الفصل السادس عشر: التعليم الخلقي

الفصل السادس عشر
التعليم الخلقي

بدت روم غنيّة جداً على مستوى اللاهوت. وفي الوقت عينه تركت لنا أُسسَ أخلاقية مسيحية عجيبة. أما ما يميّز هذه الأخلاقية فارتباطها بالمعمودية والإيمان. سيكون أمامنا فصلان في هذا المجال. الأول عنوانه التعليم الخلقي والذي سندرسه الآن في محطات ثلاث: التمييز الأدبي عند اللامسيحيين. تحوّل هذا التمييز عند المسيحيين. الضمير والإيمان المسيحي. أما الفصل التالي فسيكون عنوانه: حياة المعمّد بين الإيمان والشريعة.

1- التمييز الأدبي عند غير المسيحيين
الفعل اليوناني (دوكيمازو) الذي يدلّ على التمييز يعني في معنى أول: إمتحن، تحقق، وافق، أقرّ. وهو ينطبق على النقود التي لا تكون مزيّفة. كما ينطبق على التحقق من نوعية أشخاص يستعدون ليكونوا قضاة أو كهنة أو موظفين في إحدى الوظائف.
وفي الرسائل البولسية، كان التمييز في علاقته مع حكم الله، موافقة وامتحاناً وتنقية من كل ما هو إنساني أو رديء (1 تس 2: 4: إختبرهم الله قبل أن يأتمنهم؛ 1 كور 3: 13؛ 11: 28؛ 2 كور 2: 9؛ 8: 8، 22؛ 9: 13؛ غل 6: 4). ولكن حين يدل التمييز على معرفة المسيحي لواجباته، فهو يعني إمكانيّة الاختيار لما يجب أن نعمل في هذا الظرف أو ذاك لكي توافق حياتُنا الإنجيل. وتعطينا روم في هذا المجال أغنى المعطيات وأثمنها تعبيراً.
إنّ التمييز كما نقرأ عنه في العهد الجديد إجمالاً، يرتبط بالعهد القديم، حيث تسير الحياة المؤمنة تحت نظر الله (إر 6: 27- 30؛ 9: 6؛ 11: 20؛ 14: 19؛ مز 17: 30؛ 26: 2؛ 139: 1: يا رب، فحصتني فعلمتني. علمت جلوسي وقيامي. إطّلعت على جميع طرقي؛ حك 3: 6؛ 11: 10).
قبل أن تحدّثنا روم عن التمييز الخلقي المتأثر بالإيمان المسيحي، تتوقّف عند وضع الوثنيين. "بما أنهم لم يستحسنوا أن يقيموا على معرفة الله الحقة، أسلمهم الله إلى فساد الرأي لكي يفعلوا ما لا يليق" (1: 28). بما أن الوثنيين ظنّوا أن لا حاجة إلى الحياة بحسب معرفة الله، تشوّه التمييز الأدبي عندهم وخسر صفة من صفاته الأساسية. سمّوا خيراً ما هو شّر، وهذا ما شكّل حكماً إلهياً عليهم. نحن هنا أمام "روح فاسد، منحرف" أو أمام روح رفضه الله.
نحتفظ هنا من تجربة تحجير الأقوال التي نجدها في بداية روم. لهذا يجب أن نصحّح اللوحة المعتمة في ف 1 بما سيُقال عن الأمم في 2: 13- 16 (رج 2: 25- 29 حول الختان "في القلب" أو "حسب الروح"، وهو الختان الوحيد الذي له قيمة، رج إر 9: 24- 25). فحسب الرسول، يبلغ الوثنيون إلى الخلاص بالمسيح إن هم تبعوا ضميرهم. هذا يعني أن الحسّ الخلقي عندهم لم يُلغَ. فالضمير يعم كشخص غريب عن الإنسان، يتهمه أو يدافع عنه. إنه ناموس داخلي يعود إلى الله شأنه شأن الناموس الموسوي. وحكمه هو استباق للدينونة الأخيرة حيث يمثل جميع البشر أمام المسيح.
في 2: 19، أعلن بولس أن الممارسين الحقيقيين للناموس هم الذين يتبرّرون. وفي آ 20 علّم أن الوثنيين الذين يتمّون فرائض الشريعة يدلّون على واقع الشريعة المكتوبة في قلوبهم.
يقول معظم الشرّاح إن هذا المقطع لا يؤكّد وجود شريعة طبيعية مكتوبة في القلوب وحسب، بل إمكانيّة حقيقية بالنسبة للوثنيين بأن يخلصوا فقط بممارسة هذه الشريعة الطبيعية. وهذا ليس تجاوزاً للمبدأ العام، مبدأ الخلاص بالإيمان بالمسيح. لأن هذه الممارسة لا تكون بدون إيمان ضمني بالمخلّص الوحيد الذي أدرك بعمله الفدائي جميع البشر ولم يستثنِ أحداً. ويُزاد على هذا نصّ 12: 13- 16 الذي يتضمّن بالنسبة إلى الوثنيين مشاركة (ناقصة) لما يميّز العهد الجديد (إر 31: 31- 34) وهو: كتابة شريعة الله في القلوب. ينتج عن هذا أنه إن خلص الوثنيون فقط بممارسة الشريعة الطبيعية، فهذا لا يتمّ بدون معونة نعمة الله.

2- التمييز عند المسيحيين
إن العبارة التي نجدها في 2: 15 (مكتوب في قلوبهم)، تعود بنا إلى إر 31: 33. غير أن الوثنيين الذين يشير إليهم الرسول هنا هم وثنيون صاروا مسيحيين. ولكن هذا يصل بنا إلى جهل التعارض بين اللوحتين، لوحة البشرية الخاطئة بدون المسيح (1: 18- 3: 20)، ولوحة البشرية المخلَّصة في المسيح (3: 21- 4: 25). إنّما هناك من يعود بالأحرى إلى أش 51: 7 (إسمعوا لي، يا عارفي البرّ، الشعب الذين في قلوبهم شريعتي) الذي يرتبط مع إر 31: 33. هنا نتذكر التفسيرين اللذين قدّمهما أوغسطينس على التوالي: فكّر أولاً بالوثنيين. غير أن البلاجيين فهموا عبارة 2: 14 (عملوا طبيعياً) في معنى: "بقوى الطبيعة وحدها". بينما المعنى هو بالأحرى: كمتطلّبة طبيعية (أي لا تتعدّى قوى الطبيعة". حينئذ أراد أوغسطينس أن يردّ على البلاجيين فقدّم التفسير الثاني مطبّقاً النصّ على المسيحيين الآتين من الأمم الوثنية.
للوهلة الأولى، يحسب اليهود فوق الأمميين (أي: الأمم الوثنية) فيما يتعلّق بالتمييز الخلقي. أما هم، بفضل الشريعة، عارفون بإرادة الله؟ إذن هم معرّضون أقلّ من الوثنيين لأن يسمّوا الخير ما هو شّر. فالرسول يقر أنهم يعرفون أن يُخضعوا للفحص مختلفَ القيم، فيميّزوا منها الجوهرية والصحيحة: هذا هو المدلول المزدوج الذي ترتديه العبارة الملتبسة التي نقرأها في 2: 18 (يميّز ما هو الأفضل، ما يجب ويليق) وفي فل 1: 10 (في وسعكم أن تميّزوا القيم الحقّة، القيم الفضلى، وهذا يرتبط بحبّ يرى الأمور بوضوح) والتي قد تعود إلى العالم الهلنستي (ما هو جميل وما هو صالح) (رج مت 23: 32: أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك).
ولكن يزيد القديس بولس: إن هذه المعرفة الفضلى التي يتمتّع بها اليهود لإرادة الله، تبقى غير فاعلة، لأن سلوكهم الأخلاقي لا يوافق تمييزهم. فاليهود هم، في نظر الرسول، مسؤولون كل المسؤولية عن هذا التنافر بين معرفتهم النظرية وممارستهم. وإذا أردنا أن نفهم الوضع، نتذكّر أن عطيّة الشريعة الموسوية ارتبطت في الأول بنعمة الله. لهذا فلا تعارض مع ما قلناه في 7: 7- 25 حيث يتحدّث بولس لا عن شريعة موسى فحسب، بل عن كل شريعة. فبمعزل عن العون الإلهي، سنسير حتماً إلى الفشل: إذا ظلّت فريضة إلهية خارجة عن الإنسان فهي تعطي معرفة ما يجب عمله ولكنها لا تمنح القوّة لإتمام العمل.
وهكذا نستعد لسماع التوصية الكبرى في بداية ف 12: "لا تتشبّهوا بهذا العالم (بالعالم الحاضر). بل تحوّلوا إلى صورة أخرى بتجديد عقلكم لكي تميّزوا ما مشيئة الله، وما هو صالح وما يرضيه، وما هو كامل" (آ 2).
بيّن الرسول في ف 1- 8 أن المسيح، آدم الجديد، هو في أصل العالم الجديد والخليقة الجديدة. مثل هذه الفكرة قد عبرّت عنها بداية غل: المسيح "أسلم من أجل خطايانا ليحرّرنا من هذا العالم الحاضر والرديء" (غل 1: 4). فالمسيحي قد انتزع أساساً من العالم العتيق بفضل عماده (روم 6) وحضور الروح القدس فيه (روم 8) وأدخل إلى العالم الجديد. والمفارقة الخاصة بالتدبير المسيحي هو أن الرسالة لا تتحدّث عن عالمين متعارضين يحلّ الواحد محلّ الآخر كما في عالم الجليان (أسفار الرؤيا) اليهودي. بل تجعلنا أمام عالمين موجودين معاً: العالم العتيق، عالم الشيطان، عالم الظلمة والخطيئة الذي هو دوماً حاضر هنا وفاعل بشكل مخيف. ثم العالم الجديد، عالم النور والنعمة. ولكن الأوّل يحمل في ذاته جرحاً مميتاً منذ انتصر عليه المسيح ودشّن ملكوت الله النهائي.
إذن، المسيحي هو بفضل المعمودية والإيمان (اللذين لا ينفصلان عادة في نظر بولس) قد دخلَ، من جهة المبدأ، في العالم الجديد. ولكن يُطلب منه دوماً مجهود أخلاقي لكي يكمّل دخوله في العالم الجديد وتحوّلَه الروحي. وإلا ترك ذاته من جديد تتحوّل حسب العالم العتيق. هناك تعارض له معناه بين فعلْيَ أمر: لا تتشبّهوا، تحوّلوا. نفسرّهما حسب الإمالة الخاصة بكل منهما. فالشبه (مورفي) يدلّ على الكائن الحميم ويعبرّ عن واقع أعمق من "سكاما" (وجهة، رسم) التي تدلّ على الشكل الخارجي والسطحي. إذن، علينا أولاً أن لا نتشبّه خارجياً بالعالم الرديء الذي تجاوزه العالم قبل المسح. ثم، أن نتحوّل في العمق بالقوى الجديدة التي نلناها في العماد.
ويرتبط بهذا التحوّل الذي تدشّن بالروح القدس وما زال يتتابع فيما بعد بعونه، يَرتبط تجدّدُ الإنسان اليومي على المستوى الخلقي. قد يتشوّه التمييز الخلقي بحياة فاسدة (رج فساد الرأي في 1: 28). ولكن ذلك، قد يتكمّل بسلوك المعمّد الروحي. فالحياة المسيحية التي نعيشها بشكل تام هي ينبوع نور: إن كان يجب أن نحسّن رؤيتنا لكي نحسّن عملنا، فيجب أيضاً أن نحسّن عملنا لكي نحسّن رؤيتنا. ويفهمنا 12: 2 أن الحياة المسيحية الصحيحة لا تقوم أولاً بالخضوع لقوانين حدّدت سلفاً، بل هي بالأحرى استنباط متواصل. يجب أن نميّز يوماً بعد يوم وفي تفاصيل الحياة العادية ما هي مشيئة الله: أولاً، ما هو صالح في نظره. ثم ما هو مرضي له، ما يسّره. أخيراً، ما هو كامل في نظر الله. ومع هذه اللفظة الأخيرة ينفتح المنظار أمام إمكانيّة كمال لا حدود له. فلا يستطيع تلميذ المسيح أن يقول أبداً: لقد وصلت. هنا نتذكر كلمات يسوع: "إن شئت أن تكون كاملاً" (من 19: 21). ونتذكّر النداء للإقتداء بكمال الآب السماوي في العظة على الجبل: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل هو" (مت 5: 48).

3- الضمير والإيمان المسيحي
ويتكرّس ف 14- 15 للضعفاء والأقوياء في جماعة رومة، فيقدّمان تطبيقاً ملموساً للمبدأ الذي عبرّ عنه 12: 2 حول التجدّد على المستوى الأخلاقي. وهكذا نكون أمام ثلاثة توسّعات:

أ- التوسّع الأول (14: 1- 12)
يقدّم هذا التوسّع تعليمات عامّة حول العلاقة بين الضعفاء والأقوياء. فليس على المسيحيين المستنيرين أن يحسبوا الآخرين "عقولاً ضيقة". وليس على هؤلاء أن يحسبوا الآخرين "متساهلين، فلتانين". فعلى كل واحد أن يتصرّف حسب يقيناته الشخصية. فإن تحقّقت هذه الشروط، فلا نستطيع أن نلوم أحداً. يكون كل واحد قد سار حسب يقينه، فيشكر الجميع الربّ. فالمسيحي لا يحيا ولا يموت إلا من أجل الربّ. ثم كل حياة مسيحية مكرّسة للمسيح لم تعد خاضعة لتقدير سائر البشر: فالحكم محفوظ لله وحده الذي أمامه سنمثل جميعاً.

ب- التوسّع الثاني (14: 13- 23)
والتوسّع الثاني الذي نتوقّف عنده مطوّلاً يعالج الواجب الذي تفرضه المحبة المسيحية على الأقوياء، بأن يتجنّبوا الشكوك (أو: المعثرة، تتكرّر اللفظة في آ 19، 20، 21). بعد آ 13 التي تشكّل المقدّمة، تضع آ 14 و20 المبدأ: لا طعام نجساً في طبعه. ولكننا نخطىء حين نتصرّف عكس يقينات إيماننا. ثم إن آ 15- 16 وآ 21 التي تتوازى وتتكامل، تطبّق هذا المبدأ لا على الضعيف (كما يمكن أن ننتظر) بل على القوي الذي يتجنّب إطلاقاً (بالنظر إلى محبّته المسيحية) أن يدفع الضعيف لكي يأخذ بسلوكْ يعتبره أهلاً للوم. فخير للقوي أن يتخلّى عن حريته من أن "يحزن أخاه" (آ 15)، من أن "يشكّكه" (آ 21)، وبالتالي يسبّب هلاك ذاك الذي مات المسيح من أجله (آ 15). وتدلّ آ 16 على أن الحرية المسيحية لدى الأقوياء (خيرهم) لا يمكن أن تكون موضوع تفسير سيّىء. وأخيراً تأتي آ 17- 19 ثم آ 22- 23 فتعلن مبادىء عامة تلائم كل المسيحيين بدون تمييز.
إن البعد العام للآية 17- 19 هو واضح: إن إقامة ملكوت الله فينا ليست موضوع طعام وشراب. فهو لا يرتبط إلا بخدمة المسيح في البرّ والسلام والفرح التي تأتي من الروح القدس. وهكذا نكون مرضيين لله ومحمودين لدى الناس، وبالأخص لدى الجماعة المسيحية التي نبنيها بسلوكنا.
ويتجادل الشرّاح حول معنى آ 22- 23. قال بعضهم: إنهما تعنيان الأقوياء فقط. فعلى القوي أن يحفظ إيمانه له. أي أن لا يتصرّف بحسب يقينه في الظروف التي فيها يسبّب معثرة. ولكن إن أخذنا بعين الإعتبار التقابل مع 14: 5 (فليُقم كل واحد على رأيه)، يرى شرّاح آخرون أنه في الأفضل أن نفسّر آ 22 أ على الشكل التالي: على الضعفاء والأقوياء أن يكون تصرّفهم موافقاً ليقين إيمانهم. وبعبارة أخرى، لكل مزمن الحق والواجب بأن يتصرّف حسب إيمانه. ولكن يجب أن يكون تصرفه في سبيل الله.
وتأتي التطويبة في 14: 22 ب (طوبى لمن لازم على نفسه حين يمارس التمييز) حيث نجد فعلاً يدلّ على القرار الخلقي: إن الذي لا يحكم على نفسه في عمل قرّر أن يعمله هو سعيد. يستحيل علينا أن ننسب إلى هذه التطويبة بعداً عاماً، ونجعلها تنطبق على كل مسيحي أياً كان. فهذا ما يقودنا إلى مديح الضمير حتى الخاطىء منه وغير المقوّم. إن هذه التطويبة لا تنطبق إلا على طريقة التصرّف في خلاف محدود يقسم الضعفاء والأقوياء في كنيسة رومة.

ج- التوسّع الثالث (15: 1- 12)
قد فسّرنا هذا المقطع حين بحثنا عن الأقوياء والضعفاء في جماعة روما. وما يلفت الإنتباه في هذا المجال هو التوازي بين النصائح المعطاة في 15: 1- 7 للمجموعتين في كنيسة رومة، ثم واقعان من تاريخ الخلاص الحالي كما يذكّرنا به 15: 8- 12: من جهة، أتمّ الله من أجل الشعب المختار المواعيد التي أُعطيت للآباء (آ 8). ومن جهة ثانية، وجب على الوثنيين أيضاً أن يسبّحوا الله على الرحمة التي نعموا بها، كما يقول الكتاب (آ 9- 12).
يدفعنا ف 14- 15 إلى طرح لسؤال حول العلاقات بين الضمير الخلقي والحياة المسيحية. نلاحظ (في 14: 22- 23) أن بولس يستعمل ثلاث مرات بشكل غير متوقّع لفظة "إيمان" (بستيس). "الإيمان الذي لك، احتفظ به لنفسك أمام الله... من يأكل وهو على ارتياب، يحكم على نفسه، لأنه يتصرّف عن غير إيمان. وكل ما ليس عن إيمان هو خطيئة". ما تعني هنا لفظة "إيمان"؟
ظنّ البعض أن الإيمان يعني الضمير والضمير الصالح والنيّة الحسنة. والمبدأ الذي طرحه الرسول يسري على الوثنيين كما على المسيحيين. علينا أن نتصرّف بضمير مؤكّد، بضمير مستقيم. مثل هذا التفسير مشكوك فيه. فكلمة "إيمان" التي ترد مراراً في روم، أيعقل أن تعني "الضمير والوجدان"، أن تدلّ على معنى فلسفي؟
هنا نعود إلى المقابلة بين التوسّع حول اللحوم المذبوحة للأوثان (1 كور 7- 11) الذي يستعمل مراراً لفظة "ضمير" (8: 7، 10، 12؛ 10: 25، 27، 28، 29)، والتوسّع حول الأقوياء والضعفاء في روم 14- 15 حيث لا نجد أبداً لفظة ضمير (سونايداسيس). ورغم اختلاف في الألفاظ، نشهد الظاهرة عينها في كلا الحالين: طبع الحسّ الخلقي والضمير بالطابع المسيحي. فالعالم اليوناني كان يفتخر بأنه لا يتبع إلا ضميره الخاص، فيهزأ برأي الآخرين. ولكن بولس يذكّر "العارفين" في كورنتوس أن على ضميرهم أن يخضع لمتطلّبات المحبة المسيحية. قال: لا شكّ في أن عليكم أن تتبعوا ضميركم، ولكن شرط أن تأخذوا بعين الإعتبار ضمير قريبكم الذي لا يجب أن تشكّكوه. قد تتبدّل اللغة، ولكن المثال المسيحي هو هو في روم وفي 1 كور.
حين يعلن الرسول في 13: 5 أن على المؤمن أن يخضع لسلطة الدولة، فهذا لا يكون خوفاً من العقاب، بل من أجل الضمير. هذا يعني، من أجل عقيدتنا المسيحية. لقد توخى 13: 1- 7 أن يذكّر المسيحيين بمسؤولياتهم كتلاميذ للمسيح تجاه العالم الوثني. ومن هذا القبيل يعود بهم إلى ضميرهم. فعبارة 1 بط 2: 19 (بسبب الضمير تجاه الله، احتراماً لله) التي تنطبق على الطاعة لأسياد ظالمين، لها معنى مماثل.
مهما يكن من أمر الإختلاف بين التفاسير، فما هو أكيد في ف 14- 15: ليس المدلول الدنيوي للفظة "ضمير" هو الذي دفع الرسول لكي يعطي هنا لفظة "إيمان" معنى جديداً يترادف مع لفظة ضمير في اليونانية. بل عكس ذلك. فالإيمان المسيحي هو الذي يفتي ويعمّق مفهوم الضمير بشكل لا يُضاهى.

خاتمة
هكذا برز التعليم الخلقي في روم. هناك الوثني الذي يعيش بحسب ضميره، بحسب هذه الشريعة المكتوبة في قلبه. وهناك اليهودي الذي ظنّ نفسه أنه أفضل من الوثني على المستوى النظري، بسبب الشريعة الموسوية التي يمتلكها. ولكنه على المستوى العملي ليس بأفضل من الوثني. يقول: لا تسرق، وهو يسرق... إنه بحاجة إلى خلاص المسيح، شأنه شأن الوثني. أما المسيحي فلا يحسب نفسه أنه تحرّر من كل شريعة. فهناك شريعة المحبة التي تفرض على الأقوياء أن لا يشكّكوا الضعفاء. وعلى الضعفاء أن لا يحكموا بسرعة على الأقوياء. هناك يقين الضمير يحرّكنا من أجل العمل. ولكن هذا اليقين تحرّكه المحبّة. وفي أي حال: سواء حيينا أم متنا فنحن للربّ. وحين نكون للرب يصبح همّنا البحث عن الإقتداء به كما قال لنا متى في عظة الجبل: كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل هو.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM