات المعلّمين الكبار والشعراء اليهود مثل سعديّة وابن غابيرول. وقدّر اليهود هذا الكتاب قدره، فدوّنوا في الأراميّة مجموعات مختلفة من أمثاله، واستشهدوا بنصوصه كما استشهدوا بسائر الأسفار المقدّسة. إعتاد التلمود أن يورد سي مع عنوان: »د ر ك. إ ر ص. ر ب ا« (طريق الأرض الكبير)، وفي إحدى المرّات قدّم كلامه فقال: »كُتب« (بركوت 18أ) كما يُقال بالنسبة إلى الأسفار القانونيّة.
غير أنّ العالم اليهود لا يعتبر سي سفرًا قانونيٌّا. ولا يُدخله في لائحة الأسفار المقدّسة، الملهمة. جاء هذا الاستبعاد متأخّرًا، فعاد إلى الإضافات العديدة التي دخلت إلى الكتاب. أو ربّما، بسبب النزعة الصادوقيّة في تعليمه: شك$ في التعليم حول القيامة، اهتمامٌ بسلالة صادوق الكهنوتيّة... كان هذا الاستبعاد نتيجة أفكار مسبّقة لدى الفرّيسيّين الذين حدّدوا القانون اليهوديّ، أي لائحة الأسفار المقدّسة. لهذا أغفِل سي في أوّل لائحة مسيحيّة للأسفار البيبليّة في مليتون السرديسيّ (سنة 180). ربّما تكون لائحة مليتون، هي تلك المعروفة في البيبليا اليونانيّة في فلسطين. وأغفِل ابن سيراخ أيضًا في لائحة اوريجانس (قبل سنة 231) التي لا تتضمّن سوى الأسفار الاثنين والعشرين في القانون العبريّ (أوسابيوس، التاريخ 4:26)، هنا نشير إلى أنّ الأسفار التي يأخذ بها العالم اليهوديّ (وبالتالي البروتستانتي) هي 39 سفرًا. وهي التي نقرأها اليوم في النسخة العبريّة. ولكنّ اليهود جعلوها في 22 سفرًا بعدد حروف الأبجديّة العبريّة والأراميّة والسريانيّة. مثلاً، الأنبياء الاثنا عشر يكوّنون سفرا واحدًا...
ب - التقليد المسيحيّ
قالوا: إنّ الكنيسة الأولى أخذت بيبليا يهود الإسكندريّة الذين تحرّروا أكثر من إخوتهم في فلسطين، فأخذوا بالأسفار القانونيّة الأولى والقانونيّة الثانية. ولكن يجب أنّ نحدّد. من جهة، لائحة الأسفار القانونيّة في المعنى الضيّق. هي هي في فلسطين وفي الإسكندريّة. ولكن أضيفت على قانون الإسكندريّة كتاباتٌ جهلها معلّمو أورشليم. ومن جهة ثانية، إنّ أوّليّة القانون العبريّ حافظت، خلال قرون عديدة، على سلطتها المطلقة والمميَّزة. ومواجهة هذا القانون مع إضافات غير رسميّة إلى قانون الإسكندريّة، زرعت الشكّ في قيمة الأسفار القانونيّة الثانية. وحين نعرف أهمّيّة الكلمة الواحدة، كلمة ا؟، التي هي هي ولا تتبدّل، نفهم أن يكون سي خارج اللائحة القانونيّة، إذ لا نجد نصٌّا واحدًا نستند إليه، بل نصوصًا تختلف عن أخرى أو تضاف من لغة إلى أخرى.
من أجل هذا، بعد مليتون السرديسيّ وأوريجانس، جاء قرار البابا جلاسيوس فجعل سي بين الأسفار القانونيّة (الآباء اللاتين 19:791). وفي منتصف القرن الثالث أوردت القوانين الرسوليّة (4:11؛ الآباء اليونان 1:824) ابن سيراخ كما أوردت سائر الأسفار البيبليّة. ولكن سنة 360، توقّف مجمع اللاذقيّة عند اللائحة العبريّة (مجموعة النصوص البيبليّة 9). ساعة اعتبر مجمع هيبونة (عنّابة في الجزائر) الأفريقيّ المنعقد سنة 393 (النصوص البيبليّة 11) ومجمع قرطاجة المنعقد سنة 397 (دنتسنفر 92) حكمة ابن سيراخ سفرًا قانونيٌّا. أمّا قوانين الرسل (القانون 85) التي تعود إلى القرن الخامس، فنصحت بقراءة سي، ولكنّها لم تجعله مع الأسفار القانونيّة.
هذه اللوائح الرسميّة أو شبه الرسميّة، تعكس تردّد المسيحيّين الأوّلين في إدخال سي في القانون، مع أنّ هذا السفر نال منذ البداية استقبالاً طيّبًا.
وإن كان العهد الجديد لا يورد آياته بشكل صريح، إلاّ أنّه يستلهم بعضها هنا وهناك. مثلاً، نستطيع أن نقابل مت 6:14 (فإنّ كنتم تغفرون) مع سي 28:2:
أيحقد إنسانٌ على آخر
ثمّ يلتمس من الربّ رحمته؟
ونقابل مت 11:25 - 30 (صلاة الحمد بفم يسوع) مع سي 51:13 - 14:
في أيّام شبابي، قبل أن أباشر أسفاري،
طلِتُ الحكمة عاليًا في صلواتي.
أمام الهيكل تضرَّعتُ لأجلها،
وإلى آخر أيّامي التمستُها.
ونقرأ سي 11:18: هناك من يعتني بالحرص والتقتير، فنتذكّر ذاك الغنيّ الجاهل الذي أغلّت أرضه فتطلّع إلى توسيع أهرائه (لو 12:16ي). وفي الخطّ عينه نقرأ سي 31:1 - 2.
الاهتمام بالغنى يُذيب الجسد،
والأرق من أجله يطرد النوم.
الهمّ الدائم يَمنع النعاس،
كما يمنعه المرض الشديد.
وكانت رسالة يعقوب قد استلهمت الكثير من سي. يع 1:9 وسي 5:11 (كن حاضرًا دائمًا للاستماع، ومتأنِّيًا في الجواب). يع 1:20 وسي 1:22 (الصبور يتحمّل). يع 3:6 وسي 3:6 (من أكرام أباه طالت حياته). يع 5:3 وسي 29:10 (أفضل أن ننفق المال من أن يأكله الصدأ). ونستطيع أن نقابل الرسائل البولسيّة مع سي. ولكنّنا نكتفي بهذا المقدار للدلالة على وجود سي في العهد الجديد.
في العصر الرسوليّ، أوردت رسالة برنابا (19:9) والديداكيه أو تعليم الرسل (4:6) سي 4:31: لا تفتح كفّك للأخذ وتُغلقها عند العطاء.
ج - آباء الكنيسة
أوّلاً - الكنيسة اليونانيّة
أورد أكلمنضوس الإسكندرانيّ (+ 220) نصوص سي ما يزيد على ستّين مرّة، ولا سيّما في كتاب المربّي. وهو يعتبر هذا السفرَ كتابًا مقدّسًا: غرافي في اليونانيّة. وإن كان أوريجانس (+ 252) لا يقبل في المبدأ سوى بالأسفار الاثنين والعشرين كما نقرأها في العبريّة، وذلك من أجل الحوار مع اليهود، إلاّ أنّه يُورد سي سبعين مرّة ونيّف ويدعوه: الكلمة الإلهيّة، الكتابة الإلهيّة. ويعلن أنّ سلطته توازي سلطة سائر الأسفار البيبليّة. وسوف يبيّن في رسالة إلى يوليانس الأفريقيّ، لماذا أضاف المسيحيّون على القانون اليهوديّ ما وجدوه في قانون الإسكندريّة.
وقسم أوسابيوس القيصريّ (+ 340) الأسفار البيبليّة ثلاث مجموعات: تلك التي يقبل بها الجميع، تلك التي يكون في شأنها جدال، تلك التي يرذلها الجميع. ويورد قوانين مليتون ثمّ أوريجانس. وهكذا تهيّأت الطريق إلى تمييز لاحق: القانونيّة الأولى، القانونيّة الثانية، المنحولات. وأثناسيوس، بابا الإسكندريّة (+ 373)، ذكر الأسفار الاثنين والعشرين كما في العبريّ، وذكر ابنَ سيراخ على أنّ الآباء ينصحون به للذين يرغبون أنّ يتعلّموا كلام ا؟. بل يورد نصّ سي في الردّ على الآريوسيّين ويعتبره كتابًا مقدّسًا (الآباء اليونان 26:313). ذاك ما كتبه هذا البطريرك في رسالة الفصح التاسعة والثلاثين.
وكتب كيرلّس أسقف أورشليم (+ 386) ما يلي: »اعتنِ لتعرف من الكنيسة ما هي أسفار العهد القديم والعهد الجديد«. وبعد أن عدّد الأسفار القانونيّة الأولى، خلُص إلى القول: »سائر الأسفار هي من خارج القانون، من الدرجة الثانية«. وغريغوريوس النازينزيّ (+ 389) عدّد الأسفار المقدّسة كما في قانون فلسطين (أي الكتب العبريّة). وقال: »هذه هي كلّها (الأسفار المقدّسة). وما يخرج عن هذه ليس بأصيل« (الآباء اليونان 37:473). في »المقاييس والموازين« أقرّ إبيفانيوس (+ 404) أنّ سي ليس في القانونيّ. أمّا في ردّه على الهراطقة، فقال بعد أنّ أورد اللائحة القانونيّة: »كتابا الحكمة، حكمة سليمان وحكمة ابن سيراخ«. في الواقع، تلك كانت الممارسة المسيحيّة.
ثانيًا - الكنيسة اللاتينيّة
ما ورد سي عند إيريناوس، أسقف ليون في فرنسا (+ 202). أمّا ترتليانس ابن قرطاجة (+ 220) فقال عنه ما اعتاد أن يقول عن النصوص العبريّة: كما كُتب (الآباء اللاتين 2:265، 916). ونجد عند قبريانس، أسقف قرطاجة (+ 258) خمسة وعشرين إيرادًا من سي مع عبارة: »نلتم الربّ في حكمة سليمان... قال الكتاب الإلهيّ... نلتُم الروح القدس... قال الربّ بسليمان في الأمثال. نلتم الربّ بسليمان في ابن سيراخ«. هذا يعني أنّ كنيسة أفريقيا اعتبرت سي كتابًا ملهمًا. وهذا أمرٌ طبيعيُ إن كان هذا السفر نُقل من اليونانيّة إلى اللاتينيّة في أفريقيا، في اللاتينيّة العتيقة، فأخذه إيرونيموس وما أعاد ترجمته كما فعل لسائر الأسفار في الترجمة الشعبيّة.
هيلاريون، أسقف بواتييه في فرنسا (368) جعل في مقدّمته لأسفار سليمان (الآباء اللاتين 9:241) لائحة بأسفار العهد القديم، ثمّ تحدّث عن طوبيّا وجوديت. وفي النهاية اعتبر سي وحك »أنبياء«. أمّا إيرونيموس (+ 420) فاعتبر الأسفار اليونانيّة »أبوكريفا« أي غير قانونيّة. »ليس كتاب يشوع بن سيراخ وسفر الحكمة ويهوديت وطوبيّا في القانون« (اليهوديّ). واعتبر أوغسطينس (+ 430) اعتبارًا كبيرًا سي. هو بين الأنبياء (الآباء اللاتين 34:41). يقرّ الغرب بسلطته بعد أن قبلت به الكنيسة (مدينة ا؟ 27:20؛ 41:554).
لا نجد دراسات معمّقة في التقاليد الشرقيّة. ولكنّ هذا السفر قرئ في الليتورجيّا السريانيّة، كما في الليتورجيّا القبطيّة التي تَرجمت من نصوصه تلك التي تُستعمل في كتاب القراءات في الكنيسة.
د - إبن سيراخ كتاب ملهم
هنا تُطرح قضيّة الإلهام بالنسبة إلى يشوع بن سيراخ. أيّ نصّ نعتمد. في الأسفار القانونيّة الأولى، نعتمد على النصّ العبريّ. أمّا في سي، فهناك نصّان عبريّان. ثمّ إنّ النصّ العبريّ ليس بكامل. فمن أين نأتي بالثلث الذي لم نكتشفه بعد؟ في الأسفار القانونيّة الثانية، نعود إلى النصّ اليونانيّ، كما هو الأمر بالنسبة إلى سفر الحكمة، أو باروك أو يهوديت. فهل نأخذ بالنصّ اليونانيّ كأساس الإيمان والعقيدة والأخلاق؟ غير أنّ هناك أكثر من نصّ يونانيّ. فأيّه نختار؟ هل نأخذ بالنصّ السريانيّ الذي هو قريب جدٌّا من العبريّ، بحيث نستطيع أن نعيد تكوين العبريّ انطلاقًا من الترجمة السريانيّة؟
لا يزال الجدال قائمًا في هذا المضمار. هنا لا بدّ من العودة إلى نصوص مجمعَي فلورنسا وترنتو. غير أنّنا نكتفي بملخّص سريع ورد في المجمع الفاتيكانيّ الأوّل: »إنّ هذا الوحي الفائق الطبيعة تحويه، بحسب إيمان الكنيسة الجامعة، الذي أعلنه المجمع التريدنتينيّ المقدّس، »الأسفار المكتوبة، والتقاليد غير المكتوبة، التي تقبّلها الرسل من فم المسيح نفسه. أو نقلها الرسل أنفسهم. كما من يد إلى يد، بفعل الروح القدس. فوصلت إلينا« ]الرقم 1501[. وأسفار العهدين القديم والجديد هذه، كما عُدِّدت في مرسوم ذلك المجمع، وكما تُوجَد في الطبعة المنتشرة (الشعبيّة) اللاتينيّة القديمة (فولغاتا). يجب تقبّلها مقدّسة وقانونيّة بكاملها وبكلّ أجزائها، والكنيسة تعدّها كذلك، لا لأنّها صُنعت بعمل الإنسان وحده ثمّ ثبّتتها هي بسلطتها، ولا لأنّها تحوي الوحي بدون ضلال فقط، وإنّما لأنّها كُتبت بإلهام الروح القدس، ولأنّ واضعها هو ا؟ ونُقلت هكذا إلى الكنيسة« ]ق 4[.
إذا كان الأمر هكذا، فهذا يعني أن كلَّ نصّ من نصوص سي ترافقه صفة الإلهام. وكيف نريد أنّ نتوقّف عند النصّ الأصليّ، وننسى الغنى الذي تلقّاه سي العبريّ، في اليونانيّة واللاتينيّة والسريانيّة. أما هكذا كان الوضع بالنسبة إلى سفر أستير أو إلى سفر دانيال؟ ما تركنا جانبًا نصوصًا يونانيّة أضفت على سفر أستير العبريّ نفحة روحيّة. ولا تناسَيْنا نشيد الفتية في أتّون النار، لأنّه دُوّن في اللغة اليونانيّة. وهذا ما نقول بالنسبة إلى ابن سيراخ الذي اغتنى كما سبق لنبوءة أشعيا التي انطلقت من القرن الثامن ق.م. وتواصلت قراءتُها وإغناؤها بعد العودة من المنفى البابليّ سنة 538.
الأمانة للمجمع التريدنتينيّ تمنعنا من أن ننزع الصفة القانونيّة عن النصّ الطويل في سي. فهو في الشعبيّة اللاتينيّة، وما زال يُقرأ في الكنيسة. والنصّ القصير هو النصّ التقليديّ. إذن، نأخذ بالنصّين الطويل والقصير، ولا نأخذ بالواحد ونترك الآخر.
ما هي ممارسة الكنيسة في هذا المضمار؟ هناك من جعل إضافات النسخة الطويلة في قلب النصّ، وآخرون جعلوا هذه الإضافات في الحاشية. الممارسة متنوِّعة، ولكنّ عمق النصّ هو هو. وبما أنّ الكنيسة لم تختر لغة دون أخرى للكلام عن الإلهام، يبقى السؤال مفتوحًا بحيث يستطيع المؤمنون أن يجدوا في هذا الكتاب الغذاء الكبير من أجل حياتهم الأخلاقيّة بشكل خاصّ.
2 - المحيط التاريخيّ والحضاريّ
إذا أردنا أن نفهم روح هذا السفر ومضمونه، لا بدَّ من وضعه في إطاره التاريخيّ والدينيّ الذي فيه كُتب.
أ - المحيط التاريخيّ
يتميّز هذا المحيط بالصراع بين البطالسة (مصر) والسلوقيّين (أنطاكيّة)، وفلسطين هي الأرض التي فيها تصطدم هاتان المملكتان. ترى فيها مصر سورًا يقيها من الآتين من آسية. وأنطاكية طريق امتداد نحو الجنوب. حين مات أنطيغونيس سنة 301 ق.م. ابنُ لاجوس، وضع بطليموس الأوّل، ملك مصر، يده على فلسطين. واحتلّ سلوقس الأوّل سورية التي احتفظت سلالتُه بها حتّى سنة 198، وجعل من أنطاكية عاصمته. خلال القرن الثالث ق.م.، كانت الحرب بين اللاجيّين (أو البطالسة) والسلوقيّين مع كرٍّ وفرٍّ لامتلاك سورية الجنوبيّة. وفي النهاية، استفاد أنطيوخس الثالث العظيم (223 - 187) الذي قهره بطليموس الرابع (231 - 203) في رفح (حزيران 217). إستفاد من وضع بطليموس الخامس إبيفانيوس، الذي كان بعدُ قاصرًا، فهزم الجيش المصريّ واستعاد المناطق السوريّة التي خسرها سنة 205. ولكنّ هذا النجاح لم يكن نجاحًا بكلّ معنى الكلمة. فقد أُجبر على التحوّل إلى مملكة برغامس، فخسر ما ربحه في معركته مع مصر ولن يستطيع حقٌّا أن يضع يده على فلسطين إلاّ بعد معركة بانياس سنة 198 ق.م.
لا شكّ في أنّ يهودا بعاصمتها أورشليم، لم تُصَبْ مباشرة بسبب هذه الخلافات المتواصلة، لأنّ المعارك الهامّة وقعت في الشمال. وكان حاكمها المباشر دومًا، عظيم الكهنة كرئيس مدنيّ ورئيس دينيّ في الوقت نفسه. ولكنّنا نستطيع أنّ نتصوّر بسهولة مضاعفات عديدة لدى مرور الجيوش ودفع الأموال والقيام بأعمال السخرة. فحالة الحرب المتواصلة بفعل جيران سكّان فلسطين وأسيادهم، حملت الخوف والقلق: كيف ستنتهي هذه المعارك، ومن يكون حاكم البلاد؟
واستفاد السامريّون، مرّة أخرى، من هذا الوضع المضطرب، فهاجموا اليهود ودمرّوا أرضهم وقتلوا البعض واقتادوا آخرين سبايا (يوسيفوس، العاديّات 12/3:3؛ 12/4:1). من أجل هذا، استُقبل أنطيوخس الثالث في أورشليم كحامل السلام، ودلّ على رضاه عن اليهود الذين ساعدوا على طرد المصريّين من برج داود. بل شارك في مصاريف شعائر العبادة (50:1 - 4؛ العاديّات، 12/3:3، 4). ولكن قهره الرومان في مغنيزية (تركيّا الحاليّة) سنة 190، وفرضوا عليه جزية باهظة (1 مك 8:7، 8)، واقتطعوا قسمًا كبيرًا من أرضه. وإذ أراد أن يدفع ديونه، حاول أن يسرق هيكلاً في أرض عيلام، كما قال ديودورس الصقّليّ (1:29). ولكن قتله الكهنةُ سنة 187 ق.م. (2 مك 1:13 - 16).
فخلفه ابنُه سلوقس فيلوباتور (187 - 175)، الذي كان راضيٌّا عن اليهود، فقدّم المصاريف الضروريّة من أجل الذبائح (2 مك 3:3 - 40). ولكنّه ورث عن أبيه الديون الكثيرة، فبحث في كلّ الوسائل من أجل الحصول على المال. حاول أن يضع يده على كنز الهيكل. وما كان ذلك خطر بباله، لولا التزام بين عائلة طوبيّا القديرة وعائلة أونيّا الكهنوتيّة. فتلك تاقت إلى الحصول على وظيفة الكهنوت الأعظم التي انتمت إليها أسرة سمعان (2 مك 3:4). طمع سمعان أخو منيلاس، حسدًا من أونيّا الثالث الكاهن الأعظم، الذي كان خلف سمعان الثاني وابنه، فعزم على الحصول على وظيفة الكاهن الأعظم، بالتعاون مع الحزب المتنفِّذ (العاديّات 12/5:1). وإذ أراد أن يحقّق مقصده، دخل في الصعوبات الماليّة التي يتخبّط فيها سلوقس الرابع. ولفت انتباه الملك السلوقيّ إلى كنز الهيكل. فرح سلوقس بالفكرة فأرسل مستشاره هليودورس (2 مك 3:7) ليمتلك هذه الثروة الطائلة. ولكن ما إن دخل هليودورس ورفاقه إلى غرفة الكنز، حتّى ضربهم ا؟ فخرجوا صفر اليدين.
نسب سمعان فشل هليودورس إلى حيلة أونيّا الثالث الذي دُعي إلى القصر لكي يبرّر موقفه. في ذلك الوقت، مات سلوقس الرابع بعد أن وضع له هليودورس السمّ سنة 175. ولمّا اعتلى أخوه أنطيوخس الرابع (174 - 164) العرش، لم يثبّت أونيّا كعظيم كهنة، بل أحلّ محلّه أخاه ياسون (ما يقابل يشوع في العبريّة) بناء على طلب عائلة طوبيا. كما قدِّم لمنالاوس الكهنوت الأعظم سنة 171، بعد أن دفع المال لأنطيوخس الرابع. وتواصل الصراع بين أسرة طوبيّا وأسرة أونيّا، وهو صراع هامّ في التاريخ اليهوديّ، في تلك الحقبة. ولكن انتصرت أسرةُ طوبيّا لأنّ الملك ساندها. حينئذٍ هرب إلى مصر آخر سليل الأسرة الكهنوتيّة القديمة، وأسّس هيكلاً في يهوديّة (هليويوليس) قرب القاهرة.
فشلت محاولةُ سلب الهيكل على يد سلوقس الرابع، فبدأ اضطهادٌ سوف يندلع مع أنطيوخس الرابع إبيفانيوس. وفي الوقت عينه، بدأت ثورة المكّابيّين وكان ابن سيراخ شاهدًا لما سوف يحدث (36:1ي). أمّا ف 44 - 50 فتشير إلى الصراع بين جماعة طوبيّا وجماعة هرقانوس. ويبدو أنّ الكلام حول الرجاء المسيحانيّ في سي، مرجعُه ما استخلص ابن سيراخ من هذه الأحداث.
ب - الحضارة الهلّنيّة
في القرن الثالث ق.م. وبداية القرن الثاني، أظهر العالم اليهوديّ حيويّة لافتة للنظر. غير أنّ وصول الإسكندر الكبير فتح على العالم الساميّ آفاق حضارةٍ جديدة. من جهة، دخل بعضُ اليهود في خدمة عسكريّة لدى الرؤساء الوثنيّين، أو هم أقاموا في بلاط أنطاكية أو الإسكندريّة. ومن جهة ثانية، جاء جنود وتجّار أجانب فأقاموا في فلسطين وحوّلوا الحواضر اليهوديّة إلى مدن يونانيّة حاملين معهم لغتهم وتقاليدهم بعد أن تزوّجوا ببنات من أهل البلاد.
وهكذا كانت علاقات سياسيّة وتجاريّة وأدبيّة، وبالتالي دينيّة، وتوثّقت مع الأيّام. وتداخلت حضارة في حضارة، وتعمّق هذا التداخل بحيث وجب على اليهود أن يأخذوا موقفًا من الحركة الهلّنيّة: هل يأخذون بها؟ هل يرفضونها؟ وبالرغم من المعارضة الجذريّة بين تقاليد اليهود وتقاليد الوثنيّين، بين عبادة ا؟ التي ترفض الصور والتمثّلات والميتولوجيّا اليونانيّة التي تمجّد ميول الطبيعة البشريّة، وعبادات الآلهة، تكوّن في أورشليم حزب هلّينيّ تخلّى عن عادات الآباء وأخذ بالممارسات الوثنيّة. وردّ عليهم حزب اليهود »المتزمّتين« الأتقياء، حسيديم، فاعتبروا الآخرين جاحدين وأشرارًا وخطأة. وفي عهد أنطيوخس الرابع، وعلى أثر سلوك ياسون الشائن الذي جعل وجود العالم اليهوديّ على المحكّ، صار التعارض بين الحزبين مأساويٌّا، وما خلَّص ديانةَ الآباء، سوى بطولة المكّابيّين.
وابن سيراخ الذي عاش في تلك الحقبة السياسيّة المضطربة، حيث طُرح بحدّة موضوع الأخذ بالهلّنيّة أو رفضها، توجّه من جهة إلى المتردّدين (12:2ي) ليدعوهم إلى الأمانة لشعائر العبادة، ومن جهة ثانية إلى »الهاربين« (17:24) ليدعوهم للعودة إلى ديانة الآباء.
3 - هدف الكاتب وقرَّاؤه
أعلن الحفيد في المقدّمة أنّ جدَّه، ابن سيراخ، يتوجّه إلى الذين في الخارج، أي إلى يهود الشتات الذين يريدون أن يعيشوا بحسب الشريعة، كما إلى الوثنيّين المستعدّين لكي يتقبّلوا نداء ا؟. وبشكل محدّد، توخّى ابن سيراخ قبل كلّ شيء أن يحدّث النخبة، رؤساء الشعب. قال: »اسمعوني يا عظماء الشعب، وأصغوا إليَّ، يا رؤساءه« (33:19). وأن يحدّث طالبي الحكمة الذين ينعمون ببعض الوقت لدراستها:
والآن أريد أن أنشر ما تعلّمتُ،
وكالصباح أجعله بعيدًا يضيء.
أمنحه بما يماثل النبوءة،
وأورثه إلى مدى الأجيال.
تعبي لم يكن من أجلي وحدي،
بل لكلّ من يطلب الحكمة (24:32 - 34).
إعتبر ابن سيراخ كتابه مدرسة، أو منبر معلّم. قال:
تعالوا إليّ، أيّها المحتاجون إلى التأديب،
ولازموا مدرستي (51:23).
هؤلاء اليهود يعيشون في عالم وثنيّ يسحرهم ويجتذبهم. فأراد الكاتب لهم أن يحفظوا نقاء إيمانهم الدينيّ بفضل دراسة الكتاب المقدّس والتقليد. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، أراد أن يقوّيهم في نقاوة عاداتهم بتأثير من الوحي على الحياة العمليّة. ومضمون الكتاب كلّه يثبّت هذا القول: فعلى المستوى التعليميّ، يتكرّر مديحُ الحكمة، أي ديانة بني إسرائيل، في موازاة الفلسفة اليونانيّة. فابتداء من ف 44، ينطلق مديح طويل لآباء الشعب تجاه أبطال اليونان وحكمائهم. ثمّ امتداح العبادة مع سمعان، عظيم الكهنة (ف 50) تجاه جمالات العبادات الوثنّية.
وعلى المستوى الخلقيّ، يشدّد الكاتب على الحكمة في تدبير ا؟ للعالم، تجاه ما يقوله الرواقيّون، رغم الظواهر المعاكسة (39:12 - 40:27). فالربّ الذي يفحص الكلى والقلوب (42:18ي) يتميّز مؤمنيه (16:16 - 23؛ 33:11ي) ويساعدهم لكي يظلّوا أمناء (2:7 - 81؛ 22:27 - 23، 6؛ 33:1ي). هي مخافة ا؟ التي تحرّك بركاته، وتجعل الحياة سعيدة.
من اتقّى الربّ لا يصيبه شرّ.
وفي المحنة مرارًا ينجّيه (33:1).
الغنى والقوّة يقوّيان القلب،
ومخافة الربّ فوق كليهما (40:26).
لا شيء خيرٌ من مخافة الربّ،
ولا شيء أحلى من حفظ وصاياه (23:27).
فلا نسمحْ للأشرار أن يفرضوا نفوسهم علينا بهيبتهم ونفوذهم. ولا نطلبْ أن نقيم علاقات معهم، لأنّنا سوف نندم بعد ذلك.
لا تسلِّط الأحمق عليك،
ولا تساير الرجلَ المقتدر (4:27)
لا تطلب من الربّ مقامًا رفيعًا،
ولا من الملك كرسيَّ مجد (7:4)
لا تسعَ أنّ تكون قاضيًا
إن كنتَ تعجز عن إزالة الظلم،
أو تنحني لصاحب النفوذ،
فتعرِّض نزاهتك للضياع (آ 6).
كُلْ واشرب مع الصالحين،
وافتخر بمخافتك للربّ (9:16).
لا تجوزُ إهانةُ الفقير العاقل،
ولا يليق تكريمُ الرجل الخاطئ.
الحكماء والقضاة والوجهاء يستحقّون التكريم،
لكن لا أحد منهم أعظم ممّن يخاف الربّ (10:23 - 24).
فإذا كان ا؟ يسامح الضالّين الذين يتوبون، ويشجِّع الذين يفقدون الصبر، إذا كان يرحم جميع البشر (17:24 - 25؛ 18:13)، فهو يعاقب الأشرار ولا يتجاهل اليتيم المتضرِّع إليه، ولا شكوى الأرملة (35:17).
خاتمة
تلك كانت دراستنا الأدبيّة لحكمة ابن سيراخ. بما أنّ النصّ مقبول كسفر قانونيّ عند الكاثوليك والأرثوذكس، لا عند البروتستانت، تساءلنا عن قانونيّته. هل يدخل في لائحة الأسفار المقدّسة، فيكون قانونًا وقاعدة لحياة المؤمنين؟ كانت تردّدات. وفي النهاية، دلَّت الكنائس الأرثوذكسيّة على قانونيّته من خلال ممارسة الصلاة عندها. والكنيسة الكاثوليكيّة حدّدت موقع سي بين الأسفار المقدّسة مثل أشعيا وإرميا وغيرهما. أمّا الإلهام فيرافق محطّات هذا الكتاب الذي ما بقي حرفًا جامدًا فاغتنى في أكثر من لغة. إغتنى في العبريّة واليونانيّة في نسختين في كلّ منهما. واغتنى في السريانيّة واللاتينيّة حين شدّد على الحياة في العالم الآخر. وأبرزَ في اللاتينيّة الصفةَ الخلقيّة في الحياة اليوميّة. هذا الكتاب الذي وُلد في العالم اليهوديّ المتأخّر، وقبل المسيحيّة بقرنين من الزمن، حاول أن يستعيد التقاليد القديمة في وجه الحضارة الهلّنيّة التي حملها الإسكندر المقدونيّ حين أتى إلى الشرق. هناك غنى من التوراة، وغنى من الفلسفة اليونانيّة. ليعرف اليهوديّ كيف يتعامل مع ما تقدّمه له الحكمة اليونانيّة. وليتّضع اليونانيّ ويدخل في وحي ا؟ الواحد تجاه آلهة متعدّدة، تجاه الأصنام وشعائر عبادتها. إلى هاتين الفئتين توجّه ابن سيراخ وهو يتوجّه اليوم إلينا ليدعونا إلى الحكمة الحقّة التي هي مخافة ا؟: هو يرحم من يعود إليه تائبًا. ولكنّه يعاقب الأشرار، ولا سيّما العظماء والأغنياء والمقتدرين، حين يظلمون شعبه وصغار مؤمنيه.