الفصل الثالث عشر: ادم الأول وادم الثاني

 

الفصل الثالث عشر
ادم الأول وادم الثاني

نتوقّف في هذا الفصل عند 5: 12- 21 الذي يقابل بين تدبيرين: تدبير الخطيئة وتدبير النعمة. الذي يقابل بين آدم والمسيح، ويدلّ على تفوّق الثاني على الأوّل. الذي يقول لنا إن المسيح وعمله هما النقطة المركزية في فكر بولس. وانطلاقاً من هذه النقطة يقدّم آدم كذلك الذي به كان الموت الذي جاء المسيح يخلّص البشرية منه.
ثلاث محطات في توسعنا: المسيح آدم الجديد. المسيح عبد الله المتألم. تضامن البشرية مع المسيح ومع آدم.

1- المسيح آدم الجديد
شدّد الشرّاح كثيراً على الدور الذي لعبته النقيضة "آدم والمسيح" (روم 5: 12- 21) في العرض التعليمي كما في ف 1- 8. هذه النقيضة تدلّ على تعارض بين عهدين يشرف على التعليم البولسي كله: عهد حكم الخطيئة والموت الذي دشّنه آدم. وعهد حكم البّر والحياة الذي أدخله المسيح إلى العالم. وفي هذا المجال كما في غيره من المجالات، يرتبط بولس بتعليم المسيح الأساسي: فحسب مر 1: 15 يتضّمن تاريخ البشرية الديني حقبتين. ومع يسوع تبدأ الحقبة الجديدة لمجيء ملكوت الله. وهذا المجيء قد هيّأه يسوع خلال حياته على الأرض ودشّنه بشكل نهائي في سّره الفصحي.
وإذا أردنا أن نفهم في العمق نقيضة 5: 12- 21، وجب علينا أن نربطها مع 1 كور 15: 21- 22، 45- 49 حيث نجد تعبيراً آخر عن التعليم عينه. لا ننسَ أن روم كتبت في كورنتوس. وما قيل لكورنتوس في رسالة، يكتب من كورنتوس داخل رسالة ترسل إلى رومة. وهكذا يلتقي تعليم الرسالتين.
وإذا أردنا أن ندرك بعد المقابلة بين آدم والمسيح كما في 1 كور وروم، يجب أن نتذكّر أولاً تيارين فكريين في العهد القديم واليهودية المتأخرة حول صورة الله في الإنسان. من جهة، هناك تيار مسيحاني ينسب شبه الله إلى المسيح الداودي، إلى ابن الإنسان الجلياني، إلى الحكمة الإلهية الشخصية التي تلعب دور المسيح. ومن جهة ثانية، هناك تيار انتروبولوجي (يشدّد على الإنسان) يعتبر أن عورة الله مكفولة لكل إنسان بفعل الخلق (تك 1: 26). هذه الصورة قد باخت (تشوّهت) بالخطيئة، ولكنها لم تفقد ماهيتها بلا رجعة.
في 1 كور 11: 7، عاد الرسول إلى تعليم سفر التكوين فقال لنا إن الإنسان هو "صورة الله ومجده". وفي 1 كور 15: 45- 49، تأمّل في الإنسان في وضعه الحالي كإنسان ساقط وخاطىء. هذا الإنسان لن يُعطى له الشبه مع الله الذي يُنظر إليه على مستوى سامٍ، إلاّ بمشاركته في آدم الأخير الذي جعله الله "روحاً محيياً" منذ الدقيقة الأولى من وجوده، وليس فقط في قيامته. هذا مع العلم أنه يمارس منذ القيامة عمله المحمي بقدرة الله.
هنا يعود بولس إلى التقليد الجلياني الذي ارتبط بدانيال حول ابن الإنسان المسيحاني، والى التقليد الإنجيلي عن يسوع ابن الإنسان. لا شك في أن بولس عرف تسمية يسوع كابن الإنان ولكنه لم يرد أن يستعملها لأنها غريبة على عالم الكنائس البولسية. وقد فسّر لقب ابن الإنسان بلقب ابن الله. وهذا التوازي قد عرفه الإنجيل لاسيّما مت 16: 13 (ابن الإنسان) و16: 6 (ابن الله).
وهناك شرّاح يجعلون من آدم الأخير (1 كور 15: 47) الذي يأتي من السماء ابن الإنسان كما نجده عند دانيال وفي الأناجيل، الذي هو أيضاً إنسان من أصل سماوي: يُعرض أمامنا آتياً على سحاب السماء على مثال يهوه نفسه في التيوفانيات (دا 7: 13؛ مر 13: 26 وز؛ 14: 62 وز). ونذكر هنا أيضاً يو 3: 12: ولم يصعد أحد إلى السماء إلا ذاك الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي في السماء". أجل، هناك تشابه له مدلوله بين آدم الجديد وابن الإنسان في الأناجيل.
إن المقارنة التي تميّز النظرة الإنجيلية إلى يسوع ابن الإنسان، هي أن هذا الشخص الذي هو المسيح المتسامي في دانيال، والمعدّ لأن تخدمه "جميع الشعوب والأمم والألسنة" (دا 7: 14)، يعلن رغم كل شيء أنه جاء لا ليُخدم بل ليخدم ويبذل حياته فدية عن الكثيرين (مر 10: 45 وز؛ رج أش 53 وعبد الله المتألم). وفي الواقع، نحن نجد المفارقة عينها عند رسول الأمم شرط أن نكمّل تحديد المسيح، آدم الأخير، الذي أعطي لنا في 1 كور 15: 45- 49، بالوظيفة الفدائية التي تشير إليها بوضوح 1 كور 15: 22 وتشدّد عليها روم 5: 12- 21. أجل، إن روم 5: 12- 21 تحيلنا إلى نبوءة اشعيا حول استشهاد عبد الله المتألّم. فبولس الذي يستغلّ الفكرة الأساسية في القول النبوي، يساعدنا مساعدة قوية على تثبيت معناه الحقيقي.
لا شكّ في أننا لا نجد في روم 5: 12- 21 إيراداً حرفياً من أش 52: 3- 53- 12. ولكننا نكتشف تلميحات لا شكّ فيها. فهنا وهناك الموضوع الأساسي هو هو: إنسان واحد بريء كل البراءة، خاضع لإرادة الله، يمنح كل البشرية الخاطئة المغفرة والمصالحة التامّة مع الله. وإذ أراد النبي أن يدلّ على مجمل الذين نعموا بالعمل الخلاصي الذي قام به عبد الله المتألّم، استعمل أربع مرات (52: 14، 15، 53: 11، 12) لفظة "ربيم" كثيرين، الكثيرين (لا أقلّية ضئيلة). هذا يعني انه لا يُستبعد أحد من هذه العمل المحرّر. وسيحدّد لنا أش 53: 6 أن "الجميع" معنيّون بهذا التحرّر. وكذلك في روم 5: 12- 21. يقابل المسيحَ المخلّص المخلَّصون العديدون الذين هم كثيرون (آ 15، 19) الذين هم "جميع" البشر (آ 18). لهذا، كيف لا نرى في روم 5: 19 (بطاعة واحد تبرّر الكثيرون) عودة مقصودة إلى أش 53: 11: "إن عبدي البار يبرّر الكثرين".
وهناك أمر خاص في النصّ البولسي نفهمه بهذه العودة إلى أشعيا: يرتبط عمل التبرير (في سائر النصوص) بمبادرة الآب. أما في روم 5: 19 فيُنسب إلى المسيح، كما يُنسب في أش 53: "إلى عبد الله المتألّم". إنطلق بولس من أش 53 فقابل بين المخلّص الوحيد (بطاعة واحد) ومجموعة المخلَّصين. وهكذا أفهمنا أنه يدخل في جوّ أشعيا ولكنه يتعدّاه في التحدّث عن خلاص الجميع وعن خلاص كل فرد.

2- المسيح عبد الله المتألّم
ونلاحظ في سياق روم 5: 12- 21 تلميحات أخرى إلى أش 53. أهم تلميح نجده في روم 4: 25، هذه العبارة الكرازية التي تجد أساسها السابق لبولس في نصّ أشعيا: "أسلم من أجل زلاتنا، وأقيم من أجل تبريرنا". هناك الشكل الأدبي (جملة تبدأ مع الموصول). وتوازي الألفاظ في الجملة. واستعمال المجهول (أسلم) الذي يعبرّ عن عمل إلهي تجاه يسوع. وهذا المجهول يذكّرنا بالانباءات بالآلام في الإنجيل (مر 9: 31؛ 10: 33؛ 14: 41 وز: سيسلَّم أي: سيسلّمه الله). فنص روم، شأنه شأن النصوص الإنجيلية، يحيلنا إلى أش 53 ونبوءة عبد الله المتألّم. فبالإضافة إلى موضوع التبرير المشترك بين المقطعين، نلاحظ أيضاً فعل "أسلم" في المجهول، كما نلاحظ عبارة "من أجل زلاتنا" التي تستعيد ثلاث عبارات مشابهة في أش 53: 6، 12.
ونضم 4: 25 إلى عبارتين أخريين. الأولى في 5: 6: "مات المسيح عن الاثمة". والثانية في 5: 8: "مات المسيح من أجلنا". فهذه العبارات هي تذكّرات الفقاهة الأولى في ارتباطها بالنظرة إلى المسيح، عبد الله المتألّم. وهذا ما يفترضه القول الموازي في 1 بط 2: 21: "إذ إن المسيح أيضاً تألّم لأجلكم، وأبقى لكم قدوة لتقتفوا آثاره". تألّم لأجلكم أو لأجلنا. وبعد هذا يأتي توسّع في أش 53 (آ 22 ي). ونذكر أيضاً الذبيحة التكفيرية في روم 3: 25 التي تقابل ما في أش 53: 10.
قد يشير بولس بشكل عابر إلى المسيح "الذي هو من نسل داود" (1: 3؛ رج أع 13: 23). ولكنه لا يهتمّ كثيراً بالمسيحانية الملكية التقليدية التي عرفها العهد القديم. غير أنه لا يتردّد أمام إعلان المسيح الذي صُلب وقام كما في نبوءة أشعيا عن موت عبد الله وتمجيده. ونظرته إلى آدم الجديد والفادي (5: 12- 21) تقابل ابن الإنسان وعبد الله المتألّم كما في التعليم الإنجيلي. في هذا الاطار نفهم قول أشعبا وسرّ الفداء.
إذا فهمنا نصّ أش 53 بشكل مادي، فقد نصل إلى فكرة غير مقبولة عن خلاص نحصل عليه بواسطة استبدال عقابي: بإرادة الله يموت بريء محلّ المذنبين، يحلّ محلّهم في العقاب. مثل هذه الفكرة تعارض روح ديانة العهد القديم التي رفضت دوماً الذبائح البشرية. ولهذا يجب أن نعتبر استشهاد عبد الله المتألّم كتكفير يتمّه إنسان تقي بحرية، باسم الخطأة. وهم يشاركون فيه لكي ينعموا به. هذا العمل الذي يلهمه سخاء لم يسمع به، يقف في ذروة التقليد التوراتي مع الأنبياء المتشفّعين الذين تدخلّوا لكي يخلصوا مواطنيهم الذي خانوا العهد.
هذه الوجهة التي أشار عليها قولُ أشعيا، قد شدّد عليها رسول الأمم. فحين تذكر بولس "عبد الله" الذي "أسلم" عن خطايا البحر، قال إن المسيح اسلم نفسه، وهب ذاته من أجلنا، من أجل خطايانا (غل 1: 4؛ 2: 20؛ أف 5: 2، 25). وذكّرنا بالحبّ الذي ألهم هذا العمل: "ابن الله أحبني وبذل ذاته عني" (غل 2: 20). "المسيح أحبّنا وبذل نفسه عنا مقدماً ذاته ذبيحة رائحة طيبة (أف 5: 2). "المسيح أحبّ الكنيسة وبذلك نفسه لأجلها" (أف 5: 25). وتجعل روم في أصل الآلام التكفيرية، لا حبّ المسيح وحسب، بل حبّ الآب أيضاً. "والبرهان على أن الله (الآب) يحبّنا، هو ان ابنه مات عنّا" (5: 8). ونقابل هذا الكلام مع 8: 32: "إن الله الآب لم يوفّر ابنه الخاص، بل اسلمه عنّا جميعاً". هنا نلتقي مع يو 3: 16: "لقد أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد": رج أيضاً 1 يو 3: 16: "بهذا عرفنا المحبة، أن ذاك قد بذل نفسه لأجلنا. فيجب علينا، نحن أيضاً، أن نبذل نفوسنا لأجل الإخوة".
إنطلاقاً من هذه المعطيات المتلاقية في بولس ويوحنا يمكننا أن نستنتج ما يلي: إن مبادرة التكفير تعود إلى الله نفسه. والموت (أو: الدم) الذي يحقّقها ليس دفع دين لإله غاضب، ولا عقاباً يتحّمله بريء بعد أن فرضه عليه قاضٍ لا شفقة في قلبه. بل هي اظهار حبّ الله الآب الذي أرسل ابنه على. الأرض ليزيل ارتهاننا للخطايا البشرية، ليغفر خطايانا وينقينا منها، ليزيل كل حاجز في علاقاتنا البنوية معه. لقد كان موت المسيح البرهان السامي على هذا الحبّ. كم نحن بعيدون عن عدالة عقابية تضرب المسيح الذي تماهى مع الخطأة! فموته يحقّق غفران الله ويكشف للبشر عمق هذا الغفران.

3- تضامن البشرية مع آدم ومع المسيح
لقد تصوّر بولس الرسول عمل المسيح الفادي كفعل تضامن يلهمه الحبّ الإلهي. وبيَّن لنا في غل 4: 4- 7 كيف أن الآب حرّر البشر من العبودية وجعل منهم ابناء بالتبني، فأرسل ابنه الوحيد إلى العالم وجعله يقاسي كل حالتنا البشرية الوضيعة. وفي روم 5: 12- 21 سنتكشف الموضوع عينه، موضوع التضامن الذي أراده الله بين المسيح والبشرية. استعاده بولس مشدّداً عليه ومقدما إياه بشكل جديد جداً: هنا صار البشر متضامنين مع المسيح، آدم الجديد، الذي صار عبد الله المتألم، بعد أن تضامنوا مع آدم الأول وخطيئته المقترفة في البدايات. إن هذا التضامن مع آدم الجديد ورئيس البشرية المولودة من جديد، يفترض في الوقت عينه انتماء المسيح إلى الجنس البشرى، إنتماء كرامته كابن الله الوحيد، وإلا لما استطاع أن يبدلّ وضعنا البشري ويؤلّهه.
وعارض 5: 19 فعل عصيان آدم الأول، الذي يتضمن تجاوزاً أرادياً لأمر عبرّت عنه الوصية بوضوح، عارضه بطاعة المسيح. ولا نحسب هذه الطاعة مجرّد خضوع المسيح لضرورة فُرضت عليه من الخارج. فمحبّة ابن الله الخلاصية هي واحدة مع محبّة الآب، وهذا ما يفرض علينا هنا أن نفهم طاعة المسيح كاستعداد يلهمه الحبّ لكي يتحمّل آلامه ليكفّر عن خطايا البشر اخوته ويفتح لهم الباب إلى البرّ وحياة الله.
ولكن كيف نفهم تضامن البشر مع آدم الأول، آدم الخاطىء، بحيث يشاركونه بشكل من الأشكال في خطيئته؟ إن رأينا في تعليم القديس بولس فقط تعبيراً رمزياً أو سطرياً (ميثولوجياً) نخون فكره. هناك حقيقة يختبرها البشر جميعاً في حياتهم اليومية: فالشرّ الأدبي لا يقترفه فقط كل واحد بمفرده. وهو لا ينحصر في خطايانا الشخصيّة. إنه سبقنا. إنه يميّز المحيط البشري الذي نعيش فيه. إن له بُعداً جماعياً.
يرى الشرّاح في الخبر البيبلي عن السقطة في البدايات تعميماً وامتداداً لخبرة المنفى المأساوية على الجنس البشري. لقد أسقط مصير إسرائيل الدراماتيكي على البشرية بجملتها، وكلمة الله التي أخرجت الإنسان من الفردوس هي الكلمة التي أرسلت اسرائيل إلى المنفى. وهكذا ما حصل لشعب من الشعوب، انطبق في العمق على كل الشعوب، انطبق على البشرية في خطيئها وابتعادها عن الله. وهناك خبرة انطلقت من الفرد فوصلت إلى جميع البشر، بل إلى بدايات البشر. لم ينطلق الكاتب الملهم من الماضي ليصل إلى الحاضر. فهو لا يعرف الماضي. بل انطلق من الحاضر، من خبرة الخطيئة في حياته، وفهم ان هذه الخطيئة حاضرة في حياة كل إنسان، في حياة أول إنسان وُجد على الأرض، وستبقى موجودة في كل إنسان حتى نهاية العالم. أجل الخطيئة هي في كل إنسان وفي كل شعب. في شعب إسرائيل وفي الشعوب المحيطة به. وهكذا اكتشف الكاتب الذي ألهمه الله، وضع الإنسان الخاطىء والشّر الذي فيه منذ بدايات البشرية. في هذا المناخ نفهم تضامننا مع الخطيئة الأولى التي اقترفت في بداية التاريخ البشري. ونفهم أن خطيئة آدم الشخصية لا تنفصل عن خطيئة الجماعة.
يقدّم تك 2- 3 تفسيراً لافتاً لتضامننا مع آدم شريطة أن يستنير هذا التفسير بموضوع العهد. فهذه اللفظة (العهد، الميثاق) لا تُذكر مرة واحدة في تك 2- 3. ولكن هو 6: 7؛ سي 17: 8- 12 يطبّقان فكرة العهد على تقاليد البدايات. ومهما يكن من أمر، فصاحب سفر التكوين (2- 3) يُدخل السعادة الفردوسية والخطيئة الأول في تاريخ الخلاص. يدخلهما في الإطار العادي للعهد، ويوسّع الإطار بحيث لا يضمّ شعباً واحداً من الشعوب بل البشرية كلها. فهناك توازٍ ظاهر بين معطيات العهد العادية ومعطيات تك 2- 3: ففي الحالتين يمرّ الإنسان، بنعمة من الله مجانية، من حالة دنيئة إلى حالة فضلى. إنتقل إسرائيل من مصر وبرّية سيناء إلى أرض كنعان. وانتقل الإنسان الأول من الأرض التي جُعل عليها إلى جنّة عدن. وفي الحالتين ارتبط استمرار هذه الحالة المميّزة بالطاعة لفرائض الله. ولهذا، فتجاوز الوصية الإلهية سيجعل الإنسان (أو الشعب) يخسر امتيازات وهبه الله إياها بسخائه.
وربط شرّاح بالعهد والميثاق خلقَ الإنسان على صورة الله. إن موضوع الإنسان الذي هو على صورة الله يلتقي وموضوع العهد والميثاق... يتضمّن العهد نظرة أكثر نشاطاً من الصورة. إنه يتضمّن إلتزاماً بعمل مشترك. أما الصورة فتحمل الإنتباه بشكل مباشر إلى الشكل الأصلي في ذاته. ولكن رغم هذه الإختلافات، فالصورة والعهد يفترضان دخول الإنسان في نظرة الله، نداء إلى لقائه والاتحاد به، استشفافاً بعيداً لرؤيته وجهاً إلى وجه.
ونستطيع القول في خطّ روم 5: 12- 21: إن عدة أحداث قصيرة من سفر التكوين، تتمتّع بكثافة خارقة وبقوّة تصوّر غير محدودة. وهي تجذّر، منذ عتبة الكتاب المقدس، اليقين بأن الحياة مع الله، والدالة مع الله، هي ذروة الحياة البشرية. فما يشرف على التوراة كلها هو حنين إلى جنّة عدن، ويقين أنه وراء السيف اللامع كالبرق في تك 3: 24 تقوم شجرة الحياة، والموضع الذي فيه يقيم الإنسان مع الله. فبين بروق تيوفانيات سفر الخروج (19: 16)، وسيف الكروب الساطع، هناك تواصل واستمرارية: فالله هو وراء النار بشكل مباشر. إنه حياة الإنسان وموت الخاطىء.
في التوراة، تتخذ علاقات الإنسان بالله منذ البدايات، طابع حبّ رضي به الله، علاقات بين الله والبشرية التي كان آدم رئيسها وممثّلها بقرار من قبل الله (آدم هو الوسيط. كما كان موسى الوسيط بين الله والخليقة. لهذا سيطر موسى على عناصر الكون). لا ننسَ أن "آدم" اسم جماعي واسم فردي. يدلّ على البشر، ويدلّ على شخص محدّد. والله الذي أخرج الإنسان من تراب الأرض، نقله فيما بعد إلى جنّة عدن. نحن هنا أمام صورة تعبرّ عن عطية الله للبشرية في شخص رئيسها، عن الحالة الفائقة الطبيعة التي وهبها الله بطريقة مجانية. ولكن آدم حُكم عليه بعد خطيئته أن يعود إلى الأرض التي أخذ منها، حُكم عليه بالموت الذي هو طبيعي للإنسان وعقاب قد يكون نجا منه لو ظلّ خاضعاً لله (تك 3: 19).
حين نعيد إلى هذا ألإطار تضامننا (الذي يبدو قاسياً) مع آدم الخاطىء، نفهم أنه الوجهة المقابلة لسّر الحبّ. فالتضامن في السعادة الأولى كان قد تحقّق لو أن آدم لم يخطىء. ولهذا، فعبارات مثل "خطيئة" "ذنب"... لا تكفي لتعبرّ عن مشاركة النسل البشري في انحطاط آدم. وهذه المشاركة تأتي من واقع هو أن الله أراد البشر في آدم، وكأنهم وحدة تامة وغير متجزئة. ولهذا وجدوا نفوسهم في آدم الخاطىء منقطعين ومفصولين في شكل من الأشكال عن ينبوع الحبّ.

خاتمة
إن ارتباط تك 2- 3 بموضوع العهد يفهمنا ما استخلص بولس من تعليم في روم 5: 12- 21: فكما أن الوعد بالبركة على جميع الأمم أعطي لإبراهيم في تك 12: 3، يبدو أن العهد مع إسرائيل لاحق للعهد مع البشرية، وخاضع لمخطط الله في الخلاص الشامل الذي تحقّق في يسوع المسيح. انفصلت البشرية عن ينبوع الحبّ في آدم، وها هي من جديد ترتبط، هذه المرّة بشكل لا يوصف، بينبوع الحبّ في يسوع المسيح.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM