الفصل الحادي عشر: الحياة في المسيح

 

الفصل الحادي عشر
الحياة في المسيح

بعد مبادرة الآب التي تبرّر الخطأة بواسطة الإيمان وبفضل العمل الفدائى الذي تمّ في المسيح، نجد في روم 6 إعلان عمل المعمودية التي تربط بشكل حميم وجود الإنسان الجديد بالمسيح الذي مات وقام.
وهكذا نصل إلى الحديث عن الحياة في المسيح. مشاركة في العماد. موت المسيح وقيامته. سّر المعمودية الذي نتقبّله في الإيمان.

1- المعمودية
المسيحي هو إنسان تعمّد "للمسيح" (أي توجّه نحو المسيح)، "في المسيح" (6: 3؛ غل 3: 27). فالمعنى الأول للفعل هو "غطس". غطس في المسيح كما في الماء. وهناك عبارة "تعمّد باسم المسيح" (أع 8: 16؛ 19: 5؛ مت 28: 19؛ 1 كور 1: 13، 15). إن المعمّد يرتبط بشخص المسيح، يتدرّج في ديانته.
إن بولس يرى أن المعمودية تشركنا إشراكاً حميماً بموت المسيح وقيامته، بهذا الواقع الذي لا يدرك والذي تعبرّ عنه أفعال مؤلفة مع الأداة "مع" (سون في اليونانية). نُصلب مع المسيح (6: 6). نُدفن مع المسيح (6: 4). نحيا مع المسيح (6: 8). في 6: 5 (متّحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بشبه قيامته) نجد تفسيرين. الأول: صرنا كائناً واحداً مع المسيح بالتشبّه بموته. الثاني: صرنا نبتة واحدة مع التشبه بموته، صرنا مشابهين لصورة موته (نولد مع المسيح، ننمو معه، نكبر). في نظر بولس، يتّحد المعمّد بالمسيح نفسه الذي مات وتام، لا بصورة عن موته وقيامته.
ويُطرح السؤال: كيف يمكن بالمعمودية أن نشارك المسيح الذي يتحدّد موته وقيامته في زمن معروف من التاريخ؟ ظنّ بعضهم أن مقولة الزمن تلغى وأننا صرنا معاصرين لأحداث الجمعة العظيمة وعيد القيامة. وقالت فئة ثانية: لا يستطيع أحد أن يموت مع إنسان إن لم يمت هذا الإنسان. هذا يفترض أن الرمز الأسراري يجعل الآن موت يسوع وقيامته حاضرين: هذا ما يسمّى الحضور السّراني (الديانات اليونانية وما فيها من سرّ) كما في أسرار الوثنيين حيث تستعيد طقوس التنشئة دراما الإله الذي يموت ويقوم في عالم من السطر والميثولوجيا.
ولكن تفكير الرسول هو غير ذلك. ففي الأسرار الوثنية حول الموت والقيامة، نرى تجدّد الطبيعة (الشتاء والربيع). أما بولس فيرى في موت المسيح وقيامته واقعاً وحقيقة تمّت في وقت محدّد وهي لا تتكرّر. فنحن لا نلتقي في المعمودية، بشكل مباشر، بموت المسيح الذي حصل على الجلجلة. فلا يوجد الآن إلاّ المسيح الجالس عن يمين الآب. ولكن هذا المسيح المجيد يحمل دائماً في ذاته آثار آلامه وقيامته: هو في وضع دائم من موت للخطيئة والجسد (أي اللحم والدم وما فيهما من ضعف) (لا يقول الرسول فقط إنه مات عن خطايانا، بل إنه مات عن الخطيئة، روم 6: 10 أ. مات باسم البشرية الخاطئة التي تضامن معها). وهو يتسلّم باستمرار من الآب الحياة الجديدة في الروح (6: 10 ب: بما أنه هي يحيا لله). وهكذا فالمؤمن يشارك في هذا السّر المزدوج، سّر الموت والحياة (6: 11: إحسبوا أنفسكم أمواتاً للخطيئة أحياء لله). أجل، لبس موت المسيح الذي يصير حاضراً. بل المعمّد هو الذي يدخل في موت المسيح.

2- الحياة الجديدة
وهكذا، فمن المسيح القائم من الموت والجالس عن يمين الله، تجري دوماً قوى جديدة نحو المؤمن. وهذا ما يجعل حياته كلها بإشراف المسيح الممجّد. لا شك في أن هذه الوحدة هي عرضية، بمعنى أنها تحافظ على تمايز الأشخاص (أنا لا أذوب في المسيح)، إذن نحن بعيدون جداً عن الحلولية التي عرفتها بعض التيارات اليونانية. ولسنا أمام وحدة ذاتية (نظن ذلك). بل أمام وحدة موضوعية (هناك أنت وأنا)، تتوجّه إلى كل معمّد. وهي مستقلّة عن استعدادات المسيحي الروحية. إذن، هي غير وعي الإنسان لحبّ الله له.
إن خبرة بولس الشخصية لعبت دوراً هاماً في التعمّق بالتعليم عن العماد كما أخذه من الكنيسة الأولى. ونكتفي بالإشارة إلى بعض المعطيات. في 2 كو 4: 10 يُسّر إلينا بولس بهذا الكلام المؤثّر: "نحمل في الجسد، كل حين، موت يسوع، لتظهر أيضاً حياة يسوع في جسدنا". وهو يهتف في غل 2: 19- 20 "لقد صُلبت مع المسيح. فلست أنا الحيّ، بل المسيح هو الحيّ فيّ". ويستعمل في روم 6: 6 فعل "صلب مع" فيقدّم تعليماً إلى جميع المؤمنين: "عالمين أن إنساننا العتيق قد صُلب معه، لكي يتلاشى جسد الخطيئة". جسد الخطيئة هو الإنسان العتيق، هو الإنسان العائش في هذا العالم.
نلاحظ أن بولس يربط حياة المسيحي الجديدة تارةً بالإيمان وطوراً بالعماد: في بداية روم لم يكن حديث إلا عن الإيمان. وفي ف 6 تدخّل سّر العماد. ولكن إذا كان الإنسان قد تبرّر بالإيمان بالمسيح، فلماذا سّر العماد؟
هنا نعود إلى غل 3: 26- 27 الذي ينسب البنوّة تارةً إلى العماد وطوراً إلى الإيمان. إنه يبيّن أن الإيمان الذي يبرّر لا ينفصل عن الخضوع للعماد الذي هو وسيلة أرادها المسيح لكي يؤوّن عمله الفدائي ويطبّقه على كل إنسان. "أنتم جميعاً أبناء الله، بالإيمان بالمسيح يسوع. أنتم جميع الذين اعتمدوا في المسيح قد لبستم المسيح". في العهد الجديد، لا إيمان بدون عماد. ولا عماد لا يلعب فيه الإيمان دوراً مميزاً. فان واحد يؤثّر على الآخر. رج مر 16: 16 (فمن آمن واعتمد يخلص)؛ أف 4: 5 (الإيمان واحد، المعمودية واحدة)؛ أع 2: 37- 38 (توبوا وليعتمد كل واحد)؛ 10: 44- 48 (أمر أن يعمّدوا باسم يسوع المسيح). إذا كان بولس لا يربط أبداً التبرير بالعماد ربطاً مباشراً، فهو لا يتصوّر التبرير بمعزل عن الطقس العمادي. إن الإيمان الحيّ والمعمودية هما وسيلتان للتبرير تجتمعان وتتكاملان بالنظر إلى المخطّط الخلاصي الذي أقامه الله. بالنظر إلى الطابع الروحي والجسدي والإجتماعي للإنسان الذي يقدّم له الخلاص.
بدأ بولس فتحدّث في بداية روم عن الإيمان، ولم يتحدّث إلاّ عن الإيمان. أما أراد أن يقول بذلك إن الإيمان أساسي أكثر من الطقس العمادي؟ لا شكّ في أن الإيمان الذي يبرّر لا يسير مساره بدون رغبة بالعماد أقلّه ضمنية. ولكننا نستشفّ أن هذا الطقس قد يحلّ محله شيء آخر كل مرة استحال على الإنسان أن يتقبّله.
نقرأ في غل 2: 20: "المسيح هو الحي فيّ". وفي 4: 19: "إلى أن يتكوّن المسيح فيكم". نحن هنا أمام عبارتين تصوّران الصوفية المركّزة على المسيح، تصوّران حضور المسيح في المسيحيين. وفي روم 6: 1- 11، ولا سيّما في النهاية، نجد تعبيراً معاكساً لهذه الصوفية نفسها: حضور المسيحيين في المسيح. "إحسبوا أنفسكم أمواتاً للخطيئة، أحياء لله في المسيح يسوع" (آ 11). وإليك أمثالاً أخرى مأخوذة من روم. "ليس إذن بعد من قضاء على الذين في المسيح يسوع" (8: 1). "إن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد اعتقك من ناموس الخطيئة والموت" (8: 2). "أقول الحقّ في المسيح" (9: 1). "نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح، وكل واحد منا عضو للآخرين" (12: 5). "أستطيع أن أفتخر في المسيح يسوع" (15: 17).

3- في المسيح
إن عبارة "في المسيح" ترد مراراً في الرسائل البولسية. هناك 168 استعمالاً "في المسيح"، "في الرب"، "فيه" (أي: في المسيح). من أين جاءت هذه العبارات؟ هناك السبعينية حيث نجد "في الرب". "في الله". ولكن يبقى المعنى البولسي مختلفاً عما في النص اليوناني للتوراة. في الواقع، لقد صاغ بولس لغة جديدة لأنه وجب عليه أن يعبرِّ عما لا يعبرَّ عنه بلغة البشر: الحضور السّري لشخص في شخص آخر، حضور شخص المسيحي في حضور المسيح الممجّد. هل نرى هنا صدى لخبرة صوفية عاشها الرسول نفسه؟ هناك عدد من أقوال بولس الحميمة عن حياته الباطنية واتحاده الوثيق مع المسيح يجعلنا نفترض ذلك. لا شك في أننا لسنا أمام الحلولية، كما سبق وقلنا، ولكن قوة الكلمات تقودنا إلى تماهي الأشخاص مع المحافظة على شخصية كل منهما.
إذا أردنا أن نفهم عبارة "في المسيح"، لن نتوقّف فقط عند خبرة بولس، ولا نضخّم هذه الخبرة. فهي خبرة كل مسيحي يرتبط ارتباطاً كيانياً بالمسيح، مهما كان وعيه لهذا الإرتباط. وهو إيمان بالمسيح واتحاد عمادي يشكّلان أصل هذا الخير الذي ينعم به المؤمن. وهذا الإيمان وهذا الإتحاد ينقلان الإنسان إلى محيط حياتي جديد فيه يتحوّل كيانه وملكاته. والرباط الذي تخلقانه بينه وبين المسيح، لا يكون فقط في فترات الحياة الحارّة. إنه موضوعي ومستمرّ مع العلم أن هذا التحوّل الذي هو عرضي وغير جوهري، نستطيع أن نخسره بخطيئتنا.
هناك عبارات تجعل "المسيح" في موقع "المضاف إليه". نحن لا نستطيع أن نفسّرها. هل هي مقولات مستعملة في الصرف والنحو؟ هل نحن أمام استعمال مسيحي سابق للقديس بولس؟ من هذه العبارات: حبّ المسيح. في 8: 35: "فمن يفصلنا عن محبّة المسيح"؟ في 2 كور 5: 14: "لأن محبّة المسيح تحثنا". في أف 3: 19: "أن تدركوا تلك المحبة التي تفوق كل إدراك". في 1 تس 1: 3: "وتعب محبتكم".
وعبارة "إيمان المسيح" أي الإيمان الذي يربط المؤمن بشخص المسيح. في 3: 22، 26: "برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح"؛ غل 2: 16، 20: "لا يبرّر بأعمال الناموس بل بالإيمان بيسوع المسيح"؛ 3: 22؛ فل 3: 9؛ أف 3: 12. وداعة المسيح (2 كور 10: 1). سلام المسيح (كو 3: 15). حقيقة المسيح (2 كور 11: 10). صبر المسيح (2 تس 3: 5). خوف المسيح (أف 5: 21، أي مخافتنا تجاه المسيح). ختانة المسيح (كو 2: 11، بها نخلع عنا الجسد البشري). آلام المسيح (قل 3: 10؛ 2 كور 1: 5). مضايق المسيح (كو 1: 24). كل هذا يدلّ دلالة لها معناها على مشاركة المسيح في شخصه وفي حياته.
وحلّت محلّ عبارة "في المسيح" عبارة أخرى هي "في الرب" التي لا تبدو متواترة مثل سابقتها. إن عبارة "في المسيح" تعود بنا إلى ثلاثة أمور: ما عمله يسوع في الماضي لكي يخلّصنا. ما سيعمله أيضاً لأجلنا في نهاية تاريخ الخلاص. ما يعمله الآن بفضل الإتحاد الذي يقيمه بيننا وبينه. أما عبارة "في الرب" فليس لها الإمتداد عينه. فيسوع جلس على عرشه كالرب على أثر قيامته المجيدة. فجاءت عبارة "في الرب" مرتبطة بالحياة الجديدة التي يعيشها المسيحي أو يتوجّب عليه أن يعيشها. هذا ما يفسّر أنها تظهر دوماً في الرسائل البولسية في العنوان والتحية أو في القسم الإرشادي. والرسالة إلى رومة شاهدة على ذلك. فعبارة "في الرب" ترد ثماني مرات، ترد في ف 14 وما فيه من إرشاد (آ 14)، وترد في ف 16 مع السلامات التي يرسلها بولس إلى أعضاء الجماعة (آ 2، 8، 11، 12 أ، 12 ب، 13، 22).
ينتج مما سبق أنه حسب روم 6، حياة المعمّد هي "مع المسيح" و"في المسيح". ما هي العلاقة بين هذين الواقعين؟ إذا أردنا أن ندركها نعود إلى العهد القديم علّنا نجد فيه ضوءاً. عند اليونان، يحمي الإله الناس حين يكونون معه. أما في التوراة، فالأمر عكس ذلك. فعبارة "الله معنا" (عمانوئيل، أش 7: 14؛ 8: 10) تدلّ على عون الله ومساعدته. أما عبارة "كان، سار، عاش مع الرب" فتدلّ عادة على سلوك يوافق إرادة الله (تك 5: 24؛ ملا 2: 6). غير أن هناك قولاً نقرأه في 1 أخ 15: 2: "الله هو معكم حين تكونون معه". وهو يشدّد على أن السلوك الخلقي الصالح يتيح للإنسان أن يلتقي بالله. وتتحدّث بعض النصوص المتأخّرة عن لقاء اسكاتولوجي مع الله هو ثمرة حياتنا في رفقتنا معه على الأرض (حك 3: 9؛ 6: 19؛ 8: 16). في مز 73، يعبرّ البارّ العائش في المحنة والذي يبقى أميناً لله، عن أمله بأن لا ينفصل أبداً عن الله. بأن يكون دوماً معه. ولهذا، سيأخذه الله إليه في المجد السماوي كما أخذ أخنوخ وإيليا (تك 5: 24؛ 1 مل 2: 3، 5، 9، 10). يقول المزمور: "أنا معك في كل حين، تمسكني بيدي اليمنى، بمشورتك (أو: بعصاك) تهديني (كالراعي)، وإلى المجد تأخذني من بعد. من لي في السماء سواك، وفي الأرض لا أريد غيرك... القرب من الرب يطيب لي، وفي السيد الرب جعلت حماي" (آ 23- 28). هنا نجد الخلفية البيبليّة لاختطاف الأبرار الذي يتحدّث عنه 1 تس 4: 17 أ: "ثم نحن الأحياء نختطف معهم جميعاً في السحب لنلاقي الرب في الفضاء".
فكما دلّت عليه 1 تس 4: 14، 18، إن عبارة "نكون مع المسيح" تعود بالدرجة الأولى إلى لقائنا معه ساعة مجيئه. ولكن هذا لا ينفي بداية المشاركة معه خلال حجّنا على الأرض. وإذا عدنا إلى رسائل بولس الكبرى (روم، 1 كور، 2 كور، غل) رأينا أن الحياة مع المسيح تتدشّن في الولادة العمادية التي تؤسّس أيضاً حياتنا في المسيح. هذا هو بشكل خاص تعليم 6: 1- 11. وسيحلّ يوماً محل الحياة في المسيح التفتّحُ التام للحياة مع المسيح إما في ساعة الموت (2 كور 5: 6- 8؛ فل 1: 23)، وإما ساعة القيامة المجيدة.

خاتمة
الحياة مع المسيح، الحياة في المسيح. هذه هي طريق المؤمن منذ العماد وخبرة الإيمان حتى الموت والقيامة المجيدة. عاد بولس إلى عالم اليونان، وعاد بالأحرى إلى التوراة والتقليد المسيحي الأول يستلهمهما عباراته لكي يحدّثنا عن هذه الخبرة الفريدة والمتبادلة: المسيح فينا. نحن في المسيح. تبقى الكلمات ضعيفة لكي تعبرّ عمّا يفوق الإدراك. ولن نصل إلى ملء المعرفة إلا ساعة نصل إلى ملء الإتحاد بالمسيح في الحياة السعيدة. ولكن بعضاً من الناس استشفوا هذه المعرفة، مثل بولس، استشفوها بنعمة فريدة من الله، وحاولوا أن ينقلوها إلينا كلمات فيها النور والحياة.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM