بين الإفخارستيّا وذبيحة الصليب

 

بين الإفخارستيّا وذبيحة الصليب

حين نعيد قراءة ما فعله الربّ في العشاء السرّيّ، يلفت نظرنا أوّل ما يلفت كسر الخبز. مثل هذه الفعلة في يد يسوع توجّهنا توجيهًا مباشرًا إلى ذبيحة الصليب. في هذا المجال نقرأ في أناشيد الفطير (2: 7) ما كان يرتّل أفرام السريانيّ والمؤمنون في نهاية زمن الصوم المبارك:

كسر الخبز بيديه، على مثال ذبيحة يده،

مزج الكأس بيديه، على مثال ذبيحة أمّه،

ذبحَ وقرّب من هو ذاته كاهنُ غفراننا.

هذا ما شرحه أفرام في أناشيد نصيبين (49: 2):

لو أنّه ما لبس جسدًا، ما كان ذاق الموت،

ولو أنّ جسده ما قُتل كان كسرُ الخبز كذبًا.

وشدّد أفرام بشكل خاصّ على هذه الناحية في نشيد أفراميّ حُفظ لنا في اللغة الآراميّة (48: 41-52):

في العليّة كان هو هو

من يعطي الجميع ويوزّع للجميع

لا شكّ قتله ذاك الشعبُ،

بل هو قتل نفسه بيديه.

هو مقتول قتلته يداه،

وصلبه على الجلجلة هؤلاء الجمّال

لو أنّه ما قتل نفسه في السرّ،

ما كانوا في الواقع قتلوه.

في المساء قتل نفسه في الرمز،

ثمّ قتلوه في الغد

قد سلّم جسده لذاك الشعب.

فهزئوا به كما أرادوا.

ذاك هو شعر أفرام مع تكراراته وتلاعبه على الألفاظ بحيث تدخل الفكرة عنده في العقول وفي القلوب. وإذ كتب ما كتب أراد أن يبيّن أنّ ذاك العشاء هو ذبيحة بإرادة ذاك الذي فعل. يسوع هو الفاعل الرئيسيّ. هو الذي جعل نفسه تقدمة وذبيحة. فحياته لا يأخذها أحدٌ منه. بل هو يهبها. إنّه الكاهن ولا كهنوت بعده إن لم يشارك في كهنوته. وأوّل صورة في هذا المجال، صورة الحمل كما في إنجيل يوحنّا (1: 29، 37، 19: 35-36). هنا نعود إلى أناشيد الفطير (6: 9-10):

حملُ الله أكل الحمل الفصحيّ،

من رأى حملاً (هو يسوع) يقرّب حملاً؟

حملُ الله أكل الحمل،

من رأى حملاً يأكل حملاً؟

وفي الخطّ عينه، نقرأ في نهاية أناشيد الإيمان ما قيل عن تلك الدرّة

تستهين بطبعك حملاً صامتًا بسبب وداعته.

ومن ثقب الدرّة وعلّقها في أذنه،

فكما الجلجلة تُرسل كلَّ نيرانها على الناظرين إليها.

والمسيح كاهن في الوقت عينه. وكهنوته يرتبط أوّل ما يرتبط بملكيصادق (الفطير 2: 8): أمّا حبريّة هارون فزالت:

لبس حبريّة ملكيصادق مثاله

خدمةً بلا ذبائح. وهب الخبز والخمر

فحلّ الحبريّة التي تعبت بالسكب.

ومتى تمّ انتقال السلطات الكهنوتيّة إلى المسيح؟ اعتاد الآباء أن يقولوا في المعموديّة، وبواسطة يوحنّا المعمدان الذي هو ابن زكريّا الكاهن (نشيد في رسامة الكهنة). أمّا أفرام فعاد أيضًا إلى تقدمة المسيح في الهيكل (لو 2: 25-32):

تقبّله سمعان الكاهن بين ذراعيه

ليقرّبه لله. رأى ففهم

أنّه ليس هو من قرّبه،

بل هو قرِّب على يده.

قرّب عبدُ الآب الابن (الوحيد)

بل الابن للربّ عبده

يستحيل أن يقرِّبَ آخر

ذاك الذي به يقرَّب كلُّ قربان

فالقربان لا يقرِّب مقرِّبه،

ولكنّ القرابين يقرّبها مقرّبوها

فالذي يقبل القرابين بذل ذاته

ليقرَّب عن الجميع فيقرّب بيده المقرّبون.

كما أعطى جسده ليأكل،

فيعطي الحياة لآكليه حين يأكلون

كذلك أسلم ذاته ليقرَّب

لتتقدّس بلمسه أيدي المقرّبين.

ومع سمعان، رأى أفرام عبر العهد القديم، رموزًا عن الإفخارستيّا، جاءت تلتجئ إلى الهيكل. ولمّا مات يسوع على الصليب وانشقّ حجاب الهيكل، خرجت كلّ هذه الرموز للقائه (الفطير 6: 11-12):

فكلّ الأسرار في قدس الأقداس،

انحلّت وانتظرت ذلك السرّ الذي يُتمّ الكلّ.

رأت الأسرار الحملَ الحقيقيّ:

شقّق الستار وخرجت للقائه.

وفي الخطّ عينه، نقرأ ما قيل في تفسير الإنجيل الرباعيّ:

"وجب أن يكون ربّنا مرفأ كلِّ الخيرات الذي فيه تجتمع، وهدف كلّ الرموز الذي إليه تتسارع من كلّ جهة، وكنز جميع الأمثال التي ترتفع كما بأجنحة فترتاح كلّها عليها السلام".

وأوّل هذه الرموز هابيل، عنه يتحدّث أفرام في أناشيد الصلب (2: 8-9):

هذا الحمل الأوّل اختار لنفسه راعيًا أوّل،

باكورة للبكر، وسكب فيه من مُثُله،

وطبع فيه من صُوَره، وبسط عليه سرَّ قتله.

راعٍ هو هابيل وذبيحة. صوَّر فيه راعينا وذبيحتنا

رعايتَه وذبيحته. لك المجد يا مصوِّر أسراره.

حملنا علّم هابيل أن تكون نفسه تامّة أمامه،

فيقرِّب الحملُ الحمل. يقرِّب أوّلاً نفسه

ثمّ يقرّب أيضًا الآخر، والحملُ هو من قُرِّب،

والحمل هو من قبل (القربان). الحمدُ لحمل الله!

ونقرأ توسّعات مماثلة من أجل رموز أخرى للإفخارستيّا في الأناشيد الأرمنيّة (49-50). يبدو أقرام هنا وكأنّه يعيد قراءة العهد القديم ليجد فيه تهيئة للسرّ الإفخارستيّ:

نتقدّس أحبّائي، ونقترب من خبز الحياة.

لا بفطير الشعب، ولا يحمل مصره

لا نقترب من طيور السلوى ولا من منّ البريّة

ولا من خبز التقدمة، لأنّه (= خبز الحياة) يتفوّق عليها.

تلك كانت رموزًا وأشباهًا للآتيات

والآن تمّت الأزمنة فتركت المكان لحقيقتنا.

لو أنّ الحقّ ما جاء: للبث الشرّ واستمرّ (50: 1-10).

افتخر الشعبُ اليهوديّ بمنّ البريّة

الذي أكله حتّى اللامختونون

كم بالأحرى نفتخر بخبز الحياة

الذي لا يحقّ به للملائكة.

ابتهج شمشون حين شرب ماءً في فكّ حمار!

فكم يبتهج من هو أهل لدمّ المسيح الثمين!

من الصخرة جرى الماء للشعب فشرب وتقوّى،

وللأمم، من جبل الجلجلة، جرى ينبوعُ الحياة.

بلمعة سيف قُطع الطريق إلى شجرة الحياة،

فأعطى ربّ الشجرة للأمم نفسه طعامًا (49: 12ي).

ولكن أين يتمّ هذا اللقاء الذي فيه تصل رموز العهد القديم إلى المسيح؟ في العلّيّة. هنا ذروة كلّ تاريخ شعب الله. هذا ما نقرأ في أناشيد الصلب (3: 9؛ 10، 12)

طوباك أيّها المكان! صغرُك وُضع تجاه الخليقة كلّها.

ها هو فيك، الخليقة كلّها مملوءة منه وهي صغيرة بالنسبة إليه.

طوبى لمسكنك الذي في داخله كُسر هذا الخبزُ الذي من حزمة مباركة.

وبك عُصر العنقود الذي من مريم، كأس الخلاص.

طوباك أيّها المكان! ما رأى إنسان ما رأيتَه أنت وما تراه.

صار ربُّنا المذبحَ الحقيقيّ، والكاهنَ والخبز وكأس الخلاص.

هو بذاته يكفي لكلّ شيء، ولا يستطيع آخر أن يكفيه:

المذبح والحمل، الذبيحة والمذابح، الحبر والمأكل.

طوباك أيّها المكان! ما أعدَّ أحدٌ مثل مائدتك بين الملوك،

ولا في خيمة الأقداس حيث كان يُعدُّ خبز التقدمة.

فيك أوّلاً كُسِر هذا الخبز الذي صرتَ أنت كنيسته.

بكرُ المذابح الذي صار بكرًا بقربانه فيك ظهر في البدء.

تلك كانت نظرة أولى إلى علاقة العشاء السرّي بذبيحة الصليب، مع نظرة إلى الحمل الذي ذُبح يوم تلك الجمعة العظيمة ساعة كان يسوع يموت على الصليب ولا يُكسَر له عظم. والرموز في إطار تقدمة الخبز والخمر في العلّيّة، جاءت توجز تاريخ شعب الله. جاءت من الماضي لتلقي في المسيح الذي هو الفاعل الرسميّ في العلّيّة حيث قدّم ذاته في السرّ. وعلى الصليب حيثّ قدّم ذاته للآب في الحقيقة، فقال له منذ دخوله إلى العالم: ما شئت ذبائح ومحرقات، فقلت: ها أنا آتٍ لأصنع مشيئتك يا ألله.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM