الإفخارستيّا وحضور المسيح

الإفخارستيّا وحضور المسيح

تحدّثنا عن حضور المسيح وتقدمة جسده ودمه في العلّيّة، فاكتشفنا تاريخ شعب الله منذ آدم حتّى الصليب. والعامل الأساسيّ كان المسيح الذي فيه تلتقي جميع الرموز والوجوه في الأزمنة السابقة. وحين نصل إلى حضور المسيح في الإفخارستيّا نرى عمل الروح الذي يميّز تمييزًا الليتورجيّات الشرقيّة. هنا يقودنا أفرام إلى عمق لاهوت نكتشف بعض تلمّساته في الفكر المسيحيّ الحديث:

في خبزك اختفى الروحُ الذي لا يؤكل،

في خمرك أقامت النار التي لا تُشرب

الروح في خبزك، والنار في خمرك

يا للعجب عظيم نالته الشفاه.

في هذا النشيد العاشر من أناشيد الإيمان، نلاحظ أنّ الروح والنار يدلاّن على الروح القدس. هذا ما يعود بنا إلى خبر حلول الروح القدس على التلاميذ، في العلّيّة ، يوم العنصرة. هناك نزل الروح كما في ألسنة من نار (أع 2: 3). وأورد أفرام في الإنجيل الرباعيّ (دياتسّارون) حاشية في إطار الحديث عن عماد يسوع:

"بالعماد ارتدى يسوع برَّ العهد القديم فنال ملء المسحة وأعطاها في ملئها وكمالها تلاميذه. في وقت واحد، وضع حدًّا لمعموديّة يوحنّا وللشريعة. تعمَّد في البرّ لأنّه كان بلا خطيئة، وعمَّد في النعمة لأنّ البشر كانوا خطأة. ببرّه وضع حدًّا للشريعة. وبعماده دمَّر عماد يوحنّا"[1].

ويتابع أفرام: "كثيرون تعمّدوا في ذلك اليوم، ولكنّ الروح نزل وحلّ على واحد فقط، لكي يميّز، بعلامة، ذاك الذي ما تميَّز في مظهره عن سائر البشر. وبما أنّ الروح نزل في عماده، فالروحُ أعطي في عماده" (ص 95).

وما اكتفى أفرام بأن يقرّب العنصرة من العماد من أجل تدخّل الروح، بل عاد إلى تجسّد الابن ليربط عمادنا والإفخارستيّا. هنا نواصل قراءة النشيد العاشر من أناشيد الإيمان:

ها النار والروح في حشا مريم

ها النار والروح في نهر العماد

النار والروح في عمادنا

وفي الخبز والكأس النار والروح.

هنا نلتقي مع لاهوتيّ كبير من القرن التاسع عشر في "أسرار المسيحيّة": "اتحّد الروح القدس، روح الابن، بشكل حقيقيّ، بجسد المسيح الذي فيه يحلّ ويسكن. ويأتي إلينا في هذا الجسد ليتّحد بها ويصل إلينا. ففي جسد الكلمة (لوغوس) الذي يملأ، نتقبّل الروح القدس في قلب الينبوع الذي يجري منه"[2].

وبعد ذلك، يتجاسر بعضهم فينكرون وجود اللاهوت عند أفرام، وكأنّ اللاهوت يغيب حين تغيب مقالات المنطق وعلم القياس. فمن أدرى من الشاعر في الغوص في عمل الكلام عن الله. طُرح سؤالان ينطلقان من سفر الأمثال، الذي نسبه العالم القديم إلى سليمان، معلّم الحكمة:

من صعد إلى السماء ونزل؟

من جمع الريح في راحتيه؟

من حصر المياه في ثوب؟

من أقام جميع أطراف الأرض؟

ما اسمه؟ ما اسم ابنه إن كنت تعرف (30: 4)؟

فأجاب أفرام متحدّثًا عن الإفخارستيّا، مع العلم أنّ اللفظ السريانيّ ܪܘܚܐ يعني الريح والروح:

من أمسك الريح (ܪܘܚܐ) في يديه، تعال وانظر

يا سليمان، ما فعله الربُّ أبوك

النار والروح (ܪܘܚܐ) غلبا طبعهما:

مزجهما وحبّهما في أيدي التلاميذ.

هو تناول القربان في اليدين، لا على اللسان بعد أن أضاع التقليد السريانيّ عمقه الكبير، إذ كان المؤمن يأخذ القربان ويلمس به عينيه قبل أن يأكله، أو يأخذه "زادًا في السفر". ثمّ يشرب من الكأس. قال الربّ: خذوا وكلوا. خذوا واشربوا. إلى هذا الواقع أشار أفرام في أناشيد الإيمان 10: 14. فردّ على السؤال الأوّل حول الريح والروح ܪܘܚܐ. وفي 10: 15 ردّ على السؤال الثاني المتعلّق بالمياه:

من في حجاب أمسك الماء؟ سألوا.

حشا مريم نبعٌ في حجاب. أجبنا.

هي قطرات حياة في كأس الحياة

جمعتها خادماتك في أيادٍ محجوبة.

إنّ لفظ ܬܚܦܝܬܐ يعني أربعة أمور مختلفة: حجاب قدس الأقداس وإناء اللاهوت حشا مريم الذي شبّهه أفرام بالشراع الذي تنفخ فيه الريح ܪܘܚܐ (أو الروح). شرشف المذبح الذي يُوضع عليه الجسد والدم. الحجاب الذي يحجب ܚܦܝ أيدي النساء حين يقتربن من التناول.

تحدّث أفرام هنا عن النساء اللواتي يتقبّلن في أيديهنّ المخفيّة بالحجاب (ܬܚܦܝܬܐ) الخبز المقدّس الذي "ختم"، وغمِّس في الدم الثمين ليدلّ دلالة منظورة على اتّحاد عنصرَيْ الإفخارستيّا في الحياة وفي المجد، بعد أن صُوِّرا منفصلين، مكسورين، مراقَين. هنا نعود إلى القداس ورتبة الكسر والنضح حيث يقول الكاهن: نكسر، نختم... انفصل الجسد عن الدم، فدلّ هذا الانفصال على موت يسوع على المذبح. وانضمّ الجسد إلى الدمّ فدلّ هذا الانضمام على مجد القيامة، وعلى أنّ هذا الذي يُرفَع الآن هو الإله الحيّ أبدَ الدهور.

ها القوّة اللامنظورة في حجاب "القدس"،

قوّة ما حبل بها روح

أغنى حبّه، نزل، رفرف (ܪܚܦ)

على حجاب (شرشف) المذبح للمصالحة (10: 16).

في هذه القطعة، لمّح أفرام إلى حضور الله اللامنظور في قدس الأقداس. قرّر في حبّه، فنزل على المذبح حيث نجد حجابًا آخر، شرشف المذبح. هي قدرة الله التي لا تُنسب دومًا وبشكل خاصّ إلى هذا الأقنوم أو ذاك، والتي تتجلّى في عمل مميّز مع فعل ܪܚܦ: رفرف، طار بخفّة كالعصفور، حضن البيض وأرخم كالطائر. نتذكّر هنا الروح الذي رفّ على المياه في بداية الخليقة، فأخرج منها الحياة (تك 1: 2) بعد أن كانت عنصر الشرّ والموت كما في الطوفان. كما نتذكّر سفر التثنية (32: 11) الذي قابل الربّ بالنسر:

الذي يغار على عشّه،

وعلى فراخه يرفّ،

فيفرش جناحيه ليأخذهم (= صغاره)

ويحملهم على ريشه.

استعمل أفرام فعل ܪܚܦ للكلام عن المعموديّة كما عن الإفخارستيّا. وقد احتفظت به الليتورجيا للكلام عن الروح القدس الذي يرفّ ويحلّ على الخبز والخمر ليجعلهما جسد المسيح ودمه.

وتذكّر أفرام الإفخارستيّا حين أورد أحداث حياة يسوع، وإن بدت هذه الأحداث بعيدة عن الموضوع. فحين تحدّث عن مقتل أطفال بيت لحم والهرب إلى مصر، قال في أناشيد الميلاد (24: 17):

حصد القاتلون في بيت لحم

أزهارًا بعدُ نديّة.

ليهلكوا الزرعَ النديّ

حيث يحتجب خبزُ الحياة

فهربت نبتةُ الحياة

وصارت حزمة في زمن الحصاد

والعنقود الذي وُلد وحالاً هرب،

أسلم ذاته للمعصرة

ليعطي بخمره الحياة للنفوس.

المجد لك، يا كنز الحياة!

وعاد أفرام إلى خبر نازفة الدم، الذي ذكرته أناجيل ثلاثة (مت 9: 20-22؛ مر 5: 25-29؛ لو 8: 43-48): إنّ شفاء هذه المرأة من نزف دمها، يشير إلى شفاء النفس بواسطة الإفخارستيّا. هذا ما نقرأ أيضًا في أناشيد الإيمان (10: 6-7):

مثل تلك التي في خوفها تشجّعت وشُفيت،

اشفني من الهرب والخوف فأجد فيك الشجاعة.

يا ليت ثوبك يقودني

إلى جسدك، فأحسن التكلّم عنك.

ثوبك يا ربّ ينبوع عقاقير،

وفي لباسك تكمن قوّة محجوبة

بعضُ التفل خرج من فمك،

فإذا النور في وسط الأوحال. يا للعجب العظيم!

فالإفخارستيّا هي التجسّد كما وصل إلى كلّ إنسان. هي الواقع عينه في لباس مختلف. ونقرأ أيضًا أناشيد الإيمان (10: 2-3):

من يستحقّ ثوبك، ولباسَ ناسوتك؟

من يستحقّ جسدك لباسَ لاهوتك؟

لك لباسٌ ولباسٌ، يا ربّ:

ثوب جسدك والخبز، خبزُ الحياة

من لا يدهش من تبدّل ثوبك؟

جسدُك حجابُ بهائك وطبيعتك الرهيبة

لباسُك حجابُ طبيعتك الضعيفة

والخبز حجابُ النار الساكنة فيه.

ونعود إلى أبعد من الأناجيل، فنكتشف التواصل بين العهد القديم والعهد الجديد، ولا سيّما مع خبر إيليّا، الذي أنزل نارًا من السماء على الآتين من قبل الملك ليمسكوه. قال له القائد: "يا رجل الله، يقول لك الملك أن تنزل". فأجابه إيليّا: "إن كنتُ أنا رجل الله، فلتنزل نار من السماء، وتأكلك أنت ورجالك الخمسين". فنزلت نارٌ من السماء وأكلته هو ورجالَه الخمسين" (2 مل 1: 9-10).

انصبّت نار الغضب على الخطأة فأكلتهم،

ونزلت نارُ الرحمة في الخبز فأقامت فيه.

بدل تلك النار التي أكلت الرجال،

في الخبز أكلتم النار فوجدتم الحياة.

وسبق لإيليّا فصلّّى إلى الله، فأرسل الله نارًا على محرقة جبل الكرمل "فالتهمت المحرقة والحطب والحجارة والتراب وحتّى الماء الذي في الخندق" (1 مل 18: 38).

نزلت النار على تقدمات إيليّا وأكلتها،

وصارت نارُ الحبّ لنا تقدمة حياة

النارُ أكلت التقدمة، يا ربّ،

ونحن في التقدمة أكلنا نارك (أناشيد الإيمان 10: 12-13).

ويرى أفرام أنّ دور الروح في التقدمة الإفخارستيّة مهمّ جدًّا. وهذا ما دفعه في انطلاقة شعريّة إلى القول بأنّنا لا نتصوّر مذبحًا من دون الروح. هذا ما نقرأه في الردّ على الهراطقة (5: 20):

ما رأى أحدٌ في وسط البحر،

قاربًا بدون ملاّح، يتحرّك ويتوجّه.

فكلّ قارب يحتاج، والنفسُ الحريّةَ.

الخليقة خالقًا، الكنيسةُ مخلّصًا،

والمذبح روحًا قدسًا.

ووصلت إلينا في الأرمنيّة قصائد. في الثامنة والعشرين، بيّن أفرام أنّ اللاهوت في البريّة، كان في الخيمة، لا في القلوب. أمّا في الكنيسة، بيت الصلاة، فالقدرة التي توجّه الكون بواسطة الروح القدس، تُقيم في كلٍّ منّا:

بعماد الروح القدس،

لنا شركة لغفران خطايانا.

قدرةُ الروح التي تُقيم في الخبز

تدخلُ فينا وترتاح[3].

فكلّ عملٍ من أعمال المسيح هو أيضًا عمل الروح، الذي نال ملئه. هذا ما يعبّر عنه النشيد الثامن عشر من أناشيد الإيمان، الذي موضوعه: رموز الإيمان والثالوت والصليب، في الطبيعة المخلوقة. في المقطع السابع، بيّن أفرام فقال: على قارب في البحر، كلّ إنسان، أيًا كان، سواء كان لا مؤمنًا أو يهوديًّا، يرتبط بشيئين: بالسارية التي تتعلّق بها العارضةُ بشكل صليب. فالإنسان لا يستطيع أن ينطلق إن لم يكن الصليبُ على قاربه. ويرتبط الإنسان أيضًا بالشراع الذي يتدلّى مثل جسمٍ يُشبه جسد المسيح:

حين يمدّ القارب مجاذيفَه بشكل صليب،

يكون بعوارضه المصلَّبة حشا للرياح.

وحين يمدّ الصليب للإنطلاق، تتفتّح أمامه الطريق.

ذاك هو الموقف الأساسيّ الأوّل: أن يكون الإنسان في شكل صليب. فهو لا يعطي ما عنده، ولا ينجح في حياته، إلاّ إذا جعل نفسه في شكل صليب. ذاك هو الإطار الأساسيّ. ولكن أما هناك حياةٌ في هذا الإطار؟ هذا ما يفعله الروح القدس الذي يُعطى في الإفخارستيّا (أناشيد الإيمان 18: 10):

يا حشا الشراع النقيّ، يا رمز جسد فادينا.

امتلأتَ من الروح (ܪܘܚܐ، والريح أيضًا) الذي فيك بلا حدود

فمن الروح الذي يقيم في شراع من الكتّان،

تنال حياةً أجسادٌ تقيمُ فيها النفس.

فالروح يلعب في المعمَّدين الدور الذي تلعبه النفسُ في الجسد، والريحُ في الشراع. الروح هو نفسُ نفوسنا وهو يُقيم أيضًا في ملئه، في جسد الفادي وفي الجسد الإفخارستيّ. ولكن بعد القيامة، لن يبقى هذا الجسد الممجَّد محصورًا في الزمان وفي المكان. من أجل هذا، ينتشر الروحُ في الأرض كلّها.

أورد واحدٌ من كبار اللاهوتيّين في سويسرا هذا المقطع الأفراميّ وشرحه كما يلي: "الروحُ القدس حقيقةٌ يجهلها الفقهاء والفلاسفة الذين يدرسون الديانات المقارنة، أو هم "يجعلونها بين قوسين، في شك موقَّت"، فكأنّ الوقت لم يَحُن بعد. يبقى أن نعرف لماذا في هذا الشراع، هبَّت ريحُ تاريخ العالم"[4].



[1] SC 121, p. 94

[2] M.J. SCHEEBEN, Mystères du Christianisme, Bruges, 1947, p. 532.

[3] Patro. Or, t. 30, p 223 (48: 29)

[4] Hans Urs Von BALTHAZAR, La Gloire et la Croix, I, p. 418.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM